المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

عبد القادر الإدريسي السوداني

المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

المؤلف:

عبد القادر الإدريسي السوداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-86-7
الصفحات: ٣٥٤

وأنّ للشيعة ذنباً في أسفل أجسامهم؟! فهل يضحك الإنسان أم يبكي لهذا الجهل المفرط والتعصّب الحاقد. وهناك طريفة ينقلها الاصفهاني في كتابه ( المحاضرات ) إذْ يقول : سئل رجل كان يشهد على آخر بالكفر عند جعفر بن سليمان ، فقال : إنّه معتزلي ناصبي حروري جبري رافضي ، يشتم علي بن الخطاب ، وعمر بن أبي قحافة ، وعثمان بن أبي طالب ، وأبا بكر بن عفان ، ويشتم الحجّاج الذي هدم الكوفة على أبي سفيان ، وحارب الحسين بن معاوية ، ويوم القطائف؟ فقال له جعفر بن سليمان قاتلك الله ما أدري على أي شيء أحسدك؟ أعلى علمك بالأنساب؟ أم بالأديان؟ أم بالمقالات (١)؟

وقد لعب بعض الكتّاب والمفكّرين دوراً مثيراً في تكريس حالة الجهل والتضليل الإعلامي لدى كلّ مذهب اتّجاه سائر المذاهب ، حيث يقدم أولئك الكتّاب صورة خاطئة تنطوي على الجهل والمغالطات عن هذا المذهب أو تلك الطائفة ، إمّا لغرض في نفس الكاتب أو لاعتماده على المصادر المعادية والمناوئة للجهة التي يكتب عنها ، أو لتقصيره في البحث والمراجعة.

فمثلاً : حينما يطّلع القارئ على كتاب ( كشف الظنون على أسامي الكتب والفنون ) لمؤلفه الشيخ مصطفى بن عبد الله الحنفي ( ١٠١٧ هـ ١٠٦٧ هـ ) والمعروف بالحاج خليفة ؛ فإنّه سيعتبره مرجعاً ومصدراً في موضوعه ، لما فيه من دلالة على سعة اطلاع المؤلف وتقصيه للكتب وفنون المعارف ، ولكن القارئ سيصاب بالدهشة حينما يقرأ ما كتبه المؤلف عن المذهبين الإمامي الشيعي والشافعي حيث مزج بينهما بشكل غريب ولننقل جزءاً من نصّه :

قال : والكتب المؤلفة على مذهب الإمامية الذين ينتسبون إلى مذهب

__________________

١ ـ أصل الشيعة وأصولها : ١٧٨ نقلاً عن محاضرات الأدباء ٤ : ٤١٨.

١٦١

ابن إدريس ، اعني الشافعي رحمه الله ، كثرة ، منها شرائع الإسلام وحاشيته ، والبيان والذكرى والقاعد ، والنهاية ... (١).

وقال عند تفسير الشيخ الطوسي ، فقيه الشيعة : هو أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي فقيه الشيعة الشافعي ، كان ينتمي إلى مذهب الشافعي ( ت ٤٦٠ هـ ) سماه مجمع البيان لعلوم القرآن (٢).

هذا الخلط والخطأ الذي وقع فيه مؤلف كشف الظنون لضعف اطلاعه أو عدم دقته في البحث أصبح نظرية يتناقلها بعض الكتّاب المعاصرين دون بحث أو تمحيص كالمحامي صبحي محمصاني الذي كتب عن المذهب الشيعي قائلاً : ( وهذا المذهب لا يختلف كثيراً عن المذهب الشافعي في فروع الفقه ) (٣).

