المنتقى

السيد مرتضى الرضوي

المنتقى

المؤلف:

السيد مرتضى الرضوي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: الإرشاد للطباعة والنشر
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٦٥

وإنا إذ نسوق ما سقناه من عرض الحقائق على وجهها ، وإظهار وقائع التاريخ بعد تمحيصها ، لا نقصد وايم الله أن ننال أحداً بسوء من عندنا ، وإنما لنبين في غير حرج أمر الصحابة على حقيقته ، وأنهم أناس من الناس فيهم البر والآثم ، والصادق وغير الصادق ، وأنهم كانوا يعيشون في الحياة ويستمعون بها كما يعيش الناس. ويستمتعون ، وهذا كلّه لا يضرّ الإسلام في شيء وإنَّ ضياءه ليشرق من كتابه العظيم على الناس إلى يوم الدين.

وقال العلاّمة الكبير السيّد هاشم معروف الحسني تحت عنوان : عدالة الصحابة :

وإلى جانب التصوف ، والإرجاء ، والجبر برز في مطلع العهد الأموي سلاح آخر لعلّ أثر على العقول ، والقلوب ، والأفكار ، ومساندة الحكم الأموي لا يقل عن آثار الأسلحة الثلاثة ، ذلك السلاح هو عدالة الصحابة.

لقد برزت هذه الفكرة في مطلع العهد الأموي بعد أن أكلت الحروب الكثير منهم ومات أكثر الباقين بآجالهم.

وكان من الطبيعي بعد ذلك التاريخ الذي تركه الأمويون الملوّث بالشرك والجرائم ، والذي كان ماثلاً لدى الجميع أن يحاولوا استبدال تلك الصورة الكريهة العالقة في الأذهان عنهم نتيجة لمواقعهم المعادية للإسلام حتى بعد أن دخلوا فيه مكرهين ، كان من الطبيعي أن يحاولوا استبدال تلك الصورة بصورة تتناسب مع مراكزهم التي تسنموها باسم الإسلام فوضعوا فكرة العدالة لجميع من عاصر الرسول من المسلمين حتى ولو لم يره ، أو يسمع منه شيئاً ، وتوسع بعضهم فيها وأثبتها لكل من ولد في عصر الرسول ، وما دام ابو هريرة ، وزملاؤه من الوضاعين في

٨١

تصرّفهم ، فمن السهل عليهم أن يحصلوا على عشرات الأحاديث التي تدعمها.

وظلت فكرة العدالة لجميع الصحابة التي تتسع للامويين وعلى رأسهم أبوسفيان والحكم ، طريد رسول الله (ص) ، تسير وتتفاعل حتى أصبحت وكأنّها من الضرورات عند السنة وحكامهم في عصر الصراع العقائدي ، لأنّها تخدم مصالحهم ومبادئهم التي اعتمدوها في سيرة الخلافة ، ومواقفهم المعادية لأهل البيت عليهم‌السلام. ولم يكن الصحابة أنفسهم يتصوّرون بأنّ الغلوّ بهم سينتهي إلى هذه النتيجة ، وتكون لهم تلك الهالة التي استخدمها معاوية لخدمة الجاهلية التي تجسدت في البيت الأموي ، ذلك البيت الذي ظل يحارب الإسلام منذ أن بزغ فجره وحتى اللحظات الأخيرة من حكمهم.

عدالة الصحابة

وتعني عدالة الصحابة فيما تعنيه ، أن كلّ من عاصر الرسول ، أو ولد في عصره لا يجوز عليه الكذب والتزوير ، ولا يجوز تجريحه ، ولو قتل آلاف الأبرياء ، وفعل جميع المنكرات ، وعلى أساس ذلك فجميع الطبقة الأولى من الأمويين كأبي سفيان وأولاده ، وعثمان بن عفان وحاشيته ، وجميع المروانيّين بما فيهم طريد رسول الله الوزغ وأولاده الأوزاغ ، والمغيرة بن شعبة ، وسمرة بن جندب وزياد بن سميّة ، وعمرو ابن العاص ، وولده عبدالله الذي كان في حدود العاشرة من عمره حين وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع ذلك فقد نسبوا إليه مجموعة من الأحاديث كتبها على النبي في صحيفة يسمونها الصادقة ، فجميع هؤلاء الذين هم من أشدّ الناس عداوة للإسلام ، ولله ورسوله من العدول ، ومرويّاتهم من نوع الصحاح حتى ولو كانت في تجريح عليّ وأهل البيت

٨٢

وفي التقريظ ، والتقديس لعبد الرحمن بن ملجم.

وكل ما رووه وما لفقوه في فضل الصحابة الأوائل ، وفضل الأمويين ، ومعاوية ، والشام ، وما إلى ذلك من آلاف الرويات التي كانت تنتجها مصانع أبي هريرة من عشرات الرواة الذين استعملهم معاوية للدّس ، والكذب ، وتشويه الإسلام.

