المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

عبد القادر الإدريسي السوداني

المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

المؤلف:

عبد القادر الإدريسي السوداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-86-7
الصفحات: ٣٥٤

أو ١٠% أو ٥٠% أو ٩٠% وهكذا.

من هنا يربّي الإسلام أبناءه على خلق التسامح واحترام الرأي والبحث عن الحقّ واستماع القول لاتباع أحسنه ، ويحذّرهم من التعصّب المقيت وادعاء الحقّ المطلق.

سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام : ما أدنى ما يكون به العبد كافراً؟ قال : أن يبتدع به شيئاً فيتولّى عليه ويتبرأ ممن خالفه (١).

وفي نصّ آخر قال عليه السلام : أن يقول لهذه الحصاة إنّها نواة ويبرئ ممّن خالفه على ذلك (٢).

وعن الإمام علي عليه السلام : أدنى ما يكون به كافراً أن يتديّن بشيء فيزعم أنّ الله أمره به ممّا نهى الله عنه ثمّ ينصبه ديناً فيتبرّأ ويتولّى ويزعم أنّه يعبد الله الذي أمره به (٣).

وعن أبي العباس قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أدنى ما يكون به الإنسان مشركاً قال : فقال : من ابتدع رأياً فأحبّ عليه أو أبغض عليه (٤).

مآسي الإرهاب الفكري :

في عصور الإسلام الأولى كان التسامح واحترام الرأي هو الخلق الاجتماعي السّائد الذي ينظّم حرّيّة الفكر ، ولكن بعد بروز الانحراف السيّاسي في حياة المسلمين ، وضعف الالتزام بمبادئ الإسلام وأخلاقه وتعاليمه وخاصّة

__________________

١ ـ معاني الأخبار : ٣٩٣ الحديث٤٣ باب نوادر المعاني.

٢ ـ المصدر السابق ، الحديث٤٤.

٣ ـ كتاب سليم بن قيس الهلالي : ١٧٧.

٤ ـ الكافي٢ : ٣٩٧ ، الحديث٢ باب الشرك.

٨١

لدى بعض الفئات والجهات المؤثّرة ، بدأ الفكر يعيش حالة المعاناة ، وابتلى المسلمون بمآسي الإرهاب الفكري في العديد من الفترات والعهود ، فالسلطات الحاكمة كانت تتدخّل بقوّتها لفرض رأي أو لمحاربة آخر ، وبعض رجال الدين المرتبطين بالسّلطات كانوا يشجّعونها بهذا الأتجاه ولعلّ الخوارج هم أوّل من مارس هذا النوّع من الإرهاب الفكري في تاريخ المسلمين حيث كفّروا من يخالفهم في الرأي أو الموقف السياسي حتّى وإن كان علي بن أبي طالب أوّل الناس إسلاماً وأسبقهم إيماناً وأقربهم من رسول الله.

وحدثت من جرّاء ذلك الآلام والمآسي بتبادل اتهامات التكفير والمروق من الدين ، وباستباحة الدّماء وهتك الحرمات لخلاف على فكرة أو حكم فقهي!

الوحدة والإرهاب الفكري :

ولآن نحن نعيش القرن الخامس عشر للهجرة ، ونلاحظ تطوّر العلم والتكنولوجيا ، والمدى الذي وصلت إليه المجتمعات الصناعية المتقدّمة ، ونلاحظ تنامي مستوى الوعي والإدراك في أوساط أُمّتنا الإسلامية الناهضة ، فهل يمكن القبول بتكرار مآسي الماضي ، وعودة أجواء التحجّر والتزّمت والإرهاب الفكري؟

ومن المؤسف أنّ هناك من لا يزال يعيش بتلك العقلية الضيّقة ويريد فرض وصايته وآرائه على الآخرين ، وإذا ما خالفه أحد أو ناقشه بادر إلى إصدار فتوى التكفير والمروق عن الدين بحقه أو اتّهمه بالابتداع والضلال.

يقول الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي :

وقد عرفنا في عصرنا أناساً يجهدون أنفسهم ، ويجهدون النّاس معهم ،

٨٢

ضانّين أنّهم قادرون على أن يصبّوا الناس في قالب واحد يصنعونه هم لهم ، وأن يجتمع الناس على رأي واحد ، يمشون فيه وراءهم ، وفق ما فهموه من النصوص الشرعية ، وبذلك تنقرض المذاهب ، ويرتفع الخلاف ، ويلتقي الجميع على كلمة سواء.

