المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

عبد القادر الإدريسي السوداني

المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

المؤلف:

عبد القادر الإدريسي السوداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-86-7
الصفحات: ٣٥٤

إلى جواز نكاح التسع ، فإن اثنين وثلاثة وأربعة ، تسعة ، لما ذكرناه ، فإنّ من قال دخل القوم البلد مثنى ، وثلاث ، ورباع ، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول ، ولأنّ لهذا العدد لفظاً موضوعاً ، وهو تسع ، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي ، جلّ كلامه عن ذلك وتقدّس (١).

وإلى أواخر التفاسير الشيعية حيث جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي ما يلي : ولابدّ من التنبيه إلى أنّ ( الواو ) هنا أتت بمعنى ( أو ) فليس معنى هذه الجملة هو أنّه يجوز لكم أن تتزوّجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات ، لأنّ المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول : وانكحوا تسعاً ، لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطّعة المبهمة.

هذا مضافاً إلى أنّ حرمة الزواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإسلامي ، وأحكامه القطعية المسلّمة (٢).

ومصادر الفقه الشيعية أيضاً كلّها تنصّ على ذلك ، فمن أين أتى الدكتور الزحيلي بهذه النسبة للشيعة؟ فهو لم ينسبها إلى مصدر محدّد ، ولم يقل إنّ عالماً معيّناً من الإمامية يقول بذلك ، بل نسبها للإمامية بأجمعهم ، وأرسل النسبة إرسال المسلمات ، وحينما راجعنا ثبت المصادر التي اعتمدها للفقه الشيعي والمذكورة في المجلد الأخير ، وجدنا أنها أربعة مصادر هي الكافي للكليني ، وهو كتاب حديث لا فقه ، والمختصر النافع في فقه الإمامية والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ومفتاح الكرامة للحسيني العاملي ، وبالرجوع إلى

__________________

١ ـ مجمع البيان ٣ : ١٥.

٢ ـ الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ٣ : ٩١.

٢٢١

هذه المصادر الأربعة تبيّن عدم وجود ما يدل على تلك النسبة إلى الشيعة فيها؟!

معطيات الحوار مع الآخر :

(١) ـ بالحوار يتأكّد الإنسان ويتحقّق من صحّة رأيه وموقفه ، فقد تسيطر على ذهنه فكرة ، أو يبدو له رأي يرتاح له ، غير ملتفت إلى ثغرات تلك الفكرة ، أو نقاط ضعف ذلك الرأي. ولكنّه حينما يواجه الرأي الآخر ، والطرف الآخر ، بما لديه من نقد وملاحظة واعتراض على رأيه ، وبما يقدّمه من رأي بديل ، له أدلّته وحججه ، فيكون ذلك مدعاةً له للتفكير والتحقّق ، ما يؤدّي إلى تعميق رأيه ، وازدياد ثقته في موقفه ، أو إلى تراجعه عنه إن اكتشف خطأه.

يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ (١).

(٢) ـ وبالحوار يقدّم الإنسان نفسه ورأيه للآخرين ، فيتعرّفون على حقيقة موقفه ، ويطلعون على منطلقاته ومبرّراته ، فتكون صورته واضحة أمام الآخرين ، وتزول الالتباسات والشكوك. يقول الإمام علي عليه السلام : تكلّموا تعرفوا فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه (٢).

وفي المقابل تتاح للإنسان ، عبر الحوار ، فرصة التعرّف على الآخرين وآرائهم ، فيكون انطباعه وتقويمه للرأي الآخر أكثر واقعية وصدقاً.

(٣) ـ والحوار هو الصحيح والأمثل للتبشير بالرأي والموقف الذي يؤمن به الإنسان ، ذلك لأنّ الرأي لا يفرض بالقوة ، وإنّما بالاقناع ، والذي لا يتحقّق

__________________

١ ـ نهج البلاغة ٤ : ٤٢ ، قصار الحكم ١٧٣.

٢ ـ المصدر السابق : ٩٣ ، قصار الحكم ٣٩٢.

٢٢٢

بشكل عميق إلّا بالحوار.

لذا كان الحوار هو منطق الأنبياء والرسل والأئمّة والمصلحين ، حيث كانوا يعرضون رسالات الله ، ويبلّغون أحكامه للناس ، مع إتاحة الفرصة للنقاش والأخذ والردّ ، لكي يندفع الآخر بقناعة وإخلاص لتقبل دين الله وأمره.

يقول تعالى : (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١).

