المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

عبد القادر الإدريسي السوداني

المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

المؤلف:

عبد القادر الإدريسي السوداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-86-7
الصفحات: ٣٥٤

لله ، وأبعد عن الانزلاق في مهاوي الفتن والبغضاء.

يقول تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (١).

(٢) ـ ورجل الدين ، بقراءته لسير الأنبياء والأولياء ، وخاصّة سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وسير الأئمة عليهم السلام من ذرّيته ، وخيرة أصحابه ، وما تنضح به تلك الصفحات المشرقة من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم ، وروائع الصفات ... يجب أن يكون أكثر تطلّعاً وتشوّقاً للتأسي ، والاقتداء بتلك النفوس الطاهرة ، والشخصيات المباركة.

ففي سورة الأنعام ، وبعد أن يستعرض القرآن الحكيم بعض الصور والمشاهد من حياة الأنبياء والأولياء ، يقول تعالى : (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (٢).

(٣) ـ ولأنّ رجل الدين في موقع الإرشاد والوعظ للآخرين ، حيث يدعو الناس إلى تقوى الله ، ويأمرهم بالتزام أحكامه وحدوده ، ويحذّرهم من إغواء الشيطان ، والخضوع للشهوات والأهواء ، فإنّه يجب أن يكون قدوة للناس ، متعظاً بما يعظ به ، وملتزماً قبل غيره ، ليكون كلامه مؤثَّراً في الناس ، مقبولاً لديهم ، وليكون منسجماً مع نفسه.

كما يقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : من نصب نفسه للناس إماماً ، فعليه أنْ يبدأ بتعليم نفسه ، قبل تعليم غيره ، ويكن تأديبه بسيرته ، قبل تأديبه بلسانه. ومعلِّم نفسه ومؤدبِّها ، أحقّ بالإجلال من معلِّم الناس ومؤدِّبهم (٣).

__________________

١ ـ فاطر (٣٥) : ٢٨.

٢ ـ الأنعام (٦) : ٩٠.

٣ ـ نهج البلاغة ٤ : ١٦ ، الحكمة رقم ٧٣.

٢٠١

لكلّ ذلك ، فإنّ المتوقّع أن تكون العلاقة بين رجال الدين علاقة مثالية ، نابعة من قيم الإسلام ، ومنسجمة مع تعاليمه. وإذا كان الاختلاف العلمي له مبرّراته وأسبابه المقبولة ، فليكن الخلاف ضمن دائرته ، وداخل إطاره وحدوده ، واختلاف الرأي لا يفسد للود قّضية ـ كما يقول الشاعر.

لكن رجال الدين هم من البشر ، وتعتمل في نفوسهم ، كسائر البشر ، مختلف النوازع الشهوانية ، وقد يضعف بعضهم أمامها ، وتخونه إرادته ، فينحرف عن منهج الله ، ويستجيب لدواعي الشهوة والأهواء ، فهو ليس معصوماً عن الخطأ والانحراف.

ولأنّ هذا الاحتمال وارد ، وواقع في تاريخ الرسالات الإلهية ، ولأنّه يشكّل خطورة كبرى في المجتمعات المتديّنة ، لذلك تحدّثت عنه النصوص الدينية ، ودعت المؤمنين لكي يتحلّوا باليقظة والانتباه ، في تعاطيهم وتعاملهم مع رجال الدين ، فلا يسلّمون لهم القياد دون وعي ، ولا يقلّدونهم تقليداً أعمى ، ولا يقدّسونهم تقديساً مطلقاً ، فهم معرّضون ، كغيرهم من الناس ، للخطأ والانحراف ، وليست لهم حصانة خاصّة ، تعفيهم من تبعات الذنوب والآثام.

ولنتأمّل بعض النصوص الواردة في الكتاب والسنّة ، حول التحذير من انحراف رجل الدين ، ومدى الخطورة التي يشكّلها بانحرافه.

نماذج يذكرها القرآن :

يتعاطى بعض المتديّنين مع رجل الدين بمثالية ساذجة ، وبساطة متناهية ، فيأخذون قوله دون تفكير ، ويقدّسون أعماله دون نقاش ، بل ويرفضون أن يتجرّأ أحد على انتقاده أو مناقشته ، وإذا ما انكشف لهم منه خطأ صارخ فاضح ، استعصى عليهم تبريره ، فإنّهم يصابون بهزّة عميقة وصدمة كبيرة ،

٢٠٢

وكأنّ من حدث لم يكن محتملاً ولا متوقّعاً.

لمثل هؤلاء يتحدّث القرآن الكريم عن بعض النماذج ، ممن خانوا أمانة العلم والدين في الأُمم السابقة ، ليكون المجتمع الإسلامي على حذر من تكرار مثل هذه النماذج.

