المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

عبد القادر الإدريسي السوداني

المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

المؤلف:

عبد القادر الإدريسي السوداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-86-7
الصفحات: ٣٥٤

أخرى ، وبين هذا وذاك ما يوجب الإرتباك فما العمل؟ وكيف الحيلة (١)؟

إنّ هذا الشعور المنبعث من القلب المحترق ألماً من معاناة الواقع حيث الشتات والتفتت ، الجرثومة التي كانت تنتشر في جسد الأمة ، مستفيدة من الجهل وضعف الوعي ، ومدعومة من حبائل مخطّطات الاستعمار ، كان يلازم السيّد شرف الدين دوماً حتى كان أحد مكونات تفكيره في قضايا الساحة والأُمّة.

وقد بدأت مسيرة الجهاد عند الإمام شرف الدين في أوائل القرن العشرين بعد عودته من النجف الأشرف إلى جبل عامل ـ جنوب لبنان ـ فقد كان من أبرز قيادات تيار الممانعة والمقاومة في وجه الاستعمار الحديث لبلاد المسلمين .. ومن الطبيعي ان تكون وحدة المسلمين هي الهدف الذي كان يسعى من أجله شأنه في ذلك شأن كثير من العلماء والمفكرين المسلمين الذين أدركوا ان الهجمة الاستعمارية على بلاد المسلمين لا يمكن ردها إلا في إطار مشروع سياسي توحيدي يعيد للمسلمين شوكتهم ويبعث فيهم ما انكسر من إرادة ومعنويات وثقة بالذات (٢).

في لبنان رفض الطائفية :

يقول الدكتور حسين القوتلي : في أواسط الخمسينات من هذا القرن ، وكنت في بداية العشرينات من عمري عملت إلى جانب دولة الرئيس الحاج حسين العويني ـ رئيس المجلس الإسلامي في بيروت ـ آنذاك ، مقرّراً لهذا المجلس ، ومن خلال كلمة ألقاها الرئيس العويني في حفل تأبين السيّد عبد

__________________

١ ـ المراجعات : ٤٩ ـ ٥٠.

٢ ـ مؤتمر تكريم السيّد شرف الدين ورقة السيّد محمّد حسن الأمين : ١٢٢.

٢٦١

الحسين شرف الدين ، بدأت بالتعرّف إلى المنهج التوحيدي عند علّامتنا العاملي ، في تلك الكلمة ، قال رئيس المجلس الإسلامي عن الراحل الكبير : إنّه أوّل من دعا إلى نبذ الخلافات الوهمية القائمة بين الشيعة والسنّة وهي ـ يشهد الله ـ من عمل الاستعمار ومخلفاته السياسية ، فمتى كان المسلم سنّياً ومتى كان شيعياً. وأضاف يقول : إنّنا في المجلس الإسلامي نريد أن نخلد ذكرى الراحل الكبير ، لا عن طريق الكلام المنمق ، ولكن عن طريق العمل بما دعا إليه السيّد عبد الحسين شرف الدين ، إنّنا نريد أن نعلن عزمنا وتصميمنا على محو هذه الفرقة بين السنّة والشيعة وافتتاح عهد جديد من الوحدة الدينية نطلق عليها اسم عهد شرف الدين (١).

التضامن مع المسيحيين :

لقد رفض السيّد شرف الدين الطائفية وتأسيس النظام السياسي على قاعدة الطائفية وكانت له محاولات لإصلاح المجتمع طائفياً بإزالة كلّ شائبة تقف والعلاقات الحسنة مع المسيحيين لسدّ الذرائع على الانتداب الفرنسي من اللعب بالورقة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين في لبنان.

وما أدلّ على ذلك من موقفه الإصلاحي في مؤتمر وادي الحجير الذي انعقد سنة ١٣٣٨ هـ / ١٩٢٠ م ، ففي خطبته الشهيرة قال الإمام شرف الدين :

ألا أدلّكم على أمر إن فعلتموه انتصرتم ، فوّتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته ، وأخمدوا بالصبر الجميل فتنته ، فإنّه والله ما استعدى فريق على فريق إلّا ليثير الفتنة الطائفية ، ويشعل الحرب الأهلية ، حتّى إذا صدق

__________________

١ ـ مؤتمر تكريم السيّد شرف الدين ورقة السيّد محمّد حسن الأمين : ١٠٠.

٢٦٢

زعمه وتحقّق حلمه استقرّ في البلاد بعلّة حماية الأقلّيات.

ألا وإنّ النصارى إخوانكم في الله وفي الوطن وفي المصير ، فأحبّوا لهم ما تحبّونه لأنفسكم ، وحافظوا على أرواحهم وأموالهم كما تحافظون على أرواحكم وأموالكم ، وبذلك تحبطون المؤامرة ، وتخمدون الفتنة ، وتطبقون تعاليم دينكم وسنة نبيكم (١) ، (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) (٢).

