رسائل الشهيد الأوّل

الشيخ شمس الدين محمد بن مكّي [ الشهيد الأوّل ]

رسائل الشهيد الأوّل

المؤلف:

الشيخ شمس الدين محمد بن مكّي [ الشهيد الأوّل ]


المحقق: مركز الأبحاث والدراسات الإسلاميّة
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة بوستان كتاب
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-371-251-6
الصفحات: ٣٧٦

(٩)

المنسك الكبير

٢٢١
٢٢٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الله أحمد على جميع فرائضه وسننه ، وإيّاه أشكر على حسن توفيقه ومننه ، وأسأله المزيد من فضله في سرّه وعلنه ، والإعانة على الإبانة لمناسك حجّ بيته الحرام ، وإنجاز خلاصة محتومها بأوجز كلام.

وأصلّي على سيّدنا محمّد ، الداعي إلى الإيمان ، الهادي لصراط الرحمن ، وآله المقتفين هديه ورشده ، والمجتهدين صدره وو رده.

وبعد ، فهذه الرسالة في فرض الحجّ والعمرة ، مجردة عن دليل. وهي مبنيّة على مقدّمة ، ومقالتين ، وتكميل.

فالمقدّمة في حدّه وغايته ونبذ من الترغيب فيه.

والمقالة الأولى في أفعال عمرة التمتّع والإفراد.

والمقالة الثانية في أفعال الحجّ.

والتكميل في زيارة البشير النذير ، وأهل بيته المخصوصين بالتطهير.

كمال الحجّ أن تقف المطايا

على ليلى وتقرئها السلاما

أمّا المقدّمة

فالحجّ لغة : القصد المطلق (١). ويطلق على الغلبة ، ومنه الحجّة. ومن الأوّل المحجّة ؛ لأنّها

__________________

(١) لسان العرب ٢ : ٢٢٦ ، « ح ج ج ».

٢٢٣

طريق القصد ، وربما رجعت إليه الحجّة باعتبار ما.

وشرعا : اسم لجميع المناسك المؤدّاة في الميقات ، ومكة ، والمشاعر للقربة. وهو أولى من جعله اسما للقصد إلى بيت الله لأدائها ؛ لمبادرة المعنى الأوّل إلى فهم أهل الاصطلاح ، وهو آية في الحقيقة.

ولا يشكل بأنّ التخصيص خير من النقل ؛ لأنّه إنّما رجّح لعدم ثبوت النقل ، وسبق الفهم يحقّقه.

وغايته : تكميل النفس في قوّتها العمليّة بتحصيل السعادة الأبديّة.

ووجوبه من ضروريّات الدين ، ومستحلّ تركه كافر إجماعا ، والآية الكريمة (١) ناطقة بهما. وفيها ضروب من التأكيد ، مبيّنة في صناعة المعاني.

وفي الخبر النبويّ بطريق أهل البيت عليهم‌السلام فيمن وجب عليه الحجّ ولم يحجّ : « فليمت إن شاء يهوديّا وإن شاء نصرانيّا » (٢).

وهو محمول على النفي الكلّي مع الاستحلال للترك. والتخيير في صنف الميتة للمبالغة في الحكم بالكفر. وخصّ هاتين الميتتين ؛ حذفا لغيرهما من درجة الاعتبار ، وتقريعا لهما وتوبيخا. ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (٣).

ووجوبه فوريّ ؛ إجماعا من الفرقة المحقّة. وتأخيره كبيرة موبقة. وتأخير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن عام النزول ؛ لعدم الشرط ، ولأنّ التأخير أعمّ من الاستقرار ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ المعيّن.

وأمّا ثوابه ، فناهيك به أنّه جمع بين أصناف أكثر العبادات ، مع اشتماله على ركوب الأهوال ، وفراق الأهل ، وعلى التوكّل والتفويض ، وقطع العلائق ، وذكر سفر الآخرة. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك ما لا يحصى ، فمن ذلك بطريق الإمام

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٩٧.

(٢) لم نجده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام المفيد في المقنعة : ٣٨٦ ، والكليني في الكافي ٤ :

٢٦٨ / ١ و ٢٦٩ / ٥ باب من سوف الحجّ وهو مستطيع ، والصدوق في الفقيه ٢ : ٢٧٣ / ١٣٣٣ ، والشيخ في التهذيب ٥ : ٤٦٢ / ١٦١٠.