ونسي هؤلاء أنّ فهمهم للنصوص ليس أكثر من رأي يحتمل الخطأ ، كما يحتمل الصّواب ، إذ لم تضمن العصمة لعالم فيما ذهب إليه ، وإن جمع شروط الاجتهاد كلها ، كلّ ما ضُمن له هو الأجر على اجتهاده أصاب أم أخطأ ...

ولا تحسبنّ أنّي أنكر عليهم دعوتهم إلى اتباع النصّوص ، أو اجتهادهم في فهمها فهذا من حقّ كلّ مسلم استوفى شرائط الاجتهاد وأدواته ، ولا يملك أحد أن يغلق باباً فتحه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للأمّة ، إنّما أنكر عليهم تطاولهم على مناهج علماء الأمّة ، واحتقارهم للفقه الموروث ، ودعاواهم العريضة في أنّهم وحدهم على الحقّ ، وما عداهم على خطأ أو ضلال ، وتوهّمهم أنّ باستطاعتهم إزالة الخلاف ، وجمع الناس قاطبة على قول واحد ، هو قولهم.

قال لي واحد من طلبة العلم المخلصين من تلاميذ هذه المدرسة مدرسة الرأي الواحد : ولِمَ لا يلتقي الجميع على الرأي الذي معه النصّ؟

قلت : لابدّ أن يكون النصّ صحيحاً مسلّماً به عند الجميع ، ولابدّ أن يكون صريح الدلالة على المعنى المراد ، ولابدّ أن يسلم من معارض مثله أو أقوى منه من نصوص الشريعة الجزئية أو قواعدها الكلية ، فقد يكون النصّ صحيحاً عند إمام ، ضعيفاً عند غيره ، وقد يصحّ عنده ولكن لا يسلم بدلالته على المراد ، فقد يكون عند هذا عاماً وعند غيره خاصّاً ، وقد يكون عند إمام مطلقاً ، وعند آخر مقيّداً ، وقد يراه هذا دليلاً على الوجوب أو الحرمة ، ويراه ذلك دالّاً على

٨٣

الاستحباب أو الكراهية وقد يعتبره بعضهم محكماً ، ويراه غيره منسوخاً إلى غير ذلك من الاعتبارات (١).

إنّ وجود فئات تحمل هذا التوجّه المتشدّد ، وترفض حرّيّة الفكر وخلق التسامح ، ليهدّد الحركة العلمية والفكرية بالشلل والتحجّر ، كما يخلق حالة النزاع والعداوة ويمنع من الوحدة والتعاون.

وخاصّة إذا ما كانت هناك مصالح سياسية تدفع بعض الحكومات ذات النفوذ والثروة لتبنّي مثل هذه التوجّهات ، وهذا هو ما تعاني منه الأُمّة الإسلامية في هذا العصر.

فحينما تأسّست في القاهرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في الستينات وهي مشروع وحدوي حضاري قام به نخبة من علماء المسلمين السنّة والشيعة ، ثارت ثائرة أولئك المتشدّدين وبدأو يصدرون الكتب والمجلّات ، التي توزع أحكام التكفير والمروق من الدين على هذا المذهب وتلك الطائفة ، حتّى كتب أحدهم كتاباً قال في مقدمته مهاجماً فكرة التقارب بين المذاهب الإسلامية : إنّه لا يمكن الجمع بين النور والظلام والتقريب بين الحقّ والباطل!

وبعد انتشار الصحوة الإسلامية وانبثاق الحركات والانتفاضات الجماهيرية في الأُمّة جدّد هؤلاء المتزمِّتون نشاطهم وضمن مخطّط سياسي لمواجهة الصحوة المباركة ، فصاروا يصدرون ألوان الكتب والمجلّات ، ويمارسون نشاطاً مكثفّاً ضدّ المذاهب والمدارس الفكرية المخالفة لهم ، بهدف إيجاد البلبلة وتعميق الفرقة ، ولإضعاف الجهود الوحدوية الصادقة.

__________________

١ ـ الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف : ١٦٣.