في القاهرة الحوار الإسلامي ـ الإسلامي :

يحدّثنا السيّد شرف الدين عن رحلته إلى مصر وغرضه من هذه الزيارة والأجواء النفسية التي سبقتها يقول : لقد ضقت ذرعاً بهذا ، وامتلأت بحمله همّاً ، فهبطت مصر أواخر سنة ١٣٢٩ هـ مؤمّلاً في نيله ، نيل الأُمنية التي أنشدها وكنت ألهمت أنّي موفّق لبعض ما أريد ، ومتصل بالذي أُداور معه الرأي ، وأتداول معه النصيحة ، فيسدّد الله بأيدينا من الكنانة سهماً نصيب به الغرض ، ونعالج هذا الداء الملحّ على شمل المسلمين بالتمزيق ، وعلى جماعتهم بالتفريق ، وقد كان والحمد لله الذي أملت ، فإنّ مصر بلد ينبت العلم ، فينمو به على الإخلاص ، والإذعان للحقيقة الثابتة بقوّة الدليل ، وتلك ميزة لمصر فوق مميّزاتها التي استقلّت بها.

وهناك على نعمى الحال ، ورخاء البال ، وابتهاج النفس ، جمعني الحظ

__________________

١ ـ بغية الراغبين ٢ : ٤٤٠.

٢ ـ المائدة (٥) : ٨٢.

٢٦٣

السعيد بعلم من إعلامها المبرّزين ، بعقل واسع ، وخلق وادع ، وفؤاد حي ، وعلم عليم ومنزل رفيع ، يتبوأه بزعامته الدينية ، بحق وأهلية ...

شكوت إليه وجدي ، وشكا إليّ مثل ذلك وجداً وضيقاً ، وكانت ساعة موفّقة أوحت إلينا التفكير فيما يجمع الله به الكلمة ، ويلمّ به شعث الأُمّة ، فكان ممّا اتفقنا عليه أنّ الطائفتين ـ الشيعة والسنّة ـ مسلمون يدينون حقاً بدين الإسلام الحنيف ، فهم فيما جاء الرسول به سواء ، ولا اختلاف بينهم في أصل أساسي يفسد التلبّس بالمبدأ الإسلامي الشريف ...

وقد فرضنا على أنفسنا أن نعالج هذه المسألة بالنظر في أدلّة الطائفتين ، فنفهمهما فهماً صحيحاً ، من حيث لا نحسّ إحساسنا المجلوب من المحيط والعادة والتقليد بل نتعرّى من كلّ ما يحوطنا من العواطف والعصبيّات ، ونقصد الحقيقة من طريقها المجمع على صحّته ، فنلمسها لمساً ، فلعلّ ذلك يلفت أذهان المسلمين ، ويبعث الطمأنينة في نفوسهم ، بما يتحرّر ويتقرّر عندنا من الحق فيكون حدّاً ينتهي إليه إن شاء الله تعالى (١).

ومن هذه الحوارات كان كتاب المراجعات الذي أعاد الاعتبار إلى البحث العلمي المجرّد والحوار الموضوعي. وفي وصف الدكتور حامد حفني داود إنّ هذه المناظرة كانت : شيئاً جديداً لا نكاد نألفه إلّا في المنهج الإسلامي في فنّ المناظرة والجدل ، ذلك المنهج هو إصرار كلّ من الباحثين على الوصول إلى الحقيقة أنّى وجدها ، فلم يكن أحدهما يبغي من المناظرة الكيد لصاحبه أو النيل من علمه أو حتّى مجرد الفرق بقدر ما يطمع من

__________________

١ ـ المراجعات : ٥٠ ـ ٥٢.

٢٦٤

الوصول إلى الحقيقة ولو كانت متمثّلة في حجّة صاحبه (١).

وقد استغرق هذا الحوار بين السيّد شرف الدين والشيخ سليم البشري مائة واثنتي عشر حلقة ما بين ذي القعدة ١٣٢٩ ، وجمادى الأولى ١٣٣٣ هـ.

أجوبة مسائل جار الله :

طاف الشيخ موسى جار الله بعض الأقطار الإسلامية ، ووقف على أحوالها وأخبارها وفي نهاية مطافه وجّه إلى علماء الشيعة أسئلة يعتقد أنّها في الوحدة الإسلامية ، وعن هذه الأسئلة يقول السيّد شرف الدين : وردت عليّ مسائل موسى جار الله كما رفعت إلى غيري من علماء الإمامية بواسطة جمعية الرابطة العلمية الأدبية النجفية ـ أعزّها الله تعالى ـ مؤرّخة في ٢١ ذي القعدة سنة ١٣٥٣ هـ ووردت عليّ من طريق آخر أيضاً.