(٣) الزمر (٣٩) : ٩.

٢٢٤

المعصوم أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام :

من حجّ هذا البيت بنيّة صادقة جعله الله تعالى مع الرفيق الأعلى من النبيّين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إنّك إذا توجّهت إلى سبيل الحجّ ، ثمّ ركبت راحلتك وقلت : بسم الله الرحمن الرحيم ومضت بك الراحلة ، لم تضع راحلتك خفّا ولم ترفع خفّا إلّا كتب الله لك بكلّ خطوة حسنة ، ومحا عنك سيّئة. فإذا أحرمت ولبّيت كتب الله لك بكلّ تلبية عشر حسنات ، ومحا عنك عشر سيّئات. فإذا طفت أسبوعا كان لك بذلك عند الله عهد وذكر يستحي أن يعذّبك بعده. فإذا صلّيت ركعتين عند المقام كتب الله لك بهما ألف ركعة مقبولة. فإذا سعيت بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، كان لك عند الله عزوجل مثل أجر من حجّ ما شيا من بلاده ، ومثل أجر من أعتق سبعين رقبة مؤمنة. فإذا وقفت بعرفات إلى غروب الشمس ، فلو كان عليك من الذنوب مثل رمل عالج وزبد البحر ، لغفرها الله لك ، فإذا رميت الجمار كتب الله لك بكلّ حصاة عشر حسنات. فإذا ذبحت هديك كتب الله لك بكلّ قطرة من دمها حسنة. فإذا طفت بالبيت أسبوعا للزيارة ، وصلّيت عند المقام ركعتين ، ضرب ملك كريم بين كتفيك : أمّا ما مضى فقد غفر لك. (٢)

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق مولانا الصادق عليه‌السلام : « الحجّة ثوابها الجنّة ، والعمرة كفّارة ذنب ». (٣)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أراد دنيا وآخرة فليؤمّ هذا البيت ». (٤)

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام : من حجّ حجّة الإسلام فقد حلّ عقدة من النار من عنقه ، ومن حجّ حجّتين لم يزل في خير حتّى يموت ». (٥)

و « من حجّ ثلاث سنين جعل في نعيم الجنّة ». (٦)

__________________

(١) قريب منه في الفقيه ٢ : ١٥٢ / ٦٦٤.

(٢) الفقيه ٢ : ١٣٠ / ٥٥١ ؛ التهذيب ٥ : ٢٠ / ٥٧.

(٣) الكافي ٤ : ٢٥٣ / ٤ باب فضل الحج والعمرة وثوابهما ؛ الفقيه ٢ : ١٤٢ / ٦٢٠.

(٤) الفقيه ٢ : ١٤١ / ٦١٤.

(٥) الفقيه ٢ : ١٣٩ / ٦٠٣.

(٦) لم نجده بالرغم عن الفحص في مظانّه.

٢٢٥

و « من حجّ أربع سنين لم يصبه ضغطة القبر أبدا » (١). وغير ذلك من الأحاديث.

ووجوبه مرّة على الكامل الحرّ ولو أذن السيّد. ولو كمل وأعتق قبل أحد الموقفين تمّ حجّه ، بشرط الاستطاعة التي هي الزاد والراحلة في المفتقر إلى قطع المسافة مطلقا ، والتمكّن من المسير ، ونفقة واجب النفقة ذهابا وعودا.

ومن شرط صحّته النيّة ؛ ومن ثمّ لم يقع من الكافر مطلقا ، ولا من غير المميّز مباشرة ؛ لعدم الإتيان بهما على الوجه. وحيث لا وجوب لا إجزاء عندنا.

ويستحبّ قطع العلائق ، واختيار يوم صالح ، ورفيق صالح. وينبغي التوبة إلى الله تعالى من المعاصي ، وصلاة ركعتين أمام التوجّه ، والدعاء بعدهما ، والوقوف على بابه مستقبل الطريق واليمين واليسار قارئا فاتحة الكتاب وآية الكرسيّ في الثلاث ، والدعاء بالمنقول ، والبسملة عند الركوب ، والذكر والدعاء حال الاستقرار والسير والنزول ، والإكثار من تلاوة القرآن ، وحسن الخلق ، وبذل الزاد والماء والمعوز (٢) للرفيق ، وصلاة ركعتين في كلّ منزل عند نزوله وارتحاله ، والدعاء عند مشاهدة المنازل والقرى.

