رسائل الشهيد الأوّل

الشيخ شمس الدين محمد بن مكّي [ الشهيد الأوّل ]

رسائل الشهيد الأوّل

المؤلف:

الشيخ شمس الدين محمد بن مكّي [ الشهيد الأوّل ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-251-6
الصفحات: ٣٧٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بعد حمد الله تعالى على آلائه ، وصلاته على أشرف خلقه محمّد المصطفى وأحبّائه وآله الطاهرين ، فهذه رسالة في واجبات العمرة والحجّ وجيزة مستوفاة وضعتها تقرّبا إلى الله تعالى.

وهي فصلان :

[ الفصل ] الأوّل في أفعال العمرة

وهي أربعة :

فأوّلها : الإحرام

ومعناه : توطين النفس على اجتناب الصيد ، والنساء ، والطيب على العموم ، والقبض على الأنف من كريه الرائحة ، والاكتحال بالسواد وبما فيه طيب ، وإخراج الدم ، وقصّ الأظفار ، وإزالة الشعر ، وقطع الشجر والحشيش النابتين في الحرم إلّا في ملكه وإلّا الإذخر وشجر الفواكه ، والكذب ، والحلف بالله ، وقتل هو أمّ الجسد ، ولبس المخيط للرجل ، ولبس الخفّين وما يستر ظهر القدم [ له ] ، ولبس الخاتم للزينة ، والحليّ للمرأة إلّا أن يكون معتادا فيحرم عليها إظهاره للزوج ، والحنّاء للزينة ، وتغطية الرأس للرجل ، وتغطية الوجه للمرأة ، والتظليل للرجل سائرا ، ولبس السلاح بعد التلبية ، ولبس ثوبيه إلى (١) أن يأتي بالمحلّل من الأفعال.

__________________

(١) متعلّق بقوله : « على اجتناب ».

٢٤١

وكيفيّته : أن ينوي من الميقات بعد لبس ثوبي الإحرام.

ونيّته : « أحرم بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ ، حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع ، وألبّي التلبيات الأربع لعقد هذا الإحرام ، لوجوب الجميع ، قربة إلى الله لبّيك اللهم لبّيك ، لبّيك ، إنّ الحمد والنّعمة والملك لك ، لا شريك لك لبّيك ».

وفي هذه النيّة قيود :

الأوّل : « أحرم » وهو القصد إلى الفعل المذكور آنفا.

الثاني : « بالعمرة » وهي عبارة عن زيارة البيت الحرام محرما للطواف والسعي.

الثالث : « المتمتّع بها » أي المتوصّل بها إلى الحجّ ، وبه تخرج العمرة المفردة ، كما خرج بالعمرة الحجّ.

الرابع : « إلى حجّ الإسلام » وبه تخرج العمرة المتمتّع بها إلى حجّ النذر وشبهه.

الخامس : « حجّ التمتّع » وبه تخرج ما يتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ القران أو حجّ الإفراد ، فإنّه وإن لم يكن مشروعا إلّا أنّه متصوّر.

السادس : « لوجوب الجميع » معناه : أفعل هذه الأفعال لكونها واجبة ؛ للطف في تكليف عقليّ. وبه يخرج الندب.

السابع : « قربة إلى الله » أي ، أوقع هذه الأفعال لكونها واجبة للتقرّب بها إلى رضى الله تعالى ؛ ولكونه أهلا أن يعبد بهذه العبادة.

ومعنى قوله : « لبّيك » إجابة بعد إجابة لك يا ربّ ، وإخلاصا بعد إخلاص ، وإقامة على طاعتك بعد إقامة.

ومعنى « اللهمّ » يا الله.

ويجوز كسر « إنّ » وفتحها ، والكسر أجود ؛ لعموم الإثبات لمعنى التلبية بالنسبة إلى الحمد والنعمة وإلى غيرهما بسببه.

وفي هذه التلبية إشارة إلى إجابة نداء داعي الله الذي نادى به إبراهيم عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً ) (١). وإشارة إلى الإخلاص في الطاعة وإلى تنزيه

__________________

(١) الحجّ (٢٢) : ٢٧.

٢٤٢

الله تعالى عن الشرك. وإلى الإقامة على طاعة الله عزوجل.

وثانيها : الطواف

وهو حركات دوريّة حول البيت ، مخصوصة يقصد بها التقرّب إلى الله تعالى ، والتأسّي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وهو صلاة إلّا في تحريم الكلام. ومندوبه أفضل من الصلاة المندوبة للمجاور.

وواجباته أحد عشر :

الأوّل : النيّة ، وهي : « أطوف بالبيت سبعة أشواط طواف العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ ، حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

وقيوده تظهر من القيود الأولى.

الثاني : إيقاعها عند ابتدائه ، وهو جعل أوّل جزء من مقاديم البدن عند أوّل جزء من الحجر الأسود ممّا يلي الركن اليماني ، إمّا محقّقا أو بحسب غلبة الظن.

