رسائل الشهيد الأوّل

الشيخ شمس الدين محمد بن مكّي [ الشهيد الأوّل ]

رسائل الشهيد الأوّل

المؤلف:

الشيخ شمس الدين محمد بن مكّي [ الشهيد الأوّل ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-251-6
الصفحات: ٣٧٦

ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثا ، ولم يدعهم هملا بل كلّفهم بالمشاقّ علما وعملا لينزجروا عن قبائح الأفعال ، وينبعثوا على محاسن الخلال ، ويفوزوا بشكر ذي العزّة والجلال.

والصلاة على من أيّد الله ببعثهم العقل الصريح ، وخصوصا نبيّنا محمّدا البليغ الفصيح ، وعلى أهل بيته وأرومته المساميح ، والطيّبين من عترته وذرّيّته المراجيح.

وبعد ، فهذه المقالة التكليفيّة مرتّبة على خمسة فصول سنيّة :

الفصل الأوّل في ماهيّته وتوابعها.

الفصل الثاني في متعلّقه.

الفصل الثالث في غايته.

الفصل الرابع في الترغيب.

الفصل الخامس في الترهيب.

ومدار هذه الفصول على خمس كلمات مفردة ، وهي : « ما » و « هل » و « من » و « كيف » و « لم ».

فالفصل الأوّل : يبحث فيه عن الثلاثة الأول ، وهي : ما التكليف؟ والبحث فيه عن مفهومه

٨١

بحسب الاصطلاح ، وهل يجب في حكمة الله تعالى (١) أم لا؟ ومن المكلّف والمكلّف؟.

والفصل الثاني : يبحث فيه عن مدلول كيف التكليف؟ أي على أيّ صفة يكون؟

والفصل الثالث : يبحث فيه عن مدلول لم يجب التكليف مثلا وهو السؤال عن غايته.

والفصلان الأخيران من مكمّلات هذا الفصل.

__________________

(١) في « ن » : « حكمته تعالى ».

٨٢

[ الفصل الأوّل ]

[ في ماهيّة التكليف وتوابعها ]

أمّا الأوّل : فالتكليف تفعيل من الكلفة أعني المشقّة. وعرفا : إرادة واجب الطاعة شاقّا ابتداء معلما.

وفيه نظر ؛ لأنّ الإرادة سبب التكليف لا عينه ، ولهذا يقال : أراد الله تعالى الطاعة فكلّف بها ؛ ولانتقاضه في عكسه بالتكليف باجتناب المنهيّات ، فإنّه كراهة لا إرادة ؛ ولأنّه يخرج منه التكليف بالمشتهى طبعا ، كأكل لحم الهدي ، ونكاح الحليلة ، وما لا مشقّة فيه أصلا كتسبيحة وتحميدة.

وأيضا الإعلام إنّما هو شرط في تكليف واقع لا في مطلق التكليف.

فالأولى أن يقال : التكليف هو بعث عقلي أو سمعي على فعل ، أو كفّ ابتداء للتعريض للثواب.

والكلام إمّا في حسنه ، وهو ظاهر من حدّه ؛ ولأنّ الإنسان مدنيّ بطبعه لا يستقلّ بأمر معاشه ، فلا بدّ من التعاضد بالاجتماع المفضي إلى التنازع ، فلا بدّ من نبيّ مبعوث بقانون كلّي يعد على طاعته بالثواب ، ويوعد على معصيته بالعقاب ؛ ليحمل النوع على تجشّم المشاقّ ، ولزوم الميثاق ، وذلك ممتنع بدون معرفة الصانع ، وما يثبت له وينفى عنه ، وتعظيمه وإجلاله مؤكّد لذلك.

والطريق إليه التكرار الموجب للتذكار ، بنصب عبادات معهودة في أوقات مخصوصة يذكر فيها الخالق بصفات جلاله وكماله ، والانقياد لسنّته ، فيحصل من ذلك (١) غايات ثلاث :

__________________

(١) يعني من تكرار تلك العبادات.

٨٣

الأولى : رياضة القوى النفسانيّة ؛ بمنعها عن مقتضى الشهوة والغضب ، وعن الأسباب المثيرة لهما من التخيّل والتوهّم والإحساس ، والفعل المانع عن توجّه النفس الناطقة إلى جناب القدس ومحلّ الأنس.

الثانية : دوام النظر في الأمور العالية المطهّرة من العوارض المادّيّة والكدورات الحسّيّة ، المؤدّية إلى ملاحظة الملكوت ، ومعاينة الجبروت.

الثالثة : دوام تذكّر إنذار الشارع ، ووعده للمطيع ، ووعيده للعاصي ، المستلزم لإقامة العدل ونظام النوع مع زيادة الأجر الجزيل والثواب العظيم.

وإمّا في وجوبه (١) ، فهو واجب على الله تعالى ، بناء على قاعدة الحسن والقبح العقليّين ، وعلى أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب ؛ لعلمه بقبحه ، وغنائه عنه ؛ لثبوت علمه بجميع المعلومات ، لاستواء نسبة ذاته ، وتساوي الجميع في صحّة المعلوميّة ، واستفادة علمه على الجملة من أحكام الأفعال ، وغنائه من وجوب وجوده مطلقا قطعا ؛ للدور والتسلسل لو كان ممكنا.