المقالة الأولى في أفعال العمرة

وهي أربعة ، وفي المفردة خمسة :

الأوّل : الإحرام

ومعناه : توطين النفس على اجتناب الصيد والنساء والطيب على العموم ، والاكتحال بالسواد وبما فيه طيب ، وإخراج الدم ، وقصّ الأظفار ، وإزالة الشعر ، وقطع الشجر والحشيش النابتين في الحرم إلّا في ملكه وإلّا الإذخر والمحالة وشجر الفواكه ، والكذب ، والجدال ، وقتل هو أمّ الجسد ، ولبس المخيط للرجل والخنثى ، والخفّين وما يستر ظهر القدم له ، ولبس

__________________

(١) رواه في الفقيه ٢ : ١٤٠ / ٦٠٦ عن الرضا عليه‌السلام.

(٢) المعوزة : كلّ ثوب تصون به آخر. وقيل : هو الجديد من الثياب. لسان العرب ٥ : ٣٨٥ ، « ع وز ». وفي المرعشيّة : « المعونة » بدل « المعوز ».

٢٢٦

الخاتم للزينة ، والحليّ للمرأة ، إلّا أن يكون معتادا فيحرم عليها إظهاره للزوج وغيره ، والحناء للزينة ، وتغطية الرأس للرجل والوجه للمرأة ، والتظليل للرجل سائرا اختيارا على الأصحّ ، ولبس السلاح بعد التلبية إلى (١) أن يأتي بالمحلّل من الأفعال.

وكيفيّته : أن ينوي من الميقات بعد لبس ثوبي الإحرام : « أحرم بالعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ حجّ الإسلام حجّ التمتّع. وألبّي التلبيات الأربع لعقد إحرام العمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ المتمتّع لوجوب الجميع ، قربة إلى الله : لبّيك اللهمّ لبّيك ، لبّيك ، إنّ الحمد والنعمة والملك لك ، لا شريك لك لبّيك ».

وفي هذه النيّة قيود :

الأوّل : « أحرم » أي أوطّن نفسي على ترك الأمور المذكورة آنفا.

الثاني : « بالعمرة » وهي لغة : الزيارة. (٢)

وشرعا : أداء المناسك المخصوصة ، أو زيارة البيت محرما للطواف والسعي.

الثالث : « المتمتّع بها » أي التي يتخلّل بينها وبين الحجّ رفاهية ودعة من التمتّع الذي هو الالتذاذ والانتفاع.

الرابع : « إلى الحجّ » أي يستمرّ بها الانتفاع إلى وقت الحجّ ، أو التي يحصل بها انتفاع بالثواب إلى وقت الحجّ سابق عليه. وبه تخرج المفردة كما خرج بالعمرة الحجّ.

الخامس : « إلى حجّ الإسلام » وبه تتميّز العمرة المتمتّع بها عن حجّ النذر وشبهه.

السادس : « حجّ التمتّع » وبه يخرج ما يتمتّع بها إلى حجّ الإسلام ، حجّ القران أو حجّ الإفراد ؛ فإنّه وإن لم يكن مشروعا إلّا أنّه متصوّر.

السابع : « لوجوب الجميع » وبه يمتاز عن الندب.

ووجه الوجوب هو اللطف في التكليف العقلي ، أو شكر النعمة ، على اختلاف الرأيين ، كما بيّنّاه في رسالة التكليف. (٣)

__________________

(١) متعلّق بقوله : اجتناب.

(٢) لسان العرب ٤ : ٦٠٤ ، « ع م ر ».

(٣) هي المقالة التكليفيّة التي تقدّمت برقم (٣). وطبعت مع شرحها للبياضي في أربع رسائل كلاميّة.

٢٢٧

الثامن : « قربة إلى الله » وهو غاية الفعل المتعبّد به ، والمراد بها موافقة إرادة الله تعالى سبحانه ، والتقرّب إلى رضاه قرب الشرف ، لا التشرّف.