الثالث : الحركة عقيبها بلا فصل ، وهي الشروع في الطواف.

الرابع : استدامتها حكما حتّى يفرغ ، ومعناه البقاء على ذلك العزم الذي عزم عليه ابتداء.

ولمّا كان الباقي لا يحتاج إلى تأثير عند الأكثر ، كان معنى البقاء عليها أن لا يأتي في أثنائها بما ينافيها ، كنيّة القطع للطواف ، أو الزيادة ، أو جعله طواف الحجّ مثلا أو لحجّ النذر ، أو العمرة المفردة ، أو جعله مندوبا ، إلى غير ذلك من المنافيات.

الخامس : جعل البيت على اليسار.

السادس : جعل المقام على اليمين.

السابع : إدخال الحجر في الطواف.

الثامن : التداني من البيت بحيث لا يخرج في كلّ جانب عن بعد المقام.

التاسع : خروجه بجميع بدنه عن البيت.

العاشر : إكمال سبعة اشواط مبدؤها من الحجر وختامها الحجر من حيث ابتدأ.

الحادي عشر : حفظ العدد ، ولو شكّ في النقيصة بطل ، وكذا لو شكّ في الزيادة قبل

٢٤٣

بلوغ الحجر.

وشروطه خمسة :

الأوّل : طهارة البدن والثوب من النجاسة وإن عفي عنها في الصلاة.

الثاني : الطهارة من الحدث ، أو حكمها كالمتيمّم.

الثالث : ستر العورة التي يجب سترها في الصلاة.

الرابع : الختان للرجل المتمكّن منه.

الخامس : الموالاة ، وهي أن تكمل أربعة أشواط منه ، فلو قطعه قبل إكمالها لعذر أو غيره استأنف.

ولازمه الركعتان ، وهي كالصلاة اليوميّة ، ومحلّهما خلف المقام ، ووقتها بعد الطواف.

ونيّتها : « أصلّي ركعتي طواف عمرة الإسلام المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع أداء ، لوجوبهما ، قربة إلى الله ».

ويتخيّر فيهما بين الجهر والإخفات ، والأفضل الجهر ليلا والإخفات نهارا.

وثالثها : السعي

وهو حركات مخصوصة من الصفا إلى المروة. ويجب إيقاعه بعد الطواف في يومه ، فلو أخّره إلى الغد لا لعذر ، أثم وأجزأ.

وواجباته بعد ذلك اثنا عشر :

الأوّل : أن ينوي على الصفا ، إمّا بأن يقارن أوّل جزء منه أو أيّ جزء منه.

ونيّته : « أسعى من الصفا إلى المروة سبعة أشواط للعمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

الثاني : الاستمرار عليها حكما.

الثالث : أن يشرع في الحركة عقيبها بلا فصل.

الرابع : الذهاب في الطريق المعهودة.

الخامس : البدأة بالصفا.

٢٤٤

السادس : الختم بالمروة ، بأن يلصق أصابع قدميه بأوّل جزء منه ، أو بجزء منه ، فإذا عاد ألصق عقبه بأوّل جزء منه.

السابع : الإحاطة بالمسافة علما ولو إجمالا قبل إيقاع النيّة ؛ لامتناع توجّه القصد إلى المجهول المطلق.

الثامن : إكمال السبعة ، يعدّ ذهابه شوطا وعوده آخر.

التاسع : الموالاة المذكورة في الطواف احتياطا.

العاشر : استقبال المطلوب بوجهه ، فلو مشى مستدبرا بطل.

الحادي عشر : إيقاعه بعد الركعتين وبعد الطواف.

الثاني عشر : حفظ العدد ، فلو شكّ الشكّ المذكور في الطواف بطل.

رابعها : التقصير

وهو قطع بعض شعر الرأس أو قصّ بعض الأظافير.

وبه يتحقّق الإحلال عن إحرام العمرة.

ونيّته : « أقصّر للإحلال من إحرام العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

الفصل الثاني في أفعال الحجّ

وهي خمسة أبواب :

الأوّل : الإحرام به

ومعناه وواجباته وكيفيّته تقدّمت.

ولا فرق بينهما البتّة في شي‌ء إلّا أنّه ينوي : « أحرم إحرام حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، وألبّي التلبيات الأربع لعقد إحرام حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوب ذلك كلّه ، قربة إلى الله » إلى آخره.

٢٤٥

الثاني : الوقوف بعرفة

وهو الكون بها من زوال الشمس يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروبها.

وحدّها من نمرة إلى ثويّة ، إلى ذي المجاز ، إلى عرنة ، إلى الأراك.

ويجب فيه النيّة : « أقف بعرفة من هذه الساعة إلى غروب الشمس في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ومثله الوقوف بالمشعر.

وحدّه من المأزمين إلى الحياض ، إلى وادي محسّر.

ووقته ليلا من غروب الشمس ليلة العاشر إلى طلوع شمسه. واختياريّه التامّ من طلوع فجر العاشر إلى طلوع شمسه.

