المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

عبد القادر الإدريسي السوداني

المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

المؤلف:

عبد القادر الإدريسي السوداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-86-7
الصفحات: ٣٥٤

الباب الرابع

نصوص من الفكر الإصلاحي حول الوحدة الإسلامية

٢٤١
٢٤٢

السيّد محسن الأمين

١٢٨٤ ـ ١٣٧١ هـ / ١٨٦٥ ـ ١٩٥٢ م

دعوته الإصلاحية للوحدة والتآلف :

نهض منذ وقت مبكر بدعوته الإصلاحية متزوّداً بوعيه لمشكلات مجتمعه وانفتاحه لقضايا عصره ، وتحسّسه لمسؤوليته الدينية الإصلاحية فقد كان شاهداً على عصره في الوحدة والتآلف بدأت دعوته الإصلاحية في المجتمع الأهلي مذ أن استقرّ في دمشق ، وافداً من لبنان وعن هذه الفترة يقول السيد الأمين في مذكّراته وردنا دمشق في أواخر شعبان من سنة ١٣١٩ هـ في أواخر الخريف ، فوجدنا أمامنا أموراً هي علّة العلل ولابدّ في إصلاح المجتمع من النظر في إصلاحها :

١ ـ الأُميّة والجهل المطبق فقد وجدنا معظم الأطفال يبقون أمّيّين بدون تعليم ، وبعضهم يتعلّمون القراءة والكتابة في بعض الكتاتيب على الطراز القديم.

٢ ـ وجدنا إخواننا في دمشق متشاكسين منقسمين إلى حزبين بل إلى أحزاب وقد أخذت منهم هذه الحزبية مأخذها (١).

__________________

١ ـ أعيان الشيعة ١٠ : ٣٦١.

٢٤٣

ولقد نجح السيّد الأمين في هذا الجانب نجاحاً باهراً فقد كان إماماً في الوحدة لكلّ الطوائف والديانات وهذا ما يعترف به كلّ من عاصره ، وقد قال عنه الشيخ هاشم الخطيب من علماء السنة من دمشق : لقد نهض بأبناء طائفته الجعفرية في سوريا ولبنان وجبل عامل نهضة مباركة وخطا بهم خطوة طيبة حببت إليهم جميع إخوانهم من المسلمين والعرب كما حبّبتهم أيضاً إلى الجميع فكانوا يداً واحدة إخواناً متحابّين على سرر متقابلين تجمعهم وحدة الإسلام وتنظّم أهدافهم وغاياتهم المصلحة العامة (١).

ونقل عنه الدكتور مصطفى السباعي أنّ شخصاً جاء إليه لينتقل من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي ، فعرّفه بأنّه لا فرق بين السنّة والشيعة في العنوان الإسلامي. وعندما أصرّ هذا الرجل قال له السيّد الأمين قل : أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله فقالها الرجل ، فقال له : لقد أصبحت شيعياً. لقد أدرك السيّد الأمين أنّ الوحدة الإسلامية هي من الممنوعات الاستعمارية.

وبذلك كان ثورة على الطائفية في الوقت الذي كان لا يمانع من بحث القضايا المذهبية بذهنية علمية موضوعية ، وبروح إسلامية واعية ، لأنّ هناك فرق بين الحوار العلمي ، والاستغلال السياسي ، أو التحرّك الغوغائي لأنّ الحوار يؤدّي إلى التفاهم وينتهي إلى الوحدة ، بينما ينطلق الاستغلال والغوغاء إلى المزيد من البعد والاختلاف (٢).

فقد أعطى السيّد الأمين روحاً جديدة لمجتمعه كانت بداية عهد جديد

__________________

١ ـ أعيان الشيعة ١٠ : ٤١٣.

٢ ـ المصلح الإسلامي السيّد محسن الأمين ورقة السيد محمّد حسين فضل الله : ٩٠.

٢٤٤

في حياة المجتمع ينتقل منها من النزاع إلى التآلف ومن التفرق إلى الاجتماع ، وهذا التحوّل أسس أرضية حيوية ساهمت في عمليات النهوض التي حصلت آنذاك.

إنماء التعليم من منطلق الوحدة :

ومن ملامح الحركة الإصلاحية للسيّد الأمين إنماء التعليم وبعث النهضة التعليمية في مجتمع الشام ، وقد أسّس حركته العلمية على قاعدة الوحدة والتقارب والتآلف.