هذه المرويات يجب قبولها ، ولا يجوز ردّها لأنّ رواتها من العدول ، والعادل لا يعتمد الكذب ، والذين اتبعوا معاوية وسايروه طيلة ثلاثين عاماً من حكمه ، هؤلاء كانوا على الحق والهدى ، وحتى الّذين سمّوا الحسن بن علي ، وقتلوا الحسين ، وأصحابه وفعلوا ما فعلوا من الجرائم في الكوفة وغيرها ، كانوا محقّين أيضاً ، ومن المهتدين ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال على حدّ زعمهم :

أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم (١) ، ومن هو أولى بالاقتداء به من معاوية الذي كان الوحي كلما نزل على النبي يتفقده ويسلّم عليه ، ويوصي به ، كما تدعيه مرويّات تلك الطغمة من أنصاره إلى كثير من أمثال هذه الأحاديث التي أفرزتها مصانع أبي هريرة ، وابن العاص ، وابن جندب ، وكعب الأحبار وغيرهم ، في معاوية ، وبني أمية ، ومن سبقهم من الخلفاء وغير ذلك ، واختلطت بين الصحيح من حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولولا المخلصون من أهل البيت ، وشيعتهم ، وقليل غيرهم من بقية المحدّثين ، لفقدت السنة أبرز سماتها ، وانطمست معالمها ، وكنوزها ، بسب ما أدخلوه عليها من ألتحريف والبدع ، والمفتريات.

__________________

(١) طعن في هذا الحديث أبن تيمية وقال : ضعّفه أئمة الحديث فلا حجة فيه.

٨٣

لقد كان الصحابة يفسق بعضهم بعضا ، ويشتم بعضهم بعضاً ، واتفق أكثرهم على ضلال (١) عثمان وحاشيته ، وأنصاره ، واستحلال دمه.

وكان طلحة ، والزبير ، وعائشة ، من أكثر الناس تحريضاً عليه ، وبلغ الحال بعائشة أن كفرته ، واستعارت له اسماً ليهودي كان من أقذر أهل المدينة ، يسمونه نعثلاً ، وقالت أكثر من مرة.

« اقتلوا نعثلاً فقد كفر » ، وأخذت بيدها قميصاً كان لرسول الله (ص) وقالت :

« هذا قميص رسول الله لم يبل ، وقد أبلى عثمان سنته! ».

وبعد مصرع عثمان على يد المهاجرين والأنصار تحريضاً ومباشرة من الوفود التي زحفت من مختلف الأمصار ، اتجهت تلك الوفود الزاحفة من مختلف الجهات ، وجميع المهاجرين والأنصار إلى علي عليه‌السلام ، وانضمت تحت لوائه ، وأكثر المهاجرين وجدوا أنهم قد حققوا بهذه البيعة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعزّ أمانيه ، وإن جاءت متأخرة عن وقتها ، وراحوا ينتظرون فجراً جديداً مشرقاً بتعاليم الإسلام ومبادئه ، وعدالته.

واتجه الفريق الذي اشترك في قتل عثمان ، وكان من أشد الناس تحريضاً عليه من الصحابة ، إلى حرب الخليفة الشرعي الذّي تمّت خلافته بالإجماع والاختيار ، وبكل الشروط التي وضعوها للخلافة في عصر الصراع العقائدي الذي وضعوا فيه الشروط للخلافة الإسلامية لتصحيح خلافة الذين تقمصوها بعد وفاة الرسول عليه‌السلام.

وبعد أن بذل لهم إمام الهدى جميع الوسائل ليرجعوا عن غيّهم

__________________

(١) في رأي الدكتور طه حسين أن عثمان كان يقاد كالثور. انظر : مع رجال الفكر في القاهرة الحلقة الأولى ص ١٩٨ طبع القاهرة.

٨٤

وضلالهم ، فلم يسمعوا له قولاً ، ولا رعوا له وللأبرياء حرمة. وكانت المعركة لغير صالحهم كما هو المعلوم من حالها ، واتّجه بعدهم معاوية لحربه في أهل الشام ، ومعه فريق ممّن يسمونهم الصحابة حسب التحديدات التي وضعوها للصحبة ، لتسقطب أولئك المأجورين ، الذين كانوا يسيرون في ركابهم ، ويتمرّغون على أعتابهم ، لقاء مبالغ من أموال الأمة ، وضعها ابن هند في تصرّفهم ، ليضعوا له الحديث في انتقاص عليّ وذويه (ع) ، وفضل الأمويين والسائرين في ركابهم ، وكانت مصانع أبي هريرة ، وكعب الأحبار ، وسمرة بن جندب ، وابن العاص ، وولده عبدالله تننج لهم ما يشاؤون ، ويشتهون من مختلف الألوان ، ولعلّ أبا هريره ، وابن جندب ، وكعب الأحبار كانوا من أبرز المقرّبين لمعاوية في صنع الحديث من بين من أسموهم بالصحابة.