ونيّته : « أقف بالمشعر الحرام من هذه الساعة إلى طلوع الشمس في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

الثالث : إتيان منى

ويجب فيها الرمي لجمرة العقبة بسبع حصيات يوم النحر بعد طلوع الشمس إلى غروبها.

ونيّته : « أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات في حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداء ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ويجب فيه إصابة الجمرة بفعله بإلقاء الحصاة عليها بما يصدق عليه اسم الرمي. وكون الحصى من الحرم ، وكونها غير مرميّ بها. والترتيب حيث يجب رمي الثلاث ، يبدأ ابتداء بالأولى ، فالوسطى ، فجمرة العقبة. ويحصل برمي أربع لا عامدا. والتتابع في رمي السبع لا في إصابتها. ولا يشترط الموالاة. والجمرة اسم لتلك البنية ، فلو زالت ثمّ جدّدت رماها.

ثمّ يجب عليه ذبح الثنيّ من الإبل أو البقر أو المعزى ، أو جذع من الضأن ، بشرط تماميّة خلقته وعدم هزاله.

٢٤٦

ومحلّه منى. وحدّها من العقبة إلى وادي محسّر.

ووقته يوم النحر ، فإن فات ذبح طول ذي الحجّة.

ونيّته ، مقارنة لأوّل جزء من الذبح والتسمية : « أذبح هذا الهدي في حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ثمّ يجب أن يهدي قسما منه ، ويتصدّق بقسم ، ويأكل قسما آخر.

ونيّته : « اهدي ، أو أتصدّق ، أو آكل من هذا الهدي في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ثمّ يجب بعدها الحلق أو التقصير من الشعر ، كلّ منهما واجب مخيّر ، وليس أحدهما بدلا عن صاحبه. وبه يتحقّق التحلّل من إحرام الحجّ إلّا من الطيب والنساء والصيد.

ونيّته : « أحلق رأسي ، أو أقصّر للإحلال من إحرام حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله » مقارنة لأوّل جزء منه.

الرابع : إتيان مكّة للطواف والسعي وطواف النساء

وكيفيّتها كما تقدّم ، إلّا في النيّة فإنّه ينوي :

« أطوف سبعة أشواط طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

« أصلّي ركعتي طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداء ، لوجوبهما ، قربة إلى الله ».

« أسعى سبعة أشواط سعي حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

« أطوف سبعة أشواط طواف النساء في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

« أصلّي ركعتي طواف النساء في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، أداء ، لوجوبهما ، قربة إلى الله ».

الخامس : العود إلى منى

وذلك بعد قضاء هذه الأفعال وتحلّله من جميع ما أحرم منه. ولا يجوز تأخير هذه الأفعال عن الحادي عشر اختيارا ، فيأثم ، وتجزئ. والعود واجب للمبيت بها ليلا ورمي

٢٤٧

الجمار بها نهارا.

ونيّة المبيت : « أبيت هذه الليلة بمنى في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ونيّة الرمي ووقته كما تقدّم.

فإن فاته رمي يوم أو حصاة ، قضاهما من الغد بعد طلوع الشمس مقدّما على الحاضرة.

ونيّتهما : « أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات أو بحصاة في حجّ الإسلام حجّ التمتّع قضاء ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

وإن كان نائبا عن غيره ، أضاف إلى جميع ما ذكرناه عند كلّ نيّة : « نيابة عن فلان بن فلان ، لوجوبه عليه بالأصالة وعليّ بالنيابة ، قربة إلى الله ».

فينوي في الإحرام مثلا « أحرم بالعمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، وألبّي التلبيات الأربع لعقد إحرام العمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، نيابة عن فلان بن فلان ، لوجوب ذلك كلّه عليه أصالة وعليّ نيابة ، قربة إلى الله ».

وكذا في باقي الأفعال.

والحمد لله ربّ العالمين.

٢٤٨

(١١)

جواز إبداع السفر في شهر رمضان

٢٤٩
٢٥٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بعد حمد الله على نعمه الباطنة والظاهرة ، وصلاته على محمّد المصطفى وعترته الطاهرة وأصحابه الأنجم الزاهرة.

فإنّي ممتثل ما أمرت به من واجب الطاعة وإمام الجماعة ( أدام الله ظلّه ) من بحث هذه المسألة ، معتذرا ممّا صدر عن فكري الفاتر وقلمي القاصر ، وهي جواز السفر في شهر رمضان اعتباطا ؛ قصدا للترخّص وإباحة الفطر.

فأقول : الظاهر من مذاهب العلماء في سائر الأعصار والأمصار جوازه ، مع إجماعنا على كراهة ذلك ، نصّ عليه الشيخ الإمام أبو جعفر الطوسي في النهاية (١) والمبسوط (٢) ، والشيخ عماد الدين محمّد بن عليّ بن حمزة في الواسطة ، (٣) والشيخ أبو عبد الله محمّد بن إدريس (٤) ، والشيخ قطب الدين الكيذري ، (٥) والقاضي السعيد سعد الدين أبو القاسم ابن البرّاج في الكامل (٦) والمهذّب (٧) إلّا أنّه نقل طرده إلى تصرّم الشهر ، والباقون إلى ثلاث وعشرين منه ؛

__________________

(١) النهاية : ١٦١.