إذا تمهّد ذلك ، فلو لم يجب التكليف على الله تعالى لزم عدم وجوب الزجر عن القبائح بل كان مغريا بها. والتالي باطل ؛ لاستحالة فعل القبيح ، والإخلال بالواجب عليه تعالى ، فكذا المقدّم.

ولا تمنع الملازمة بعلم المدح والذمّ ؛ لأنّهما مخصوصان بما يستقلّ العقل بدركه ، لا بباقي السمعيّات.

ومع ذلك فكثير من العقلاء لا يعبأ بهما ، ويفعل بمقتضى الشهوة والغضب فيتحقّق الإغراء بالقبيح حينئذ.

وأمّا المكلّف ، فهو الباعث ، إمّا بخلق العقل الدالّ ، أو بنصب النبيّ المخبر.

وأمّا المكلّف ، فهو الكامل العقل. وتسمية الصبيّ بالمكلّف مجاز.

وحسنه مشروط بأربعة :

__________________

(١) عطف على قوله قبيل هذا : « إمّا في حسنه ».

٨٤

الأوّل : ما يتعلّق به ، وهو أمور ثلاثة :

أ : الإعلام به أو التمكين منه.

ب : تقدّمه على الفعل زمانا يمكن المكلّف فيه الاطّلاع عليه.

ج : انتفاء المفسدة فيه.

ومنه يعلم اشتراط نصب اللطف في كلّ فعل أو ترك لا يقع امتثاله إلّا به ؛ إذ لو لاه لزمت المفسدة المنفيّة.

الثاني : الراجع إلى المتعلّق ، وهو ثلاثة أيضا.

أ : إمكانه ؛ لاستحالة التكليف بالمحال عند العدليّة.

ب : حسنه ؛ لاستحالة التكليف بالقبيح.

ج : رجحانه بحيث يستحقّ به الثواب كفعل الواجب والندب ، وترك الحرام والمكروه.

الثالث : العائد إلى المكلّف تعالى ، وهو أربعة :

أ : العلم بصفة الفعل ؛ لئلّا يكلّف بغير المتعلّق.

ب : العلم بقدر المستحقّ عليه من الثواب ؛ حذرا من النقص.

ج : قدرته على إيصاله ؛ ليثق المكلّف بوصوله إليه.

د : امتناع القبيح عليه ؛ لئلّا يخلّ بالواجب.

الرابع : ما يعود إلى المكلّف ، وهو أمران :

أ : أن يكون قادرا على الفعل ؛ لامتناع التكليف بالمحال.

ب : علمه به أو تمكّنه من العلم كما ذكر.

ولا يشترط إسلامه ؛ لعموم علّة الحسن. والفساد من سوء اختيار الكافر.

ووجوبه مشروط بكمال العقل ، وبعلم (١) ما نصبه الشارع من الأمارات.

ولا يلزم توقّف العقلي على السمع ؛ لأنّه لا يلزم من علّمه بالأمارات السمعيّة انحصار علمه ؛ لجواز حصوله بسبب آخر ، ولعلّه إدراكه الأوّليّات والضروريّات ، والاقتدار على التصرّف فيهما لاقتناص النظريّات.

__________________

(١) في « ن » : « ويعلم » بدل « وبعلم » وعلّق عليه : أي كمال العقل.

٨٥

الفصل الثاني

في متعلّقه

وهو المسؤول عنه بـ « كيف » باعتبار « ما ».

فهو إمّا أن يستقلّ العقل بدركه ، أو لا.

والأوّل : العقلي ، فإمّا أن يكون بلا وسط وهو الضروري ، أو بوسط وهو النظري.

والثاني : هو السمعي.

ثمّ إمّا أن يكون التكليف بمجرّد الاعتقاد علما أو ظنّا ، أو به وبالعمل. وكلّ واحد منهما إمّا فعل يستحقّ بتركه الذمّ وهو الواجب ، أو لا يستحقّ. فإمّا أن يستحقّ بفعله المدح وهو الندب (١) ، أو لا وهو المباح. أو ترك يستحقّ بفعله الذمّ ، وهو

الحرام ، أو لا يستحقّ ، فإن استحقّ بتركه المدح ، فهو المكروه ، أو لا ، وهو المباح.

ولنذكر هنا أقسامها الأوّليّة :

فالأوّل : العلم العقلي الضروري بكلّ من الأحكام الخمسة.

فبالواجب : كالصدق ، والإنصاف ، وشكر النعمة ، والعلم بوجوب ردّ الوديعة ، وقضاء الدّين ، ودفع الخوف ، والعزم على الواجب. والعملي منه فعل مقتضى ذلك كلّه.

وبالندب : كالعلم بابتداء الإحسان ، وحسن الخلق ، والصمت ، والاستماع ، واللين ،

__________________

(١) في « ق » : « المندوب ».