٨٤

إنّ محاربة أيّ مذهب أو فكرة بالقمع والإرهاب غالباً ما لا يقضي على ذلك المذهب أو تلك الفكرة بل يفجّر إرادة التحدّي عند الاتباع ، ويجعلهم أكثر إصراراً وتمسّكاً برأيهم ، بل قد يدفعهم إلى الهجوم المضاد ، والردّ الانتقامي وبذلك تتمزّق وحدة الأمّة ، وتتبدّد طاقاتها على حساب معركتها المصيرية وقضاياها الأساسية.

والواعون من الأمّة مطالبون بمقاومة الإرهاب الفكري ، وتشجيع حرّية الفكر ، وبثّ أخلاق الإسلام الداعية إلى التسامح واحترام الرأي.

ومن المبادرات الإيجابية في هذا المجال الكتاب الذي أصدره الدكتور الشيخ محمّد سعيد رمضان البوطي من أبرز علماء المسلمين في سوريا تحت عنوان ( السّلفيّة مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ) فالكتاب وإن كانت بعض نقاطه مورد نقاش واختلاف نظر ، لكن الموضوع الأساسي للكتاب دفاع عن حرّية الرأي والفكر وإدانة للإرهاب الفكري ، ويشير المؤلّف إلى أخطار التحجّر الفكري ومصادرة حقّ الآخرين في إبداء آرائهم وما ينتجه هذا التوجّه الذي تتخّذه السّلفيّة شعاراً ولواءاً من تكريس للخلافات وتمزيق للصفّ الإسلامي الواحد.

يقول :

الأذى المتنوّع البليغ الذي انحطّ في كيان المسلمين من جرّاء ظهور هذه الفتنة المبتدعة فلقد أخذت تقارع وحدة المسلمين ، وتسعى جاهدة إلى تبديد تآلفهم وتحويل تعاونهم إلى تناحر وتناكر ، وقد عرف الناس جميعاً أنّه ما من بلدة أو قرية في أيّ من أطراف العالم الإسلامي ، إلّا وقد وصل إليها من هذا البلاء شظايا ، وأصابها من جرّائه ما أصابها من خصام وفرقة وشتات ، بل ما

٨٥

رأيت أو سمعت شيئاً من أنباء هذه الصّحوة الإسلامية التي تجتاح اليوم كثيراً من أنحاء أوروبا وأمريكا وآسيا ، مما يثلج الصدر ، ويبعث على البشر والتفاؤل إلّا ورأيت أو سمعت بالمقابل من أخبار هذه الفتنة الشّنعاء التي سبقت إلى تلك الأوساط سوقاً ، ما يملأ الصدر كرباً ويزجّ المسلم في ظلام من الخيبة الخانقة والتشاؤم الأليم.

كنت في هذا العام المنصرم ١٤٠٦ هـ واحداً ممّن استضافتهم رابطة العالم الإسلامي للاشتراك في الموسم الثقافي ، وأُتيح لي بهذه المناسبة أن أتعرّف على كثير من ضيوف الرّابطة الذين جاؤوا من أوروبا وأمريكا وآسيا وإفريقيا ، وأكثرهم يشرفون في الأصقاع التي أتوا منها على مراكز الدّعوة الإسلامية أو يعملون فيها ، والعجيب الذي لابدّ أن يهيّج آلاماً ممزقة في نفس كلّ مسلم أخلص لله في إسلامه ، إنّني عندما كنت أسأل كلاّ منهم عن سير الدّعوة الإسلامية في تلك الجهات ، أسمع جواباً واحداً يطلقه كلّ من هؤلاء الإخوة على انفراد ، بمرارة وأسى خلاصته : المشكلة الوحيدة عندنا هي الخلافات والخصومات الطاحنة التي تثيرها بيننا جماعة السلفية.

ولقد اشتدّت هذه الخصومات منذ بضع سنوات ، في مسجد واشنطون إلى درجة الجات السلطات الأمريكية إلى التدخّل ، ثمّ إلى إغلاق المسجد لبضعة شهور!