(٢) المبسوط ١ : ٢٨٤.

(٣) مفقودة ولم تصل إلينا.

(٤) السرائر ١ : ٣٩٠.

(٥) إصباح الشيعة : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٦) فقدت ولم تصل إلينا.

(٧) المهذّب ١ : ١٩٤.

٢٥١

حيث أطلق كلّ منهم جواز السفر على كراهية ، وهو المنصوص عن علماء أهل البيت عليهم‌السلام. (١)

ويلوح من الشيخ في التهذيب ، (٢) والشيخ أبي محمّد بن أبي عقيل ، (٣) والشيخ أبي عليّ محمّد بن الجنيد التحريم ، (٤) وصرّح به الشيخ أبو الصلاح في الكافي. (٥)

لنا عشرون طريقا :

[ الطريق ] الأوّلـ وهي العمدة ـ : التمسّك بقوله عزوجل : ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ). (٦)

وتقريره يتمّ بمقدّمات :

أ : أنّ هذا سفر ، وهو ظاهر ؛ إذ السفر هنا هو الضرب في الأرض قاصدا للمسافة.

ب : أنّه مباح ، وهي مأخذ الشكّ ، ووجهه أصالة إباحة الانتقال من بلد إلى آخر ، والإجماع على عدم حظر مفارقة صقع والوصول إلى صقع ، فيتحقّق المقتضي لإباحة السفر ، ولا مانع محقّقا ولا مقدّرا إلّا الترخّص في الإفطار ، ولا يصلح للمانعيّة ؛ لإباحته أيضا ، كما لو كانت الرخصة جزء علّته فيما لو سافر في أيّام الصوم لبعض الضرورات ، مع فرض عدم فواتها بالتأخير ، قصدا للرخصة ووصولا إلى الحاجة. وإذا كان غير مانع مع كونه جزء علّة فكذلك مع كونه علّة تامّة ؛ لإجماعنا على أنّ العاصي بسفره معصية لها مدخل في كمّيّته لا يترخّص ؛ ولقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليكم برخصة الله عزوجل التي رخّص لكم » رواه مسلم (٧) ؛ ولأنّ طلب القصر طلب للتخفيف ، وهو مراد الله عزوجل بقوله : ( يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ) (٨).

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٦ / ١ ـ ٢ ، باب كراهية السفر في شهر رمضان ؛ الفقيه ٢ : ٨٩ ـ ٩٠ / ٣٩٨ ـ ٤٠٢.

(٢) التهذيب ٤ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٣) حكاه عنه في المختلف ٣ : ٣٤٦ ، المسألة ٨٢.

(٤) حكاه عنه في المختلف ٣ : ٣٤٦ ، المسألة ٨٢.

(٥) الكافي في الفقه : ١٨٢.

(٦) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٧) صحيح مسلم ٢ : ٧٨٦ / ١١١٥.

(٨) النساء (٤) : ٢٨.

٢٥٢

على أنّ القصر عندنا عزيمة ، وإطلاق الرخصة عليه بحسب الوضع اللغوي ، لا بحسب العرف الشرعي ، ففرض السفر مخالف لفرض الحضر ، فلا يبقى المنع في الحضر قائما في السفر ، فالقصر حينئذ خال عن قيام المقتضي للمنع ، وهو معنى العزيمة ، وقد تقرّر في الأصول. (١)

فإن قلت : قصر الصوم حكم ، فلا يكون علّة ؛ ضرورة تأخّر الحكم عن العلّة ، واستحالة تأخّر الشي‌ء عن نفسه.

قلت : لا علّة للحكم الشرعي ، أمّا عند الأشعريّة فظاهر ؛ لاستحالة تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض ؛ واستحالة تأثير غير الله تعالى في حادث.

وأمّا عندنا وعند المعتزلة فهي بمعنى المعرّف فجاز ؛ لعدم علّيّتها ، ولو سلّم فالعلّة الغائيّة هنا قصد الترخّص لا نفس الترخّص ، والقصد مقدّم ضرورة.

لا يقال : كلّ فعل لا غاية له عبث ، وكلّ عبث معصية ، وكلّ معصية لا يقصر فيها.

لأنّا نقول : لا نسلّم عدم الغاية ، وقد بيّناها ، إلّا أن نعني بها غاية خارجة عن الترخيص ، فنمنع كلّية الكبرى لو سلّم أنّ هذا السفر عبث حينئذ ؛ إذ كلّ سفر مباح يسوّغ القصر ، وهو ظاهر ؛ إذ التقدير انتفاء الموانع عن هذا السفر إلّا ما ذكر ، فيدخل تحت منطوق الآية الشريفة. (٢)

الطريق الثاني : ما روي في صحيحي البخاري ومسلم ، ورواه الخاصّة عن جابر بن عبد الله ، وصفوان بن يحيى ( رضي‌الله‌عنهما ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبي الحسن عليه‌السلام أنّهما قالا : « ليس من البرّ الصيام في السفر ». (٣)

والتقدير ما تقدّم.