٨٦

والأناة ، والحلم ، والرفق ، والعفّة ، والنصيحة ، وحسن الجوار والصحبة ، والمبالغة في صلة الرحم ، وصدق الودّ ، والصبر ، والرضى ، واليأس عن الناس ، وتعليم الجاهل ، وتنبيه الغافل ، والإغاثة ، والإرشاد حيث يمكن بدونه ، وإجابة الشفاعة وقبول المعذرة ، والمنافسة في الفضائل ، ومصاحبة الأفاضل ، ومجانبة السفهاء ، والإعراض عن الجهّال ، والتواضع للأخيار ، والتكبّر على الأشرار إذا كان طريقا إلى الحسبة ، والفكر في العاقبة ، وتجنّب المريب ، والمكافأة على المعروف ، والعفو عن المظلمة ، وشرف النفس ، وعلوّ الهمّة ، واحتمال الأذى ، ومداراة النّاس ، والأمر بالحسن والترغيب فيه ، والنهي عن المكروه ، والفحص عن الأمور ، وغير ذلك. والعملي فعل مقتضاها.

وبالحرام : كالعلم بقبح الكذب والظلم ، والتصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، والإغراء بالقبيح ، والإخلال بالواجب ، وتكليف المحال ، وإرادة القبيح والعبث. والعملي مباشرة مقتضاها.

وبالمكروه ـ وهو مقابل الندب ـ : كالبخل ، وسوء الخلق ، والهذر. وعمليّه فعله.

والمباح من الفعل والترك ما لا رجحان فيه البتّة.

الثاني : العقلي النظري ، كالعلم بحدوث العالم ، ووجود الصانع ، وإثبات صفات كماله وعدله ، ونبوّة الأنبياء ، وإمامة الأوصياء. وعمليّه فعل مقتضى النظري.

الثالث : العلم السمعي الضروري ، كالعلم بضروريّات الدين ، كوجوب الطهارة والصلاة ، وندب إتيان المساجد ، وحرمة الزنى والسكر ، وكراهة استقبال القمرين عند الحاجة ، وإباحة تزويج الأربع.

الرابع : النظري منه ، كالعلم بوجوب قراءة الحمد في الصلاة ، وتسبيح الركوع ، وندب القنوت ، وحرمة الأرنب وذي الناب ، وكراهة الحمر الأهليّة. والعملي مباشرة ذلك.

الخامس : الظنّي ، كظنّ القبلة ، وطهارة الثوب ، وعدد الركعات. والعملي فعل مقتضاه.

تنبيه :

كلّ هذه الأمور يجب اعتقادها على ما هي عليه إجمالا وعلى من كلّف بها تفصيلا

٨٧

ويمكن خلوّ المكلّف عن أكثرها ، إلّا دفع الخوف الحاصل من ترك معرفة المكلّف سبحانه ، وما يتعلّق باعتقاد التروك ، وتركها.

واعلم أنّ العلماء شرطوا في استحقاق المدح والثواب بها إيقاعها لوجوبها مثلا أو وجه وجوبها ، وهما متلازمان ، وتركها لحرمتها مثلا أو وجه حرمتها ، وهما أيضا متلازمان ، فلنذكر الوجه في ذلك.

٨٨

الفصل الثالث

في غايته الحاصلة بالامتثال

وهي المسؤول عنها ب « لم ».

وهي أربع :

الأولى : التقرّب إلى الله سبحانه والزلفى لديه ـ ومعناه موافقة إرادة الله تعالى ، وفعل ما يرضيه تعالى عن المكلّف ـ قرب الشرف ، لا الزمان والمكان.

الثانية : المدح من العقلاء ، والثواب من الله تعالى ، والخلاص من العقاب. وهاتان غايتا حسنه.

الثالثة : القرب من الطاعة والبعد من المعصية العقليّين ، وهو المعبّر عنه باللطف. وهذه الغاية حاصلة في امتثال السمعيّات لا العقليّات.

الرابعة : الفوز بتعظيم المكلّف سبحانه ، والثناء عليه ، والاعتراف بنعمه ، وهو المعبّر عنه بالشكر. وهاتان الغايتان تصلحان لما عدا المباح.

ثمّ لمّا كان بعض المعارف العقليّة سببا لدفع الخوف الواجب أمكن أيضا جعله غاية لها.

ولمّا كان السمعي إنّما يعلم بالأمر والنهي على لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان ترك الواجب مستلزما للمفسدة غالبا ، وترك القبيح مستلزما للمصلحة كذلك ، ظنّ أنّهما وجهان أيضا.

وتحقيق القول في ذلك يتوقّف على مقدّمتين :

٨٩

الأولى : أنّ العقل يحكم بحسن أشياء وقبح أشياء كما مرّ ، والعلم بذلك ضروري.

والمنازع إن لم يكن مكابرا فقد خفي عليه التصوّر ؛ ولأنّهما لو انتفيا عقلا لانتفيا سمعا ؛ لانسداد باب إثبات النبوّة.