إلى جانب ذلك أنشأ جمعية للاهتمام بتعليم الفقراء والأيتام وكانت مسؤوليتها تقوم على حصر أسماء الناشئة ، وتهيئة الأسباب المادية لضمان متابعتهم الدراسة لأن معظم الأهل بسبب فقرهم يفضلون إرسال أبنائهم إلى بعض المراكز الحرفية لتعليمهم صنعة وهم بحالة الأُميّة وذلك لحاجتهم الملحّة لدخل هؤلاء الأولاد لتأمين الضرورات المعيشية.

ولما لاحظ العلّامة الأمين ان الأطفال والشباب بحاجة لرعاية خارج نطاق المدرسة أنشأ جمعية الرابطة الأدبية الاجتماعية لتملأ هذا الفراغ وترفدهم بالنشاط الأدبي والرياضي فكانت هذه الجمعيات تعمل مؤازرة للمدرسة المحسنية والمدرسة اليوسفية تحت إشرافه المباشر وتوجيهه الدائم (١).

وعن نهجه الوحدوي في التعليم يقول الأستاذ عبد اللطيف الخشن : ـ وهو من الذين تعلّموا وتربوا في مدارس السيّد الأمين ـ لم يكن السيّد

__________________

١ ـ المصلح الإسلامي السيّد محسن الأمين : ١٥٢.

٢٤٥

محسن الأمين في معاملاته لغير أبناء الطائفة الشيعية أقلّ من معاملته الحسنة لأبناء طائفته ، ولم أجد في حياتي كلّها مؤسّس مدرسة في الدنيا لا يبالغ بحبّ أبناء طائفته أولاً وإيثارهم على غيرهم ، وجعلهم مقدّمين في الوظائف على غيرهم باستثناء مولانا الراحل الذي كان يفتّش عن معلّمين للمدرسة يحسنون التدريس ، دون النظر إلى الطائفة التي ينتمون إليها إذ كان يفتّش عن الإنتاج الفكري ، والنضوج العقلي ، والوعي في الأستاذ دون أن يسأل عن طائفته ، وعن نحلته ، وهذا بشهادة جميع الذين لمسوا من الراحل الكريم هذا التسامح وهذه العدالة ...

لقد كان أساتذة المدرسة من جميع رجال الطوائف ، وإنّي لأذكر على سبيل الاستشهاد والمثال أنّ معلّمي الدروس الصرفية والنحوية كانوا من السنّة والشيعة ، وكان المدرّس للّغة الفرنسية مسيحياً ، وكان مدرس اللغة التركية سنّياً.

ونظراً للشهرة التي نالتها المدرسة يومئذ أقدم الكثيرون على إرسال أولادهم إلى المدرسة وهم من مختلف الطوائف ، ولم يكن في برامج التعليم أية صفة خاصة ، أو ميزة لفريق دون آخر من التلامذة (١).

ويصف هذه المدرسة الشيخ هاشم الخطيب بقوله : ( إنّ مدرسته المحسنية بجميع فروعها التي أسّسها على حبّ التسامح والإخاء قد أثمرت ولله الحمد ثمرتها المنتظرة ونرجو لها دوام التقدّم والازدهار بهمّة من يسيرون على نهج مؤسّسها المخلص الوفي (٢).

__________________

١ ـ لاحظ أعيان الشيعة ١٠ : ٤١١.

٢ ـ المصدر السابق : ٤١٣.

٢٤٦

قانون الطوائف في عهد الانتداب الفرنسي :

يقول السيّد الأمين : أصدر الفرنسيون قانون الطوائف بما لا يوافق مصلحة المسلمين ويخالف نصّ الشرع الإسلامي فعارض في ذلك جملة من علماء دمشق وبالغوا في المعارضة فأوقف القانون وأصدر الفرنسيون بلاغاً بأنّ وقفه يشمل السنّيين من المسلمين فقط. فقدّمت بذلك احتجاجاً للمفوضية الفرنسية باللغتين العربية والفرنسية قام الفرنسيون له وقعدوا ونشرته الصحف (١).

وهذا نصّه :

إلى فخامة المفوّض السامي في بيروت.

بواسطة المندوب العام في الجمهورية السورية.

لقد سمعتم الاحتجاجات الصاخبة التي قام بها المسلمون عموماً في مشارق الأرض ومغاربها على القرار ذي الرقم ٦٠ المسمّى بقانون الطوائف وعلى تعديله ذي الرقم١٦٤ الصادرين عن المفوّضية العليا لأنّهما مناقضان مناقضة صريحة لتعاليم دينهم وأحكام شرعيتهم التي نصّ على احترامها حتّى صك الانتداب والذي سبّب هذه الثورة الفكرية في البلاد.