الموضوعية وترك التعصّب :

حينما يبذل كلّ مجتهد جهده لاستنباط الحكم الشرعي ، وتختلف النتائج التي يصل إليها المجتهدون ، وتتعدّد آراؤهم في المسألة الواحدة إلى حدّ التضاد ، حيث يرى البعض إباحة شيء ، بينما يرى آخرون وجوبه ، بل قد يكون الأمر دائراً بين الوجوب أو الحرمة ، فهنا ، أين هو حكم الله الواقعي في المسألة؟

لقد بحث العلماء إلى القول بالتصويب ، وأطلق عليهم المصوّبة ، حيث يرون أنّ نتيجة أي اجتهاد هي نتيجة صائبة ، وأنّ حكم الله تعالى في المسألة الاجتهادية ، هو ما اهتدى إليه المجتهد باجتهاده ، وليس لله فيها حكم معينّ من قبل ، فكلّ ما يصل إليه اجتهاده فهو الصواب ، وبهذا ينتهون إلى تصويب كلّ مجتهد ؛ أو أنّ لله حكماً معيناً إلّا أنّه لم يكلّف بإصابته ، ويكون ما ينتهي إليه منه مصيباً فيه وإن أخطأ (٢).

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ١٢٥.

٢ ـ الاجتهاد أصوله وأحكامه ٢٠٢.

٢٢٣

وعمّم بعضهم ذلك ، حتّى شمل به القضايا العقلية العقيديّة ، حيث ذهب إلى أنّ الحق ، حتّى في العقائد ، غير متعيّن ، وأنّه يتعدّد ، وهو ما يصل إليه كلّ مجتهد باجتهاده ، فيكون كلّ مجتهد حتّى في العقليات والعقائد مصيباً (١).

لكن رأي أغلب علماء الأُمّة بمختلف مذاهبها ، هو القول بالتخطئة ، ومفاده أنّ لله تعالى أحكاماً معيّنة في كلّ مسألة اجتهادية ، فمن هداه اجتهاده إلى ذلك الحكم فقد أصاب ، وإلّا فهو مخطئ ، وهو معذور ومأجور في الحالين.

وبناء على ذلك ، فإنّه حين تتعدّد آراء المجتهدين في مسألة ما ، فهناك احتمالان لا ثالث لهما :

الاحتمال الأول : أنّ جميع تلك الآراء خاطئة ، لا يعبّر شيء منها عن الحكم الشرعي.

الاحتمال الثاني : أنّ رأياً واحداً فقط من بين تلك الآراء قد أصاب الحكم الشرعي وما عداه فهو خاطئ.

وإذا كان اختلاف الفتاوى وتعدّد الآراء أمراً طبيعياً له مبرّراته وأسبابه ، إلّا أنّه قد يمكن التقليل من ذلك ، وتقريب وجهات النظر ، والاتفاق على قسم لا بأس به من القضايا الدينية ، والمسائل الشرعية ، عندما تسود الأجواء العلمية وأوساط العلماء أخلاقيات وضوابط الاختلاف.

وفي طليعة تلك الأخلاقيات والضوابط ، الموضوعية في البحث ، والتجرّد والإخلاص للحقيقة ، وترك التعصّب.

إنّ من أسوأ الآفات والأمراض التي تضرّ بالدين والعلم ، وتفتك بالعلماء ،

__________________

١ ـ المصدر السابق : ٢٠١.

٢٢٤

هو مرض التعصّب للرأي ، بأن يتشبّث الإنسان برأيه ، ويتمسّك بموقفه ، وكأنّه يمثّل وجوده وشخصيته واعتباره.

فهو غير مستعدّ للمناقشة والحوار ، وإذا ما ناقش ، فمع التصميم على عدم التنازل عن رأيه ، وإن اتّضح له مخالفته للحقّ ، ويتمحّل التبريرات ، ويفتعل الأدلّة ، للدفاع عن رأيه ، ويكابر ويعاند حتّى مع تجلي الحقيقة له.

وهذه الصفة السيئة تتنافى مع حقيقة العبودية لله تعالى ، حيث يصف الله عباده بقوله (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) (١).

جاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : عن أبي الربيع قال : قلت : ما أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان؟ قال : الرأي يراه مخالفاً للحق فيقيم عليه (٢).

وقد يتعصّب الإنسان لمذهبه ، ويدافع عنه دفاع المستميت مع معرفته بخطأ ذلك.

ومع تشكل الحركات والأحزاب ، في الساحة الإسلامية ، أصبح لدينا لون جديد من التعصّب ، هو التعصّب الفئوي الحزبي ، حيث يتقيّد المنتمي بآراء ومواقف فئته وجماعته ، وإن كان مخالفاً للشرع أو للمصلحة العامة.

عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : من تعصّب عصّبه الله بعصابة من نار (٣).

__________________

١ ـ الزمر (٣٩) : ١٧ ـ ١٨.

٢ ـ معاني الأخبار : ٣٩٣ ، الحديث٤٢ ، باب نوادر المعاني.

٣ ـ الكافي ٢ : ٣٠٨ ، الحديث٤ ، باب العصبيّة.