ولقد اشتدّت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت ، في أحد مساجد باريس منذ ثلاثة أعوام ، حتّى اضطرّت الشّرطة الفرنسية إلى اقتحام المسجد ، والمضحك المبكي بآن واحد ، أنّ أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة الحمقاء لدين الله ولحرمة المسجد ، لما رأى أحد الشرطة داخلاً المسجد

٨٦

بحذائه فصاح فيه أن يخرج أو يخلع حذاءه ، ولكن الشرطي صفعه قائلاً : وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيّها السخفاء؟!

وفي إحدى الأصقاع النائية ، حيث تُدافع أمّة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي ، وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة ، تصوّب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشّرك عن وجودها الإسلامي ، وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة ، تصوّب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشّرك والابتداع ، لأنّهم قبوريون توسُّليّون ، ثمّ تتبعها الفتاوى المؤكّدة بحرمة إغاثتهم بأيّ دعم معنوي أو عون مادي! ويقف أحد علماء تلك الأمّة المنكوبة المجاهدة ، ينادي في أصحاب تلك الفتاوى والاتهامات : يا عجباً لإخوة يرموننا بالشّرك ، على أنّنا نقف بين يدي الله كلّ يوم خمس مرّات نقول : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١) , ولكن الندّاء يضيع ويتبدّد في الجهات دون أيّ متدبّر أو مجيب (٢).

وأخيراً فإنّ حالات الإرهاب الفكري بالإضافة إلى أضرارها الداخلية وعونها للعدو الخارجي علينا فإنّها تشكّل إساءة وتشويهاً لسمعة الإسلام أمام سائر الشعوب ، التي تمارس الحرّيّة الفكريّة والعلميّة في أجوائها على أوسع نطاق ، فماذا سيكون انطباعهم عن دين يتبادل اتباعه التكفير والتفسيق ، وتسود بينهم لغة القمع والبطش بغطاء ديني؟!

__________________

١ ـ الفاتحة (١) : ٥.

٢ ـ السلفية مرحلة زمنيّة مباركة لا مذهب إسلامي : ٢٤٤.

٨٧

في تعدد المذاهب

تعدّد المذاهب في الديانات :

بنظرة عابرة يلقيها الباحث في تاريخ الأديان والمبادئ يجد أنّ ظاهرة تعدّد المذاهب والفرق تشكّل سمة وحالة لازمة ثابتة في جميع الأديان.

ففي بداية كلّ دين وأثناء حياة مؤسّسه يكون مدرسة واحدة وتيّاراً واحداً أمّا بعد فترة من الزمن وبعد ارتحال المؤسّس من الدّنيا فعادة ما يحصل الاختلاف والانشقاق بين أتباع ذلك الدّين وتتعدّد المذاهب والفرق ضمن الدّين الواحد ، وفي مرحلة لاحقة يحدث الانشقاق والتعدّد داخل كلّ مذهب من المذاهب المتفرّعة عن الدّين الرئيسي.

٨٨

فرق اليهودية

ففي اليهودية مثلاً هناك فرق عديدة تختلف فيما بينها على فهم الديانة وطقوسها وتعاليمها منها فرقة الفرّيسيين ؛ أي المنعزلون والمنشقّون كما يطلق عليهم بينما هم يسمّون أنفسهم الأحبار في الله أو الرّبّانيّون.

ويرى هؤلاء الفرّيسيّون أنّ التوراة بأسفارها الخمسة خلقت منذ الأزل ، وكانت مدوّنة على ألواح مقدّسة ثمّ أوحي بها إلى نبي الله موسى.

ويرون أنّ التوراة ليست هي كلّ الكتب المقدّسة التي يعتمد عليها وإنّما هناك بجانبها روايات شفوية ومجموعة من القواعد والوصايا والشروح والتفاسير تعتبر توراة شفوية يتناقلها الحاخامات جيلاً بعد جيل وهي التي يطلق عليها التلمود.

وهناك فرقة ( الصّدوقيون المنتسبون إلى صادوق الكاهن الأعظم في عهد سليمان ، أو إلى كاهن آخر بهذا الاسم وجد في القرن الثالث قبل الميلاد ، وينقل عن هؤلاء إنكارهم للبعث والحياة الأخرى والجنّة والنّار والتعاليم الشفوية التلمود.

ومن فرق اليهودية فرقة القرّاءون وهم لا يعترفون إلّا بالعهد القديم كتاباً مقدّساً وينكرون التلمود ويقولون بالاجتهاد الذي يسمح لهم برفض أو تغيير بعض تعاليم وآراء السلف الماضي.