الثانية : هل حسن الأشياء وقبحها للذات ، أو للوجه اللاحق للذات؟ البصريّون من العدليّة على الأوّل ، والبغداديّون على الثاني ؛ لتعليل كلّ منهما بعلل عارضة ؛ ومن ثمّ أمكن كون الشي‌ء الواحد بالشخص حسنا وقبيحا باعتبارين ، كضرب اليتيم ؛ وعلى هذا يترتّب النسخ.

إذا لحظ ذلك فنقول : لو لا الوجه المخصوص لكان ترجيح الواجب بخصوصه على الحرام ليس أولى من عكسه ، وبطلان التالي ظاهر ، فحينئذ نشرع في بيان الوجه مفصّلا في ثلاثة مباحث :

[ المبحث ] الأوّل :

وجه الضروري هو اشتماله على المنافع والمضارّ التي لا يمكن مفارقتها إيّاه ، كالصدق ، والإنصاف. ومن جعلها لذاته علّلها بنفس كونها صدقا وإنصافا إلى آخره ؛ لدوران العلم بأحكام تلك الأفعال والتروك مع العلم بها وجودا وعدما. فلو كان هناك وجه آخر امتنع ذلك بالنسبة إلى الجاهل بذلك الوجه ؛ ولأنّه لو كان غير ذاتي لأمكن الانقلاب في الأحكام ، وإنّه محال.

المبحث الثاني : في النظري

ولوجوبه وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّه شرط في العلم بالثواب والعقاب على الضروري ، وشرط الواجب المطلق واجب.

أمّا الصغرى : فلأنّ العلم بالجزاء موقوف على معرفة المجازي ، ومعرفة قدرته الذاتيّة العامّة ؛ لتوقّف المجازاة عليها. ومعرفة علمه كذلك ؛ حذرا من النقص ، أو الإيفاء لغير الفاعل ،

٩٠

ومعرفة حياته ؛ ليصحّ عليه الوصفان ، ومعرفة قدمه ووجوب وجوده ؛ ليمتنع عدمه وعدم صفاته ، وتمتنع الحاجة عليه ؛ حذرا من أخذ المستحقّ ، ويمتنع شبهه للحوادث ، ومعرفة وحدته ؛ لامتناع اجتماع واجبين ، ومعرفة عدله ؛ ليؤمن إخلاله بالواجب ، ويحكم بحسن أفعاله. وتعليلها بالأغراض ، وبعث الأنبياء ، ونصب الأوصياء ؛ لتوقّف التكليف بالسمعي (١) عليه.

وهنالك يعلم كيفيّة الجزاء ، وما يمكن إسقاطه منه كعقاب الفاسق وثواب المرتدّ.

والجزاء موقوف على المعاد. وهذا القدر وما يتعلّق به هو المبحوث عنه في المعارف العقليّة.

وأمّا الكبرى : فلأنّه لولاه لزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا ، أو التكليف بالمحال.

الثاني : أنّ كلّا من شكر المنعم ودفع الخوف واجب ، ولا يتمّ إلّا بالمعرفة على الوجه المذكور ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

أمّا وجوب الشكر والدفع فضروريّ.

وأمّا توقّفه على المعرفة : فلأنّ تلك الآثار الحاصلة من الحياة والقدرة وتوابعهما من المنافع ، إمّا أن تكون نعمة فيجب الشكر ، أو نقمة فيجب الدفع ؛ وذلك محال معرفته بدون المعارف المذكورة.

وأمّا الثالث : فظاهر.

الثالث : أنّ المعرفة دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ، ودفع الخوف واجب بالبديهة.

تنبيه :

علم من ذلك وجوب النظر ؛ لأنّ المعرفة واجبة ، والنظر طريق إليها ليس إلّا ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.

أمّا الأوّل : فقد تقدّم.

__________________

(١) في « ن » و « ق » : لتوقّف العلم بالسمعي.

٩١

وأمّا الثاني : فلأنّ النظر مولّد للعلم ؛ لحصوله عقيبه وبحسبه وكمّيّته ، وتخلّف العلم النظري عن تاركه ، ولو لا ذلك لجاز تخلّفه عن فاعله ، وحصوله لتاركه ، وهو باطل ضرورة ، فثبت أنّه طريق إليها.

وأمّا انتفاء غيره من الطرق : فلأنّ المعرفة ليست شيئا من أقسام الضروري ، وما ليس بضروري نظري قطعا.

وأمّا الثالث : فقد مرّ.

ومن زعم حصول المعرفة بغير نظر فهو كمن رام بناء من غير آلات ، وكتابة من دون أدوات.

المبحث الثالث : في وجه السمعي

لا ريب أنّ بعض السمعيّات قد يكون وجوبه وجها لوجوب بعض آخر ، كالصلاة الموجبة للطهارة ، فجاز أن يطلق على ذلك أنّه وجهه. فالكلام في مطلق الواجبات والسنن والقبائح والمكروهات السمعيّة.