٢٢٥

الاختلاف في القضايا الثانوية :

ليس أمام فكر الإنسان حدود ، بل يعمل ضمن مساحة واسعة ، سعة امتداد الكون والحياة ، كما أنّ كلّ قضية يمكن أن تكون موضوعاً للرأي الديني ، والحكم الشرعي ، ضمن دائرة الوجوب ، أو الحرمة أو الإباحة ، بتقسيماتها المعروفة.

من هنا كانت أرجاء الفكر الإسلامي ، والتشريع الإسلامي ، رحبة واسعة ، تبدأ بما فوق الطبيعة ، وما هو خارج الإدراك الحسّي المادّي للإنسان ، وتشمل كلّ قضايا الوجود والحياة ، وتمتدّ لآفاق المستقبل ، ولما بعد الحياة.

فمثلاً ، في مجال التشريع الإسلامي يصل عدد المسائل الشرعية التي يناقشها الفقهاء إلى ما يزيد على نصف مليون مسألة (١).

وذلك راجع بالطبع إلى تفريعات المسائل وتفاصيلها.

وهناك قصة نقلها الرواة ، في حياة الإمام محمّد الجواد بن علي الرضا عليهما السلام تصلح شاهداً على كثرة التفريعات في المسائل الشرعية.

ففي مجلس عقده المأمون ، سابع الخلفاء العباسيين ، لامتحان المستوى العلمي للإمام محمّد الجواد عليه السلام ، والذي كان صغير السن آنذاك ، وأحضر في مقابله قاضي القضاة يحيى بن أكثم فطرح على الإمام الجواد المسألة التالية :

ما تقول أصلحك الله في محرم قتل صيداً؟

وقبل الإجابة ردّ الإمام عليه السؤال لعرض تفريعات المسألة وتفصيلاتها قائلاً :

__________________

١ ـ شهر رمضان شهر البناء والتقدّم : ٣٣.

٢٢٦

قتله في حل أو حرم؟

عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟

قتله عمداً أو خطأ؟

حرّاً كان المحرم أو عبداً؟

صغيراً كان أم كبيراً؟

مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟

من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟

من صغار الصيد كان أم من كبارها؟

مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟

في الليل كان قتله للصيد في أوكارها أم نهاراً وعياناً؟

محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟

ثمّ شرع الإمام في تبين الحكم الشرعي لكلّ تفريع من تلك التفريعات (١).

ومع كثرة المسائل الشرعية التي يبحثها الفقهاء ، ويعملون فيها نظرهم ، فإنّ فرص الاختلاف تزداد في أحكام تلك المسائل.

وكذلك الحال في المجال الفكري العقيدي ، فكلّما طرأت تساؤلات ، واستجدّت أفكار ، وحصلت تطوّرات معرفية ، اتسع ميدان البحث الفكري ، فيتسع معه مجال الاختلاف.

ولأنّ أحداث العهود الإسلامية الأولى تعتبر مصدراً مؤثّراً في الفكر والتشريع الإسلاميين ، فقد اهتمّ العلماء بالبحوث التاريخية ، وهنا تختلف الآراء

__________________

١ ـ لاحظ الإرشاد ٢ : ٢٨٣ والاختصاص : ٩٩ والاحتجاج ٢ : ٢٤٢.

٢٢٧

في تقويم الروايات والنقولات ، ما فتح أبواب الاختلاف في قضايا التاريخ على مصراعيها.

وإذا كان الاختلاف طبيعياً ومشروعاً في كلّ تلك الأبعاد الفكرية والتشريعية والتاريخية وسائر مجالات المعرفة.

فإنّ من غير الطبيعي تركيز الاهتمام على الاختلاف في المسائل الثانوية ، والقضايا الجانبية ، على حساب ما هو أهمّ من قضايا الدين ، ومصلحة الأُمّة ، حيث نلاحظ نشوب كثير من معارك الخلاف على مسائل ليست ذات أولوية ، ينشغل بها الوسط العلمي الديني ، وتنقسم على أساسها المجتمعات ، بين مؤيدّ لهذا الرأي أو ذاك.

وبذلك تتزيّف الاهتمامات ، وتضيع الأولويات.

ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه أن يخوضوا في أبحاث جدلية كلامية ، تشغلهم عن مهمّة تركيز الإسلام ، وحماية الدعوة ، التي كانت تواجه مؤامرات المشركين واليهود آنذاك ، كما جاء في سنن ابن ماجة : عن عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ، وهم يختصمون في القدر ، فكأنّما يفقأ في وجهه حبّ الرّمان من الغضب ، فقال : بهذا أمرتم؟! أو لهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأُمم من قبلكم (١).