وأيضاً هناك فرقة الكتبة والمتعصّبون وغيرها من الفرق العديدة في الدّيانة اليهودية (١).

__________________

١ ـ اليهودية للدكتور أحمد شلبي : ٢٢٧ ـ ٢٣٤.

٨٩

طوائف المسيحية

والدّيانة المسيحية هي الأخرى تعدّدت فيها المذاهب والطوائف قديماً وحديثاً ، وكان منشأ الخلاف والتعدّد هو تحديد طبيعة السيّد المسيح عليه السلام حيث يرى مذهب النسطوريين المنسوب إلى نسطور بطريرك القسطنطينية سنة ٤٣١ : أنّ مريم لم تلد إلهاً بل ولدت عيسى إنساناً غمره اللاهوت فيما بعد فاتّحدت فيه طبيعتان الإنسانية واللاهوتية بينما يعتقد المذهب اليعقوبي نسبة إلى داعيته يعقوب البرادعي والذي أخذت به الكنائس الشرقية أنّ طبيعة المسيح واحدة منذ ولادته فللسيّد المسيح ـ في نظرهم ـ أقنوماً إلهياً واحداً اتّحد بالطبيعة الإنسانية اتحاداً تامّاً بلا اختلاط ولا امتزاج ولا استحالة.

وعلى أساس هذين القولين وبالتطوير والتغيير فيهما نشأت طوائف أخرى كالملكانية والمارونية (١).

ولم يقتصر الخلاف بين الطوائف المسيحية على تحديد طبيعة المسيح بل تطوّر وتبلور في مختلف المجالات العقيدية والعبادية والسلوكية وأبرز الطوائف المسيحيةحالياًهي :

(١) ـ الكاثوليك : وكنيستهم تسمّى الكنيسة الكاثوليكية أو الغربية أو اللاتينية أو البطرسية أو الرّسولية نسبة لمؤسّسها الأوّل بطرس كبير الحواريين ورئيسهم ، والباباوات في روما خلفاؤه.

__________________

١ ـ المسيحية للدكتور أحمد شلبي : ١٦٢ ـ ١٦٤.

٩٠

(٢) ـ الأرثوذكس : وتسمّى كنيستهم كنيسة الرّوم الأرثوذكسية أو الشّرقية أو اليونانية فأكثر أتباعها من الروم الشرقيين وروسيا والبلقان واليونان وكان مقرّها الأصلي القسطنطينية وقد انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية أيام ميخائيل كارو لاريوس بطريرك القسطنطينية سنة ١٠٥٤ م وهي الآن مؤلّفة من عدّة كنائس مستقلّة.

(٣) ـ البروتستانت : وتسمّى كنيستهم الكنيسة الإنجيلية ، ويرون أنّهم يتبعون الإنجيل دون غيره ، ويعطون الحقّ لكلّ أحد في فهم الإنجيل فليس ذلك وقفاً على رجال الكنيسة فقط ، وتنتشر البروتستانت في ألمانيا وانجلترا والدانمارك وهولندا وسويسرا والنرويج وأمريكا الشمالية (١).

ولإقرار مذهب البروتستانت حرّيّة الفكر والاجتهاد فقد تعدّدت شعبه وفرقه ، ويختلف بعض هذه الطوائف عن البعض الآخر إلى حدّ أنّهم لا يكادون يبدون فرعاً لمذهب واحد واستمر انقسام طوائف البروتستانت حتّى اليوم إذ أصبح هناك٢٠٠ طائفة مختلفة ولا تزال طوائف جديدة في سبيل الظهور.

وفي أوائل عام١٩٦٠ م بلغ عدد الكائوليك في العالم٣٥٣ مليوناً والأرثوذكس١٣٧ مليوناً والبروتستانت ١٧٠ مليوناً (٢).

__________________

١ ـ المصدر السابق : ١٩٩ و ٢٠٠ و ٢٠٢.

٢ ـ قصة الديانات لسليمان مظهر : ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

٩١

اتـّجاهات البوذية

رغم أن البوذية المنسوبة إلى بوذا الذي نشأ في الهند خلال القرن الخامس قبل الميلاد أقرب إلى الحالة الفلسفية الأخلاقية منها إلى الدّين العقائدي المتكامل ، إلّا أنّها أيضاً تعدّدت فيها الاتّجاهات والفرق.