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله تصدّق على مرضى أمّتي و

__________________

(١) راجع عدّة الأصول ١ : ٢٢٧.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٦٨٧ / ١٨٤٤ ؛ صحيح مسلم ٢ : ٧٨٦ / ١١١٥ ؛ الفقيه ٢ : ٩٢ / ٤١١ ؛ التهذيب ٤ : ٢١٧ ـ ٢١٨ / ٦٣٢.

٢٥٣

مسافريها بالتقصير والإفطار ، أيسرّ أحدكم إذا تصدّق بصدقة أن تردّ عليه؟ » (١).

ولفظ : « مسافريها » عامّ ، خرج عنه سفر المعصية ، وكثير السفر بالإجماع ، فيبقى الباقي على العموم.

الطريق الثالث : القصر يسر ، واليسر مراد لله تعالى ، فيكون القصر مراد الله تعالى.

أمّا الصغرى : فوجدانيّة. وأمّا الكبرى : فمأخذها قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) (٢).

أو نقول : الإتمام عسر ، وكلّ عسر غير مراد لله ، وبيّن الكبرى بقوله : ( وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ٣ لا يقال : يعارض بسفر المعصية والكثير ؛ فإنّ الدليلين آتيان فيهما مع تخلّف القصر.

فنقول : الإجماع أخرجهما ، وأين الإجماع فيما نحن فيه؟

الطريق الرابع : وجد ملزوم القصر فثبت القصر.

أمّا وجود الملزوم : فلأنّ ملزوم القصر الحرج والمشقّة في السفر ، وهو هنا موجود.

وأمّا ثبوت القصر : فلما ثبت من وجوب وجود اللازم مع وجود الملزوم.

لا يقال : المشقّة حاصلة في الجمّال ونحوه ، ولا قصر.

فنقول : التقييد بقولنا : « في السفر » أخرجه ، ومنه يعرف عدم ورود السفر فيما دون المسافة ، وكثرة السفر ونحوه.

الطريق الخامس : انتفى لازم الإتمام فينتفي الإتمام.

أمّا انتفاء اللازم : فلأنّ الإتمام حرج في الدين ، وكلّ حرج في الدين منفيّ أو ضرر ، وكلّ ضرر منفيّ ؛ لقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ٤ ، ولقوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار ». ٥

وأمّا انتفاء الإتمام : فلأنّه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ، وإلّا لم يكن لازما ، هذا خلف.

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٧ / ٢ ، باب كراهية الصوم في السفر.

(٢) و ٣. البقرة (٢) : ١٨٥.

(٣) ٤. الحجّ (٢٢) : ٧٨.

(٤) ٥. الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ، باب الشفعة ؛ الفقيه ٣ : ١٤٧ / ٦٤٨ ؛ التهذيب ٧ : ١٤٦ ـ ١٤٧ / ٦٥١ ؛ سنن ابن ماجة ٢ :

٧٨٤ / ٢٣٤٠ ـ ٢٣٤١ ؛ سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٧ / ٨٣.

٢٥٤

الطريق السادس : هذا السفر ليس بمعصية لله

 ، ولا طلب شحناء ، أو سعاية ضرر على المسلمين ، ولا صيد ، وكلّ سفر هذا شأنه يسوّغ فيه الفطر ، ينتج : هذا السفر يسوّغ فيه الفطر.

أمّا الصغرى : فظاهرة.

وأمّا الكبرى : فلقول الصادق عليه‌السلام في رواية عمّار بن مروان : « من سافر قصّر وأفطر ، إلّا أن يكون رجلا سفره في الصيد ، أو في معصية الله تعالى ، أو رسولا لمن يعصي الله ، أو في طلب شحناء ، أو سعاية ضرر على قوم من المسلمين ». (١)

لا يقال : في طريق الحديث سهل بن زياد ، وقد ضعّفه الغضائري ، (٢) والنجاشي (٣) ، والشيخ الطوسي (٤) ، وأخرجه أحمد بن محمّد بن عيسى من قم إلى الري وشهد عليه بالغلوّ ، فكيف يصحّ الاعتماد على روايته؟

لأنّا نجيب : بأنّ الرواية مشهورة بين الأصحاب لا رادّ لها ، والحجّة عمل الأصحاب بمضمونها لا نفس سندها ؛ ولاعتضادها بالقرآن العزيز وباقي الأخبار.

الطريق السابع : أنّ هذا السفر ضرب في الأرض

 ، وكلّ ضرب في الأرض موجب لقصر الصلاة ، وكلّ سفر موجب لقصر الصلاة موجب لقصر الصوم.