فما وقفت عليها حتّى أوجست من مغازيها خيفة على الوحدة الإسلامية أن تنفصم عروتها ، وتتفرّق جماعتها ، إذ وجدت فيها من نبش الدفائن وإثارة الضغائن ما يشقّ عصا المسلمين ويمزّقهم تمزيقاً ، والدور عصيب ، والظروف حرجة ، لا تسع النقض والإبرام ، ولا المشادّة والمناقشة فضلاً عن هذه المحاربة ، التي ليس بعدها مصاحبة ، وكان الواجب ترك هذه الغارات.

 ... أليس الله وعجل الله تعالى فرجه وحده لا شريك له ربّنا جميعاً؟ والإسلام ديننا؟ والقرآن الحكيم كتابنا؟ وسيّد النبيّين وخاتم المرسلين محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم نبينا؟ وقوله وفعله وتقريره سنتّنا؟ والكعبة مطافنا وقبلتنا؟ والصّلوات الخمس ، وصيام الشهر ، والزكاة الواجبة ، وحجّ البيت فرائضنا ..؟ (٢).

__________________

١ ـ نظرات في الكتب الخالدة : ٩٠.

٢ ـ أجوبة مسائل جار الله : ٤ ـ ٥.

٢٦٥

وما إن صدر الكتاب سنة ١٣٥٥ هـ حتّى أقبل عليه العلماء والمفكّرون من حملة لواء الوحدة ، ينشرونه ويبشّرون به.

وقد احتوى الكتاب على عشرين مسألة من المسائل الخلافية بين السنّة والشيعة أجاب عليها السيّد شرف الدين بصراحة ووضوح وبما يجمع الأُمّة ويقرّب بين مذاهبها ويوحّدها على قاعدة الاختلاف في الفروع والاتفاق على الأصول ...

الفصول المهمة في تأليف الأُمّة :

هذا الكتاب الذي ألّفه السيّد شرف الدين بعد رجوعه من النجف الأشرف بسبع سنين أي سنة ١٣٢٧ هـ / ١٩٠٩ م يعدّ منهجاً قيّماً في تأليف الأُمّة واتفاقها ... وقد جاءت فصول الكتاب كخطوط رئيسة لمنهج التأليف والتقريب. وهذه الفصول :

الفصل الأول : فيما جاء في الكتاب والسنّة من الحضّ على الاجتماع والتنديد بأهل التفريق والنزاع.

الفصل الثاني : في بيان معنى الإسلام والإيمان وفيه ما يوجب القطع بأنّ جميع أهل الشهادتين والصوم والصلاة والحجّ والزكاة إخوان.

الفصل الثالث : في صحاح أهل السنّة الحاكمة باحترام أهل الأركان الخمسة كافّة ، وحرمة دمائهم وأعراضهم وأموالهم ، وفيه من الأحاديث الصحيحة والنصوص الصريحة ما يقطع شغب المشاغب ، ولا يبقى معه أثر لهذيان النواصب.

الفصل الرابع : في يسير من نصوص أئمّتنا في الحكم بإسلام أهل السنّة

٢٦٦

وأنّهم كالشيعة في كلّ أثر يترتّب على مطلق المسلمين.

وهذا في غاية الوضوح من مذهبنا لا يرتاب فيه ذو اعتدال منّا.

الفصل الخامس : في صحاح السنّة الحاكمة على أهل الأركان الخمسة بدخول الجنّة وفيه من البشائر ما تقرّ به النواظر.

الفصل السادس : في لمعة من فتاوى علماء أهل السنّة بإيمان أهل الأركان الخمسة كافّة واحترامهم ونجاتهم جميعاً وفيه فتاوى كثيرة من أعلام الأُمّة.

الفصل السابع : في بشائر السنّة للشيعة ويا لها من بشائر تحكم بفلاحهم في الدنيا وسعادتهم في اليوم الآخر. وهي صحاح متضافرة من طريق العترة الطاهرة ، ومنها ما أخرجه محدّثو أهل السنّة بأسانيدهم وطرقهم.

الفصل الثامن : فيمن تأوّلوا من السلف فخالفوا الجمهور ولم يقدح ذلك في عدالتهم والغرض إثبات معذرة المتأوّلين (١).

__________________

١ ـ الفصول المهمّة ، الفهرست : ٢٠٥.

٢٦٧

منهجية شرف الدين في الوحدة

من مكوّنات ومعالم هذه المنهجية :

١ ـ إذا كان الهدف من مناقشة الرأي الآخر هو خطاب الذات لا الآخر. فقد يجوز في المنهج أن يعتمد الفقيه على أدلّته المذهبية الخاصّة ، وهذا ليس أسلوب الحوار بل هو مساجلة لا تؤدّي غالباً إلى وفاق بل تثبت رأي كلّ فريق في مقابل الرأي الآخر.