وحتّى الذين كتبوا في الفِرقَ والمذاهب لم تأتِ أغلب كتاباتهم وفقاً لقواعد التحقيق والموضوعية والبحث ، كما هو الحال في كتاب ( الفَرْقُ بين الفِرَق ) لأبي منصور البغدادي ، وكتاب ( الملل والنحل ) للشهرستاني : إنّه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه ، إلّا أنّه غير معتمد عليه ؛ لأنّه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بـ ( الفَرْق بين الفِرَق ) من تصانيف الأستاذ أبي منصور البغدادي ، وهذا الأستاذ كان شديد التعصّب على المخالفين ، ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه الصحيح ، ثمّ إنّ الشهرستاني

__________________

١ ـ كشف الظنون ٢ : ١٢٨١. ولعله خلط بين ابن إدريس الحلي ( ت ٥٩٨ هـ ) من كبار علماء الشيعة وبين محمّد بن إدريس الشافعي ( ت ٢٠٤ هـ ) مؤسس المذهب الشافعي.

٢ ـ كشف الظنون ١ : ٤٥٢.

٣ ـ المبادئ الشرعية والقانونية : ٣١.

١٦٢

نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب ، فلهذا السبب وقع فيه الخلل في نقل هذه المذاهب (١).

ويسجل الشيخ محمّد شلتوت شيخ الجامع الأزهر هذه الملاحظة على كتب الفرق بقوله :

لقد كان أكثر الكاتبين عن الفرق الإسلامية متأثرين بروح التعصب الممقوت ، فكانت كتاباتهم مما تورث نيران العداوة والبغضاء بين أبناء الملة الواحدة ، وكان كلّ كاتب لا ينظر إلى من خالفه إلا من زاوية واحدة ، هي تسخيف رأيه ، وتسفيه عقيدته بأُسلوب شرُّه أكثر من نفعه ، ولهذا كان من أراد الإنصاف لا يكون رأيه عن فرقة من الفرق إلّا من مصادرها الخاصّة ، ليكون هذا أقرب إلى الصواب وأبعد عن الخطأ (٢).

وقال السبكي في الطبقات عند ذكره لكتاب ( الملل والنحل ) للشهرستاني : ومصنف ابن حزم وإن أبسط منه ، إلّا أنّه مبدّد ، ليس له نظام ، ثمّ فيه من الحطّ على أئمة السنّة ونسبة الأشاعرة إلى ما هم بريئون منه ما يكثر تعداده ، ثمّ ابن حزم نفسه لا يدري علم الكلام حق الدراية ، على طريق أهله (٣).

كما أنّ لكتابات المستشرقين دوراً سيئاً في تضليل أفكار المسلمين وتشويه نظرتهم اتّجاه بعضهم البعض ، وكما هو معروف فإنّ هناك أهدافاً سياسية مغرضة وراء حركة الاستشراق ، لابدّ أن يكون تمزيق شمل الأُمّة

__________________

١ ـ الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ٣ : ٣٥ نقلاً عن المناظرات للرازي : ٢٥.

٢ ـ مقدمة إسلام بلا مذهب : ٢٩.

٣ ـ طبقات الشافعية الكبرى ٣ : ٣٧٦.

١٦٣

الإسلامية وتعميق الخلافات في صفوفها واحداً من أبرز تلك الأهداف التي تسعى حركة الاستشراق لتنفيذها ثقافياً ، من هنا جاءت كتاباتهم عن المذاهب والفرق تخدم هذا التوجّه ، ومؤسف جدّاً أن تكون كتاباتهم مصدراً ومرجعاً يعتمدها بعض المؤلّفين المسلمين لتقييم التيارات والمدارس الإسلامية.

ومما يثير الدهشة والاستغراب أنّ بعض الكتّاب يعترفون بعدم اطلاعهم على آراء وكتب الطرف الآخر ، ولكنهم مع ذلك يسمحون لأنفسهم بإصدار الحكم واتخاذ الموقف المضادّ من ذلك الطرف الذي لم يسمعوا منه ، ولم يطّلعوا على حجّته ، فالعلّامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة يعلن إعراضه وعدم قراءته لكتب بعض المذاهب كالشيعة والخوارج ، ولكنه مع ذلك يكيل لهم القدح والتهم والطعن ، قال ما نصّه :

وشذ بمثل ذلك الخوارج ، ولم يحتفل الجمهور بمذاهبهم بل أوسعوها جانب الإنكار والقدح ، فلا نعرف شيئاً من مذاهبهم ، ولا نروي كتبهم ، ولا أثر لشيء منها إلّا في مواطنهم ، فكتب الشيعة في بلادهم ، وحيث كانت دولتهم قائمة في المغرب والمشرق واليمن ، والخوارج كذلك ، ولكلّ منهم كتب وتآليف وآراء في الفقه غريبة (١).