ومعنى « لبّيك » : إجابة بعد إجابة لك يا ربّ ، وإخلاصا بعد إخلاص ، وإقامة على طاعتك بعد إقامة ، على اختلاف تفسيره.

ومعنى « اللهم » : يا الله.

وتتعيّن هذه اللفظة ، فلو بدّلها بمرادفها لم يجزئه. وكذا باقي ألفاظ التلبية.

وتكسر « إنّ » على الاستئناف ، وتفتح بنزع الخافض. والأوّل يقتضي تعميم التلبية ، والثاني تخصيصها ، فالأوّل أولى ، وهو معنى قول أبي العبّاس النحوي : من فتح خصّ ، ومن كسر فقد عمّ (١).

لطيفة :

قال بعض علمائنا : إنّ هذه التلبية جواب للنداء المذكور في قوله عزوجل : ( وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ ) (٢). وفيه تذكير بالميثاق القديم.

وفي « لا شريك له » إرغام لمعاطس الجاهليّة الذين كانوا يشركون الأصنام والأوثان بالربّ.

وفي تكرار لفظها بعث للقلب على الإقبال على خالص الأعمال ، وتلاف لما لعلّه وقع من إخلال ، كتكرار الركعات والتسبيحات والتكبيرات.

ويستحبّ الإكثار منها ، ومن التلبيات الأخر المستحبّة ، وخصوصا « لبّيك ذا المعارج لبّيك ». والباقي :

لبّيك داعيا إلى دار السلام لبّيك ، لبّيك غفّار الذنوب ، لبّيك أهل التلبية لبّيك ، لبّيك ذا الجلال والإكرام لبّيك ، لبّيك تبدئ والمعاد إليك لبّيك ، لبّيك تستغني ويفتقر إليك لبّيك ، لبّيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبّيك ، لبّيك إله الحقّ لبّيك ، لبّيك ذا النعماء والفضل الحسن الجميل لبّيك ، لبّيك كشّاف الكرب العظام لبّيك ، لبّيك عبدك وابن عبديك لبّيك ، لبّيك أتقرّب إليك

__________________

(١) حكاه عنه في تذكرة الفقهاء ٧ : ٢٦٣ المسألة ١٩٨ ، والمغني لابن قدامة ٣ : ٢٥٨.

(٢) في المغني لابن قدامة ٣ : ٢٥٨ : « وقال جماعة من أهل العلم : معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه‌السلام حين نادى بالحجّ ». والآية في سورة الحجّ (٢٢) : ٢٧.

٢٢٨

بمحمّد وآل محمّد لبّيك ، لبّيك يا كريم لبّيك ، لبّيك إلى العمرة المتمتّع بها إلى الحجّ لبّيك.

وتجب المقارنة بين النيّة والتلبية ، واستدامتها حكما. والإخلال بالمقارنة مبطل ، وبالاستدامة مؤثم.

ويشترط في الثوبين صحّة الصلاة فيهما. ولا يجوز النقص اختيارا ، ولا حرج في الزيادة والإبدال ، ولكنّ الطواف في الأوّلين مستحبّ.

وفي كون لبس الثوبين شرطا في الإحرام أو جزءا من ماهيّته أو واجبا لا غير بحث.

وتظهر الفائدة في الإخلال.

والنيّة شرط ، أو شطر قطعا. والتلبية شرط عند كثير ؛ فإنّ الإحرام هو التوطين ، إلّا أنّه لا يتحقّق الاعتداد به من دونها. وفي ركنيّتها قولان. (١) ولا خلاف في تحقّق معنى الإحرام عند تحقّق التلبية.

ولكنّ اللبس أشبه بالشرط ؛ من حيث جواز تقديمه بزمان ، ويليه في الشبه النيّة ، وهي إلى الركن أقرب ؛ للمقارنة.

والتلبية كالتحريمة بالإضافة إلى الصلاة.

وهذا الفعل ـ أعني الإحرام ـ يشبه الترك. وقيل : بالعكس. وعلى ما فسّرناه من التوطين فهو فعل محض. ومثله من العبادات الصوم. أمّا الصلاة ففعل محض. والإخلال بالقبيح (٢) ترك محض.

__________________

(١) راجع مختلف الشيعة ٤ : ٨٥ ، المسألة ٤٦.