وأما إذا كان الهدف إقناع الآخر بوجهة النظر المخالفة ، أو حلّ النزاع بالكشف عن معيار ثالث للموقف في محلّ النزاع أعلى من معيار كلّ واحد من المختلفين ، فإنّ المنهج العلمي الصحيح الذي يتوفّر على شروط البحث العلمي ويتسم بالجدّية ، لابدّ أن يرتكز على الأدلّة التي يعتمدها الطرف الآخر.

وهذا هو الحوار الذي يرتكز على أسس مشتركة بين المتحاورين ، وهو يؤدّي غالباً إلى وفاق أو إلى تفهّم للآخر يفسح مجالاً لاكتشافه وقبوله والاعتراف به.

ونلاحظ أنّ الإمام شرف الدين قد التزم بهذا المنهج التزاماً صارماً فيما وصل إلينا من أبحاثه في فقه الخلاف وفي فقه الوفاق (١).

__________________

١ ـ مؤتمر تكريم السيّد عبد الحسين شرف الدين ، ورقة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين : ٤٩.

٢٦٨

حاكمية الدليل :

٢ ـ إنّ تعبّدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري ، وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزّب أو تعصّب ، ولا للريب في اجتهاد أئمّة تلك المذاهب ، ولا لعدم عدالتهم وأمانتهم ونزاهتهم وجلالتهم علماً وعملاً.

لكن الأدلّة الشرعية أخذت بأعناقنا إلى الأخذ بمذهب الأئمّة من أهل بيت النبوّة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي والتنزيل ، فانقطعنا إليهم في فروع الدين وعقائده ، وأصول الفقه وقواعده ، ومعارف السنّة والكتاب ، وعلوم الأخلاق والسلوك والآداب ، نزولاً على حكم الأدلّة والبراهين ، وتعبّداً بسنّة سيّد النبيّين والمرسلين صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين.

ولو سمحت لنا الأدلّة بمخالفة الأئمّة من آل محمّد ، أو تمكنّا من تحصيل نية القربة لله سبحانه وتعالى في مقام العمل على مذهب غيرهم لقصصنا أثر الجمهور ، وقفونا أثرهم ، تأكيداً لعقد الولاء ، وتوثيقاً لعرى الإخاء ، ولكنّها الأدلّة القطعية تقطع على المؤمن وجهته ، وتحول بينه وبين ما يروم (١).

المحتوى الحضاري للوحدة :

٣ ـ لا تتسق أمور العمران ، ولا تستتب أسباب الارتقاء ، ولا تنبث روح المدنية ، ولا تبزغ شموس الدعة من أبراج السعادة ، ولا نرفع عن أعناقنا نير العبودية بيد الحرية إلّا باتفاق الكلمة واجتماع الأفئدة ، وترادف القلوب ، واتحاد العزائم ، والاجتماع على النهضة بنواميس الأُمّة ، ورفع كيان الملّة ، وبذلك تهتزّ الأرض طرباً ، وتمطر السماء ذهباً ، وتتفجّر ينابيع الرحمة من قلب

__________________

١ ـ المراجعات : ٦٠ ـ ٦١.

٢٦٩

المواساة فتجري في سهوب الترقي وتتفرّق في بيد العمران ، وأخاديد الحنان والاتحاد (١).

٤ ـ لم يتكون الموقف السياسي التوحيدي الذي رسم أفق الحركة التوحيدية لديه ، إلّا محصّلة لرؤيته الإصلاحية الأساسية العاملة والملتزمة بوحدة التربية ، ولرؤيته الإصلاحية الاجتماعية الملتزمة بوحدة المجتمع ، ولرؤيته الإصلاحية الداعية إلى وحدة القيم والأخلاق والدين في مجتمع عربي إسلامي ترسي قواعد الحكم فيه دولة عربية واحدة.

٥ ـ فتح باب الحوار المستند على البرهان العلمي والدليل المنطقي ، والبحث الموضوعي بين المذاهب الإسلامية لمعرفة نقاط الاختلاف بدليل ، ونقاط الاتفاق بدليل ، وإزالة كلّ ما هو معارض للعلم والعقل.

٦ ـ لا حياة لهذه الأُمّة إلّا بإجماع آرائها ، وتوحيد أهدافها ، بجميع مذاهبها وشتّى مشاربها ، على إعلاء كلمتها بإعلان وحدتها ، في بنيان مرصوص ، يشدّ بعضه أزر بعض ، وجسم واحد ، إذا شكا منه عضو تداعت له سائر الأعضاء ، حتّى ليكون المسلم في المشرق ، هو نفسه في المغرب ، عينه ومرآته ، دليله ومشكاته ، لا يخونه ولا يخدعه ، ولا يظلمه ولا يسلمه ، وبذلك يكون المسلمون أُمّة واحدة (٢).