ومرّة سأل أبو أحمد الخراساني الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق عليه السلام : قال له : الكفر أقدم أم الشرك؟ فردّه الإمام ، قائلاً : مالك ولهذا (٢)؟

__________________

١ ـ سنن ابن ماجة ١ : ٣٣ ، الحديث٨٥.

٢ ـ تحف العقول : ٤١٢.

٢٢٨

ولا تزال الساحة الإسلامية تعاني من مثل هذه الخلافات والمعارك المفتعلة ، حول قضايا جانبية ، تشغل بال الأُمّة عن التحدّيات الخطيرة التي تواجهها ، وهموم الواقع المعاش.

التزام الآداب واحترام الحقوق :

هناك حقوق أقرّها الإسلام فيما بين الناس ، لتنتظم بها علاقاتهم الاجتماعية ، وليشعروا بإنسانيتهم ، وليعيشوا الكرامة والاحترام فيما بينهم.

وهناك آداب سنهّا الدين ، في التعامل الاجتماعي ، تتعمّق بالمحافظة عليها مشاعر المودّة والحبّ ، ويزداد التماسك والتآلف ، وينال بها كلّ فرد ما يستحقه من الاحترام والتقدير.

هذه الحقوق الاجتماعية ثابتة للإنسان بما هو إنسان ، ولعضويته في المجتمع المسلم ، وبغض النظر عن أفكاره وآرائه المختلفة ، ما دام محافظاً على حقوق الآخرين ، وملتزماً باحترام هوية المجتمع واختياراته.

وتشير بعض النصوص الدينية بصراحة إلى ثبوت هذه الحقوق ، وإلى الالتزام بالآداب والأخلاق الإنسانية الإسلامية ، حتّى مع اختلاف الدين والمذهب والرأي والتوجه.

(١) ـ ففي مجال حقوق الأرحام ، تؤكّد النصوص الدينية على المحافظة عليها ، حتّى مع اختلاف الدين أو المذهب ، فالوالدان لابدّ من احترامهما وبرّهما ، وإن كانا مشركين ، بل وإن كانا يضغطان على الولد المؤمن ليترك إيمانه ، فعليه التمسّك بإيمانه ، وعدم الاستجابة لضغوطهما ، لكن مع حسن الأدب والتعامل مع والديه ، يقول تعالى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي

٢٢٩

الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (١).

جاء في تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور : إن الأمر بمعاشرتهما بالمعروف ، شامل لحالة كون الأبوين مشركين ، فإن على الابن معاشرتهما بالمعروف ، كالإحسان إليهما وصلتهما ، وفي الحديث : إن أسماء بنت أبي بكر قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أمّي جاءت راغبة فأصلها؟ فقال : نعم صلي أمّك ، وكانت مشركة ، ( وهي قتيلة بنت عبد العزى ). وشمل المعروف ما هو معروف لهما أن يفعلاه في أنفسهما ، وإن كان منكراً للمسلم ، فلذلك قال فقهاؤنا : إذا أنفق الولد على أبويه الكافرين الفقيرين ، وكان عادتهما شرب الخمر اشترى لهما الخمر ، لأن شرب الخمر ليس بمنكر للكافر ، فإن كان الفعل منكراً في الدينين فلا يحل للمسلم أن يشايع أحد أبويه عليه (٢).

وسأل الجهم بن حميد الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : قلت لأبي عبد الله : تكون لي القرابة على غير أمري ، ألهم علي حق؟ قال : نعم ، حقّ الرحم لا يقطعه شيء ، وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان : حق الرحم وحق الإسلام (٣).

وفي رواية أخرى عن معمر بن خالد قال : قلت لأبي الحسن علي الرضا عليه السلام أدعو لوالدي إذا كانا لا يعرفان الحقّ؟ قال : ادع لهما وتصدق عنهما ، وإن كانا حيين لا يعرفان فدارهما ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله بعثني بالرحمة لا بالعقوق (٤).

__________________

١ ـ لقمان (٣١) : ١٤ ـ ١٥.

٢ ـ تفسير التحرير والتنوير ٢١ : ١٦١.

٣ ـ الكافي ٢ : ١٥٧ الحديث٣٠ ، باب صلة الرحم.

٤ ـ الكافي ٢ : ١٥٩ الحديث٨ ، باب البر بالوالدين.

٢٣٠

(٢) ـ والذين يجاورون الإنسان ، ويعيشون معه في منطقة واحدة ، لهم عليه حقّ الجوار ، وقد اهتم الإسلام بالتأكيد على حق الجار ، دون أن يشترط في ثبوت ذلك الحقّ التوافق الديني أو الفكري ، بل هو حقّ مطلق ثابت لكلّ جار.

ولرفع هذه الشبهة جاءت النصوص الدينية مؤكّدة مراعاة هذا الحقّ ، وإن اختلف معك جارك في العقيدة أو التوجيه.