ولم نكن نحن المسلمين الشيعة بأقل استنكاراً لهذا القرار الذي يسيء إلى حرمة الأديان السماوية كافة لأنّنا من أشدّ ابناء الشريعة المحمّديّة تمسّكاً بتقاليدها وحرصاً على تعاليمها ، ولذلك استغربنا أشدّ الاستغراب ما جاء في خطاب فخامتكم في الراديو من تفريقكم بين طوائف المسلمين هذا التفريق الذي ينكره المسلمون أجمع ، ونستغرب قصركم توقيف مفعول القرار على

__________________

١ ـ المصدر السابق : ٣٧٠.

٢٤٧

الطائفة السنّية وحدها واستثناؤكم بقية المسلمين من ذلك. فأنا بوصفي الرئيس الروحي للطائفة الإسلامية الشيعية في سوريا ولبنان أرجو من فخامتكم أن تحاطوا علماً باستنكار المسلمين الشيعيين عامّة لهذا القرار ولهذا التفرقة المصطنعة بين المسلمين (١) ، وكان لهذه المواقف من السيّد الأمين الأثر البالغ على معنويات المجاهدين في سوريا ولبنان وعن ذلك يقول لطفي الحفار من رجال الكتلة الوطنية في سوريا وإنّي لأذكر أنّ الفرنسيين حاولوا كثيراً استمالته إليهم بشتّى الوسائل المغرية ، وعرضوا عليه داراً فخمة يقيم بها ، وراتباً ضخماً يتقاضاه منهم ، فردّهم ردّاً عنيفاً وأعرض عنهم ولم يبال بهم وبقوّتهم ، وكان لهذا كلّه أعظم تأثير لدى الذين يتّصلون به ويعرفون مناقبه وفضائله ويستمعون إلى أحاديثه النافعة ونصائحه الغالية مع ما يتخلّلها من الأبحاث العلمية النافعة والمواضيع الدينية الثمينة فقد كنت كما يعلم الله استشعر راحة ولذّة لا تعدّ لها لذّة حينما أرى هذا الوجه النيّر والتواضع الجمّ والحديث الممتع والنصائح الغالية والأبحاث الدينية والعلمية الواسعة (٢).

ومن أقواله المشهور في هذا المجال لم نزل نتخاصم على شرعية الخليفة حتّى صار المندوب السامي الفرنسي هو خليفتنا؟!

في عهد الاستقلال :

يقول السيّد الأمين في مذكّراته : أصدرت الحكومة السورية في عهد الاستقلال قراراً في الانتخابات النيابية بأنّ للمسلمين السنّيين كذا من المقاعد في المجلس النيابي ، ولسائر الطوائف كذا ، وللأقلّيات كذا ، بموجب ذلك دخلت الشيعة في الأقليّات فقدّمت للحكومة كتاباً بأنّ الشيعة تعتبر المسلمين

__________________

١ ـ أعيان الشيعة ١٠ : ٣٧٠.

٢ ـ المصدر السابق : ٣٨٤.

٢٤٨

طائفة واحدة ولا تريد الافتراق عن إخوانها السنيين. فكان لذلك الوقع الحسن عند الوطنيين ، وقرّرت الحكومة بأنّ المسلمين طائفة واحدة لا فرق بين سنّيهم وشيعيهم ، وإنّ هذه المقاعد المعيّنة للمسلمين في جميع أنحاء الدولة السورية هي للسنّيين وللشيعيين على السواء (١).

وبهذا السلوك الحسن استطاع العلّامة الأمين أن ينفذ إلى قلوب الإخوة من أهل السنّة ويتّخذ له موقعاً خاصاً في تلك القلوب (٢).

أيّة روحية هذه التي يتصف بها هذا الرجل المصلح ، وأين أمثال هؤلاء الرجال في عصرنا؟ لقد كان يشخص الأمور بعقل لا بانفعال ، وبعقل المستقبل لا بعقل الماضي ، ويقدّر المصلحة العامة فوق كلّ شيء ، ويقدّمها على كلّ شيء.

منهجيته في الوحدة والتآلف :

ولأهمّية دوره الوحدوي رأينا من الضروري أن نورد بعضاً من منهجيّته في الوحدة والتآلف :

أولاً : أنّ الوحدة كانت هدفه الكبير وعن ذلك يقول : إنّ توحيد المسلمين هدفي منذ أربعين سنة ، منذ إقامتي في هذه الديار (٣).