(٢) هكذا في النسخ ولكن بدّله ب « بالقصد » في المطبوع في مجلّة ميقات الحجّ ، العدد الرابع ( سنة ١٤١٦ ه‍ ) وعلّق عليه السيّد محمّد رضا الحسيني الجلالي ، قال : « أقول : بما أنّ المصنّف يرى التوطين ـ وهو من الأمور القلبيّة ـ فعلا محضا لأنّه عزم وتصميم ، فالإخلال به يساوق تركه محضا من دون حاجة إلى إيجاد فعل آخر. والأفعال القلبيّة ـ كالعزم والتوطين ـ يكفي في الإخلال بها وتركها عدم قصدها. ومثل هذا في العبادات : الصوم ، فإنّه العزم على ترك المفطرات ، فإنّه فعل قلبي ، وحقيقته القصد ، فالإخلال به يتحقّق بالعزم على العدم ، وليس بحاجة إلى فعل وجوديّ كإيجاد الضدّ.

لكن من أعرض عن جهة كون الإحرام والصيام من الأفعال القلبيّة ، وخصّ التكليف بالأفعال البدنيّة العمليّة ، دعاه هذا إلى أن يلتزم بأنّ التكليف في الإحرام والصيام متعلّق بحرمة فعل هو ضدّ الإحرام والصيام ؛ لكون الإحرام وكذلك الصوم عنده أمرين عدميّين ، وهو الامتناع عن محرّمات الإحرام ومفطرات الصوم ، ولا يعقل عنده تعلّق التكليف بالأمر العدمي.

هذا ما نفهمه من عبارة المصنّف. وعلى أساسه انتخبنا كلمة « بالقصد » وكلمة « البدنيّة » وكلمة « قوما » والله أعلم ».

٢٢٩

وسبب الاشتباه في الإحرام والصيام قطع النظر عن الأفعال القلبيّة ، واستسلاف أنّ الأفعال يراد بها البدنيّة.

وحمل ذلك قوم من الأصوليّين على أن جعلوا التكليف فيهما متعلّقا بإيجاد الضدّ ، هربا من تعلّق الإرادة بالمعدوم. وهي مسألة كلاميّة.

الثاني : الطواف

وهو لغة : الدوران المطلق في السكك. وشرعا : حركة دوريّة حول الكعبة الشريفة ، للقربة والأسوة.

والسرّ فيه : إذلال النفس بتكرار الدوران حول بيت الملك على حالة تشبه حالة الميّت وأكفانه ، طلبا لرضاه ، وتحرّيا لمغفرته.

وطواف أهل العبارة بالقالب ، وأهل الإشارة بالقلب. وهو صلاة ، إلّا في تحريم الكلام. ونفله أفضل من نفلها للمجاور.

ويعتبر فيه سبعة عشر :

الأوّل : الطهارة من الحدث ولو تيمّما ، ومن الخبث إلّا أن يعفى عنه في الصلاة على قول.

الثاني : ستر العورة الواجب سترها في الصلاة. ويختلف بحسب حال الطائف.

الثالث : الختان للرجل إلّا للضرورة.

الرابع : النيّة : « أطوف سبعة أشواط للعمرة المتمتّع بها إلى الحجّ حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

الخامس : مقارنتها لابتدائه ، وهو محاذاة أوّل جزء من مقاديم بدنه لأوّل الحجر ، علما أو ظنّا.

السادس : الحركة الذاتيّة أو العرضيّة عقيبها.

السابع : استدامتها حكما لا فعلا وفسّر بأمر عدميّ. وفيه دقيقة كلاميّة.

الثامن : جعل البيت على اليسار.

٢٣٠

التاسع : جعل المقام على اليمين.

العاشر : إدخال الحجر في الطواف.

الحادي عشر : مراعاة النسبة بين البيت والمقام من البعد ، بحيث لا يزيد عليه ، والدنوّ من البيت أفضل.

الثاني عشر : خروجه بجميع البدن عن البيت.

الرابع عشر : حفظه ، فلو لم يحصّل العدد أو شكّ في النقيصة أو في الزيادة قبل بلوغ الركن ، بطل.

الخامس عشر : الموالاة بحيث لا ينقص المقطوع عن أربع.