يقول تعالى : (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (١) ، حيث ذكر المفسّرون أن من معاني ( وَالْجَارِ الْجُنُبِ ) : أن الجار ذي القربى منك بالإسلام ، والجار الجنب : المشرك البعيد في الدين ، واستدلوا بما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : الجيران الثلاثة : جار له ثلاثة حقوق : حق الجوار ، وحق القرابة ، وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق الجوار ، وحق الإسلام ، وجار له حق الجوار : المشرك من أهل الكتاب (٢).

وأغلب النصوص الواردة في حقوق الجار ، تتحدّث بلغة مطلقة ، لتشمل كلّ من انطبق عليه عنوان الجوار ، بغض النظر عن أي صفات أخرى.

كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمناً (٣).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره (٤).

__________________

١ ـ النساء (٤) : ٣٦.

٢ ـ مجمع البيان ٣ : ٨٣.

٣ ـ الأمالي للشيخ الصدوق : ٢٦٩ ، الحديث١٦ المجلس٣٦.

٤ ـ الكافي ٢ : ٦٦٧ ، الحديث٦ ، باب حق الجوار.

٢٣١

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ما آمن بي من بات شبعان وجاره طاوياً ، ما آمن بي من بات كاسياً وجاره عارياً (١).

(٣) ـ وقد ضرب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أروع الأمثلة في حفظ حقوق الطرف الآخر وإن كان مخالفاً في الرأي والمواقف.

ففي أثناء خلافته ، وحينما انشق عليه الخوارج ، واتّهموه في دينه وكفروه ، فإنّه واجههم في حدود ردعهم عن التخريب ، وممارسة الإرهاب ، والتزم بمعاملتهم كسائر المواطنين ، وإعطائهم حقوقهم الكاملة.

وكان علي عليه السلام يقول : إنّا لا نمنعهم الفيء ، ولا نحول بينهم وبين دخول مساجد الله ، ولا نهيجهم ما لم يسفكوا دماً ، وما لم ينالوا محرّماً (٢).

وبذلك ضمن لهم رواتبهم ، ونصيبهم من الغنائم والصدقات ، وأعطاهم حق إبداء الرأي ، وفسح لهم مجال التواجد في الأماكن العامة.

ولم يتعدّ الإمام على حقوق أحد من معارضيه والمخالفين له ، بل حفظ لهم حتّى حقوقهم المعنوية ، حيث لم يقبل بأن يوصفون بالشرك أو النفاق.

فعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، عن أبيه الإمام محمّد الباقر عليهما السلام : أنّ علياً عليه السلام لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ، ولكنّه كان يقول : هم إخواننا بغوا علينا (٣).

من كلّ ما سبق يتبيّن لنا كيف أنّ الإسلام يوجّهنا إلى احترام بعضنا

__________________

١ ـ عوالي اللئالي ١ : ٢٦٩ ، الحديث٧٥ الفصل العاشر (في أحاديث تتضمن شيئاً من الآداب الدينية).

٢ ـ أنساب الأشراف : ٣٥٩ ، الحديث٤٣١.

٣ ـ قرب الإسناد : ٩٤ ، الحديث٣١٨.

٢٣٢

بعضاً ، وإلى حفظ الحقوق المتبادلة ، والتزام آداب التعامل الاجتماعي ، وإن لم يكن هناك توافق في العقيدة والفكر والاتّجاه.

فكيف يصحّ للبعض أن يسيء إلى إخوانه المسلمين ، ويسقط حقوقهم ، ويتعدى على حرماتهم ، لا شيء إلّا لأنّهم يختلفون معه في المذهب ، أو في الانتماء السياسي؟

بل وفي بعض الأحيان تسوء العلاقة بين أبناء المذهب الواحد ، ويحصل الهجر والمقاطعة والخصام ، للاختلاف في بعض التوجهات الفكرية ، أو الآراء الفقهية ، أو تعدّد مراجع التقليد والاتباع!

ويلجأ البعض إلى تبرير هذا الموقف العدائي بعذر هو أقبح من الذنب ، حيث يحكمون على مخالفهم بالخروج من ربقة الإسلام ، أو يتهمونه بالابتداع والضلال ، ثمّ يرتّبون على ذلك موقف العداء له ، والتشهير به ، والنيل من حقوقه المادية والمعنوية.

وهذا ما يحصل غالباً في أوساط رجال الدين. لذلك ينقل عن العالم التقي الشيخ عباس القمي رحمة الله أنّه كان يقول : إنّي أعفو وأصفح عمن يستغيبني من الناس العاديين ، لكنّي لا أعفو عمن يستغيبني من رجال الدين! فلمّا سئل عن ذلك قال : لأنّ الشخص العادي يستغيبني وهو يدرك أنّه يرتكب خطأ ، فأنا أعفو عنه. أمّا رجل الدين فلأنّه قبل أن يستغيبني يبرّر ذلك باتهامي بالابتداع أو التجاهر بالفسق حتّى تحلّ له غيبتي!