وعنده إنّ أفضل عمل يجهد في سبيله ، هو السعي لتأليف القلوب ، وإزالة الأضغان بين أهل المذاهب أو تخفيفها ، إذ هي مبنية على أمور لا حقيقة لها ، وإنّما هي من تسويل شياطين الجن والإنس ، مما يمجّه العقل

__________________

١ ـ أعيان الشيعة ١٠ : ٣٧٠.

٢ ـ المصلح الإسلامي السيّد محسن الأمين ، ورقة الشيخ المهاجري : ٧٧.

٣ ـ المصدر السابق.

٢٤٩

السليم ، وينهى عنه القرآن العظيم ، والشرع الكريم (١).

ثانياً : لقد كان داعياً للوحدة بكافة السبل ، وكان جريئاً وشجاعاً في دعوته للوحدة لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولم يركن للعقبات والحساسيات والعراقيل. طوال مسيرته وحياته المباركة.

ثالثاً : لقد كان إماماً للوحدة والتآلف ليس للشيعة فحسب بل إماماً حتّى للسنّة ، وإماماً لكلّ الوطنيين في عصره.

رابعاً : لقد كان السيّد الأمين العالم الذي واجه ظروف المرحلة الحرجة والصعبة التي عاش بها بكلّ مسؤولية ، فلم تكن حركته متواضعة ضعيفة خاضعة للتحديات التي تفرضها أوضاع التعقيدات السياسية والاجتماعية القاسية ، بل كانت حركته في حجم تلك التحدّيات ، وفي مستوى تلك الظروف ، وفي الموقع الإسلامي المتحرّك الذي تفرضه مسؤوليته في مواجهة الظلم والانحراف ، ولذلك نجد في ملامح شخصيته ، ملامح العالم المصلح ، كما نجد فيها ملامح الفقيه الثائر (٢).

خامساً : لقد أرسى دعائم الوحدة على مختلف الصعد ، على الصعيد السياسي في عهد الانتداب وحكومة الاستقلال ، وعلى الصعيد الاجتماعي في داخل المجتمع وعلى الصعيد التعليمي والتربوي.

وهو الذي انقذ المجتمع والدولة من مشكلات الطائفية ومآزقها الحادّة في عهد الانتداب مع قانون الطوائف وفي عهد الاستقلال مع قانون الأقلّيّات في المجلس النيابي ، وهكذا في داخل المجتمع الأهلي.

__________________

١ ـ الإسلام بين السنّة والشيعة ١ : ١٣١.

٢ ـ المصلح الإسلامي السيّد محسن الأمين ورقة السيّد محمّد حسين فضل الله : ٨٦.

٢٥٠

الشيخ كاشف الغطاء

١٢٩٥ ـ ١٣٧٣ هـ / ١٨٧٦ ـ ١٩٥٤ م

ساهم في الحركات الجهادية في عهود السيطرة الاستعمارية في العراق ودول عربية أخرى ، وكان يستشعر الواقع الإسلامي ومشكلاته بمرارة وألم ، بين مشكلات هي نتاج الداخل الإسلامي ، ومشكلات هي نتاج الخارج ومن صنع المخطّطات الأجنبية ... والوعي بهذه الأوضاع كان يحفزه لممارسة دوره في حركة الأحداث. سافر إلى الخارج وهناك اطّلع على أوضاع العالم العربي والإسلامي وما يتعرّض له من مؤامرات ومخطّطات في الهيمنة ومسخ الشخصية الإسلامية وتغريب الهوية الحضارية ، فازداد حماساً بدوره ، وجرأة في مواقفه ، وتصميماً في منهجه النهضوي.

كان منفتحاً على عصره وثقافاته ومجتمعه ممّا جعله واعياً. بما يدور فيه وواعياً لمسؤوليته الاصلاحية. وفي عصره تساءل البعض ـ لم يتدخّل سماحة الإمام كاشف الغطاء في السياسة وهو رجل دين روحاني؟

وكان يجيب عن ذلك بقوله : أمّا التدخّل بالسياسة فإن كان المعني بها هو الوعظ والإرشاد والنهي عن الفساد ، والنصيحة للحاكمين بل لعامة العباد ، والتحذير من الوقوع في حبائل الاستعمار والاستبعاد ، ووضع القيود والأغلال على البلاد وأبناء البلاد ، إن كانت السياسة هي هذه الأمور فأنا غارق فيها إلى

٢٥١

هامتي وهي من واجباتي وأراني مسؤولاً عنها أمام الله والوجدان (١).