السادس عشر : الختم بموضع البدأة من الحجر ، فلو زاد عليه متعمّدا ، بطل ، وسهوا تخيّر في الإكمال والقطع إلى الحجر ، وإلّا قطع. والثاني نفل.

السابع عشر : ركعتاه ، ومحلّهما خلف المقام ، ووقتها عند الفراغ ، وهي كاليوميّة ، ولا يتعيّن فيهما جهر ولا إخفات.

ونيّتهما : « أصلّي ركعتي طواف العمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداء ، لوجوبهما ، قربة إلى الله ».

الثالث : السعي

وهو لغة : السرعة في المشي (١). وشرعا : الحركات المعهودة بين الصفا والمروة ، قربة إلى الله. ويتمّ باثني عشر :

الأوّل : النيّة : « أسعى سبعة أشواط للعمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

الثاني : مقارنتها للصفا ، ويستحبّ الصعود.

الثالث : الاستمرار عليها حكما.

__________________

(١) المفردات في غريب القرآن ـ للراغب ـ : ٢٣٣ ، « س ع ى ».

٢٣١

الرابع : الحركة عقيبها بلا فصل.

الخامس : الذهاب بالطريق المعهود.

السادس : الختم بالمروة ولو بأصابع قدميه.

السابع : إتمام السبعة من الصفا إليه شوطان.

الثامن : موالاته احتياطا كالطواف.

التاسع : استقبال المطلوب بوجهه.

العاشر : إيقاعه بعد الركعتين.

الحادي العشر : حفظ العدد كالطواف.

الثاني عشر : إيقاعه في يوم الطواف ، وهو واجب لا شرط الصحّة.

الرابع : التقصير

وهو إبانة مسمّى الشعر أو الظفر. وبه يتحقّق الإحلال من إحرام المتمتّع بها ، لا المفردة ؛ فلا يتحقّق الإحلال التامّ فيها إلّا بالطواف وركعتيه ، وهو طواف النساء.

وواجباته ثلاثة :

الأوّل : النيّة : « أقصّر للإحلال من إحرام المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

الثاني : المقارنة.

الثالث : الاستدامة.

ويجزئ في المفردة الحلق ، ويحرم هنا ، ولا يجزئ في الأصحّ.

والإهلال قبله عمدا يقلب العمرة حجّة مفردة في المرويّ (١). وسهوا يقع ولا شي‌ء ، وشاة جبرا أفضل.

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٩٠ / ٢٩٦ ؛ الاستبصار ٢ : ١٧٥ / ٥٨٠ ؛ الوسائل ١٢ : ٤١٢ / ٤ ، باب ٥٤ من أبواب الإحرام.

٢٣٢

المقالة الثانية في أفعال الحجّ

وهي ستّة :

الأوّل : الإحرام به ، وتحقيقه كما مرّ.

ولا فرق في النيّة غير أنّه ينوي : « أحرم لحجّ الإسلام حجّ التمتّع وألبّي التلبيات الأربع ، لعقد إحرام حجّ الإسلام حجّ التمتّع لوجوب الجميع ، قربة إلى الله ، لبّيك » إلى آخره.

ومحلّه للمتمتّع مكّة ، وأفضلها المسجد ، وخلاصته المقام أو تحت الميزاب. ولو تعذّر أحرم من حيث أمكن ولو بعرفة.

وللقارن والمفرد ميقات عمرة التمتّع ، أو دويرة أهله.

ولا يبطل بزوال الشمس يوم التروية أو يوم عرفة قبله ، بل ولا بغروبها لا عامدا إذا أدرك المشعر اختياريّا. نعم يستحبّ إيقاعه بعد ظهر التروية.

والطواف بعده غير مشروع إذا كان للتمتّع ، فإن فعله أعاد التلبية على قول. أمّا قسيماه فلا حجر.

الثاني : الوقوف بعرفة

أي الكون بها إلى غروب الشمس مبتدئا بالنيّة ، مصاحبا لحكمها. ويجب ابتداؤه من الزوال. ويجزئ مسمّى الكون يوم التاسع وإن أثم.

فلا يقف بنمرة وثويّة وذي المجاز والأراك ؛ فإنّها حدود. نعم يستحبّ ضرب الخباء بنمرة.