(١) ـ يقول تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

(٢) ـ إنّها قصّة عالم وصل إلى رتبة متقدّمة ، من العلوم والمعارف الدينية ( آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ) فكان العلم ملتصقاً به ، محيطاً به ، محيطاً بجوانب شخصيته ، إحاطة الجلد بالبدن ، لكنّه مع سعة معرفته ، وعمق علمه ، سقط في هاوية الانحراف. ويعبرّ القرآن عن خيانة العالم للمعرفة التي تحتضنه وتحيطه ، بالانسلاخ ( فَانسَلَخَ مِنْهَا ) والانسلاخ خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه.

وكيف ينفلت العالم ، وينفصل عن مؤدّى علمه ومعرفته ، مع أنّه عاش في أحضان العلم ، وتشرّبت نفسه بالمعرفة؟

لأنّ العلم لا يعني العصمة ، والإجبار على الطاعة ، فهو خلاف إرادة الله ومشيئته ، بأن يكون الإنسان حرّاً مختاراً ، في سلوكه وتصرّفاته ، ليكون جديراً

__________________

١ ـ الأعراف (٧) : ١٧٥ ـ ١٧٦.

٢٠٣

بالثواب ، مستحقاً للعقاب ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ) فالعلم يهيّئ الإنسان للتحليق والارتفاع في سماء القيم ، إن أراد هو ذلك ، أما إذا خانته إرادته ، وسيطرت على نفسه الأهواء والشهوات ، والانشدادات المادية ، فـ ( أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ ) فإنّه يتحمّل مسؤولية سقوطه وانحداره.

وماذا يحصل حينئذٍ؟

إنّه التورّط والتوغلّ في حضيض الانحراف والسقوط ، لأنّ غير العالم قد يردعه الوعظ والتوجيه ، أما العالم ، فلمعرفته بالمواعظ والتوجيهات ، يصبح لديه ما يشبه المناعة من تأثيرها ، كما يحدث لبعض الميكروبات في الجسم ، لذلك أمر الله تعالى نبيه أن يقرأ للناس ، ويتلو عليهم ، خبر هذا العالم المنحرف وقصته ، ليكون مثلاً ونموذجاً ، يدفع الناس للتفكير في تعاملهم وتعاطيهم مع رجال الدين (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

وحديث القرآن عن انحرافات علماء اليهود والنصارى ، ليس في سياق التشهير بهم فقط ، وإنما ليستفيد المسلمون دروساً وعبراً من أوضاعهم. ولدقّة القرآن وموضوعيته ، فإنّه لم يصدر حكماً عاماً على جميع زعامتهم الدينية ، وإنّما الأكثر منهم ، إنصافاً للقلة الملتزمة المتورّعة منهم.

وقد يكون في الآية الكريمة إشارة إلى ناحية مهمّة وهي أنّ رجال الدين ، كطبقة متفرِّغة للعمل الديني ، تأخذ نفقاتها من الناس والأموال الشرعية ، إزاء قيامهم بواجب الإرشاد والهداية ، والدعوة إلى المبادئ والقيم ، ولكنّهم حينما يقومون بدور معاكس ، بممارساتهم الفاسدة المنحرفة ، فإنّهم لا

__________________

١ ـ الأعراف (٧) : ١٧٦.

٢٠٤

يؤدّون الوظيفة التي على أساسها جاز لهم تناول الأموال الشرعية ، فيصدق عليهم حينئذٍ أنّهم (يأكلون .. الباطل) لأنّهم بدل أن يقودوا الناس إلى طريق الله ، يسيرون الناس في الاتّجاه المعاكس (وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) (١).

(٣) ـ يقول تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢).

فالعلم بالدين يحمّل صاحبه مسؤولية العمل به ، فإذا لم يلتزم بذلك ولم ينعكس الدين على سلوكه ومواقفه ، فإنّه يشبه الحمار الذي يحمل على ظهره مجلّدات الكتب العلمية لكنّه لا يفقهها ولا يتفاعل مع ما فيها.

وعلماء الدين الذين يتحمّلون مسؤولية الرسالات الإلهية ، بعلمهم وموقعهم القيادي ، إذا ما تخلّوا عن القيام بواجبات تلك المسؤولية الخطيرة فإنّهم مصداق لهذا المثل السيِّئ.

تحذيرات من السنّة :

وفي السنّة الشريفة أحاديث كثيرة ، تبيّن خطورة انحراف رجل الدين ، وآثار ذلك الانحراف على قضايا الدين وأوضاع الأُمّة.