والمراد بالوجه هنا الغاية التي لأجلها كان ذلك الحكم. وقد اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال ـ مأخذها ما سلف ـ :

[ المذهب ] الأوّل ـ مذهب جمهور العدليّة من الإماميّة والمعتزلة ـ : أنّه اللطف في التكليف العقلي مطلقا انبعاثا وانزجارا (١).

والغاية في الواجب السمعي اللطف في الواجب العقلي ، وفي الندب السمعي الندب العقلي ، أو زيادة اللطف في الواجب العقلي ؛ فإنّ الزّيادة توصف بالندب ، وفي ترك القبيح السمعي ترك القبيح العقلي ، وفي ترك المكروه السمعي ترك المكروه العقلي ، أو زيادة اللطف في ترك القبيح.

بمعنى أنّ الممتثل للسمعي أقرب من العقلي ، وغيره أبعد ، ولا نعني بذلك أنّ اللطف في

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة : ٦٤.

٩٢

العقلي منحصر في السمعيّات ؛ فإنّ النبوّة والإمامة ووجود العلماء والوعد والوعيد بل جميع الآلام يصلح للألطاف في العقليّات أيضا ، وإنّما هو نوع من الألطاف الواجبة يكاد أن يكون ملاكها ؛ فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام والعالم إنّما يدعون إليه ، والوعد والوعيد إنّما يتوجّهان عليه.

فإن قلت : فإذن يقوم غيره من الألطاف مقامه ، فلا يجب.

قلت : ظهر ممّا بيّنّاه أنّ جميع الألطاف متعلّقة به ومردّها إليه ، فيمتنع قيام غيره مقامه.

ومن هنا يعلم السرّ في الواجب والمستحبّ المخيّرين ؛ فإنّه لمّا كان المقصود اللطف ، وهو حاصل في كلّ من الخصال بلا مزية لإحداها على الأخرى ، لم يكن لإيجاب الجميع معنى ، ولا لترك إيجاب شي‌ء سبيل ، فتعيّن التكليف على طريق التخيير.

[ المذهب ] الثاني : مذهب أبي القاسم الكعبي ، وهو أنّه الشكر لنعم الله سبحانه (١). ولا نعني به انحصار طريق الشكر فيه ، بل على معنى أنّه نوع من الشكر ، بل أشرف أنواعه ؛ فإنّ الشّكر يطلق على الاعتقاد المتعلّق بأنّ جميع النعم من الله سبحانه كلّيّاتها وجزئيّاتها. ويلزمه أمور ثلاثة :

[ اللازم ] الأوّل : شغل النفس بالفكر في عظمته ، والتصوّر لجلائل نعمته ، والعزم والانبعاث الدائم إلى طاعته ، وابتغاء مرضاته ، وصيانة السرّ عن الاشتغال بتصوّر غيره فضلا عن التصديق به إلّا من جهة أنّه منسوب إليه وفائض عنه. وهنالك يستوعب جلال الله سبحانه الفكر بحيث يصير مقصورا عليه ليس إلّا ، ويصير همّ العاقل شيئا واحدا ، وغايته ذلك الشي‌ء ، فينظر فيه ، وبه ، ومنه ، وإليه ، وعليه ، ويحذف غيره من درجات الاعتبار حتّى الجنّة والنار.

ومن هنا قال العالم الرباني القدسي عليّ أمير المؤمنين وارث النبيّ عليهما أفضل الصلاة والسلام : « ما عبدتك طمعا في ثوابك ، ولا خوفا من عقابك ، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك » (٢).

__________________

(١) انظر مناهج اليقين : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ١٤.

٩٣

قال الله تعالى : ( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) (١) وقال تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) (٢).

وروى هارون بن خارجة عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام أنّه قال : « العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله تبارك وتعالى خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله عزوجل طلبا للثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله عزوجل حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة » (٣).

اللازم الثاني : وهو مسبّب عن اللازم الأوّل ، وهو شغل اللسان بتنزيه الله تعالى عمّا وصفه الظالمون ، وتحميده بما حمده الحامدون بحيث لا يفتر عن ذكر الله باللسان كما لم يفتر عن ذكره بالجنان.

قال سبحانه : ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) (٤) وصف الملائكة بهذا الوصف الشريف ؛ لينبّه البشر على اقتفائه ، ويتشرّفوا باصطفائه ، فهنالك تصير ألسنتهم مخزونة إلّا عن ذكره ، وألفاظهم موزونة إلّا فيما يتعلّق به ، وهو السرّ في الأمر بالصمت إلّا عن ذكر الله تعالى.

اللازم الثالث : استخدام القوى والأركان فيما أمر به من عبادته بحيث لا يكون لها انقطاع ولا اضمحلال.

فيشغل العين بالنظر في عجائب مصنوعاته ، والبكاء من خشيته ؛ لما يراه من التقصير في طاعته.

والأذن بسماع كلامه العزيز لتلقّي أوامره ونواهيه ، والتفهّم لمقاصده ومعانيه.