والنيّة : « أقف بعرفة في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ولو فات لا عامدا ، اجتزأ بالليل. وواجبه مسمّاه ، وهو صالح للمشعر.

الثالث : الوقوف بالمشعر

وحدّه ما بين المأزمين إلى الحياض إلى وادي محسّر.

٢٣٣

ويجب فيه النيّة : « أبيت هذه الليلة بالمشعر في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

وهذا الوقوف فيه شائبة الاضطراري.

أمّا الاختياريّ الخالص فهو من مبدإ طلوع الفجر إلى الشمس يوم العيد ناويا : « أقف بالمشعر في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

واضطراريّه المحض إلى الزوال.

ويجب فيه الكلّي ، وفي الآخر الكلّ.

والإفاضة قبل الغروب من عرفة عامدا عالما غير مبطل ، ويجبره ببدنة ، ولا شي‌ء على المضطرّ. ومن المشعر قبل الفجر بالقيدين شاة.

الرابع : نزول منى للرمي والذبح والحلق مرتّبا ، وهو شرط في نفي الإثم ، لا في الصحّة.

والواجب يوم النحر رمي جمرة العقبة بسبع حصيات ، حرميّة لا مسجديّة ، أبكارا ، بما يسمّى رميا ، مصيبة بفعله ، مباشرة بيده.

ووقته ما بين طلوع الشمس إلى غروبها ، وفضيلته من الطلوع إلى الزوال. ويقضي لوفات مقدّما على الحاضر. ويخرج وقته بخروج الثالث عشر إلى القابل.

ويجب الترتيب حيث يجب رمي الثلاث ، وهو أيّام التشريق ، أعني : الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر. ويحصل بأربع لا عامدا.

ونيّته : « أرمي هذه الجمرة بسبع حصيات في حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداء ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ويجب ذبح الثنيّ من النعم الثلاثة ، ويجزئ من الضأن الجذع.

ويعتبر فيه تمام الخلقة ، وأن يكون على كليتيه شحم ، ويكفي الظنّ وإن أخطأ. أمّا المعيبة فلا.

وتجب الصدقة والإهداء والأكل مقرونا بالنيّة : « أتصدّق ، أو أهدي ، أو آكل من هدي حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداء ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

٢٣٤

ويشترط في المهدى إليه : الإيمان ، وفي محلّ الصدقة : الفقر معه.

ولا يجب الترتيب.

ويجب حلق شعر الرأس أو تقصيره للإحلال من إحرام حجّ الإسلام ولو أنملة.

والمرأة والخنثى المشكل التقصير ليس إلّا.

والنيّة فيه مقارنة مستدامة : « أحلق أو أقصّر للإحلال من إحرام حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

ولا يخرج من منى حتّى يأتي بالثلاثة ولو في ذي الحجّة ، ويرجع للذبح والحلق طوله ، فإن تعذّر خلّف الهدي وحلق مكانه ، وبعث بالشعر ليدفن بها ندبا.

أمّا الرمي فكما مرّ.

وبالحلق يتحلّل من المحرّمات إلّا الطيب والنساء والصيد. ثمّ يتحلّل من الطيب بطواف الزيارة والسعي على الأصحّ ، ومن النساء بطوافهنّ بعد طواف الزيارة. والأولى توقّف حلّ الصيد الإحراميّ على طواف النساء.

الخامس : العود إلى مكّة للطوافين والسعي

ويسمّى الأوّل طواف الحجّ ، وطواف العود ، وطواف الزيارة ، وطواف الركن ، وطواف الصدر (١). وكيفيّة الجميع كما تقدّم.

والنيّة : « أطوف سبعة أشواط طواف حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

« أصلّي ركعتي طواف حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع أداء ، لوجوبهما ، قربة إلى الله ».

« أسعى سبعة أشواط سعي حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

« أطوف طواف النساء في حجّ الإسلام ، حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

« أصلّي ركعتي طواف النساء في حجّ الإسلام حجّ التمتّع أداء ، لوجوبهما ، قربة إلى الله ».

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ١٢ : ٥١ ، وفيه : « وأمّا طواف الصدر وهو المسمّى بطواف الوداع ».

٢٣٥

السادس : العود إلى منى للمبيت بها ليالي التشريق

ويجزئ إلى نصف الليل. فلو بات بغيرها فشاة عن كلّ ليلة ، إلّا للعبادة بمكّة.