وقد قسّمها العلماء حسب الطابع العام إلى البوذية القديمة والبوذية الجديدة.

فالبوذية القديمة صبغتها أخلاقية ، وميزتها سذاجة المنطق وإثارة العاطفة ، وطابعها الحضّ على الخضوع لقوانين النظام ، أمّا البوذية الجديدة فهي عبارة عن تعاليم بوذا مختلطة بآراء دقيقة في الكون وأفكار مجرّدة عن الحياة والنّجاة ، مؤسّسة على نظريات فلسفية ، وقياسات عقلية ، قد سمحت بها قرائح المتأخرين.

ومن أبرز الفرق الفلسفية البوذية :

ـ فرقة تقول بوحدانية الله ، وأنّه أوجد أوّلاً عدداً محدوداً من الأرواح ، ثمّ ترك الإنشاء والتعمير مكتفياً بما وضعه في العالم من قوانين وقوى كالبذور تسير سيرها الطبيعي وهذه الأرواح هي التي تخلق الخير والشرّ.

ـ وفرقة ترى أنّه أودع هذه الأرواح التي أرسلها للعالم قوى تستطيع منها أن تعرف الخير من الشرّ ، ومن أجل ذلك لا يرسل الله رسلاً اكتفاء بذلك.

٩٢

ـ وتتكلّم كلّ الفرق عن التناسخ وارتباطه بالكارما ، ولكن بعض الفرق ترى تناسخ النوع الإنساني مقصوراً عليه ، وتناسخ الحيوان مقصوراً عليه ، فلا تنتقل روح من إنسان إلى حيوان ولا العكس ، وتزيد فرقة أخرى أنّ روح العالم لا تنتقل إلى صانع وهكذا (١).

__________________

١ ـ أريان الهند الكبرى للدكتور شلبي : ١٨١ ـ ١٨٢.

٩٣

سائر الديانات والاتـّجاهات

ولو تتبّعنا واستقرأنا سائر الديانات والاتجّاهات لوجدناها تشترك جميعاً في ظاهرة تعدّد المذاهب والطّوائف فالديّانة السيخية وهي واحدة من أحدث الدّيانات في العالم حيث ظهرت إلى الوجود في القرن الخامس عشر الميلادي في الهند ، على يد ناناك الذي سعى إلى استحداث ديانة جديدة زعم أنّها تصل بين الإسلام والهندوسية ويصل عدد اتباع هذه الدّيانة إلى حوالي١٣ مليون يتركّز حوالي٩ ملايين منهم في ( البنجاب ) ويتوزّع الباقون في سائر أنحاء الهند.

هذه الدّيانة على محدوديتها وحداثتها تنقسم الآن إلى خمس طوائف رئيسية (١).

والاشتراكية الشيوعية هي الأخرى لم تعد مدرسة واحدة بل تعدّدت فيها الاتجاهات ففي حياة كارل ماركس ( ١٨١٨ ـ ١٨٨٣ م ) انشقّت الاشتراكية على نفسها سنة ١٨٧٣ م إلى فريق باكونين وفريق كارل ماركس ثمّ وقع انقسام آخر في الحركة الاشتراكية في فرنسا وفي مؤتمر رانس سنة ١٨٨١ م وبعد ذلك بعام في مؤتمر سانت اتيين بين الإمكاينين والماركسيين فالأوّلون كانوا يقولون بإجراء إصلاحيات تدريجية في سبيل تحقيق الاشتراكية في

__________________

١ ـ مجلة العربي الكويتية عدد ٣٤٨ : ١٠.

٩٤

النهاية وهاجموا برنامج الحدّ الأدنى الذي وضعه ماركس.

وقسّم ريمون آرون R.aron الماركسية إلى أسر مقدّسة متباينة : فهناك ماركسية كنتية ( نسبة إلى فلسفة كانت الأخلاقية ) حين تضع الاشتراكية هدفاً لها إيجاد ضمير أخلاقي اتّجاه الواقع الرأسمالي ، وهناك ماركسية هيكلية تستند خصوصاً إلى ظاهرية العقل لهيجل ؛ وهناك ماركسية ذات نزعة علمية مستمدّة من كتاب ضد دورنج (١).