إنّنا نعيش الآن عصر العلم والمعرفة ، وازدياد حالة الفضول لدى الإنسان للاطلاع على خبايا الكون والحياة ، والتعرّف على أوضاع الشعوب والقبائل النائية والبعيدة ، فهل يصحّ لنا أن نجهل بعضنا البعض ، وينغلق كلّ منّا على مذهبه ومعتقداته دون أن يوسع أفق معلوماته بدراسة سائر الآراء والمذاهب ، والاطلاع على مختلف التيارات والمدارس الإسلامية؟!

__________________

١ ـ تاريخ ابن خلدون ١ : ٤٤٦.

١٦٤

وكما ينبغي لكلّ قادر واع أن يسعى للمعرفة والاطلاع ، فإنّ على اتباع المذاهب أن يعملوا لتعريف مذاهبهم وتبيين وجهات نظرهم دفعاً للتهّم والشبهات ، فالناس أعداء ما جهلوا (١).

إنّ ساحتنا الفكرية تعاني من الجمود والتقوقع والإرهاب فلابدّ لنا من نهضة ثقافية فكرية نرتفع بها إلى مستوى الانفتاح العلمي والتحرّر الفكري والتنافس المعرفي الهادف ، حتّى تتفجّر الطاقات والمواهب وتتبلور الأفكار والآراء ، ونستفيد من إيجابيات كلّ المذاهب الإسلامية لتقديم صورة مشرقة عن الإسلام العظيم للعالم ، ولبناء أسس حضارة إسلامية جديدة ترتقبها كلّ جماهير أمّتنا بشوق ورجاء.

إنّنا بحاجة إلى مؤسّسات علمية فكرية تدرّس قضايا الدين والحياة على ضوء مختلف المذاهب الإسلامية ، والى معاهد ومؤتمرات وندوات تخصّصية لمناقشة موارد الاتفاق والاختلاف بين طوائف المسلمين بروح موضوعية أخوية.

__________________

١ ـ عن الإمام علي عليه أنّه قال : ( المرءُ عدُوُّ ما جهل ) غرر الحكم للآمدي : ٢٩٤ الحكمة ٨٢٤٩.

١٦٥
١٦٦

الباب الثالث

أصالة الوحدة

١٦٧
١٦٨

تمهيد

إنّ الوحدة أصل ثابت من أصول مقاصد الإسلام ، وهدف أساس للأُمّة الإسلامية التي أرادها الله تعالى أُمّة واحدة (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (١) ، والاختلاف والنزاع حالة مضادّة ، ومناقضة لأساس الدين وغايته. يقول تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (٢). ويقول تعالى : (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (٣).

ولسنا بحاجة للوقوف طويلاً للحديث حول ضرورة الوحدة ، وأهمّيتها ، وموقعيتها ، على المستوى الديني ، فذلك أمر مفروغ منه ، واضح لدى كلّ مسلم واعٍ.

لكن ، وبالنظر إلى الواقع التجزيئي الذي تعيشه الأُمّة ، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو : ما هي الخطوة الأولى في طريق الوحدة؟

منذ أكثر من نصف قرن ، كان هناك من يراهن على دور الأنظمة والحكومات ، في العالم العربي والإسلامي ، لكي تصنع واقع الوحدة ، من خلال الأُطُر والمؤسّسات الرسمية ، وعبر العلاقات والتحالفات الثنائية بينها ...

__________________

١ ـ الأنبياء (٢١) : ٩٢.

٢ ـ آل عمران (٣) : ١٠٣.

٣ ـ الأنفال (٨) : ٤٦.

١٦٩

وكانت جماهير الأُمّة تهلّل فرحاً لكلّ مؤسّسة رسمية ترفع راية الوحدة ، أو إطار إقليمي يتبنّى التعاون والتنسيق ، أو أيّ صيغة تبشر بتوجّه وحدوي ، ولو بين دولتين وقطرين من أقطار المسلمين.