واليد بالبطش فيما خلقها له من أمر بمعروف ، أو نهي عن منكر ، أو جهاد في سبيله ، أو إعانة ضعيف ، أو إغاثة ملهوف ، أو وضع في محالّها من هيئات المصلّي.

__________________

(١) النور (٢٤) : ٣٧.

(٢) المنافقون (٦٣) : ٩.

(٣) الكافي ٢ : ٨٤ / ٥ ، باب العبادة.

(٤) الأنبياء (٢١) : ٢٠.

٩٤

والرجل بالسعي في بقاعه التي أمر بالسعي إليها ، ورغّب بالعكوف عليها. وأشرفها بيته الحرام وكعبته المقدّسة ، وحرم نبيّه عليه أفضل الصلاة والسلام ، ومشاهد الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، والجوامع والمساجد ، ومجالس العلم ، وزيارة الإخوان في الله تعالى.

وإن لم يكن هناك ما يحتاج إلى البطش والتنقّل ، شغلها بالسكينة والوقار مستشعرا في جميع ذلك عظمة بارئه وكمال منشئه ، معتقدا أنّ جميع ذلك من أعظم نعمه وأكبر مننه ، فحينئذ يحتاج أن يشكره على حسن توفيقه لشكره ، وهلمّ جرّا. ولمّا خطر هذا لداود على نبيّنا وعليه‌السلام وناجى به ربّه أجابه : « إذا علمت أنّ ذلك منّي فقد شكرتني » (١).

وحينئذ نقول : هذه العبادات وخصوصا الصلاة فإنّها مشتملة على اللوازم الثلاثة المنبعثة عن الاعتقاد القلبي ، ولا معنى للشكر عند الخاصّة إلّا ذلك ، أو نقول : إنّ الشكر يكون بفعل هذه الأمور أقرب إلى الوقوع وأبعد من الارتفاع ، وهو معنى اللطف في الشكر. ولعلّ القائل عنى ذلك ، وهو في الحقيقة شعبة من المذهب الأوّل ؛ فإنّ الأوّل زعم أنّها لطف في التكليف العقلي مطلقا ، وهذا يقول بأنّها لطف في نوع منه ، وهو الشكر ، وإن لم يكن الشكر بعينه على المصطلح العامّي.

وبهذا التوجيه يعرف حال بقيّة الأحكام من حيث إنّ الندب كالتكملة للفرض ، واجتناب الحرام والمكروه يوجب صيانة اللوازم عن تطرّق النقص. وهو مذهب حسن.

المذهب الثالث : لجمهور الأشعريّة ، وهو أنّ الأحكام إنّما شرّعت لمجرّد الأمر والنهي ، لا لغاية أخرى ، بناء على هدم قاعدة الحسن والقبح العقليّين ، وأنّ أفعال البارئ جلّ ذكره معلّلة بالأغراض ، بل على عدم الحاجة إلى العبادة أصلا ولعلّ الباعث على هذا القول ليس هو هذا البناء ، وإنّما نظر إلى القول بالشكر ، فاستحقر جميع العبادات بالنظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى ، وأنّها لا توازي ذرّة من جبال نعمه ، ولا قطرة من بحار كرمه.

ونظر إلى القول باللطف فوجده غير مطّرد في حقّ من ثبتت عصمته ، أو ظنّ قيام غيره من الألطاف مقامه ، وسمع قوله تعالى : ( لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ) (٢). أو تكافأ عنده

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٨ : ٣٦.

(٢) الأنبياء (٢١) : ٢٣.

٩٥

الوجهان المذكوران ، فرجع بصره خاسئا وفكره حسيرا ، فاقتصر على مجرّد الأمر والنهي اللّذين لا يعلم غايتهما.

ويمكن أيضا أن يشير بهما إلى قصر العبادة على التوجّه إلى المعبود ؛ فإنّ اللطف والشكر وإن كانا للقرب إليه إلّا أنّ إسقاط الوسائط من البين أقرب.

المذهب الرابع : لبعض المعتزلة ، أنّ الوجه هو ما تضمّن ترك الفعل من المفسدة ، وترك القبيح من المصلحة ؛ وذلك لأنّ ترك العبادات مقرّب إلى المعاصي ومبعّد من الطاعات العقليّة ، ولا نعني بالمفسدة إلّا ذلك. وترك القبيح بالعكس ، وهو معنى المصلحة.

ولمّا كان الترك مستلزما للمفسدة ، وترك المفسدة واجب ، ولا يتمّ إلّا بزوال الترك الحاصل بالفعل أو عند الفعل ، وجب الفعل.

وكذلك نقول : ترك القبيح لطف ، وكلّ لطف واجب ، فيكون الترك واجبا ، فيلزمه تحريم الفعل ؛ لأنّه لا يحصل الترك الواجب عنده ، لتنافيهما.

وهو في الحقيقة ضغث من المذهب الأوّل ، إلّا أنّه لم يجعل نفس فعل الواجب لطفا ، بل به يحصل اللطف ، وفعل القبيح ليس لطفا في القبائح العقليّة (١) ، بل تركه لطف في الواجبات العقليّة.