معروف افتراق الشيوعية في الصّين على يد ماوتسي تونغ عن سياسة شيوعية الاتحاد السوفيتي كما أنّ الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية تأخذ إلى حدّ ما منحى مستقلاً فكرياً وسياسياً.

__________________

١ ـ موسوعة الفلسفة ٢ : ٤١٨ ـ ٤١٩.

٩٥

المذاهب الإسلامية

ولم يكن الإسلام بمنأى عن هذه الظاهرة ، بل حدث له ما يحدث لكلّ الأديان والمبادئ من انقسام أتباعه إلى عدّة مذاهب ومدارس وفرق.

ويروي بعض أصحاب الحديث عن رسول الإسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يتوقّع حصول هذه الفرق والانقسامات في أمّته وفقاً لما حصل للأديان السّماوية السّابقة كاليهوديّة والمسيحيّة والمجوسيّة.

حيث يروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة وافترقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة وتفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة (١).

وقد ورد هذا الحديث بصورة مختلفة في أغلب مصادر الحديث عن فرق المسلمين (٢) ، وناقش العديد من العلماء مدى صحّة الحديث من حيث سنده ومن حيث انطباقه على الواقع الخارجي يقول العلامة الشيخ جعفر السبحاني :

وعلى كل تقدير فيجب إمعان النظر في المراد منه على فرض صحّة سنده والظاهر من الحديث أنّ أمّته تفترق إلى تلك الفرق الهائلة حقيقة غير أنّ

__________________

١ ـ المستدرك على الصحيحين ١ : ١٢٨.

٢ ـ السنن الكبرى للبيهقي ١٠ : ٢٠٨ ومسند أحمد بن حنبل ٢ : ٣٣٢ وسنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢٢ الحديث ٣٩٩٢ وعن طرق الشيعة في كتاب سليم بن قيس : ٣٣٢ وأمالي الطوسي : ٥٢٣ ..

٩٦

المشكلة عند ذلك هو بلوغ الفرق الإسلامية هذا العدد ...

ثمّ إنّ الذين ذهبوا إلى صحّة الحديث تمايلوا يميناً ويساراً في تصحيح مفاده بعد الإذعان بصحّة إسناده فقالوا : إنّ المراد من ذلك العدد الهائل هو المبالغة في الكثرة كما في قوله سبحانه : (إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ) (١).

وأنت خبير بأنّ هذه المحاولة فاشلة لأنّها إنّما تصحّ إذا ورد الحديث بصورة سبعين أو غيرها من العقود العددية فإنّ هذا هو المتعارف ولكن الوارد غير ذلك ، فترى أنّ النبيّ يركز في حقّ المجوس على عدد السبعين وفي حقّ اليهود على عدد الإحدى والسبعين وفي حقّ النّصارى على اثنين وسبعين وفي حقّ الأُمّة الإسلامية على ثلاث وسبعين وهذا التدرج يعرب بسهولة عن أنّ المراد هو البلوغ إلى هذا الحدّ بشكل حقيقي لا بشكل مبالغي ...

وهناك محاولة جيدة لمحقق كتاب الفَرْقُ بين الِفرَقِ : وهي أنّه على فرض صحّة الحديث لا ينحصر الافتراق فيما كان في العصور الأولى فإنّ حديث الترمذي يتحدّث عن افتراق أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأُمّته مستمرّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين فيجب أن يتحدّث في كلّ عصر عن الفِرَق التي نجمت في هذه الأمّة من أوّل أمرها إلى الوقت الذي يتحدّث فيه المتحدّث ، ولا عليه إن كان العدد قد بلغ ما جاء في الحديث أو لم يبلغ ، فمن الممكن بل المقطوع لو صحّ الحديث وقوع الأمر في واقع الناس على وفق ما أخبر به (٢).

__________________

١ ـ التوبة : (٩) : ٨٠.

٢ ـ بحوث في الملل والنحل ١ : ٣٥ ـ ٣٧ ( بتصرف ).