لكن هذا الرهان باء بالفشل والخيبة ، وتأكّد لجماهير الأُمّة أنّ معظم الأنظمة والحاكمين ، لا يتوقّع تحقيق وحدة الأُمّة على أيديهم.

فأكثر هذه الأنظمة تدور ضمن أفلاك دولية ، لا ترى أنّ من مصلحتها وحدة الأُمّة ، بل تعمل لإبقائها مجزّأة ممزّقة.

وأغلب الحاكمين تسيطر عليهم نزعة التسلّط والتفرّد ، وليسوا مخلصين لمصلحة الأُمّة ، ولا جادّين في تحقيق آمالها وتطلّعاتها ، كما لا يمتلكون مستوى من الوعي السياسي الحضاري الذي يدفعهم للتعاون فيما بينهم.

من هنا ، أصبحت المؤسّسات الرسمية ذات الطابع الوحدوي هياكل شكلية ، وبقيت الأُطُر دون محتوى ومضمون حقيقي. وانتهت أغلب مشاريع الوحدة إلى التفكّك والخلاف والنزاع.

وهناك من يرى أنّ الوحدة يجب أن تبدأ من جماهير الأُمّة ، وذلك بتعبئة الجمهور ، ودفعه لفرض الوحدة ، وأن يمارس الناس السلوك الوحدوي ، ويجسّدون عملية الوحدة في تعاملهم الاجتماعي.

وإذا ما أصبحت الوحدة مطلباً للناس ، وتحرّكوا لتحقيقه ، فإنّ إرادتهم ستنتصر على القوى والعناصر المناوئة والمضادّة للتوجّه الوحدوي.

ولكن ، كيف يمكن تعبئة الناس باتّجاه الوحدة ، وهناك واقع من التمايز والتنوّع القومي والعرقي والمذهبي والإقليمي والسياسي والطبقي ...؟ وكلّ لون

١٧٠

من ألوان التمايز قد صنع له فلسفة وتنظيراً ، وأشاد عليهما مواقف وهياكل ومؤسّسات ، بهدف الدفاع عن الذات ، والخصائص الممّيزة ، في مواجهة ما يعتبره تهديداً لتلك الخصائص ، ومحاولة لفرض الذوبان ، وتجاوز الحقوق.

كانت الأُمّة في سالف عصورها الأولى ، تعيش حالة حضارية ونموذجية للوحدة ، حيث انصهرت في بوتقة الإسلام شعوب مختلفة ومتمايزة ، عرقياً وقومياً وقبيلياً ، ومع انبثاق مدارس اجتهادية متعدّدة دينياً وسياسياً ، إلّا أنّ الأجواء العامّة للأُمّة ، كانت تنعم بمشاعر الوحدة ، وكانت الأنظمة والقوانين السياسية والاجتماعية قائمة على هذا الأساس.

ومع حصول الكثير من الانحرافات السياسية والإدارية ، على الصعيد الرسمي ، من قبل الحاكمين ، إلّا أنّ الحالة الشعبية كانت تعيش واقع الوحدة والاندماج ، ولم يكن هناك شعور بالتناقض والتعارض ، ما بين الخصائص والميزات العرقية والقومية ، التي لم تكن ممارستها تثير أيّ حسّاسية ، ولا كان يترتّب عليها أيّ أثر ، في الحقوق العامّة ، يميّز بين ذوي تلك الانتماءات ، وما بين الانتماء إلى الكيان الواحد للأُمّة الواحدة.

لكن المؤسف والمؤلم هو ما حصل في هذه العصور المتأخّرة ، من حصول زخم من المشاعر والأحاسيس العميقة في نفوس أبناء الأُمّة ، باتّجاه التأكيد على جوانب التمايز القومي والعرقي والطائفي والمذهبي.