وجاءت الطبقة الثانية وعلى رأسها عروة بن الزبير ، ومحمد بن شهاب الزهري ، وغيرهم من عشرات الرواة ، والمحدّثين الذين اعتمدوا مصانع الطبقة الأولى ، ومضوا على نفس الطريق الذي يخدم مصالح أصحاب القصور وأهدافهم ، متسترين بقداسة الصحابة وعدالتهم ، وبما أنتجته مصانع أبي هريرة ، وكعب الأحبار ، وسمرة بن جندب ، وابن العاص ، وولده عبدالله الذي اشتملت مرويّاته عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يوم وفاته لم يتجاوز سن الطفولة ، فيما اشتملت عليه ، صحيفة عرفت في أوساطهم بالصحيفة الصادقة ، كما ذكرنا.

وظلت تلك الأحاديث إلى جانب المرويّات الصحيحة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أشدّ الأسلحة فتكاً بيد الحاكمين أعداء الإسلام الذين تستروا به ، ليطعنوه من الداخل بتلك الأسلحة التي وفرها لهم عدول الصحابة! وفي الوقت ذاته لإضفاء الشرعية على حكمهم الذي استمرّ قرابة قرن من الزمن.

٨٥

وقد روى ابن عرفة المعروف بنفطويه وهو من أكبار المحدّثين وأعلامهم كما جاء في شرح النهج للمعتزلي :

« إن أكثر الأحاديث في فضائل الصحابة افتعلت في أيام بني أميّة تقرباً إليهم بما يظّنون أنهم يرغمون أنوف بني هاشم ».

ومع أن تلك الأحاديث قد صنعها الوضاعون لمصلحة المروانيين والعثمانيين ، وأبي سفيان ، وولده معاوية ، وأنصاره ، فقد صاغوها بأسلوب يجعل من كل صحابي قدوة صالحة لأهل الأرض ، وتصب اللعنات على كل من سب أحداً منهم ، أو اتهمه بسوء كما جاء فيما رووه عن أنس بن مالك أن النبي (ص) قال : « من سبّ أحداً من أصحابي فعليه لعنة الله والملائكمة والناس أجمعين!! ».

ومن عابهم ، أو انتقصهم فلا تؤاكلوه ، ولا تشاربوه ، ولا تصلوا عليه (١).

مع أنها جاءت بهذا الأسلوب ، ولم تفرّق بين صحابي ، وصحابي ، فقد فرض معاوية سب عليّ عليه‌السلام ، وانتقاصه في جميع المقاطعات التي كانت تخضع لحكمه بما في ذلك الكوفة ، وجهاتها التي تجرّعت كل أنواع الأذى ، والظلم لكثرة الموالين فيها لعليّ وولده عليهم‌السلام الذين تعرّضوا للقتل والحبس ، والتشريد ، وكان يقول في جواب ناصحيه من أنصاره ، الذين كانوا يرون أن هذا الأسلوب من السياسة الخرقاء ، يخدم عليّاً وشيعته أكثر ممّا يسيء إليهم :

‎« والله لا أدع سبه وشتمه حتى يهرم عليه الكبير ، ويشب عليه الصغير! ».

وقد بذل للصحابي أبي سمرة بن جندب خمسمئة ألف درهم

__________________

(١) انظر : ص ٢٣٨ من كتاب الكبائر للحافظ الذهبي.

٨٦

ليروي له عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الأية :

( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ، ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ، ويهلك الحرث ، والنسل والله لا يحب الفساد ) (١) نزلت في علي بن أبي طالب.

وأن الآية :

( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) (٢). نزلت في عبد الرحمن بن ملجم لأنه قتل عليّاً عليه‌السلام ، إلى غير ذلك من الموضوعات التي كان يبذل لصانعيها بسخاء لا حدود له ، مع أنه فعل ذلك بإجماع المؤرخين فقد بقى من عدول الصحابة كما بقيت منتجات مصانع الوضاعين ، ممّن كانوا يتمرّغون على أعتاب قصر الحمراء ، وغيره من قصور الحاكمين ، التي كانت تعجّ بالفساد ، والظلم ، والمنكرات ، إلى جانب غيرها من مرويّات الثقاة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن صحاحها لأنها من صنع الصحابة ، والصحابة كلّهم من العدول ، ومن سبّهم أو انتقصهم فعليه لعنة الله ، ولم يستثن منهم سوى عليّ عليه‌السلام ، ومن وقف إلى جانبه من صحابة الرّسول الأوفياء لرسالة الإسلام وتعاليمه ، فهؤلاء بنظر معاوية وزبانيته ، كانوا يسعون في الأرض ليفسدوا فيها ، ويهلكوا الحرث ، والنّسل والله لا يحب الفساد!!

لقد بقيت إلى جانب غيرها من مرويّات عدول الصحابة مرجعاً للجمهور في التشريع وغيره على اختلاف مذاهبهم ، ونزعاتهم الفقهيّة ،

__________________

(١)سورة البقرة : الآيتان ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢٠٧.