ولا يجب الثالث على المتّقي (١) ، ويجب على غيره ، وعلى من غربت عليه شمس الثاني عشر.

والنفر الأوّل بعد الزوال من اليوم الثاني عشر ، والثاني قبله من اليوم الثالث عشر.

وحدّ منى من العقبة إلى وادي محسّر.

ونيّة المبيت : « أبيت هذه الليلة بمنى في حجّ الإسلام حجّ التمتّع ، لوجوبه ، قربة إلى الله ».

والنائب يضيف في جميع ما ذكرناه : « نيابة عن فلان » فينوي :

« أحرم بالعمرة المتمتّع بها إلى حجّ الإسلام حجّ التمتّع نيابة عن فلان ، وألبّي ـ إلى آخرها ـ لوجوب الجميع عليه بالأصالة وعليّ بالنيابة ، قربة إلى الله ».

وأمّا التكميل

فاعلم أنّه قد ثبت في العلوم الحقيقيّة والأخبار النبويّة بقاء النفس بعد خراب البدن. وأنّ إدراكها أتمّ منه حال التعلّق بالبدن.

ولا شكّ أنّ للنفس الخيّرة أثرا عظيما في الإشراف على من دونها. ولا خفاء أنّ نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أشرف من غيرها.

ولمّا كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الأنبياء ، كان إشراف نفسه الشريفة أعظم ، والتعلّق بها أكمل.

والزيادة في ذلك إعداد تامّ ، باعتبار توجّه النفس المشروفة نحو الذات الشريفة ، ويستعدّ لتلقّي الفيض من عالم الغيب.

والأخبار الواردة بثواب زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله وزيارة أهل بيته كثيرة مشهورة.

فروينا عن مولانا الإمام أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « ابدءوا بمكّة واختموا بنا ». (٢)

__________________

(١) أي يجوز لمن اتّقى الصيد والنساء في إحرامه ترك مبيت الثالثة.

(٢) الكافي ٤ : ٥٥٠ / ١ ، باب فضل الرجوع إلى المدينة ؛ الفقيه ٢ : ٣٣٤ / ١٥٥٢.

٢٣٦

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها. ثمّ يأتونا فيخبرونا بولايتهم ، ويعرضوا علينا أعمالهم ». (١)

وعن الصادق عليه‌السلام : « من زار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كمن زار الله فوق عرشه ». (٢)

وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أتاني زائرا كنت أنا شفيعه يوم القيامة ». (٣)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من زار إماما مفترض الطاعة كان له ثواب حجّة مبرورة ». (٤)

وعن مولانا الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام : « أما إنّ لكلّ إمام عهدا في أعناق أوليائه وشيعته ، وإنّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم ، فمن زارهم رغبة في زيارتهم ، وتصديقا فيما رغبوا فيه ، كانت أئمّتهم شفعاءهم يوم القيامة ». (٥)

والأحاديث بتعيّن ثواب زيارتهم إجمالا وتفصيلا مذكور في كتب الأصحاب والأحاديث ، وهي كثيرة.

وهذا آخر الرسالة. والحمد لله على كلّ حالة ، والصلاة على المبعوث إلى خير أمّة ، وآله خير أئمّة.

كتب بالحلّة في شهر شوّال سنة خمس وستّين وسبعمائة.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٤٩ / ١ ، باب اتّباع الحجّ بالزيارة ؛ الفقيه ٢ : ٣٣٤ / ١٥٥٣. وفي المصدرين : « نصرهم » بدل : « أعمالهم ».

(٢) الكافي ٤ : ٥٨٩ / ٥ ، باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ؛ التهذيب ٦ : ٤ / ٦.

(٣) الكافي ٤ : ٥٤٨ / ٣ ، باب زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ التهذيب ٦ : ٤ / ٤.

(٤) التهذيب ٦ : ٧٩ / ١٥٦.

(٥) الكافي ٤ : ٥٦٧ / ٢ ، باب بدون العنوان من كتاب الحجّ ؛ الفقيه ٢ : ٣٤٥ / ١٥٧٧.

٢٣٧
٢٣٨

(١٠)

المنسك الصغير

٢٣٩
٢٤٠