والغريب في الأمر أنّ رجال الدين يعرفون ، أكثر من غيرهم ، تأكيد الإسلام وتشديده على حفظ حقوق المسلم. وقد أحسن العلامة الشيخ مرتضى الأنصاري رحمة الله حينما استرسل في ذكر بعض الروايات والأحاديث ،

٢٣٣

مما ورد من حقوق المسلم على أخيه المسلم ، وذلك عند بحثه موضوع الغيبة في كتابه المكاسب الذي يدرسه طلاب العلوم الدينية في الحوزات العلمية.

ومن الأحاديث التي أثبتها الحديث التالي :

عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : للمسلم على أخيه ثلاثون حقّاً لا براءة له منها إلّا بأدائها أو العفو. يغفر زلّته ، ويرحم عبرته ، ويستر عورته ، ويقيل عثرته ، ويقبل معذرته ، ويردّ غيبته ، ويديم نصيحته ، ويحفظ خلّته ، ويرعى ذّمته ، ويعود مرضه ، ويشهد ميتته ويجيب دعوته ، ويقبل هديته ، ويكافئ صلته ، ويشكر نعمته ، ويحسن نصرته ، ويحفظ حليلته ، ويقضي حاجته ، ويستنجح مسألته ، ويسمت عطسته ، ويرشد ضالّته ، ويردّ سلامه ، ويطيّب كلامه ، ويبّر أنعامه ، ويصدّق أقسامه ، ويوالي وليه ، ولا يعاديه ، وينصره ظالماً ومظلوماً ، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه ، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقّه ، ولا يسلمه ولا يخذله ، ويحبّ له من الخير ما يحبّ لنفسه ، ويكره له من الشرّ ما يكره لنفسه.

ثمّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إنّ أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة ، فيقضى له عليه (١).

فهل تتبخرّ كلّ هذه الحقوق ، وتسقط كلّ الآداب ، وتباح الحرمات ، حينما يكون هناك اختلاف في الرأي ، ولكلّ من الطرفين أدلّته ومبرّراته لرأيه وموقفه؟

__________________

١ ـ كتاب المكاسب ١ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ وكنز الفوائد : ١٤١ ونقل في الوسائل ١٢ : ٢١٢ الحديث٢٤ باب وجوب أداء حقّ المؤمن.

٢٣٤

ثمّ أين نحن عن الأحاديث والنصوص التي تحذر من إيذاء المسلم ، أو الاعتداء على كرامته ، أو شيء من حقوقه؟ كما روي عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال : من أعان على مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة : آيس من رحمة الله (١).

مواقع الاتـّفاق ومساحات الالتقاء :

لتفترض أنّ الخلاف العلمي بين عالم وآخر كان في درجته العليا٢٠% فهذا يعني أنّ مساحة الاتّفاق والتّطابق هي نسبة ٨٠% لكن المؤسف والمحزن في الأمر ، هو تجاهل مساحة الاتفاق الواسعة وتجاوزها ، للانشغال بمنطقة الخلاف المحدودة والوقوف عندها.

ففي الثقافة السائدة في أوساط الأُمّة ، هناك تركيز بارز على القضايا والمسائل الخلافية ، مع محدوديتها وثانويتها ، وهناك إهمال واضح للمتفق عليه مع سعته وأولويته.

(١) ـ إنّ كلّ علماء الإسلام يتّفقون على أصول العقيدة ، وهي الإيمان بالله تعالى ، ونبوّة النبي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وأنّه خاتم الرسل والأنبياء ، وبالمصير إلى الله ، والمعاد إليه في يوم القيامة ، وإن اختلفوا في بعض تفاصيل هذه العقائد.

كما يتفقون على معالم الشريعة ، وأركان الدين ، من صلاة وصوم وحجّ وزكاة وخمس وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، فهذه المعالم والأركان ، يجمع علماء الإسلام على وجوبها ، ويتّفقون على مقوماتها الأساسية ، وخطوطها العريضة ، وإذا ما كان هناك اختلاف ، ففي بعض الجزئيات والتفاصيل من فروع مسائلها.

__________________

١ ـ المحاسن ١ : ١٠٣ ، الحديث ٨٠ من كتاب عقاب الأعمال.

٢٣٥

وينهل العلماء من منهل واحد ، هو الكتاب والسنّة ، حيث يجمع المسلمون على حجّيتهما ، ولزوم الأخذ لما ورد فيهما ، وتحريم أيّ مخالفة أو معارضة لهما.