ولعلّه نظر إلى مذهب الشكر بعين من قبله ، وإلى مذهب الأمر والنهي بعين الهدم ، ورأى غلبة القوى الشهويّة والغضبيّة على نوع الإنسان بحيث لو خلّي وطبعه لجمح به في المهالك باتّباع مقتضى الشهوة والغضب المعبّر عنهما بالحرام والمكروه.

وترك الأفعال الحسنة معدّ لذلك ، ومسلّط عليه ، فجعل تلك الأفعال قيودا له ، لئلّا يرتطم في الهلكات ويقتحم في التبعات ، فكان الغرض الذاتي عنده ترك مقتضى الطبع ، وترك العبادات ينافيه ، فكان الترك منافيا للغرض ، فوجب أو ندب الاشتغال بالفعل المحصّل للترك المذكور.

ولعلّ صاحب هذا الرأي ممّن يرى أنّ المطلوب في النهي إنّما هو إيجاد الضدّ ؛ بناء على

__________________

(١) قال البياضي في شرح هذا الكلام : « الذي أظنّه فيه أنّه وقع من غلط الكتّاب ، فإنّ أصحاب اللطف لم يجعلوا فعل القبيح لطفا ، بل تركه لطفا في ترك الحرام ».

٩٦

أنّ الترك غير مقدور ، وهذا القدر يصلح أن يكون متمسّك أصحاب هذين المذهبين الأخيرين.

فلنذكر حجّة من قبلهما. فقد احتجّ الأوّلون بوجهين :

الأوّل : أنّ معنى اللطف حاصل فيها فيكون لطفا.

أمّا الصغرى : فللعلم الضروري بقرب المتّصف بها من الطاعة وبعده من المعصية.

والكبرى ظاهرة. وعليه نبّه البارئ جلّ وعزّ في قوله تعالى : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (١) و ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (٢) و ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣) و ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) (٤) و ( وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٥) و ( فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) ـ إلى قوله ـ ( لِلْعُسْرى ) (٦) و ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ ) (٧) و ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٨).

الثاني : إبطال كلّ من الأقوال الأخيرة.

أمّا مذهب الأمر والنهي : فلأنّه بناء على ما سلف ، وعلى فقد وجه الفعل.

ونحن نقول : إنّهما فرع الوجه ، فلا يكونان مؤثّرين فيه ، وإلّا لجاز الأمر بالقبيح فينقلب حسنا ، والنهي عن الحسن فينقلب قبيحا ، وإنّه باطل.

وأمّا الترك : فلتوجّه الخطاب بالأفعال ، ولا شعور بالترك البتّة ؛ ولأنّه لو اعتبر لوجب بيانه قبل بيان الواجب والقبيح ، ضرورة تقدّم العلّة الغائيّة في التصوّر ، ولكان لا يفرّق بين

__________________

(١) هود (١١) : ١١٤.

(٢) العنكبوت (٢٩) : ٤٥.

(٣) البقرة (٢) : ١٨٣.

(٤) التوبة (٩) : ١٠٣.

(٥) المائدة (٥) : ٦.

(٦) الليل (٩٢) : ٥ ـ ١٠.

(٧) المائدة (٥) : ٩١.

(٨) آل عمران (٣) : ٢٠٠.

٩٧

الساهي والمصلّي ، وبين الساهي عن الشرب والشارب إذا لم يفعلا تركا.

وأمّا الشكر : فلأنّه لغة : طمأنينة النفس على تعظيم المنعم كما نقله بعض المتكلّمين ، أو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف كما ذكره اللغوي (١).

وعرفا : الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم ؛ لدوران الشكر معه وجودا وعدما.

وظاهره مغايرة العبادة للمعنيين.

ولأنّ مجرّد الاعتراف القلبي كاف في معرفة الله سبحانه شكر العبد ، وإنّما احتيج إلى اللسان لإشعار المشكور ، فلا معنى لوجوب الزائد على الاعتراف.

ولأنّ الشكر يمتنع الخلوّ من وجوبه بخلاف العبادة ، فإنّها قد يقبح واجبها كصلاة الحائض ، ويجب قبيحها كأكل الميتة ، ومن ثمّ تطرّق النسخ إلى السمعيّات. ولقبح الإلزام بشكر النعمة شاهدا فكذا غائبا.

وفي الجميع نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّه وارد في كلّ عبادة ، عقليّة كانت أو نقليّة ، فإنّ فعلها مقرّب من عبادة أخرى ، وتركها مبعّد ، مع أنّ وجوبها لا يكون معلّلا بها ، فلو صحّ هذا لزم تعليل كلّ عبادة بالأخرى ، وهم لا يقولون به.

وأمّا الآيات الكريمة : فإنّها تدلّ على حصول هذه الغايات عندها ، وأمّا أنّ تلك الغايات هي العلّة الموجبة لأصلها فلا ، والنزاع إنّما هو فيه.

وأمّا الثاني : فلجواز إرادة القائل بالأمر والنهي ما فسّرناه ، فلا يرد عليه ما ذكروه.