(١) ـ فازدواج الشخصية عند العالم المنحرف ، حيث يدعو الناس إلى

__________________

١ ـ التوبة (٩) : ٣٤ ، وهو قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

٢ ـ الجمعة ( ٦٢ ) : ٥.

٢٠٥

الدين ، وهو غير ملتزم بأحكامه ، يعرّضه لغضب الله تعالى وشديد عذابه.

روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : يطلع قوم من أهل الجنّة على قوم من أهل النار فيقولون : ما أدخلكم النار ، إنّما دخلنا الجنّة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون : إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله (١).

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : من تعلم العلم ولم يعمل بما فيه حشره الله يوم القيامة أعمى (٢).

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ أهل النار ليتأذون بريح العالم التارك لعلمه ، وإنّ أشدّ أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله وعجل الله تعالى فرجه ، فاستجاب له وقبل منه ، وأطاع الله وعجل الله تعالى فرجه ، فأدخله الله الجنّة ، وأدخل الداعي النار ، بتركه علمه واتباعه الهوى (٣).

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقارض من نار ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟

فقال : الخطباء من أمّتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون (٤)؟!

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن ، منهم إلى عبدة الأوثان ، فيقولون : يبدأ بنا قبل عبدة الأوثان؟ فيقال لهم : ليس من يعلم كمن لا يعلم (٥).

__________________

١ ـ الأمالي للشيخ الطوسي : ٥٢٧.

٢ ـ مكارم الأخلاق : ٤٥١.

٣ ـ الخصال : ٥١ الحديث٦٣ باب الاثنين.

٤ ـ صحيح ابن حبّان ١ : ٢٤٩.

٥ ـ كنز العمال ١٠ : ١٩١ ، الحديث٢٩٠٠٥.

٢٠٦

(٢) ـ وعلى الجمهور أن يحذر من العلماء غير الملتزمين ، فلا يمنحهم الثقة ، ولا يجعلهم في موقع القيادة والاتباع ، ولا يعتبرهم مصدراً ومرجعياً في شؤون الدين ، في الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام : أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لعبادي : لا يجعلوا بيني وبينهم عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدهم عن ذكري ، وعن طريق محبتي ومناجاتي ، أولئك قطاع الطريق من عبادي (١).

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام : إذا رأيتم العالم محبّاً للدنيا فاتهموه على دينكم فإنّ كلّ محبٍّ يحوط ما أحبَّ (٢).

(٣) ـ وبالطبع ، فإن انحراف رجل الدين له مضاعفاته وآثاره الخطيرة ، على الدين والمجتمع ، لذا جاءت النصوص والأحاديث تنبه إلى ذلك.

قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الناس شر؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم : العلماء إذا فسدوا (٣).

وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام : زلّة العالم كانكسار السفينة تغرق وتُغرق معها غيرها (٤).

عالم الدين بين الاستقامة والانحراف إذا ما فقد عالم الدين مناعته ، وحصانته المبدئية ، وضعفت إرادته الإيمانية ، عن مقاومة ( فيروسات ) الأهواء ، فستكون نفسه مرتعاً لمختلف النزعات الشهوانية ، والتوجّهات الانحرافية.

ومن هذه الثغرة الخطيرة الواسعة ، تهبّ رياح الخلافات والصراعات في

__________________

١ ـ تحف العقول : ٣٩٧.

٢ ـ علل الشرائع ٢ : ٣٩٤.

٣ ـ تحف العقول : ٣٥.

٤ ـ غرر الحكم للآمدي : ١٥٦ ، الحكمة ٤٠٦٤.

٢٠٧

أوساط رجال الدين.

أولاً : تنمو النزعة الأنانية الذاتية ، على حساب المبدأ والمصلحة العامة ، فالفتاوى والآراء والمواقف حينئذ تتأثّر بحسابات المصلحة الشخصية ، وتصبح خاضعة لمعادلة الربح والخسارة.

فلا ينظر رجل الدين الأناني إلى الأمور والأحداث والأشخاص ، نظرة موضوعية على أساس مقاييس الحق والباطل ، وإنّما بمنظار مصلحته ومنفعته العاجلة ، وهذا قد يؤدي به إلى الاصطدام برجال الدين المبدئيين المخلصين ، كما قد يسبب له الصراع حتّى مع أشباهه من رجال الدين الأنانيين ، لأنّ المصالح تختلف وتتخالف.

وقد تحدّث القرآن الحكيم في آيات عديدة ، محذِّراً ومندِّداً بأولئك المساومين على المبادئ ، والمختلّين عن الحقائق ، من أجل مصالح مادية ضئيلة محدودة ، لأنّ أي ثمن في مقابل الحق تافه حقير.