٨٧

وعلى أساس ذلك غلب عليهم اسم السنة في مقابل الشيعة الذين رجعوا إلى الأئمة من أهل البيت (ع) وإلى مارواه ثقاة الصحابة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإضافة إلى كتاب الله في جميع ما جاء به الإسلام من أصول وفروع ، وتشريعات ، ولم يعرف الجمهور بهذا الوصف قبل أواخر القرن الأول ، وبهذا الاعتبار يمكن اعتبار التسنن من الأحداث الطارئة ، وبخاصة عندما نلاحظ أن مفهوم السنة خلال تلك الفترة من تاريخ المسلمين قد أصبح أوسع ممّا كان عليه في عهد الصحابة ، والطبقة الأولى من التابعين ، فبعد أن كان عند أوائلهم لا يتجاوز أقوال الرسول ، وأفعاله وكانوا يلاحقون الراوي للتأكد من صدقه وبعضهم يستحلفه ، ويتجنب أكثرهم مرويات أبي هريرة ، وكعب الأحبار ، وأمثالهما ممّن كانوا لا يتورعون الكذب ، والافتراء ، على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرّغم من أن درة ابن الخطاب كانت لهم بالمرصاد.

فبعد أن كانت لا تتعدى أقوال الرسول ، وأفعاله عند متقدّمي الصحابة ، أصبحت في العصور التي تعدّدت فيها المذاهب ، وتوزعت في العواصم ، وبقية الأقطار بنظر العلماء ، وأئمة المذاهب تتسع لرأي الصحابي ، وفتواه إذا لم يجدوا نصّاً على حكم الواقعة في كتاب الله ، وسنة الرسول ، وأصبحت آراء الصحابة في أحكام الحوادث التي كانت تعرض عليهم المصدر الثالث من مصادر التشريع بعد كتاب الله ، وسنة رسوله ، ولعلّ أئمة المذهب الثلاثة وعلماءهم الأحناف والمالكية ، والحنابلة ، أكثر تعصّباً لآراء الصحابة ، واجتهاداتهم من الشوافع كما يبدو ذلك من تصريحاتهم ، ومجاميعهم الفقهية ، ومع أن أبا حنيفة كان متحمساً للقياس ، ويراه من أفضل المصادر بعد كتاب الله ، كان يقدم رأي الصحابة عليه إذا تعارضا في مورد من الموارد (١).

__________________

(١) المستصفى للغزالي ص ١٣٥ـ ١٣٦.

٨٨

وجاء عنه انه كان يقول :

أن لم أجد في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، أخذت بقول أصحابه ، فإن اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة آخذ بقول من شئت ، وأدع من شئت ، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم من التابعين (١).

وجاء في ( اعلام الموقعين ) لابن القيم :

إن أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة : الأول : النص ، الثاني : فتوى الصحابة وإن الأحناف والحنابلة قد ذهبوا إلى تخصيص الكتاب بعمل الصحابي ، لأن الصحابي العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلاّ لدليل ، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب ، دليلاً على التخصيص ، وقوله بمنزلة عمله (٢).

وما أبعد ما بين هؤلاء ، وبين القائلين بعدم جواز الاعتماد على السنة في مقام التشريع إلاّ إذا تأيّدت بآية من القرآن لأن فيه تبيان كل شيء ، وقد نزل بلغة العرب ، وبأسلوب يفهمه كل عربي ، وذلك لأن السنة رواها عن الرسول جماعة يجوز عليهم الخطأ ، والكذب ، وكانوا لا يقبلون مرويات بعضهم أحياناً ، ويعمل كلّ منهم بما يوحيه إليه اجتهاده ، وقد تراشقوا بأسوأ التهم ، واستحل بعضهم دماء البعض الآخر (٣).

ومهما كان الحال فأقوال الصحابة ، وآراؤهم ، واجتهاداتهم كانت من أبرز أصول التشريع عند الجمهور بعد كتاب الله. وفي الوقت ذاته يخصّصون بها عموماته ويقيدون بها مطلقاته ، وكأنها من وحي السماء

__________________

(١) أنظر أبا حنيفة لأبي زهرة ص ٣٠٤. والإمام زيد له أيضاً ص ٤١٨.

(٢) المدخل إلى علم أصول الفقه لمعروف الدواليبي ص ٢١٧.

(٣) أنظر : تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور محمد يوسف موسى عن كتاب الأم للشافعي ص ٢٢٨.

٨٩

الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ومن المعلوم أن هذا الغلو في تقديس الصحابة الذي لا يختلف عن العصمة في شيء ، ويتسع للمنافقين منهم وحتّى للمشركين ممن أرغموا على التظاهر بالإسلام كأبي سفيان ، وولده معاوية ، والمروانيين وغيرهم ممن كانوا يكيدون للإسلام ويعملون لإحياء مظاهر الجاهلية التي حاربوا من أجلها نحواً من عشرين عاما أو تزيد.