وأمّا الترك فلا يلزم من المخاطبة بالأفعال أن لا يكون الوجوب لأجل ما يتضمّن الترك من المفسدة. ووجوب سبق البيان ممنوع ، والساهي غير مكلّف.

ونمنع شمول التفسيرين لما يصدق عليه اسم الشكر. ونحن قد بيّنّا أنّ الشكر الخاصّ شامل للعبادات. سلّمنا ، لكنّ العبادة مشتملة عليهما.

قوله : بخلاف العبادة فإنّها قد تقبح.

__________________

(١) لسان العرب ٤ : ٤٢٤ ، « ش ك ر ».

٩٨

قلنا : المعتبر هو كيفيّة خاصّة للعبادة التي هي شكر ، وأصلها قائم ، ولم لا يكون البارئ جلّ اسمه جعل للشكر وظائف مختلفة بحسب الأشخاص والأزمنة والأحوال والأمكنة؟

مع أنّ الشكر في الشاهد يختلف بحسب المقام ، وحينئذ يتطرّق إليه النسخ والتخصيص وغيرهما ، ولا قبح في الإلزام بالشكر ، ولهذا يحسن ذمّ كافر النعمة.

سلّمنا قبحه شاهدا ، لكن لعدم استتباع عوض ، وفي الغائب يستتبع الثواب الجزيل فلا قبح ؛ لأنّه تعالى أمر بشكر نعمه بقوله : ( وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (١) و ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) (٢).

واحتجّ أصحاب الشكر بثلاثة أوجه :

الأوّل : أنّ نعم الله تعالى لا تحصى ، كما قال تعالى : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) (٣) فيجب أبلغ أقسام الشكر ، والعبادة صالحة لذلك ، فصرفها إليه أولى.

الثاني : أنّ العبادة ـ فعالة ـ من التعبّد الذي هو الخضوع ، وهو معنى الشكر.

الثالث : ما اشتهر من قول كثير من المتكلّمين : إنّ العبادة كيفيّة في الشكر.

وأجيب بتسليم مقدّمات الأولى ، ولا يلزم صرف العبادة إليه ؛ ولأنّه لو وجب الأبلغ لم يقف على حدّ العبادة ، لإمكان ما هو أبلغ منها.

ونمنع كون الخضوع شكرا وإن اشتمل عليه اشتمال العامّ على الخاصّ ، فلا يكون مسمّى العبادة شكرا وإن كان الشكر واقعا فيها.

وفي التحقيق : الخضوع للمعبود شرط صحّة العبادة ، والشرط قبل المشروط في الوجود ، والعلّة الغائيّة قبله في التصوّر وبعده في الوجود ، فلا يكون أحدهما عين الآخر.

والشهرة ممنوعة ، ولو سلّمت فليست حجّة ، ولو سلّمت حجّيّتها ، فإطلاق اسم العبادة على الشكر لاشتمالها عليه كما مرّ ، والمجاز يصار إليه للقرينة. وإنّما يطلق عليه اسم العبادة عند بلوغه الغاية ؛ لأجل بلوغ النعمة الغاية ، ومن ثمّ لم يطلق على شكر بعض نعمه بعض

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٥٢.

(٢) لقمان (٣١) : ١٤.

(٣) إبراهيم (١٤) : ٣٤.

٩٩

اسم العبادة ؛ لعدم بلوغ الإنعام الغاية.

واعلم أنّ تجويز كلّ من الوجوه قائم ، ولا قاطع هنا على التعيين وإن كان مذهب اللطف قريبا ، وكذا مذهب اللطف في الشكر. ولا يمتنع أن يكون اللطف والشكر علّة تامّة في الوجوب إمّا باعتبار كون كلّ واحد منهما جزءا ، أو باعتبار كون أحدهما شرطا للآخر ؛ لأنّ مجرّد اللطف إذا علم أمكن أن يقال : يجوز قيام غيره مقامه. ومجرّد الشكر إذا لم يشتمل على لطف يمكن إجزاء بعض أفراده عن بعض.

أمّا إذا اشتمل اللطف على الشكر ولم يكن في غيره من الألطاف ذلك ، أو اشتمل الشكر على اللطف ولم يكن في مجرّد الاعتراف ذلك ، أمكن استناد الوجوب إليهما.

ولو قدّر أنّ أحدا من المكلّفين اعتقد واحدا من الأمور الأربعة لموجب ، لم يكن مخطئا (١) ؛ ولو قدّر أنّه فعل الواجب لوجوبه مثلا وترك الحرام لقبحه معرضا عن النظر في الوجه ، لم يكن مؤاخذا إن شاء الله تعالى ؛ فإنّها مسألة دقيقة يعسر على العوام تحقيق الحال فيها ، فتكليفهم بها نوع عسر منفيّ ؛ لقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٢). والله الموفّق.

__________________

(١) في « ق » : « لم يكن عبادته خارجة من الاعتبار » بدل « لم يكن مخطئا ».

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥.

١٠٠