وحينما تحدّث عن الجهاد قال : لو أردنا أن نطلق عنان البيان للقلم في تصوير ما كان عليه الجهاد بالأمس عند المسلمين ، وما صار اليوم لتفجّرت العيون دماً ، ولتمزّقت القلوب أسفاً وندماً ، ولتسابقت العبرات والعبارات ، والكلوم والكلمات ولكن! أتراك فطنت لما حبس قلمي ، ولوى عناني ، وأجّج لوعتي ، وأهاج أحزاني ، وسلبني حتّى حريّة القول ، ونفثة المصدور (٢).

وقد كشف كتابه المثل العليا في الإسلام عن غيرته على الإسلام والبلاد الإسلامية ، فقد كان الكتاب خطاباً ملهماً بعث روحاً في الأُمّة ووصفه البعض : إنّ تأليف مثل هذا الكتاب من قبل العلّامة كاشف الغطاء ليبعث الأمل إلى النفوس بأنّ الكرامة الوطنية لها ركائز باقية فوق تربة الوطن ، وإنّ روح جمال الدين الأفغاني لم ينمحي أثرها من عقول بعض رجال الدين ، وإنّ الوطنية يمكن بعثها شاملة ما دام أمثال العلّامة كاشف الغطاء يمسك بمشعلها ليحرق به الاستعمار (٣).

لقد قابل جمهور الشعب في البلاد العربية والإسلامية ، والزعماء المخلصون الكتاب بارتياح عظيم ، واعتبره الناس معبّراً عن شعورهم ، وآلامهم ، وممثّلاً لآرائهم ومصالحهم (٤) ، وقد نفد الكتاب خلال بضعة أيام من صدوره.

__________________

١ ـ المثل العليا في الإسلام : ٨١.

٢ ـ أصل الشيعة وأصولها : ٣٤٩.

٣ ـ المثل العليا في الإسلام : ٨٧.

٤ ـ المصدر السابق : ٨٤.

٢٥٢

وعن مشروعه في الوحدة والتقريب فقد كان من الفاعلين في دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة ، وقد أعطى زخماً كبيراً لمشروعات الوحدة الإسلامية ، وروحياً وفكرياً وعملياً. وكانت الوحدة في تفكيره مصلحة عليا لا يجوز التفريط فيها أو التهاون بها والتغافل عنها ، فكان يقدّمها كأولوية أساسية في منهجيته الحركية.

منهجيته في الوحدة :

إنّ تأمّلات الشيخ كاشف الغطاء في مجموعها تشكّل منهجاً علمياً في كيفية فهم الوحدة والتقريب ، والمنهج السليم في التعامل مع الاختلاف ومن مكوّنات ومعالم هذه المنهجية :

١ ـ أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلامية إزالة أصل الخلاف بينها ، بل أقصى المراد وجلّ الغرض هو إزالة أن يكون هذا الخلاف سبباً للعداء والبغضاء ، الغرض تبديل التباعد والتضارب بالإخاء والتقارب (١).

ومهمّا تعمقنا في البحث ومشيّنا على ضوء الأدلّة عقليّة أو شرعيّة ، وتجردنا من الهوى والهوس والعصبيات ، فلا نجد أيّ سبب مبرر للعداء والتضارب بين طوائف المسلمين مهما اتّسعت شقة الخلاف بينهم في كثير من المسائل (٢).

٢ ـ ضرورة الرجوع إلى المصادر العلمية الأصلية لأي مذهب أو فكرة إذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة في هذا المذهب أو هذه الفكرة.

__________________

١ ـ دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية : ٦٧.

٢ ـ المصدر السابق : ٦٩.

٢٥٣

وما زال أهل العلم والنظر والدراسات الصحيحة يعنون أكبر العناية بالمصادر التي يعتمدون عليها في بحوثهم ، ويستندون إليها في أحكامهم ، ومن المعهود أنّ رجال الفرق ، وأهل العصبيّة للمذاهب ينقلون عن مخالفيهم آراء قد لا يعرفها هؤلاء المخالفون ، وقد يعرفونها على صورة أخرى تختلف اختلافاً قريباً أو بعيداً عن الصورة المنقولة.