٧ ـ لا تقولوا بعد اليوم هذا شيعي ، وهذا سنّي ، بل قولوا : هذا مسلم ، فالشيعة والسنّة فرّقتهما السياسة ، وتجمعهما السياسة ، أمّا الإسلام فلم يفرّق ولم يمزّق (٣).

__________________

١ ـ مؤتمر تكريم السيّد عبد الحسين شرف الدين : ٩٠.

٢ ـ بغية الراغبين ٢ : ٤٤٧.

٣ ـ المصدر السابق : ٤٤٨.

٢٧٠

الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي

١٢٩١ ـ ١٣٦٣ هـ / ١٨٧٤ ـ ١٩٤٤ م

من كبار أعلام الجزيرة العربية ( السعودية ) وباعث النهضة العلمية في منطقة القطيف ... كان من رجال الوحدة الإسلامية له كتاب يقع في ( ٩٤٩ ) صفحة من القطع الكبير في مجلدين ، صدر عن دار الفكر في بيروت سنة ١٣٧٦ هـ / ١٩٥٦ م ، يكشف عن معالم منهجية الشيخ الخنيزي في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية ...

وقد جاء في الصفحة الأولى في تعريف الكتاب إنّه معول يهدّ من الطائفية البغيضة : أسسها المنهارة ، ويدعو للوحدة والتآلف ، دعوة تتمثّل هذه في الآية الكريمة : (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١).

وهذا الكتاب هو آخر مؤلّفات الإمام الخنيزي ما إن أكمله حتّى عاجلته المنية فكأنّه وصيته الأخيرة لمجتمعه وأُمّته.

ومن اطّلع على هذا الكتاب من الباحثين والمحقّقين كالعلّامة السيّد

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ١٢٥.

٢٧١

مرتضى العسكري وآخرين كان رأيهم أنّ هذا الكتاب من أقوى كتب الحوار والمناظرة في المسائل الخلافية من حيث قوّة الدليل ، وحجّة البيان ، وان صاف الآخر.

وقال عنه الشيخ محمّد جواد مغنية في تقديمه على الكتاب : نجد فيه الحقيقة والهدوء ، والإخلاص والإنصاف ، وما إلى هذه الصفات ، التي يتجلّى بها العالِم القدير والمجتهد الكبير (١).

وكان من الموضوعي أن يكتسب هذا الكتاب شهرة لا يقلّ مكانة عن غيره في موضوعه.

__________________

١ ـ الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنّة والإمامية ١ : ص٥.

٢٧٢

معالم من منهجه

في الوحدة الإسلامية

من معالم هذه المنهجية :

(١) ـ إنّ الحوار هو المنهج السليم في حلّ المشكلات ، وهو الطريق إلى الاعتراف بالآخر والتعايش معه. وفي الدعوة إلى الحوار جاء كتاب الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنّة والإمامية والذي هو نقد هادئ في قضية صاخبة على كتاب الصراع بين الإسلام والوثنية للشيخ عبد الله بن علي القصيمي ، وهكذا جاء كتاب المناظرات (١) الذي يتناول بعض المسائل الخلافية بين المذاهب الإسلامية ، على ضوء الهدي الإسلامي والمناظرة الهادئة التي لا تهدف سوى إحقاق الحقّ.

(٢) ـ الذهاب إلى الدليل أينما كان ، والوقوف على البرهان أينما وجد ، والتمسّك بالحجّة الدامغة فكتاباته رحمة الله عليه كتابات استدلالية يجتهد فيها بالدليل وإلى الدليل لا تأخذه مصلحة أو عاطفة أو عصبية.

وفي ذلك يقول الشيخ سليمان ظاهر عضو المجمع العلمي العربي : تنمّ مؤلّفاته الكثيرة عن : علم جم ، وفكر نيّر بعيد النظر ، وخلق كريم ، إن جادل فبالتي هي أحسن ، أو قارع الخصوم فببالغ الحجّة ، وواضح البرهان ، ورائده

__________________

١ ـ صدر الكتاب عن مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة ، حقّقه وعلّق عليه الشيخ عبد الله الخنيزي.

٢٧٣

تحرير الحقّ من رقّ الباطل ، وغايته القصوى ، وهدفه الأسمى في كلّ ما خبر وحرّر في حياته ، وما أخرج من المطبوعات متمحضّ للتقارب الإسلامي ، وتوحيد كلمة التوحيد ، في عصر يحيق الخطر على الإسلام (١).