هذا الغلّو في تقديس الصحابة قد تحوّل في الفترة التي ظهرت فيها المذاهب الفقهّية لمحاربة التشيع لأئمة أهل البيت في فقههم ، وأصولهم وجميع تعاليمهم التي تجسد الإسلام في جميع مراحله وفصوله كما ورثوه عن جدّهم أمير المؤمنين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي سماه باب مدينة العلم في حديث رواه محدّثوا السنة في صحاحهم جاء فيه انه قال :

« أنا مدينة العلم وعليّ بابها ألا ومن أراد المدينه فليأت الباب ».

وكان الأئمة عليهم‌السلام يقولون :

« إنّا إذا حدّثنا لا نحدث إلاّ بما يوافق كتاب الله ، وكل حديث ينسب إلينا لا يوافق كتاب الله ، فاطرحوه » ، كما كان الإمام الصادق يقول :

« حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله ».

لم يكتف الحاكمون ، وأئمة المذاهب الذين كانوا يسيرون في ركابهم ويباركون جميع تصرفاتهم بثوب العدالة الذي ألبسوه حتى لمنافقي الصحابة ومشركيهم حتى جعلوا لأقوالهم ، واجتهاداتهم ، نفس القداسة التي جعلها الله لأقوال رسوله وأحاديثه لا لشيء إلاّ لأنّ الشيعة يقدّسون أقوال الأئمة من حيث إنها تجسد أقوال الرسول ، وما جاء به من

٩٠

عند الله ، ويقفون عندها كما يقفون عند المرويات الصحيحة عن الرسول ، وإذا لم يجد أهل السنة للصحابة قولاً ، أو رأياً فيما يعرض لهم من الحوادث يرجعون إلى القياس ، والاستحسان ، والاستصلاح ، والمصالح المرسلة ، وقد أنهى الأستاذ عبد الوهاب الخلاف في كتابه : مصادر التشريع وأدلّة الأحكام عند فقهاء السنة الأوائل ، إلى تسعة عشر دليلاً وعدّ منها بالإضافة إلى ما ذكرناه الأخذ بالأخف ، وسد الذرائع ، والعوائد وغير ذلك مما لم يرد في كتاب ، أو سنة ، ولا يعتمد على غير الاجتهاد المبني على الحدس ، والظن ، اللذين لا يغنيان عن الحق شيئاً ، ولم يرجعوا إلى الإمامين : الباقر ، والصادق اللذين أسسا مدرسة الفقه ، والفلسفة ، واجتمع إليها أكثر من أربعة آلاف طالب من مختلف الأقطار ، وكان التشريع الإسلامي من أبرز ما انتجته تلك الجامعة التي غلب عليها الطابع الروحي ولم يستطع الحكام أن يتدخلوا في شيء من شؤونها ، وانهم لم ينقلوا مرويّات الشيعة عن الرسول وغيره ، ويشترطون في الراوي أن لا يكون شيعياً ، وعند أكثرهم يشترط فيه بالإضافة إلى ذلك أن لا يكون متهماً بالتشيع ، لأن التشيع والوثاقة لا يجتمعان!!

ولمّا وثق يحيى بن معين سعيداً بن خالد البجلي ، قيل له إن سعيداً يدين بالتشيع فقال عند ذلك : وشيعّي ثقة! مستغرباً أن تجتمع هاتان الصفتان في واحد من البشر ، ولم يستغرب عدالة معاوية ، والحكم طريد رسول الله ، وأبناء الأوزاغ ، وسمرة بن جندب ، وأمثاله من المنافقين ، والمشركين لأنهم من الصحابة ، والصحابة كالنجوم بأيهم اقتدى الإنسان يهتدي كما نسب الوضاعون إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا.

في حين ان الشيعة يأخذون برواية الراوي إذا كان ثقة ، ومستقيماً في دينه مهما كان مذهبه ، ولا يشترطون في الراوي أكثر من ذلك كما

٩١

تؤكد ذلك مجاميعهم التي وضعوها في أحوال الرواية ، والرواة (١).

من غرائب كتاب مسلم!

وقال المرحوم الشيخ محمود أبو ريه طاب ثراه تحت هذا العنوان :

لكي يدرأوا التهم عن بعض الصحابة الذين فتنتهم الدنيا أوردوا حديثاً يقول :

« أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ».

وهذا الحديث لا أصل له ، ولهذا الحديث قصة جرت بيني وبين الناصبي (٢) محب الدين الخطيب فإنه عندما ظهر كتابي : « الأضواء » واطلع فيه على فصل عدالة الصحابة قابلني غاضباً وقال :

كيف تذكر ذلك بعد أن قال فيهم النبي صلّى الله عليه وسلم : « أصحابي كالنجوم ـ الحديث ».

فقلت له : إنك قد اوردت هذا الحديث في تعليقاتك على كتاب « المنتقى » للذهبي ص ٧١ على أنه صحيح وقد طعنوا فيه ومن كبار الطاعنين ابن تيميّة فاشتد غضبه وقال :

في أي موضع هذا الطعن؟ فقلت له : في نفس كتابك « المنتقى »! فكاد يتميّز من الغيظ وقال :

في أي صفحة ، قلت له : في صفحة ٥٥١ وفيها يقول ابن تيميّه :

__________________

(١) الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ ص ١٤١ ـ ١٥٠ط بيروت.