أمّا الأولى : فظاهرة.

وأمّا الثانية : فمأخذها قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (٥).

لا يقال : هو معلّق ب ( إِنْ خِفْتُمْ ) ، فكيف يسوّغ مع عدمه!؟

فنقول : لمّا انفكّ الخوف عن السفر في علّيّة القصر بنينا كون كلّ منهما علّة على البدل.

وأمّا الثالثة : فلصحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « هما واحد ، إذا قصرت

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٩ / ٣ ، باب من لا يجب له الإفطار ... ؛ الفقيه ٢ : ٩٢ / ٤٠٩ ؛ التهذيب ٤ : ٢١٩ ـ ٢٢٠ / ٦٤٠.

(٢) لا حظ مجمع الرجال ٣ : ١٧٩.

(٣) رجال النجاشي ١ : ٤١٧ / ٤٨٨.

(٤) الفهرست : ٩ / ٣٢٩.

(٥) النساء (٤) : ١٠١.

٢٥٥

أفطرت ، وإذا أفطرت قصرت ». (١) والوحدة حقيقة محال ، فوجب الحمل على التساوي في الحكم.

الطريق الثامن : أنّ من صورة النزاع قصد أبعد الطريقين ليحصل القصر

 ، وقد نصّ أكثر الأصحاب على جواز سلوكه لتحصل الغاية ؛ محتجّين بأنّه سفر مباح ، وكلّ سفر مباح موجب للقصر (٢) ، وابن البرّاج (٣) وإن خالف هنا إلّا أنّه محجوج بالدليل.

لا يقال : الفرق حاصل بين الصورتين ؛ إذ الغاية في الممثّل به تتمحّض للرخصة ؛ لجواز كونها تجارة أو زيارة.

فنجيب بأنّ كلّ رخصة جزء العلّة ، وقد تقدّم مانعيّتها.

الطريق التاسع : الجمع بين قصر الصلاة وإتمام الصوم هنا ممّا لا يمكن

 ، والأوّل ثابت ، فينتفي الثاني.

أمّا تحقّق التنافي : فلأنّ مناط الرخصة الضرب في الأرض مع جواز السفر ؛ وإلّا لما جاز قصر الصلاة ، عملا بالمقتضي ؛ لوجوب إتمام الصلاة الخالي عن معارضة كون الضرب المذكور مناطا ، وإذا ثبت أنّه مناط أثّر في قصر الصوم ؛ عملا بالمقتضي.

وأمّا ثبوت الأوّل : فكما مرّ في الطريق السابع.

الطريق العاشر : أنّ تحريم القصر هنا يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة

 ، أو وقت الخطاب ، وكلاهما منفيّ في الأصول (٤) ، فلا يكون حراما.

وبيان الملازمة : أنّ كلّ دليل دلّ على القصر شامل لصورة النزاع ، فلو لم يكن مراده لزم التأخير المذكور.

الطريق الحادي عشر : وجوب القصر في بقيّة الأسفار

مع عدم القصر في هذا السفر متنافيان ، والثابت الأوّل ، فينتفي الثاني ، وهو مستلزم ثبوت القصر في صورة النزاع.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٨٠ / ١٢٧٠ ؛ التهذيب ٣ : ٢٢٠ / ٥٥١.

(٢) الخلاف : ١ / ٥٨٥ ، المسألة ٣٤٦ ؛ شرائع الإسلام ١ : ١٢٢ ؛ مختلف الشيعة ٢ : ٥٦٤ ، المسألة ٤٠٨ ؛ إيضاح الفوائد ١ : ١٦١.

(٣) المهذّب ١ : ١٠٧.

(٤) الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٣٦١ ـ ٣٧٦ ؛ المحصول في علم الأصول ١ : ٤٧٧.

٢٥٦

أمّا ثبوت الأوّل : فبالاتّفاق. وأمّا ثبوت الثاني : فلأنّ القصر إن كان معلّلا بإباحة السفر ، ثبت في الموضعين ، وإلّا انتفى في الموضعين.

الطريق الثاني عشر : أنّ القول بعدم القصر في المتنازع يستلزم إحداث قول ثالث يقتضي رفع ما أجمع عليه المسلمون ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

أمّا بطلان اللازم : فقد تقرّر في الأصول.

وأمّا بيان الملازمة : فلأنّ هذا السفر قد ثبت إباحته ، والأمّة على قولين : إمّا من علّل القصر بالسفر المطلق ، كالأوزاعي والحنفيّة ، أو من علّل القصر بالسفر المباح ، كالأكثرين ، وعدم القصر هنا مخالف للمذهبين.

أمّا للأوّل : فلأنّه سفر ، وأمّا للثاني : فلأنّه مباح.

الطريق الثالث عشر : تحريم القصر هنا تكلّف ، والأصل عدمه حتّى يثبت موجبه ، ولا يعارض بالمثل في صورة النزاع ؛ لأنّ المقتضي للقصر موجود ، وهو الآية المتقدّمة ، ولا كذلك المقتضي للصوم ؛ إذ لا يصدق على هذا المكلّف أنّه شهد الشهر.