(٣) ـ إنّ الوصول إلى الوحدة لابدّ أولاً من إلغاء التفرقة المذهبية فيقول : لا يكون النظم والاجتماع والإلتآم ، بإلغاء التفرقة المذهبية ، فلا سنّية ، ولا شيعية ، ولا خارجية ولا معتزلية ، ولا أشعرية فيكون الناظم لهذا العقد ، الذي تفرّقت خرزه ، والجامع لهذا الشمل المنصدع ، الانصداعات المتفاقمة ، هو الدين الإسلامي : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله. فهناك تحصل القوّة الرابطة ، والنشاط الجامع ، وتصفو داخلية الإسلام ، ويطيب هواؤه ، وتنقى جوانبه ، وتعود له الروح التي فيه أيّامه وأيّام الخلفاء المرضيين (٢).

(٤) ـ التحرّر من أيّة عصبية كانت تاريخية أو اجتماعية أو عقيدية ففي مقدّمته على كتابه روضة المسائل في إثبات أصول الدين بالدلائل يقول : حرّرتها لمن طلب حقّ اليقين من أيّ فرقة كان من المسلمين أو غير المسلمين خلعت فيها ربقة التعصّب والعناد ، ونزعت فيها حلّة مذهب الآباء والأجداد ، وسلكت طريق الإنصاف والاقتصاد فأرجو ممن وقف عليها النظر بعين الانصاف والألطاف لا بعين التعصّب والاعتساف ، ولا بلحاظ مذهب المتقدّمين والأسلاف (٣).

(٥) ـ التسامح مع الآخر وإن اختلف معنا. فقد كان رحمة الله عليه طبعه

__________________

١ ـ الدعوة الإسلامية ٢ : ص ب.

٢ ـ المصدر السابق ١ : ٢٢٥.

٣ ـ روضة المسائل في أثبات أصول الدين بالدلائل : ٢.

٢٧٤

التسامح والتودّد ... في بيئة هي أشدّ ما تكون في حاجة إلى التسامح.

قصّة التقريب :

هل في طاقة المسلمين أن يعالجوا مشاكلهم بأنفسهم؟

هل هناك مبادئ من صميم الإسلام تضمن للأُمّة الإسلامية وحدتها ، وبالتالي تضمن لها عزّها ومجدها؟

هل يفهم المسلمون أنّ التقريب معناه نبذ كلّ خلاف؟ أو أنّهم لا يرون بأساً بأيّ خلاف يتبع الدليل ، ويراعي الأصول التي لا يحقّ لمسلم أن يخرج عليها؟

هل تتحكّم المصلحة في النهاية أو يسيطر التعصّب؟

وأخيراً. هل المسلمون يريدون حقّاً أن يعيشوا أو أنّهم سيظلّون يتهاونون حتّى في وجودهم ويتركون الأمر لأعدائهم الذين يعرفون كيف ينتهزون الفرصة ، ويحسنون الانتفاع بموقف كلّ من المتزمتين الذين يسيطر عليهم الجمود ، وأصحاب الهوى الذين يخدمون السياسات الأجنبية؟

وبذلك يزداد ضعفهم ويعجزهم صدّ أيّ تيار خارج على مبادئهم ، فيسهل تحطيمهم والقضاء عليهم؟

كانت هذه الأسئلة تدور بخلد كلّ من يفكّر في الإصلاح ، وتراود عقل كلّ من يرغب في العمل لخدمة الدين والأُمّة.

وكان لابدّ للردّ عليها من تجربة تنير الطريق ، وتكشف عن حقيقة حال المسلمين.

وكانت فكرة التقريب هي التجربة الأولى من نوعها في هذا المجال!

٢٧٥

ولو أنّ هذه التجربة فشلت ـ والعياذ بالله ـ لكان الجواب على تلك الأسئلة صريحاً واضحاً ؛ فإنّ فشلها وإن كان في ظاهره مجرّد ضياع فكرة ، إلّا أنّه في حقيقته يكون حكماً بعدم صلاحيتنا لعلاج أمورنا ، وعدم بلوغنا مرتبة الوعي والرشد ، بل يكون دليلاً حتّى عند أكثر الناس إنصافاً لنا ، على أنّنا لسنا أهلاً لحمل رسالة الإسلام الذي جاء ليحقّق السلام ، ويضمن الخير للبشر أجمعين!

ولو أنّها فشلت ، لما اقتصر أثرها على ضياع هذه الفكرة ، بل كان يمتدّ على الزمن فيثبط ـ في المستقبل ـ عزيمة كلّ من يحاول إنجاز عمل إسلامي ، أو تحقيق غاية إسلامية. بل ربّما ألقى هذا الفشل ، ظلّاً من التشكّك في مبادئنا الإسلامية نفسها ، فنظلم الإسلام ، ونتيح للبسطاء أو المغرضين أن يحكموا عليه بتصرّفاتنا نحن ، وشتّان بين حقيقة الإسلام وواقع المسلمين.