(٢) النواصب قوم يتدينون ببغضة عليّ عليه‌السلام. لسان العرب ( مادة نصب ) ( الناصب وهو الذي يتظاهر بعداوة أهل البيت أو لمواليهم لأجل متابعتهم لهم ، وفي القاموس : النواصب ، والناصبة ، وأهل النصب المتدينون ببغض علي (ع) لأنهم نصبوا له ، أي : عادوه ) مجمع البحرين ومطلع النيرين للطريحي ٢ | ١٧٣.

٩٢

« وحديث أصحابي كالنجوم » ضعّفه أئمة الحديث فلا حجة فيه ».

وما كاد يقرأ هذا الكلام الذي أثبته هو بنفسه في كتاب حقّقه ونشره بين الناس ، حتّى بهت واصفر وجهه. وقد قلت له قبل أن أغادر مجلسه :

إن كتاب « المنتقى » هذا سيسجل عليك هذا الجهل ، وهذه الوصمة إلى يوم القيامة!!

وبمناسبة التشيع لمعاوية ، والتقرب إليه برواية أحاديث مكذوبة على النبي صلّى الله عليه وسلم ، ترفع من شأنه ، نسوق إليك حديثاً رواه مسلم في صحيحه!! معناه :

إن أبا سفيان بن حرب طلب من النبي صلّى الله عليه وسلم أن يزوجه ابنته أم حبيبة ، وأن يجعل معاوية كاتباً بين يديه إلخ الحديث ، وقد ذكر أئمة الحديث :

أن هذا الحديث باطل بالإجماع لأن أبا سفيان قد دخل في الإسلام يوم فتح مكة بالإجماع.

أما ابنته أم حبيبة واسمها : رملة ، قد أسلمت قبل الهجرة ، وحسن إسلامها ، وكانت ممن هاجر إلي الحبشة هرباً من أبيها ، وقد تزوّجها رسول الله وأبوها كافر ، ولمّا بلغه هذا الزواج قال كلمته المشهورة :

« ذلك الفحل لا يجدع أنفه » ص ١٦ من تفسير سورة الإخلاص لشيخ الحنابلة ابن تيمّية ، والذي يلقب عند الجمهور بشيخ الإسلام (١).

__________________

(١) شيخ المضيرة أبو هريرة الدوسي ص ٢٠٠ الطبعة الثالثة لدار المعارف بمصر عام ١٩٦٩ م.

٩٣

موالاة الشيعة للصحابة

والشيعة يوالون أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة الدين ، وجاهدوا بأنفسهم ، وأموالهم.

وإن الدعاء الذي تردده الشيعة لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهو دليل قاطع على حسن الولاء ، وإخلاص المودة.

نعم : إن الشيعة ليدعون الله لأتباع الرّسل عامة ، ولأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة بما ورثوه من أئمتهم الطاهرين.

ومن أشهر الأدعية هو : دعاء زين العابدين عليه‌السلام في صحيفته المعروفة بزبور آل محمد الذي يقول فيه :

« اللهم وأتباع الرّسل ومصدّقوهم من أهل الأرض بالغيب عند معارضة المعاندين لهم بالتكذيب ، والأشتياق إلى المرسلين ، بحقايق الإيمان في كلّ دهر وزمان ، أرسلت فيه رسولاً ، وأقمت لأهله دليلاً ، من لدن آدم إلى محّمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أئمة الهدى ، وقادة أهل التقى على جميعهم السلام.

وأصحاب محّمد خاصة ، الذين أحسنوا الصحبة ، والذين أبلوا البلاء الحسن في نصره ، وكاتفوه ، وأسرعوا إلى وفادته ، وسابقوا إلى دعوته ، واستجابوا له ، حيث أسمعهم حجة رسالاته ، وفارقوا الأزواج ، والأولاد في إظهار كلمته ، وقاتلوا الآباء ، والأبناء في تثبيت نبوّته ، والذين هجرتهم العشائر إذ تعلّقوا بعروته ، وانتفت منهم القرابات إذ سكنوا في ظل قرابته.

اللهم ما تركوا لك ، وفيك ، وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الحق عليك وكانوا من ذلك لك واليك ، واشكرهم على هجرتهم فيك ديارهم ، وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه ... ».

٩٤

هؤلاء هم أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين تعظّمهم شيعة آل محمد (ص) ويدينون بموالاتهم ، ويأخذون تعاليم الإسلام فيما صحّ وروده عنهم.

ولكن التلاعب السياسي ، واحتدام النزاع بين الطوائف خلق كثيراً من المشاكل في عصور قامت بها فئات لإثارة الفتن حبّاً للسيطرة ، وطمعاً في النفوذ من باب فرّق تسد.

* * *

وصفوة القول إن عصور التلاعب بالمباديء ، والتطاحن حول بغية ذوي الأطماع قد ولت ، ونحن في عصرنا الحاضر عصر انطلاق الفكر من عقاله والتقدّم ، والرقي.