يقول تعالى : ( وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (١).

وتشير الآية الكريمة إلى أسلوبين خبيثين تستخدمها عادة هذه الفئة : أسلوب تزوير وتزييف الحقائق بإلباس الباطل الذي يطرحونه صورة الحق وعنوانه ، لينطلي على الناس. وإلباس الحق الذي يطرحه غيرهم صورة الباطل وعنوانه ، ليصدّوا الناس عنه.

والأسلوب الآخر : هو كتمان الحقائق والسكوت عنها ، مع معرفتهم بها.

__________________

١ ـ البقرة (٢) : ٤١ ـ ٤٢.

٢٠٨

ويقول تعالى : (اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (١).

ويقول تعالى : (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) (٢).

فمن أجل المصالح المادية الزائلة يختلقون الفتاوى ، ويبتدعون الآراء ، وينسبونها لله سبحانه.

ورجل الدين المصلحي ينظر إلى سائر رجال الدين كمنافسين له ، ينتابه الحسد إذا ما رأى تقدّماً أو تفوّقاً لأحد منهم ، ويحاول التقليل من شأنه أمام الناس ، ويتصيّد أخطاءه ويتابع عثراته ليشيعها في الجمهور ، وقد يسعى بكلّ جهده لعرقلة طريق الآخرين من رجال الدين إلى التقدّم.

ولعل هذا الجانب من أهم أسباب بروز الخلافات بين رجال الدين ، حيث إنّ ثقة الناس والتفافهم حول رجل الدين ، هما المكسب الرئيسي له ، والرصيد الأساسي لدوره وقيمته ، فالتنافس يكون على هذه الثقة والاتباع بين رجال الدين ، وإذا ما خاصم أحدهم الآخر ، فإنّ أهم ضربة يوجهّها إليه هي إسقاط أو إضعاف شعبيته وسمعته عند الناس ، عبر مخالفة آرائه والتشهير بأخطائه.

وهناك حديث شريف يبيّن أنّ الحسد هو المرض الأكثر شيوعاً في

__________________

١ ـ التوبة (٩) : ٩.

٢ ـ البقرة (٢) : ٧٩.

٢٠٩

أوساط العلماء ، وأنّه مدخل أكثرهم إلى نار جهنم ، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة ، قيل : يا رسول الله ، من هم؟ فعد منهم : والعلماء بالحسد (١).

ومثله روي عن الإمام علي عليه السلام : إن الله وعجل الله تعالى فرجه يعذب ستة بستة ... والفقهاء بالحسد (٢).

ثانياً : من الطبيعي وجود حالة من التنوّع والتعدّدية في كلّ مجتمع ، بأن تشكّل من أكثر من قومية ، أو تختلف الأديان والمذاهب التي ينتمي إليه أبناؤه ، وقد تتعدّد المدارس الفكرية ضمن الدين الواحد ، أو المذهب الواحد ، هذا فضلاً عن تنوّع القبائل ، أو الطبقات الاجتماعية ، أو الانتماءات الحزبية والسياسية. وعادة ما يصاحب هذا التنوّع والتعدد نوع من الحسّاسيات والخلافات والحواجز والفواصل ، بين أبناء المجتمع الواحد ، قد يصل إلى حدّ التنازع والصراع.

ورجل الدين ، بما يمثّل من موقع ودور مبدئي ، يجب أن يتسامى على تأثيرات تلك الحسّاسيات والحواجز ، ويكون داعية للوحدة والتعاون ، ورائداً للعدالة والإنصاف ، لكن ذلك مشروط بنزاهة رجل الدين ، وصدقية التزامه المبدئي ، فإذا ما تسرّب الانحراف إلى نفسه ، فسيقع تحت تأثيرات الواقع الاجتماعي ، ويكون خاضعاً لتفاعلاته ، بل قد يصبح أداة وواجهة في معادلة

__________________

١ ـ إحياء علوم الدين ٣ : ٢٧٦ وفيه :

(وقال عليه السلام : ستة يدخلون النار قبل الحساب بستة ، قيل يا رسول الله من هم؟ قال : الأمراء بالجور ، والعرب بالعصبية ، والدهاقين بالتكبر ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرشتاق بالجهالة ، والعلماء بالحسد).

٢ ـ الخصال : ٣٢٥ ، باب الستة.

٢١٠

الصراع ، بما يشكّله من ثقل ونفوذ بعنوانه الديني. وحينئذ يستغلّ الدين كوقود في معارك الصراع القومي أو الطائفي أو القبلي أو الحزبي أو الطبقي.