وإنّ فهم نصوص الكتاب الكريم ، والسنّة الثابتة ، لا يكون إلا بالتدبّر والتأمّل والاجتهاد والنظر ، مع معذورية كلّ مجتهد في الأخذ بما وصل إليه نظره واجتهاده.

وضمن كلّ مذهب من المذاهب الإسلامية ، هناك اتّفاق على قواعد الاستنباط وضوابط الاجتهاد ، والكثير من التفاصيل العقيدية والفكرية.

هذا بالنسبة لأصول الدين ومعالم الشريعة.

(٢) ـ إنّ حفظ الإسلام ، وإعلاء كلمته ، وتطبيق أحكامه وتعاليمه ، هو الهدف المشترك لجميع علماء الدين.

ومما يهمّ العلماء جميعاً ، حماية مصالح الأُمّة الإسلامية ، وتحسين أوضاعها ، والدفاع عن مقدساتها وحقوقها ، وإعزاز مكانتها بين الأمم ، لتكون كما أرادها الله تعالى (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١).

(٣) ـ وهناك تحدّيات قائمة ، يشعر بها كلّ واحد من علماء الدين ، وأبرزها طغيان مدّ الأهواء والشهوات والانجراف المادي ، الذي يصدّ الناس عن التوجّه الروحي ، والالتزام الديني. والتيارات الفكرية المادّية التي تمتلك وسائل الإعلام ، ومراكز القوّة والقرار ، وتعمل بإمكانياتها الضخمة ضد الحالة الدينية.

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ١١٠.

٢٣٦

وهناك قوى العدوان والاستكبار العالمي ، والتي تعلن مواجهتها للصحوة الإسلامية ، وتراها الآن الخطر الأكبر على الحضارة المادّية الرأسمالية ، وخاصّة بعد سقوط المعسكر الشرقي ، كما هو مفاد مقولة صموئيل هانتنغتون في صدام الحضارت.

وهناك القوى المصلحية والمتسلّطة في داخل الأُمّة الإسلامية ، والتي تمارس الاستبداد والقمع ، وتنفّذ خطط الأعداء ، بوعي أو بغير وعي ، وتقلّص دور العلماء في التبليغ والدعوة إلى الله.

وهناك أمراض التخلّف التي تعاني منها الأُمّة ، وأخطرها الجهل بالدين والحياة.

هذه التحدّيات الخطيرة القائمة ، والتي يفترض أن يستشعرها كلّ رجل دين ، يجب أن تكون دافعاً لتقارب علماء الدين ، وتعاونهم على مواجهتها.

والأهداف الكثيرة المشتركة التي يؤمنون بها جميعاً ينبغي أن توحد صفوفهم ، وتنظّم حركتهم باتّجاه تحقيقها.

وما دامت أصول العقيدة ، ومعالم الشريعة ، ومنابع الأحكام ، واحدة ، فإنّها تشكل أرضية خصبة للتوافق والتلاقي ، وتجاوز موارد الاختلاف في الفروع والجزئيات ، والمسائل الثانوية والتفصيلية.

والسؤال الذي يشغل بال المخلصين في الأُمّة هو : لماذا يغفل العلماء ويتجاهلون مساحات التلاقي الواسعة بينهم ، ومواقع الاتّفاق العريضة ، وينشغلون بنقاط الخلاف المحدودة والجانبية؟

إنّ ذلك يقعد بهم عن مواجهة التحدّيات القائمة ، ويضعفهم اتّجاهها ،

٢٣٧

كما يمنعهم من تحقيق أهدافهم الكبيرة ، ويعرقل سيرهم نحوها ، وقد يؤدّي النزاع والخلاف بينهم على الفروع والجزئيات إلى ضياع أصول الدين ، وأسسه ومعالمه.

والمطلوب ، كخطوة أولى ، إعادة النظر في طرح القضايا والمسائل الدينية من قبل العلماء ، ليكون التركيز والاهتمام بمواقع الاتّفاق أوّلاً ، واعتبارها هي الأصل والقاعدة والمنطلق.

وذلك يتيح الفرصة أكثر لتقريب الآراء في موارد الخلاف ، والتي يجب أن تبقى ضمن حجمها وحدودها الطبيعية ، دون تضخيم أو تهويل.

إنّ البدء من موارد الخلاف والتركيز عليها ، قد يحول دون استثمار مساحات اللقاء الواسعة ، بما يخلق من حساسيات وانفعالات.

بينما الانطلاق من مواقع الاتفاق ، يهيّئ النفوس لمعالجة موارد الخلاف بمرونة وموضوعية ، مما يتيح فرص التقارب ، وتضييق حالات الاختلاف.