أيصح لنا أن نستمر على ضرب وتر العصبية ، ونطرب لنغمات النزعة الطائفيّة ، ونكرع بكأس الشذوذ عن الواقع ، ونهمل ما يجب علينا من مكافحة خصوم الإسلام ، وأعدائه ، فقد وجهوا إلينا سيلاً جارفاً من الآراء الهدّامة ، والمبادىء الفاسدة.

أليس من الذوق السليم الترفع عن التعبير بتلك العبارات التي اتخذها ضعفاء العقول ، وأهل الجمود الفكري عندما يكتبون عن الشيعة فينبزونهم بكلّ عظيمة.

أليس من الحق أن يتبينوا من صحة ما يقولون؟.

وإن اتهام الشيعة بسب الصحابة ، وتفكيرهم أجمع أنما هو اتهام بالباطل ، ورجم بالغيب ، وخضوع للعصبية ، وتسليم لنزعة الطائفية ، وجري وراء الأوهام ، والأباطيل (١).

__________________

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ١| ٦٠١ ـ ٦٠٢.

٩٥

من هو الصحابي؟

علينا قبل أن نتكلم عن عدالة الصحابة : أن نبين من هو الصحابي كما عرفوه ، وأوفى تعريف له عند الجمهور ما ذكر البخاري :

قال البخاري في كتابه (١).

« من صحب النبي صلّى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو صحابي! » (٢).

وقد شرح ابن الحجر العسقلاني تعريف البخاري بقوله :

يعني أن اسم صحبة النبي صلّى عليه وسلم مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق على اسم صحبة لغة ، وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة ، ويطلق أيضاً على من رآه ولوعلى بعد.

وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح ، إلا أنه : هل يشترط في الرأئي بحيث يميز ما رآه! ، او يكتفي بمجرد حصول الرؤية ـ محل نظر ـ.

وعمل من صنف في الصحابة يدل على الثاني ، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق ، وإنما ولد قبل وفاة النبي بثلاثة أشهر وأيام كما ثبت في الصحيح أن أمه اسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة وذلك في أواخر ذي القعدة سنة ( ٢٠هـ ).

وقال علي بن المديني : من صحب النبي أو رآه ساعة من نهار فهو

__________________

(١) فتح الباري : ٣ | ٢.

(٢) قال العلامة المقبلي يرد على الذين أثبتوا الصحبة لكل من رأى النبي : إنهم يصطلحون على شيء في متأخر الأزمان ، ثم يفسرون الكتاب والسنة باصطلاحهم المجرد ، والصحبة ليس فيها لسان شرعي إنما هي بحسب اللغة ، وكذلك سائر الألفاظ التي وردت فيها فضائل الصحابة لكن المحدثين اصطلحوا وقضوا بغير دليل على أن الصحبة لكل من رآه النبي ـ أو رأى هو النبي ـ ولو طفلا! بشرط أن يكون محكوماً بإسلامه ، ويشترط أن يموت ولايرتد..

٩٦

من اصحاب النبي. وكأنهم أيدوا تعريفهم هذا بما رووه عن النبي من أنه قال :

« يعزو قوم فيقال :

هل فيكم من رأى رسول الله فيفتح لهم! ».

وقال (١) في مقدمة « كتاب الإصابة في تمييز الصحابة » :

أصح وقفت عليه من ذلك أن الصحابي ـ من لقي النبي صلّى الله عليه وسلّم مؤمناّ به ، ومات على الإسلام ، فيدخل فيمن لقيه ، ومن طالت مجالسته له أو قصرت.

ومن روى عنه ، أو لم يرو ، ومن غزا معه ، أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض كالعمى ... » (٢).

أوجب العلماء ... البحث عن رواة الحديث ، فجرحوا من جرحوا ، وعدّلوا من عدلوا ، وهم على حق في ذلك ، إذ لا يصح أن يؤخذ قول أي إنسان مهما كان بغير تمحيص ، وتحقيق ، ونقد ، وعلى أنهم قد جعلوا جرح الرواة وتعديلهم واجباً تطبيقه على كل روا ، مهما كان قدره ، فإنهم قد وقفوا دون عتبة الصحابة فلم يتجاوزوها ، إذ اعتبروهم جميعاً عدولاً لا يجوز عليهم نقد ، ولا يتجه إليهم تجريح ، ومن قولهم في ذلك : « إن بساطهم قد طوي ».

ومن العجيب أنهم يقفون هذا الموقف ، على حين أن بعض الصحابة أنفسهم قد انتقد بعضهم بعضاً ، وكفر بعضهم بعضاً.

قال النووي في التقريب : الصحابة كلهم عدول ، من لابس الفتنة وغيرهم.

__________________

(١) أي ابن حجر.

(٢) ص ٤.

٩٧

وقال الذهبي : في رسالته التي الّفها ـ في الرواة الثقاة (١) :

ولو فتحنا هذا الباب ( الجرح والتعديل ) على نفوسنا لدخل فيه عدّة من الصحابة والتابعين والأئمة ، فبعض الصحابة كفر بعضهم بعضاً ـ بتأويل ما!!! ».