٩٧

وبعيداً عن هذا الحديث فإنّ تاريخ الأُمّة الإسلامية وواقعها المعاصر يحكي عن تعدّدية في المذاهب والمدارس أبرزها حالياً :

ـ السنّة بمذاهبها الأربعة : ( المالكي ـ الحنفي ـ الشافعي ـ الحنبلي ).

ـ الشيعة بطوائفها الثلاثة : ( الإمامية الاثنى عشرية ـ الزيدية ـ الإسماعيلية ).

الخوارج والمعروف منهم حالياً : ( الإباضية ).

٩٨

عوامل وأسباب

في حياة مؤسّس أيّ دين وبسبب التفاف الأتباع حوله وإيمانهم به ، وممارسته دور القائد الذي يرجع إليه في مختلف الشؤون ، فإنّ حصول الانشقاق وتعدّد المذاهب ضمن ذلك الدين يكون مستبعداً ونادر الوقوع ، ولكن إذا فارق القائد المؤسّس الحياة فإنّ المجال يصبح مفتوحاً لتعدّد الآراء واختلاف الإرادات بين أتباعه حيث تتأطّر وتتبلور على شكل مذاهب وطوائف وفِرَق بمرور الزّمن.

ولكن لماذا يحصل الانشقاق بين أتباع الدين الواحد؟ ولماذا تتعدّد المذاهب والطوائف فيه؟ وما هي العوامل والأسباب التي تنبثق منها هذه الظاهرة بشكل عام؟

يمكننا تسليط الضّوء على العوامل والأسباب التالية والتي هي مشتركة غالباً في جميع حالات تعدّد مذاهب الأديان :

أوّلاً : العامل الفكري : فبسبب تفاوت العقول والأفكار واختلاف مستويات الإدراك والمعرفة يحصل تباين في فهم معتقدات الدين وتفسير تعاليمه ، وإذا كان القائد المؤسّس مرجعاً للحسم والفصل يخضع له الجميع في حياته ، فليس هناك ما يدعو هذا الطّرف أو ذاك للتنازل عن فهمه ورأيه بعد وفاة المؤسس ، بل يعتقد كلّ طرف أنّ فهمه ورأيه هو الأصحّ والأصوب ، من هنا تبدأ بذور الانشقاق والتعدّد ، وعلى أساس ذلك الاختلاف الفكري قد يحصل تعارض في المواقف السياسية أيضاً.

٩٩

وكنموذج لتأثير الاختلاف الفكري في إنشاء المذاهب وتعدّديتها :

الانقسام الذي حصل بين علماء المسلمين أواخر القرن الأوّل الهجري إلى أهل الحديث وأهل الرأي فقد كان الفقهاء في الحجاز يعتمدون النصوص والأحاديث كمصدر أساسي لاستنباط الأحكام الشرعية ولا يعطون اعتباراً كبيراً للقياس والرأي بعكس فقهاء العراق القائلين بالقياس والرأي.

وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنّهم يتركون الأحاديث لأقيستهم ، والدين لا يقاس بالرّأي ، وإنّما سمّوا أهل الرّأي لأنّ عنايتهم بتحصيل وجوه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها ، وربّما يقدّمون القياس الجلي على آحاد الأخبار ، وطريقتهم أنّ للشريعة مصالح مقصودة التحصيل من أجلها شرعت ، فجعلوا هذه المصالح أصلاً من أصول الأدلّة إذا لم يجدوا نصّاً في الكتاب والسنّة الصحيحة عندهم ، وقد كانت قليلة العدد لبعد العراق عن موطن الحديث.

وأمّا أهل الحديث فلم يجعلوا للرأي والقياس في استنباط الأحكام هذا المحل ، واتسعت شقة الخلاف واحتدم النزاع وافترق أهل الفتيا إلى فرقتين (١).

ولم يقتصر الخلاف بين المنهجين على الجانب الفقهي بالطبع بل انعكست آثاره على المجالات العقيدية ، فكان أهل الحديث يتعبّدون بظواهر الآيات والرّوايات ويبنون عليها عقائدهم دون التعميق في مفاهيمها أو قبول التأويل لمتشابهاتها ، بينما كان أهل الرأي والذين أطلق عليهم المعتزلة فيما بعد يتمسّكون بالعقل أكثر من النقل ويؤولون النّقل إذا وجدوه مخالفاً

__________________

١ ـ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ١ : ١٥١.

١٠٠