وقد ظهرت في هذا العصر ، والحمد لله ، مبادرات طيبة ، من قبل المخلصين من علماء الأُمّة ، لإعادة صيغة اهتمامات العلماء ، باتّجاه التركيز على مساحات اللقاء ، وتحجيم موارد الاختلاف ، كمبادرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي انطلقت في القاهرة في الستينات من هذا القرن ، والمبادرة الجديدة المشابهة لها في جمهورية إيران.

وبرزت دعوات وحدوية لمفكّرين غيورين على مصلحة الدين ، ومستقبل الأُمّة ، تبشّر بـ فقه الوفاق الذي يركّز على تأصيل وحدة الأُمّة ، ومن أوائل الداعين إلى هذه الفكرة الرائدة ، والطرح الوحدوي ، سماحة المغفور له الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ، الرئيس السابق للمجلس الإسلامي الشيعي

٢٣٨

الأعلى في لبنان ، حيث أوضح معالم هذا التوجّه في محاضرة له ضمن مؤتمر تكريم المفكّر الإسلامي الكبير ، السيّد عبد الحسين شرف الدين ، والذي انعقد في بيروت ( ١٨ ـ ١٩ شباط١٩٩٣ م ).

ودعا إلى نفس الفكرة والطرح الدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق وكلية الشريعة.

يقول الدكتور الزحيلي : ولم يتخلّص العلماء بالذات ، فضلاً عن العوام ، من العناية بالخلافات ، وضخّموا مسائل الاختلاف ، وهوّلوا وقائع النزاع ، وتركوا نقاط الاتّفاق والتلاقي ، وصنّفوا العديد من المصنّفات في بيان أسباب الاختلاف بين الفقهاء ، إما بحسن نيّة ليعذر الناس العلماء في ما اختلفوا فيه ، أو بسبب الولع بتّتبع الخلافات ، الأمر الذي أنسى الأُمّة في خزانة الفكر الإسلامي أو الإنساني ، ظاهرة الوفاق والتوحيد ، ورصدوا الكثير من مسوغات الخلاف ، ما جعل المسلم يعني بالاختلاف ، وينسى الاتّحاد أو الوحدة.

لذا لم أجد مصنّفاً واحداً في القديم والحديث ، عُني بالأمر البدهي أو الأصيل الإسلامي ، وهو وحدة الفكر والمصدر والاستنباط ، لحمل الناس عليه ، علماً بأنّ نقاط الاتفاق والاتّحاد أكثر بكثير من نقاط الخلاف والخصام والتعصّب المذهبي ...

إنّنا ، نحن العلماء ، آثمون أشدّ الإثم ، من حيث ندري أو لا ندري ، إذا لم نُعِد حساباتنا ، ونفكّر في مصائرنا ، ونعمل من جديد على إعادة وحدة الأُمّة في السياسة والاقتصاد ، والاجتماع والاعتقاد ، والاجتهاد والاستنباط ، والتربية والتعليم ، والتوجيه والتثقيف ، وبناء حياة مزدانة بكلّ عناصر القوة والمجد ، والجدية والنهوض من الكبوات ، ونسيان الخلافات الماضية التي ليس لإثارتها

٢٣٩

أو إحيائها أو التحدّث فيها أيّ معنى ، بل إنّها سُمٌّ زعافٌ ، وضرر محض ، يؤدّي لإحياء الحديث في تلك الخلافات التي تفرّق ولا تجمع ، وتهدم ولا تبني ، وتمزّق ولا ترقأ ، وتضعف ولا تقوّي أو تعالج ، وتثير النزاع ولا تؤاخي أو تضمد الجراح.

إنّني أشكّ في أمانة العالم أو المؤرّخ ، الذي يكثر من الحديث أو التحقيق أو الإعلان أو المقال الآن عن جراح الماضي ، وما أدّت إليه من الفرقة المذهبية ، والتشتّت الوجداني ، والضياع القائم ، وما على العالم أو الفقيه إلّا أن ينبه إلى العمل بأوجه اللقاء والتفاهم ، والترفّع عن الأحقاد والخصومات ، وتناسي الثارات ، والعمل على صعيد مشترك يحقّق الوحدة الإسلامية.

إنّني أعيد الحساب بنفسي ، لعلّ غيري يقلّدني ، ويبدأ الجميع في نسج فكر واحد ، وبناء مجد واحد ، والتصدّي لعدو شرس خطير واحد ، فهل من متذكّر أو مستجيب؟!

إنّ الصلح في الفكر والتراث وكلّ النزاعات ، ولاسيما أمام المخاطر ، هو جوهر صفاء الدعوة إلى الله والى الإسلام الحقّ ، وإلى الوجود الدولي الإسلامي الواحد (١).

__________________

١ ـ مجلة المنهاج العدد٣ ، السنة ١ ، ١٩٩٦ م تحت مقال بعنوان (نقاط الالتقاء بين المذاهب الإسلامية بقلم الدكتور وهبة الزحيلي).

٢٤٠