لذلك كان شيوخ العلم ، وحذّاق النقد يوصون تلاميذهم بأن يعنوا بمصادرهم ، وألّا يقلّدوا في بحوثهم وأفكارهم تقليداً أعمى ، فيقعوا في الخطأ ، ويضلّوا عن سواء السبيل (١).

لذلك إنّ التثبّت واجب قبل الحكم وقد أمرنا الله به لئلا نصيب قوماً بجهالة فنصبح على ما فعلنا نادمين (٢).

٣ ـ إنّ الوحدة الحقّة والإخاء الصحيح الذي جاء به الإسلام ، بل جاء بالإسلام وتمشّت عليه وضعية الأُمم الراقية وبلغت أوج العزّ والقوّة أن يرى كلّ فرد من الأُمّة أنّ المصلحة النوعية هي عين المصلحة الفردية ، بل هي فوقها ، وهذه الصفة خفيفة في اللسان ، ثقيلة في الميزان (٣).

٤ ـ كفى بالقرآن جامعاً مهما بلغ الخلاف بين المذاهب ، فإن رابطة القرآن تجمعهم في كثير من الأصول والفروع ، تجمعهم في أشد الروابط من التوحيد والنبوّة والقبلة وأمثالها من الأركان والدعائم ، واختلاف الرأي فيما

__________________

١ ـ المصدر السابق : ٧٢.

٢ ـ دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية : ٧٥ ، إشارة لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) الحجرات ( ٤٩ ) : ٦.

٣ ـ المثل العليا في الإسلام : ١١٩.

٢٥٤

يستنبط أو يفهم من القرآن في بعض النواحي ، اختلاف اجتهادي لا يوجب التباغض والتعادي. والقرآن صريح في لزوم الاتفاق والإخاء والنهي عن التفرق والعداء ، قد جعل المسلمين إخوة فقال عز شأنه : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) (١).

٥ ـ لا نزال نحن معاشر المسلمين بالنظر العام نتعلّق بحبال الآمال ، ونكتفي بالأقوال عن الأعمال ، وندور على دوائر الظواهر والمظاهر ، دون الحقائق والجواهر ، ندور على القشور ولا نعرف كيف نصل إلى اللبّ على العكس ممّا كان عليه أسلافنا ، أهل الجدّ والنشاط. أهل الصدق في العمل قبل القول ، وفي العزائم قبل الحديث. نحن نحسب أنّنا إذا قلنا قد اتحدنا واتفقنا وملأنا بتلك الكلمات لهواتنا واشداقنا ، وشحنّا بها صحفنا وأوراقنا نحسب بهذا ومثله يحصل الغرض المهم من الاتحاد ، ونكون كأُمّة من الأُمم الحيّة التي نالت بوحدتها عزّها وشرفها ، وأخذت المستوى الذي يحقّ لها.

ولذلك تجدنا لا نزداد إلّا هبوطاً ، ولا تنال مساعينا إلّا إخفاقاً وإحباطاً. يستحيل لو بقي المسلمون على هذا الحال أن تقوم لهم قائمة ، أو تجتمع لهم كلمة ، أو تثبت لهم في المجتمع البشري دعامة ، ولو ملئوا الصحف والطوامير ، وشحنوا أرجاء الأرض وآفاق السماء بألفاظ الاتحاد والوحدة ، وكلّ ما يشتق منها ويراد منها.

كلّ ذلك لا يجدي إذا لم يندفعوا إلى العمل الجدّي والحركة الجوهرية (٢).

__________________

١ ـ المصدر السابق : ٦٧ ، الحجرات (٤٩) : ١٠.

٢ ـ المثل العليا في الإسلام : ١١٣.

٢٥٥

أخلاقيات الوحدة :

٦ ـ أن يجد كلّ مسلم أنّ مصلحة أخيه المسلم هي مصلحة نفسه ، فيسعى لها كما يسعى لمصالح ذاته ، ذلك حيث ينزع الغلّ من صدره والحقد من قلبه وينظر كلّ من المسلمين إلى الآخر ـ مهما كان ـ نظر الإخاء لا نظر العداء وبعين الرضا لا بعين السخط ، وبلحاظ الرحمة لا الغضب والنقمة.

ذلك حيث يحسّ بوجدانه ، ويجد بضرورة حسّه ، أنّ عزّه بعزّ إخوانه وقوّته بقوّة أعوانه ، وأنّ كلّ واحد منهم عون للآخر ، فهل يتقاعس عن تقوية عونه وتعزيز عزّه وصونه!