وكم من معركة دامية ، وفتنة مرعبة ، سالت فيها الدماء وهتكت فيها الحرم والأعراض ، بين أبناء الأُمّة ، حصلت بتحريض أو تبرير من رجال الدين المنحرفين؟

ثالثاً : أنّ القوى التي تريد الهيمنة على المجتمع ، والسّيطرة على قدراته ، لا تجد لخدمة نفوذها ومصالحها أفضل من رجل دين مصلحي ، يوفّر لممارستها الغطاء الشرعي ، ويكون رأس حربتها باسم الدين ، في مواجهة المخالفين والمعارضين.

وتعطيه في المقابل شيئاً من فتات موائدها ، أو تمنحه منصباً على هامش سلطاتها ، ولعلّ قسطاً لا بأس به من الخلافات والنزاعات داخل الساحة الدينية تحرّكه قوى خارجية معادية ، أو داخلية متسلّطة ، تستغلّ بعض العناصر المصلحية من رجال الدين.

وقد تتجه بعض القوى والجهات إلى دسّ بعض العناصر التابعة لهم بالأساس في أوساط رجال الدين ، للقيام بمهمّات الاستقطاب والإرباك ، مستغلّة ضعف الإدارة والتنظيم لدى المؤسّسات الدينية ، وبساطة التفكير ، وسذاجة التعاطي ، لدى بعض الزعامات والقيادات الدينية.

بالطبع ، فإنّ أي رجل دين مبدئي لا يبيع آخرته بدنياه ، ولا يساوم على مصلحة الدين والأُمّة.

الاختلاف العلمي أخلاقيات ومبادئ :

إذا كان الاختلاف العلمي في القضايا الدينية أمراً لا يمكن تلافيه ، إلّا

٢١١

أنّ التعاطي والتعامل مع هذا الأمر يختلف من حالة إلى أخرى ، فقد يكون هذا الاختلاف سبباً لاستثارة الأذهان والعقول ، وباعثاً لتنشيط حركة الفكر والاجتهاد ، وتوسعة على الناس بتعدّد الخيارات والحلول أمامهم في بعض المسائل.

وقد يتحوّل هذا الاختلاف العلمي عن مساره الإيجابي ليصبح عنصراً سلبياً ، يغذّي حالة التفرقة والنزاع ، وأرضية تنمو فيها أشواك العداوة والخصام.

فلابدّ من وجود ضوابط فكرية ، وأخلاقيات سلوكية ، تحكّم تعاطي العلماء فيما بينهم ، وخاصّة عند مواقع الاختلاف العلمي. والصفحات التالية استعراض وبحث لما يظهر أنّه من أهم الأخلاقيات والضوابط التي تنظّم حالة الاختلاف العلمي.

الاعتراف بحق الاختلاف ووجود الرأي الآخر :

كيف يتكوّن رأي علمي ، في أي قضية شرعية ، عند أي عالم من العلماء فيفتي به ويعتبره رأياً شرعياً وحكماً دينياً؟

لا شكّ أنّ السبيل الوحيد لذلك هو الاجتهاد وإعمال الفكر والنظر ، بالرجوع إلى الكتاب والسنّة ، وبدراسة واستقراء آراء الأئمّة ، والعلماء السابقين ، فالوحي لم ينزل ولا ينزل على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

والاجتهاد باب مشرع ، وطريق مفتوح لجميع المؤهلّين ، فلا يمكن لعالم أن يعتبر نفسه الواحد الوحيد الذي يجوز له الاجتهاد.

وحينما يمارس أي عالم مهمّة الاجتهاد وفق ضوابطها الشرعية ، فسيرى نفسه ملزماً بنتائج اجتهاده ، باعتبارها تمثّل رأي الشرع والدين في نظره.

٢١٢

وهذا ينطبق على غيره أيضاً ، فكما جاز له هو الاجتهاد ، وصحّ له الالتزام بنتائجه ، فذلك جائز وصحيح في حق غيره أيضاً ، فلا يمكن التفكيك والترجيح بلا مرجّح بينهما.

من هنا اتفقت كلمة العلماء على حجيّة رأي المجتهد بالنسبة له.