الطريق الرابع عشر : المناسبة التي هي ملائمة أفعال العقلاء في العبادات حاصلة في القصر هنا ، فثبت القصر عملا بها. والمقدّمة الأولى فرضيّة ، والثانية مقرّرة في الأصول.

الطريق الخامس عشر : الدوران ـ أعني ترتّب الشي‌ء على الشي‌ء الذي له صلوح العلّيّة وجودا أو عدما أو معا ـ ثابت هنا ، فيثبت موجبه ، أعني القصر.

أمّا الأوّل : فلأنّ القصر مرتّب على السفر المباح وجودا.

وأمّا الثاني : فلما ثبت من دلالة الدوران على العلّيّة.

الطريق السادس عشر : لو ثبت عدم القصر في صورة النزاع فإمّا أن يثبت مع موجبه السفر لوجوب القصر أو لا ، وأيّما كان فإنّه باطل.

أمّا الأوّل : فلأنّه يلزم تخلّف الموجب عن الموجب.

وأمّا الثاني : فلأنّه يلزم عدم القصر في صورة الإجماع ؛ إذ لو ثبت لكان موجبا ، وقد قرّرناه غير موجب ، هذا خلف.

الطريق السابع عشر : لو ثبت عدم القصر في المتنازع فيه ، لما كان السفر المباح موجبا

٢٥٧

للقصر ، واللازم منتف ، فينتفي ملزومه.

وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّه لو لم يكن كذا ، للزم عدم القصر في بعض صور وجوده ، وعدم القصر في أيّ بعض فرض ملزوم ؛ لدلالة الدليل على عدم القصر في جميع صور وجوده ، وهو المناسبة الدالّة على الإضافة إلى المشترك ، فيلزم عدم القصر في جميع صور وجوده ، وهو منتف بالإجماع ، فيلزم كون عدم القصر منفيّا ، فثبت القصر ، وهو المدّعى.

الطريق الثامن عشر : إباحة القصر هنا لا تستلزم ارتفاع الواقع ، وكلّ ما لم يستلزم ارتفاع الواقع فهو واقع ؛ ينتج : إباحة القصر واقعة ، وهو المطلوب.

أمّا الصغرى : فلأنّه لو كان مستلزما لارتفاع الواقع ، لكان منفيّا ؛ لانتفاء لازمه ، وينعكس بالنقيض إلى قولنا : لو كان ثابتا لا يستلزم ارتفاع الواقع ، وإذا لم يستلزم ارتفاع الواقع ـ على تقدير ثبوته ـ لا يكون مستلزما لارتفاع الواقع بالضرورة.

وأمّا الكبرى : فلأنّ ما لا يكون واقعا فإنّ ثبوته مستلزم لارتفاع الواقع ؛ ضرورة استلزامه لارتفاع نقيضه حينئذ ، الذي هو واقع منعكس بالنقيض إلى قولنا : كلّ ما لا يكون ثبوته مستلزما لارتفاع الواقع فإنّه واقع.

الطريق التاسع عشر : لو لا ثبوت القصر في صورة النزاع ، للزم أحد الأمرين ، وهو إمّا تخلّف المعلول عن العلّة ، أو عدم وجوب القصر في السفر المباح ، وكلّ منهما منتف.

وإنّما قلنا : إنّ أحدهما لازم ؛ لأنّه لو ثبت عدم وجوب القصر فإمّا أن يثبت مع إضافة الوجوب في السفر المباح إلى المشترك أو لا مع إضافته إليه ، وأيّا ما كان يلزم أحد الأمرين.

أمّا إذا ثبت مع الإضافة فيلزم تخلّف المعلول عن العلّة ، وأمّا إذا ثبت لا معها : فلأنّه يلزم عدم الوجوب في السفر المباح لانتفاء لازم الوجوب ثمّ ؛ لأنّ الوجوب ثمّ ملزوم الإضافة إلى المشترك ؛ لمكان المناسبة.

الطريق العشرون : عدم وجوب القصر في المتنازع لا يجامع مع ثبوته في السفر المباح ، والثاني ثابت فيلزم انتفاء الأوّل.

وإنّما قلنا : إنّه لا يجامعه ؛ لأنّ السفر المطلق إمّا أن يكون موجبا للقصر أو لم يكن ، وأيّما كان يلزم عدم الاجتماع.

٢٥٨

أمّا إذا كان موجبا : فلأنّه حينئذ يلزم وجوبه في صورة النزاع.

وأمّا إذا لم يكن موجبا : فلأنّه يلزم عدم وجوبه في الصورة الأخرى ؛ إذ لو ثبت الوجوب لكان موجبا ؛ قضيّة للدوران. وبعض هذه الوجوه إلزاميّ ويمكن ردّه إلى الآخر.