ثمّ إذا كان التخلّق بهذا الخلق الشريف عسيراً لا ينال ، وشأواً متعالياً لا يدرك ، ولا يستطيع المسلم أن يواسي أخاه المسلم وأن يحبّ لأخيه المسلم ما يحبّ لنفسه ، وأن يجد أنّ صلاحه بصلاح أُمّته ، وعزّه بعزّة قومه فلا أقلّ من التناصف والتعادل والمشاطرة والتوازن ، فلا يجحد المسلم لأخيه حقّاً ، ولا يبخسه كيلا ولا يطفّف له وزناً. والأصل والملاك في كلّ ذلك اقتلاع رذيلة الحرص والجشع والغلبة والاستئثار والحسد والتنافس ، فإنّ هذه الرذائل سلسلة شقاء ، وحلقات بلاء يتصل بعضها ببعض ، ويجرّ بعضها إلى بعض ، حتّى تنتهي إلى هلاك الأُمّة (١).

٧ ـ إذا نظرنا إلى ما جرّه هذا الخلاف والعداء من الويلات والبليات على المسلمين ، وما ضاع على أثره من الممالك الإسلامية الكبرى كالأندلس ، والقوقاز ، وبخارى ، ونحوها ، ولو أنّ المسلمين كانوا في تلك الظروف يداً واحدة كما أمرهم الله لما انتزع من الإسلام شبراً واحداً ، وإذا لم يكفنا عبرة ما

__________________

١ ـ المثل العليا في الإسلام : ١٣٣ ـ ١١٤.

٢٥٦

سجّله التاريخ من تلك الفجائع فليكفنا ما رأيناه بأعيننا من رزية المسلمين بفلسطين وهو الفردوس الثاني (١).

إنّ داء المسلمين تفرّقهم وتضارب بعضهم ببعض ، ودواءهم الذي لا يصلح آخرهم إلّا به كما لا يصلح إلّا عليه ، ألا وهو الاتّفاق والوحدة (٢).

وقد عرف اليوم حتّى الأبكم والأصمّ من المسلمين أنّ لكلّ قطر من الأقطار الإسلامية حوتاً من حيتان الغرب ، وأفعى من أفاعي الاستعمار فاغراً فاه لالتهام ذلك القطر وما فيه ، أفلا يكفي هذا جامعاً للمسلمين ومؤجّجاً لنار الغيرة والحماس في عزائمهم ، أفلا تكون شدّة تلك الآلام وآلام تلك الشدّة باعثة لهم على الاتحاد (٣).

٨ ـ ضرورة عقد المؤتمرات في كلّ عام أو عامين يجتمع فيها عقلاء المسلمين وعلماؤهم من الأقطار النائية ليتعارفوا أوّلاً ، ويتداولوا في شؤون الإسلام ثانياً ، بل وأوجب من هذا عقد المؤتمرات والمعاهدات بين حكّام المسلمين ، فيكونوا يداً واحدة بل كيدين لجسد واحد يدفعان عنه الأخطار المحدقة به من كلّ جانب (٤).

نصف قرن من الدعوة إلى الوحدة :

يقول الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء : مضى عليّ أكثر من خمسين سنة وأنا أهيب بإخواني المسلمين أدعوهم إلى الاتفاق والوحدة

__________________

١ ـ دعوة التقريب بين المذاهب الإسلامية : ٦٩.

٢ ـ المثل العليا في الإسلام : ١١١.

٣ ـ المصدر السابق : ١١٦.

٤ ـ المصدر السابق : ١١٩.

٢٥٧

وجمع الكلمة ونبذ ما يثير الحفائظ وينبش الدفائن والضغائن التي أضرّت بالإسلام وفرّقت كلمة المسلمين فأصبح الإسلام غريباً يستنجد بهم ، تكالب عليه أعداؤه وجاحدوه وخذله أهله وحاملوه.