إنّ كلمة الأعلام تكاد تتفق على حجية رأيه المجتهد ولزوم العمل به ، وعدم جواز رجوعه إلى الغير ... إذ المجتهد ... إذا أعمل ملكته وانتهى إلى رأي ، فهو إما عالم بالحكم الواقعي علماً وجدانياً أو علماً تعبدياً ، بواسطة جعل الشارع للطريقية أو الحجّية ، أو يكون عالماً بإحدى الوظيفتين الشرعية أو العقلية ... ومع فرض حصول العلم لا يبقى مجال للتصرّف الشرعي ، فلا يمكن أن يقال للمجتهد العالم بالمسألة : إنّك لا يسوغ لك أن تعمل بعلمك ، وعليك الرجوع إلى الغير واستشارته فيما تراه حاصلاً لديك من الواقع ... أما جواز إفتائه على وفق ما وصل إليه من رأي ، فهو أيضاً لا يقتضي أن يكون موضعاً لإشكال ، لما تقدم بيانه من أن من لوازم الحجّية العقلية جواز نسبة مؤدّى ما قامت عليه إلى مصدرها من شارع أو عقل ، وليس المراد من الفتوى إلّا الإخبار عمّا يراه من حكم أو وظيفة (١).

ومع وضوح هذه المعادلة عقلاً ، وإقرارها شرعاً ، إلّا أنّ البعض من العلماء يتنكّر لها ، ويتمرّد عليها ، فيعطي لنفسه الحق أن يجتهد ، وأن يعتبر نتاج اجتهاده رأياً شرعياً ، ثمّ ينكر على الآخرين ممارسة هذا الحق ، بدعوى أنّ ما وصل إليه من رأي هو الحق والصواب ، وبالتالي فإنّ الرأي المخالف هو باطل وخطأ.

__________________

١ ـ الأصول العامة للفقه المقارن : ٦٠٩ ـ ٦١٢.

٢١٣

ولكن أصحاب الرأي الآخر لديهم نفس القناعة أيضاً ، بأنّ رأيهم هو الحق والصواب ، والرأي المخالف هو باطل وخطأ.

ولا مجال هنا إلّا بالاعتراف بحقّ الاختلاف ، ووجود الرأي الآخر ، والخطأ والصواب احتمالان يردان على كلّ رأي ، وقد يكونا نسبيين في بعض الآراء ، والله تعالى هو الأعلم بحقائق الأمور والأحكام ، وجميل جدّاً ما تعارف عليه العلماء من إنهاء فتاواهم بعبارة الله أعلم.

ويضرب لنا الإمام علي بن أبي طالب أروع مثل في تعامله مع الرأي الآخر ، في المسائل الدينية ، فهو مع مقامه العلمي الشامخ ، الذي لا يطاوله فيه أحد ، ومع مكانته العظيمة التي اختصّ بها عند الله ورسوله ، حيث قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي (١). وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : أقضاكم علي (٢).

إلّا أنّه حينما تولّى الخلافة لم يمنع الناس من صلاة نافلة رمضان جماعة في المسجد ( صلاة التراويح ) ، بل سمح لهم بذلك مع أنّه لا يرى ذلك من الناحية الشرعية ، كما هو رأي أئمة أهل البيت جميعاً.

فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال : لما قدم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس : لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة ، فنادى في الناس الحسن بن علي ، بما أمره

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ باب فضائل علي وصحيح البخاري ٥ : ١٢٩ باب غزوة تبوك وفيه :

(أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء قال ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس نبي بعدي).

٢ ـ المواقف للأيجي ٣ : ٦٢٧ والجامع لأحكام القرآن ١٥ : ١٦٤.

٢١٤

به أمير المؤمنين فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي صاحوا : وا عمراه ، وا عمراه. فلما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال له : ما هذا الصوت؟ فقال : يا أمير المؤمنين الناس يصيحون : وا عمراه ، وا عمراه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : قل لهم صلوا (١).

وفي رواية أخرى : لما كان أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة ، أتاه الناس فقالوا له : اجعل لنا إماماً يؤمنا في رمضان ، فقال لهم : لا ، ونهاهم أن يجتمعوا فيه ، فلما أمسوا جعلوا يقولون : ابكوا رمضان ، وا رمضاناه ، فأتى الحارث بن الأعور في أناس فقال : يا أمير المؤمنين ، ضجّ الناس وكرهوا قولك ، قال : فقال عند ذلك : دعوهم وما يريدون ليصل بهم من شاؤوا (٢).

وروي أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي رجلاً فقال : ما صنعت ، [ يعني في مسألة كانت معروضة للفصل فيها ] فقال الرجل : قضى علي وزيد بكذا ... قال عمر : لو كنت أنا لقضيت بكذا ... قال الرجل : فما يمنعك والأمر إليك؟ قال : لو كنت أردك إلى كتاب الله ، أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لفعلت ، ولكني أردك إلى رأي ، والرأي مشترك (٣).