والله يرضى عن الكلّ ويغفر لهم ، فما هم بعصومين ، وما اختلافهم ، ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا.

ثم قال : وأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي ، وإن جرى ما جرى ، وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقاة!! فما يكاد يسلم أحد من الغلط ـ ولكنّه غلط نادر لا يضّر أبدا! إذ على عدالتهم ، وقبول ما نقلوا ـ العمل وبه ندين الله تعالى.

وأما التابعون فيكاد يعدم فيهم من يكذب عمدا ، ولكن لهم غلط ، وأوماهم ، فمن ندر غلطه في حديث ما احتمل ، ومن تعدّد غلطه وكان من أوعية العلم اغتفر له أيضاً ونقل حديثه وعمل به ، على تردد بين الأئمة الأثبات في الاحتجاج بمن هذا نعته ، وكثر تفرده. ومن فحش خطؤه لم يحتج بحديثه.

وأما أصحاب التابعين ـ كمالك ، والأوزاعي ، وهذا الضرب فعلى المراتب المذكورة.

ووجد في عصرهم من يتعمد الكذب ، أو من كثر غلطه فترك حديثه.

هذا مالك : هو النجم الهادي بين الأمة وما سلم من الكلام فيه! ولو قال قائل عند الاحتجاج بمالك ـ فقد تكلم فيه لعذر وأهين! وكذا :

__________________

(١) من ص ٣ـ ٢١.

٩٨

الأوزاعي ثقة ، حجة ، وربما انفرد ووهم ، وحديثه عن الزهري فيه شيء! وقد قال فيه أحمد بن حنبل رأي ضعيف. وحديث ضعيف ـ وكذا تكلم من لم يفهم في الزهري لكونه خضب بالسواد ، ولبس لبس الجند ، وخدم هشام بن عبدالملك ـ وهذا باب واسع.

ومحمد بن إدريس الشافعي من سارت الركائب بفضله ، ومعارفه ، وثقته ، وامانته فهو حافظ متثبت نادر الغلط ، ولكن قال أبو عمر بن عبدالبر :

روينا عن محمد بن وضاح قال : سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال : ليس بثقة.

وكلام ابن معين (١) في الشافعي إنما كان من فلتات اللّسان بالهوى ، والعصبية (٢).

فإن ابن معين كان من الحنفية ، وإن كان محدّثاً.

وجعفر بن محمد الصادق ، وثقه أبو حاتم ، والنّسائي إلاّ أن البخاري لم يحتج به (٣).

وسعيد بن أبي عروبة : ثقة ، إمام ساء حفظاً بآخرته. وحديثه في الكتب إلاّ أنّه قدري ـ قاله أحمد بن حنبل.

والوليد بن مسلم : عالم أهل دمشق ثقة حافظ لكنّه يدلّس عن الضعفاء ، وحديثه في الكتب كلها. انتهى ما نقلناه من هذه الرسالة باختصار.

__________________

(١) يحيى بن معين من كبار أئمة الجرح والتعديل الذين جعلوا قولهم في الرجال حجة قاطعة.

(٢) انظر كيف تفعل العصبية.

(٣) وإذا كان البخاري لا يحتج بمثل هذا العلم الشامخ فبمن يحتج؟ وانظر ما فعل البخاري بأئمة أهل البيت الذين تجافى الرواية عنهم.

٩٩

وقال الآمدي في ( الأحكام ) (١) :

اتفق الجمهور من الأئمة على عدالة الصحابة ، وقال قوم إن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم في الرواية. ومنهم من قال :

« إنهم لم يزالوا عدولاً إلى حين ما وقع الاختلاف ، والفتن فيما بينهم ، وبعد ذلك فلا بدّ من البحث في العدالة عن الراوي ، أو الشاهد منهم ، إذا لم يكن ظاهر العدالة ». ومنهم من قال :

« إن كل من قاتل علياً ، عالماً منهم ، فهو فاسق ، مردود الرواية ، والشهادة على الإمام الحق ».

ومنهم من قال : برد رواية الكل وشهادتم لأنّ أحد الفريقين فاسق ، وهو غير معلوم ولا معين أ هـ (٢).

وقال الغزالي في ( المستصفى ) :

وزعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث ..

وقال قوم : حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهورالحرب وألخصومات ، ثم تغيرت الحال ، وسفكت الدماء ، فلا بد من البحث.

ومما يتكىء عليه من يعتقدون عدالة جميع الصحابة قولهم إن رسول الله قال :

أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، وفي رواية فأيهم أخذتم

__________________

(١) الأحكام ٢| ١٢٨.

(٢) قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث قالوا : ومن عجيب شأنهم أنهم ينسبون الشيخ إلى الكذب ، ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين وعلي بن المديني ، وأشباههما ، ويحتجون بحديث أبي هريرة فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة ، وقد أكذبه عمر ، وعثمان ، وعائشة ص ١٠ـ ١١.

١٠٠