ومن أراد شاهد صدق على ذلك فليراجع الجزء الأول من الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية الذي طبع منذ٤٤ سنة ولينظر أوّل صفحة منه إلى صفحة ٢٧ تحت عنوان البواعث والدواعي لهذه الدعوة. ثمّ يشفع هذه النظرة بآخرين في أوّل الجزء الثاني منه فيرى المقطوعة التي يقول أولها :

بني آدم إنّا جميعاً بنو أب

لحفظ التآخي بيننا وبنو أم

ومنها يقول :

بني آدم رحماكم في قبيلكم

بفقد جزتم بري العظام إلى الهشم

حناناً على هذي النفوس فإنّها

سماوية من رشح ذيالك اليم

هلمّوا نعيش بالسلم عصراً

فإنّنا قضينا عصوراً بالتضارب والدمِ

إليكم بني الأديان منّي دعوة

دعوتكم فيها إلى الشرف الجمِّ

إلى السلم فيكم والتساهل بينكم

فيا حبّذا شرع التساهل والسلمِ

ولم تزل نشراتي ومؤلّفاتي في أكثر من نصف قرن سلسلة متوالية الحلقات متصلة غير منقطعة كلّها في النصح والإرشاد والدعوة إلى الاتحاد ودفع الفساد ، وقد طبع أصل الشيعة تسع مرات في كلّ واحدة مقدّمة طويلة في الحثّ والبعث إلى الوعي واليقظة ، وإنّ البلاء على الإسلام قد أحاط بالمسلمين منهم ، ومن الملحدين ومن المشركين. وفي خلال هذه البرهة تحمّلت الأسفار وركبت متون الأخطار في البرّ والبحر والهواء ، وأنا في

٢٥٨

المرحلة الأخيرة ومن الحياة المنهوكة بالعلل والأسقام والتي هي تحت أجنحة الحمام ، كلّ ذلك في سبيل الدعوة إلى الخير والحقّ ، وخدمة الإسلام خالصاً لوجهه الكريم لا نريد مالاً ولا جاهاً ولا جزاءً ولا شكوراً (١).

وقد قال عنه أحمد زكي ( لله دره فيما جادت به قريحته الوقادة وغيرته الصادقة على العلم وعلى إحقاق الحق ) (٢).

وقال عنه أمير البيان شكيب أرسلان ( ان تأليفكم ضرورة لأهل الإسلام في هذا العصر ، ومنها يعرف ما اتفق فيه أهل السنّة والشيعة وما اختلفوا فيه. ثمّ إنكم باجتهاداتكم تقربون بين الفريقين وتضيقون فرجة الخلف ما أمكن ، وإذا حاججتم فعن باع طويل ، وبرهان ودليل ) (٣).

لقد كان صحوة في الوحدة الإسلامية ويقظة في روحها وبعثاً في حركتها ونهضة في وعيها.

__________________

١ ـ المثل العليا في الإسلام : ٦٧ ـ ٦٨.

٢ ـ أصل الشيعة وأصولها : ٣٥.

٣ ـ المصدر السابق : ٥١.

٢٥٩

السيّد عبد الحسين شرف الدين

١٢٩٠ ـ ١٣٧٣ هـ / ١٨٧٦ ـ ١٩٥٤ م

من رجالات النهضة الإسلامية الحديثة ولا زال حضوره نابضاً في أدبيات الحوار الإسلامي. كان وعيه مبكّراً بحال المسلمين وحاجتهم إلى الوحدة ولسان حاله يقول : كانت تلتمع في صدري منذ شرخ الشباب ، التماع البرق في طيّات السحاب ، وتغلي في دمي غليان الغيرة ، تتطلّع إلى سبيل سوي يوقف المسلمين على حدّ يقطع دابر الشعب بينهم ، ويكشف هذه الغشاوة عن أبصارهم ، لينظروا إلى الحياة من ناحيتها الجدّية ، راجعين إلى الأصل الديني المفروض عليهم ، ثم يسيروا معتصمين بحبل الله جميعاً تحت لواء الحقّ إلى العلم والعمل ، إخوة بررة يشدّ بعضهم أزر بعض ، لكن مشهد هؤلاء الإخوة المتصلين بمبدأ واحد ، وعقيدة واحدة كان ـ وا أسفاه ـ مشهد خصومة عنيفة ، تغلو في الجدال ، غلو الجهّال ، حتى كأن التجالد في مناهج البحث العلمي من آداب المناظرة أو أنّه من قواطع الأدلّة! ذلك ما يثير الحفيظة ، ويدعو إلى التفكير ، وذلك ما يبعث الهمّ والغمّ والأسف. فما الحيلة؟ وكيف العمل؟ هذه ظروف ملمّة في مئين من السنين ، وهذه مصائب محدقة بنا من الأمام والوراء ، وعن الشمال وعن اليمين ، وذاك قلم يلتوي به العقم أحيانا ، وتجور به الأطماع أحياناً أخرى ، وتدور به الحزبية تارة ، وتسخّره العاطفة تارة

٢٦٠