كان الوضع قبل تكوين جماعة التقريب يثير الشجن ، فالشيعي والسنّي كلّ كان يعتزل الآخر ، وكلّ كان يعيش على أوهام ولدتها في نفسه الظنون ، أو أدخلتها عليه سياسة الحكم والحكّام ، أو زينتها له الدعايات المغرضة ، وساعد على بقائها قلّة الرغبة في الاطّلاع.

كانت الكتب المشحونة بالطعن والتجريح تتداول بين أبناء كلّ فريق ، وتلقّى عند كلّ أحسن القبول حتّى ولو تكلّمت عن طوائف وعقائد لا وجود لها على سطح البسيطة ، كما في كتاب الملل والنحل الذي يبدو لقارئه في بعض الأحيان كأنّه يتكلّم عن خلق آخرين في الكواكب الأخرى.

وفي الجملة ؛ كان يسود الفريقين جو من الظلام ، فلا يرى أحدهما من صورة الآخر إلّا شبحاً تحوطه الظلمة ، ولا يتكلّم عنه إلّا بما توحي به الظلمة ،

٢٧٦

ولا يقرأ عنه إلّا ما تسمح به حلكة الظلام.

فإذا ألّف أحد من أبناء الفريقين كتاباً ، فهو لا يعرض إلّا آراء مذهبه ، ولا يدافع إلّا عنها ، ولا يسير إلّا إليها ، وإذا طلب الأمر إشارة إلى ما في غير مذهبه ، فلا تكون إشارته إلّا طعناً واتهاماً ، وإلّا ترديداً لما سمعه أو قرأه أو ورثه عن آبائه!

وبذلك كبّروا الخلافات وضخّموها ، وردّدوا الشكوك وأسفوا فيها ؛ حتّى أصبح كلّ معنى يؤيّد الوحدة يفسّر في ظلّ الشكوك بما يوجب الفرقة.

بل وصل الأمر إلى التشكك في وحدة المصحف ، وشكّ كثير من أهل السنّة في أن يكون مصحف الشيعة هو المصحف الذي في أيدي سائر المسلمين ، ومع ذلك لم يكلّف أحدهم نفسه مؤنة التقليب في نسخة من ملايين النسخ التي في متناول يده ، ولو أنّهم فعلوا ، لذهب الشكّ وحلت المشكلة ، ولكنّهم حكموا على الموجود المحسوس لما ليس فيه اعتماداً على قول مؤلّف مغرض مات قبل قرون!

إنّ هناك قصة تروى لست أدري إن كانت واقعية أم صنعها الخيال :

لقد رووا أنّ قاضياً في إحدى البلاد رأى يوماً نفراً يمسكون بتلابيب رجل ويجرّونه إليه ويقولون : هذا الرجل يكذّب المؤمنين العدول. فقد شهد شاهدان عدلان بوفاته منذ سنين. ثمّ هو يظهر بين ظهرانينا وهو بوجوده هذا يقذف في عدالة الشهود!

فما كان من القاضي الألمعي إلّا أن قال : كيف نصدّق أنّك حيّ ، ونكذّب شاهدين عدلين شهدا بموتك من قبل؟! وحكم بعدم وجوده.

٢٧٧

سواء أصحّت هذه القصّة أم كانت من صنع الخيال ، فإنّها تعبّر عن واقع المسلمين الذين لا يصدّقون عشرات الملايين من المصاحف الموجودة أمامهم ، ويحكمون عليها بما قاله مؤلّف انقضى على عصره قرون ، أتراهم ألفو تقديس كلّ ما هو قديم ولو كذّبه الواقع الملموس؟!

فإذا أضفنا إلى ذلك تحكم عنصر الوراثة ، وحرص الأبناء على الأخذ بما وجدوا عليه آباءهم أو سمعوه منهم ؛ تبيّن بوضوح أنّ محاولة التقريب كانت تبدو مستحيلة التحقيق. أجل! ولقد ظلت الفرقة بين المسلمين غذاءً مناسباً للحكم والحكّام قروناً عدّة ، دأب فيها كلّ حاكم على استغلالها لتثبيت سلطانه ، ولتحطيم عدوه ثمّ جاءت السياسات الأجنبية فوجدت في هذه الفرقة خير وسيلة تدخّلها ، وبثّ نفوذها ودعم سلطانها وفرض سيادتها.

والسياسات الأجنبية هي التي أوحت إلى كثير من أعدائنا الذين يتستّر بعضهم وراء اسم المستشرقين بالعمل ليكملوا إحكام الحلقة حولنا ببحوثهم التي تقوم على دسّ السموم ، وانخدع بهم بسطاؤنا فكان بعضهم يحكم على بعض بما كتبه هذا المستشرق أو ذاك!