احتجّ الآخرون : بأنّه لو سلّم جميع ما ذكر تموه من الأدلّة فإنّ معنا ما ينفيه ، وهو وجوه ثلاثة :

[ الوجه ] الأوّل : أنّ السفر مناف للصوم الواجب ، والإتيان بمنافي الواجب حرام ، ينتج :

أنّ السفر حرام. ثمّ نقول : كلّ سفر حرام لا يسوّغ فيه القصر ، وهو ينتج : هذا السفر لا يسوّغ فيه القصر.

أمّا الأولى : فلأنّ السفر لازم جواز الإفطار أو وجوبه ، والصوم لازمه تحريمه ، فتنافي اللازم يستلزم تنافي الملزومات.

وأمّا الثانية : فلأنّ الأمر بالشي‌ء نهي عن ضدّه ، أو يستلزمه ، والنهي يدلّ على الفساد في العبادات.

وأمّا الثالثة : فلما مرّ (١) من حديث عمّار بن مروان.

والوجه الثاني : التمسّك بقوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (٢).

وتقريره بمقدّمات :

أ : أنّ « من » في المجازات للعموم ، وقد تقرّر في الأصول. (٣)

ب : أنّ الحاضر عند دخول الشهر شاهد ، وهو معلوم بالضرورة.

ج : أنّ الصوم على الشاهد واجب ، وهو منطوق قوله تعالى : ( فَلْيَصُمْهُ ).

د : أنّ الأمر بالشي‌ء يستلزم النهي عن ضدّه.

ه : أنّ السفر ضدّ ، وقد تقدّم.

فنقول ـ إذا تقرّرت هذه المقدّمات ـ : لو جاز السفر في صورة النزاع ، لكان إمّا أن يوجب

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٥٥.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٥.

(٣) عدّة الأصول ١ : ١٠٤ ؛ مبادئ الوصول : ١٢٠ ـ ١٢١.

٢٥٩

الإفطار أو لا ، والثاني باطل ، وإلّا لبطلت الخامسة ، والأوّل يوجب النهي عنه ؛ للمقدّمة الرابعة ، فلا يكون جائزا ، وإلّا لم يجب الصوم أصلا وفيه إبطال المقدّمة الثالثة ؛ وإن اختصّ ببعض الأسفار أو بعض المسافرين بطلت الأولى.

الوجه الثالث : أنّ السفر هنا منهيّ عنه ، وكلّ منهيّ عنه حرام ، ويتمّ الدليل كما مرّ.

وبيان الصغرى : صحيحة أبي بصير عن مولانا الصادق عليه‌السلام في الخروج إذا دخل شهر رمضان ، فقال : « لا ، إلّا فيما أخبرك به : خروج إلى مكّة ، أو غزوة في سبيل الله ، أو مال يخاف هلاكه ، أو أخ يخاف هلاكه ». (١)

و « لا » حرف نهي ، والمنهيّ عنه محذوف ؛ للعلم به ، وهو الخروج ، وهو عامّ بدليل الاستثناء منه.

وأمّا الكبرى : فلما تقرّر في الأصول (٢).

وعن عليّ بن أسباط عن رجل عن مولانا الصادق عليه‌السلام أيضا مثله ، إلّا أنّه زاد : « فإذا مضت ليلة ثلاثة وعشرين فليخرج حيث شاء ». (٣)

والجواب عن الأوّل : منع صدق الكبرى ، وإنّما يصدق مع بقاء الوجوب ، والسفر سبب في إسقاطه ؛ ولأنّه معارض بالسفر الواجب.

وعن الثاني : القول بموجب الآية الكريمة ، ولكنّ المسافر لا يصدق أنّه شاهد الشهر ؛ ولأنّ الأمر ليس مطلقا ، بل معلّق على شهادة الشهر ، والمعلّق على شرط عدم عند عدم ذلك الشرط ؛ ولانتقاضه بالمسافر قبل دخوله طلبا للرخصة في الإفطار.

وعن الثالث : بالحمل على الكراهة ؛ لأنّ النهي وإن كان حقيقة في التحريم إلّا أنّه مع وجود قرينة الكراهة يجب المصير إليها ؛ لما ثبت من الرجوع إلى المجاز عند وجود قرينة صارفة إليه ؛ وهنا كذلك ؛ لأنّ الأدلّة متظافرة بالجواز ، وخصوصا مع فتوى الأصحاب بالكراهية مع علمهم بمقتضيات الألفاظ ، ويختصّ الخبر الثاني بضعف سنده تارة وإرساله أخرى.

__________________

(١) الكافي ٤ : ١٢٦ / ١ ، باب كراهية السفر في شهر رمضان وفيه : « أو أخ تريد وداعه » ؛ الفقيه ٢ : ٨٩ / ٣٩٨.

(٢) مبادئ الوصول : ١١٦ ؛ عدّة الأصول : ٩٧.

(٣) التهذيب ٤ : ٢١٦ / ٦٢٦.

٢٦٠