وسئل الشيخ ابن تيمية عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ، ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس من العمل بها؟

فأجاب : ليس له منع الناس من مثل ذلك ، ولا من نظائره مما يسوغ فيه

__________________

١ ـ تهذيب الأحكام ٣ : ٧٠ الحديث ٣٠ باب فضل شهر رمضان والصلاة فيه زيادة ... ).

٢ ـ تفسير العياشي ١ : ٢٧٥ الحديث ٢٧٢ وسائل الشيعة ٨ : ٤٧ الحديث ٥ باب ( عدم جواز الجماعة في صلاة النوافل في شهر رمضان ... ).

٣ ـ جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ٢ : ٥٩.

٢١٥

الاجتهاد ، وليس معه بالمنع نصّ من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، ولا ما هو في معنى ذلك (١).

وحق الاختلاف ، ووجود الرأي الآخر مصان ، بغض النظر عن قلّة أو كثرة أصحابه وأتباعه ، يقول الدكتور القرضاوي : ويقول بعض الإخوة : إنّ الرأي الذي ينفرد به فقيه أو اثنان خلافاً لجمهور الأُمّة ، يجب أن لا يعتدّ به ولا يعوّل عليه.

وقال غيرهم : إن ما خالف المذاهب الأربعة التي تلقتها الأُمّة بالقبول ، يجب أن يرفض ولا يقام له اعتبار.

والحقّ أن هذا كله لا يقوم عليه دليل من كتاب أو سنّة.

فالإجماع الذي هو حجّة ، على ما قيل فيه ، هو اتفاق جميع المجتهدين على حكم شرعي ، ولم يقل أحد : إنّه اتفاق الأكثرية ، أو الجمهور ، فالأمر ليس أمر تصويت بالعدد.

صحيح أن لرأي الجمهور وزناً يجعلنا نمعن النظر فيما خالفه ، ولا نخرج عنه إلا لاعتبارات أقوى منه ، ولكنّه ليس معصوماً على كلّ حال.

وكم من صحابي انفرد عن سائر الصحابة برأي لم يوافق عليه سائرهم ، ولا يضره ذلك.

وكم من فقهاء التابعين من كان له رأي خالفه آراء الآخرين ، ولم يسقط ذلك قوله ، فالمدار على الحجّة لا على الكثرة.

وكم من الأئمة الأربعة من انفرد عن الثلاثة بآراء وأقوال ، مضى عليها

__________________

١ ـ مجموع الفتاوى ٣٠ : ٧٩.

٢١٦

أتباع مذهبه مؤيدين ومصححين.

ومذهب أحمد بن حنبل ، وهو المذهب المشهور باتباع الأثر ، قد عرف بـ مفرداته التي نظمها من نظم ، وألّف فيها من ألّف ، وغدا من المعروف المألوف أن يقرأ الباحث فيه هذه العبارة : وهذا من مفردات المذهب.

والمذاهب الأربعة ، على ما لها من اعتبار وتقدير لدى جمهور الأُمّة ، ليست حجّة في دين الله ، إنما الحجّة ما تستند إليه من أدلّة شرعية ، منقولة أو معقولة.

وما يقال عن بعض الآراء إنها شاذة أو مهجورة أو ضعيفة ، فهذا لا يؤخذ على إطلاقه وعمومه ، فكم من رأي مهجور أصبح مشهوراً ، وكم من قول ضعيف في عصر ، جاء من قواه ونصره ، وكم من قول شاذ في وقت هيأ الله له من عرف به وصححه وأقام عليه الأدلّة ، حتّى غدا هو عمدة الفتوى (١).

وجميل جداً ما ينقل عن الإمام الشافعي أنّه قال : رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب (٢).

الانفتاح على الرأي الآخر :

المهمّة الأساس والغاية الكبرى لرجل الدين ، هي معرفة الحقائق الدينية والأحكام الشرعية ، على حقيقتها وواقعها.

والآراء العلمية المختلفة في أي مسألة اعتقادية أو فقهية ، إنّما هي احتمالات وأوجه لتلك المسألة ، فقد يكون أحد تلك الآراء مصيباً لها بشكل

__________________

١ ـ الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ المصدر السابق : ٩٨.

٢١٧

كامل ، أو بشكل نسبي.

ومن أجل أن يتأكّد العالم من صحّة اجتهاده ، وصوابيه رأيه ، لابدّ له من الاطلاع على جميع الاحتمالات والوجوه الواردة في الموضوع.

يقول العلامة الشاطبي في كتابه الموافقات :

فعن قتادة : من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه.

وعن هشام بن عبيد الله الرازي : من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.

وعن عطاء : لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتّى يكون عالماً باختلاف الناس ، فإنّه إن لم يكن كذلك ردّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه.

وعن مالك : لا يجوز إلّا لمن علم ما اختلف الناس فيه (١).

ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل : لا ينبغي لأحد أن يفتي إلّا أن يعرف أقاويل العلماء في الفتاوى الشرعية ، ويعرف مذاهبهم ... ومثل هذا ما رواه ابن القيم عن رواية ابن حنبل : ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم وإلّا فلا يفتي (٢).

وتبعاً لاهتمام علماء السلف بالاطلاع على مختلف الآراء ، ودراستها ومناقشتها ، تكون علم جديد أطلق عليه الفقه المقارن أو علم الخلاف وعرّفوه بأنّه علم يقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية المختلف فيها بين الأئمة أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية وقوادح الأدلة (٣).

__________________

١ ـ الموافقات في أصول الشريعة ٤ : ١٦١.

٢ ـ دراسات في الاختلافات الفقهية : ١٥٩.

٣ ـ الأصول العامة للفقه المقارن : ١٣.

٢١٨

وأصبحت لدينا مكتبة علمية ، تزخر بالمؤلّفات والمصنّفات المخصّصة في نقل الآراء المتعدّدة والمختلفة ، في موضوع بعينه أو جميع أبواب الفقه ، ككتاب اختلاف الفقهاء الكبير والصغير ، لأحمد بن نصر المروزي ، وكتاب الاختلاف في الفقه لأبي يحيى زكريا الساجي ، وكتاب الفقهاء للإمام محمّد ابن جرير الطبري.

وللشيخ محمّد بن الحسن الطوسي ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ ، موسوعة هامة تقع في ثلاثة مجلدات ، بعنوان كتاب الخلاف طبع أخيراً طبعة جديدة محقّقة من قبل مؤسّسة النشر التابعة لجماعة المدرسين في قم سنة ١٤٠٧ هـ.

كما أنّ الاطلاع والانفتاح على الرأي الآخر ، يتيح للعالم فرصة الدراسة والتقويم لذلك الرأي ، ولمستند صاحبه وأدلّته ، فيكون موقفه من الرأي الآخر معتمداً على المعرفة والدراية.

وهذا يستدعي أن يكون التعرّف على الرأي الآخر من مصادره الصحيحة والأساسية ، لا أن يؤخذ من الإشاعات والنقولات غير الموثقّة ، أو من الجهات المضادّة والمناوئة.

فمما يؤسف له اعتماد البعض من العلماء ، في تقويمه وانطباعاته عن الآخرين المخالفين له في الرأي والتوجه ، على ما يقوله المعادون لهم ، كما هو ملحوظ في الكثير من كتب الجدل المذهبي ، والنزاع الطائفي.

ملحوظة في كتاب :

جاء في كتاب الفقه الإسلامي وأدلّته للدكتور وهبة الزحيلي ، رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق : لا يجوز للرجل في مذهب أهل السنّة أن يتزوّج أكثر من أربع زوجات في عصمته في وقت واحد ، ولو في

٢١٩

عدّة مطلقة إلى أن يقول : وذهب الظاهرية والإمامية إلى أنّه يجوز للرجل أن يتزوّج تسعاً ، أخذاً بظاهر الآية : (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) (١) ، فالواو للجمع لا للتخيير ، أي يكون المجموع تسعة (٢).

وما نسبه الدكتور الزحيلي إلى الشيعة هذه المسألة ، هو نموذج للاعتماد على النقولات والإشاعات ، دون الرجوع إلى مصادر الجهة ذاتها.

فمصادر الشيعة في التفسير والحديث والفقه ، مجمعة على عدم جواز الزواج من أكثر من أربع زوجات بالزواج الدائم في وقت واحد ، كما هو رأي أهل السنّة.

فمن أقدم التفاسير الشيعية جاء في التبيان في تفسير القرآن ، للشيخ محمّد ابن الحسن الطوسي ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ ) ، ما يلي : ومن استدل بهذه الآية (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) على أن نكاح التسع جائز فقد أخطأ لأنّ ذلك خلاف الإجماع ... فتقدير الآية : (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ ) (٣) ، فثلاث بدلاً من مثنى ، ورباع بدلاً من ثلاث (٤).

وجاء في مجمع البيان في تفسير القرآن ، للشيخ الفضل بن الحسن الطبرسي ، من أعلام القرن السادس الهجري ، ما يلي : وقوله : (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) : معناها اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، فلا يقال إن هذا يؤدي

__________________

١ ـ النساء (٤) : ٣.

٢ ـ الفقه الإسلامي وأدلّته ٧ : ١٦٦.

٣ ـ النساء (٤) : ٣.

٤ ـ التبيان ٣ : ١٠٧.

٢٢٠