وهكذا صدقنا هؤلاء المستشرقين ، كما كنّا نصدّق المؤرّخين الدسّاسين وكتبة الأوهام وواضعي الأحاديث. وسيطرت علينا جاذبية الجديد البرّاق ، كما سيطرت علينا هيبة القديم المألوف ، فحرمنا أنفسنا حقّ التفكير فيما ذكره هؤلاء وهؤلاء ، وأنكرنا على أنفسنا أن يكون لنا تفكير مستقل ندرس به أنفسنا من واقعنا!

وبجانب هذا وقفت السياسات الأجنبية المسيطرة علينا ، وقفت بالمرصاد في وجه كلّ فكرة إصلاحية ترمي إلى توحيد كلمة المسلمين.

٢٧٨

لقد تقرّر توقيفية أسماء الله تعالى ، فليس لأحد أن يبتكر من عند نفسه اسماً لله لم يرد عن الله ، وتقرّر توقيفية العبادات ، فليس لأحد أن يبتدع عبادة لم تشرّع.

أمّا أن يقوم المسلم ـ وهو الذي فتح الله أمامه أبواب التفكير في السماوات والأرض ـ بتوقيفية البحث والتفكير ، فهذا ما لم نكن نتصوّره. ولكنّه مع الأسف الشديد كان سيرتنا في التعصّبات الطائفية.

إنّ الأسر التي حكمت باسم الخلافة الإسلامية قروناً طويلة ، كانت ترى في آل علي المعارض الوحيد الخطير عليها ، فكانت تسيء إلى شيعة آل علي وتستخدم الأقلام والألسنة ضدّهم ، حتّى أوجدوا حول الشيعة كثيراً من الخلط ، وكثيراً من التشويش. وكان يمكن لأي مصلح يتصدّى للدفاع عنهم أن يدرأ عن المسلمين شرّ التفرّق ، ولكن القوّة التي بيد الخلفاء ومقاومة بعض الحكام من الجانب الآخر كلاهما سخّر الأقلام والضمائر ضد كلّ محاولة من هذا القبيل ، وقضى عليها.

نعم ، هناك محاولات وقعت فيما مضى ، إلّا أنّها كانت فردية من جهة ، ولم تكن على أساس مدروس من جهة أخرى ، وكانت تارة سياسية ترمي إلى وحدة الحكم ، وتارة غير عملية كمحاولة توحّد المذاهب سنيها وشيعيها ، وبجانب هذا لم يكن الرأي العام يدرك حينئذ ما في التفرّق أضرار.

من أجل ذلك كلّه ، لم تنجح واحدة من تلك المحاولات المشكورة ، وإن تركت آثاراً في نفوس قلّة من المفكّرين.

وبعد هذا ساق الله الظروف المواتية لإيقاظ المسلمين ، وهيّأ الأسباب التي تعين على ذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

٢٧٩

فإنّ الدول القوية التي كانت تهيمن على مقدّراتنا ، وترسم لنا سياستنا منذ أمد طويل ـ هذه الدول خرجت من الحرب منهكّة القوى مخضودة الشوكة سواء في ذلك الدول الغالبة والمغلوبة.

وقبل أن تستردّ الدول الغالبة أنفاسها بدأت بينها حرب ثالثة غير أنّها كانت حرباً باردة.

فجعل بعضهم يضرب بعضاً ، وجعل كلّ منهم يخلق المشكلات للآخرين ، حتّى سقطت هيبتهم جميعاً ، وبذلك سقطت هيبة الدول التي كنّا نؤخذ بها ونسحر بقوّتها ، وانهارت كبرياؤها وشغلت عن تجديد مساعيها للتفرقة بيننا ، بمشاكلها التي أصبحت تهدّد كيانها ، وبذلك ضعفت قبضتها علينا!

وهناك جانب آخر من الواقع في هذه الحرب وما ترتّب عليها من آثار :

ذلك أنّها أوجدت في الشعوب الإسلامية لونا من الاعتزاز بالنفس والاعتزاز بالمبادئ الإسلامية ، فقد رأوا بأعينهم ما جرته المدنية الحديثة على صنّاعها من ويلات وبلايا ومن فتك ذريع ومن جرائم وحشية اقترفها أساتذة المدنية الحديثة ضدّ الإنسانية ، حبّا في السيطرة.

وأدركوا بيقين أنّ المدنية والمذاهب الاجتماعية التي كان يتيه بها أصحابها في الشرق أو الغرب والمثل التي يتشدّق بها هؤلاء وهؤلاء ، لم تستطع أن تكبح من ضراوتهم ، أو تحدّ من وحشيتهم وأنّ الأسلحة الفتّاكة التي طالما هدّدونا بها استخدمت في القضاء عليهم.

لقد كان هذا كلّه بمثابة ضجّة أيقظت المسلمين من سباتهم ، ودفعتهم إلى الاهتمام بما عندهم من مبادئ إنسانية ، ومن مثل عليا خدعهم عنها العدو

٢٨٠