مما يجعل عملية التوعية والتعبئة باتّجاه الوحدة ، تحتاج إلى جهد خارق ، وبرمجة دقيقة ، لكي تتجاوز حالة الشعار والمشاعر ، وتتحوّل إلى أطروحات فكرية ، وبرامج عملية ، تعالج المخاوف والتحفّظات ، وتعطي الاطمئنان لمختلف الجهات ، بأنّ الوحدة لا تعني مصادرة خصائصها وميزاتها ، بل تفسح

١٧١

لها المجال لتشارك في بناء الكيان الشامل ، ولتتكامل مع سائر الجهات والأطراف.

ومشكلة أخرى تواجهنا في طريق تعبئة جمهور الأُمّة باتّجاه الوحدة ، هي وجود الدعاوى والمدّعين ، من حاملي رايات الوحدة ، ورافعي شعاراتها ، من حكّام وأحزاب ، ومراكز قوى وفعاليات ، في الوقت الذي تجيز فيه هذه الدعوات وتستثمر لأغراض مصلحية مناقضة للهدف الوحدوي ، فكم من تجزئة وتفرقة ونزاع جرى تحت رايات الوحدة ، وعلى أنغام شعاراتها؟ ممّا أحدث شيئاً من اليأس وردّة الفعل والتشكيك في الدعوات الوحدوية لدى قطاع عريض من جماهير الأُمّة.

كذلك كلّما حصل الالتباس والخلط ، يصعب على الناس التمييز بين الدعوات الصادقة والأخرى الزائفة.

دور العلماء :

يبدو أنّ علماء الدين هم الجهة الأكثر تأهيلاً وقدوة على شقّ طريق الوحدة أمام الأُمّة وذلك للأسباب التالية :

أولاً : لما يفترض فيهم من أنّهم الأكثر تمسّكاً بتعاليم الإسلام ، والأحرص على تطبيق مبادئه (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (١). والوحدة ، كمبدأ ونظام ، ينبثقان من عمق الدين ، عقيدة وتشريعاً ، لابدّ وأن يحتضنها العلماء ، ويهتمّون بتنفيذ أوامر الله حولها.

ثانياً : والعلماء مدعوون ومطالبون من قبل الله تعالى ، قبل أيّ جهة أخرى ،

__________________

١ ـ فاطر (٣٥) : ٢٨.

١٧٢

بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأيّ معروف أكبر من الوحدة؟ وأيّ منكر أخطر من التجزئة والتفرقة؟

ثالثاً : وللعلماء رصيد كبير من الثقة في نفوس الناس ، ممّا يجعل دعوتهم أكثر مقبولية ، ويمكّنهم من التغلّب على حالات اليأس والتشكيك والالتباس ، وأن يتعاطى الجمهور مع دعوتهم بثقة وجدية.

نشأة الاختلاف في الأُمم السابقة :

ولأهمية موضوع وحدة الأُمّة ، فإنّ القرآن الكريم يتناوله في العشرات من الآيات والسور ، ويعالجه من زوايا متعدّدة وجوانب مختلفة.

فبعض الآيات الكريمة تؤكّد على أهميّة الوحدة وضرورتها في حياة الأُمّة ، كقوله تعالى : (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (١).

وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (٢).

وآيات آخر في القرآن الكريم ، تبين أضرار وأخطار الفرقة والخلاف ، وتحذّر منها. يقول تعالى : (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (٣).

بينما تشير مجموعة من الآيات القرآنية إلى الجهات الداخلية والخارجية ، التي تعمل على تمزيق المجتمع ، وتغذي حالة النزاع والتمزق في الأُمّة ، منها قوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) (٤) ، وقوله

__________________

١ ـ الأنبياء (٢١) : ٩٢.

٢ ـ آل عمران (٣) : ١٠٣.

٣ ـ الأنفال (٨) : ٤٦.

٤ ـ المائدة (٥) : ٩١.

١٧٣

تعالى : (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) (١) ، والمقصود في الآية الكريمة المنافقون أو الطابور الخامس.

ومن المسارات التي سلكها القرآن الحكيم ، في تناول موضوع الوحدة ، التوجيه إلى قراءة أحوال الأُمم السابقة ، في هذا المجال ، وأخذ العبر والدروس من التحوّلات السلبية ، التي حصلت لها ، وعصفت بوحدتها وتماسكها ، وجعلتها عرضة للتفرّق والتمزّق.

فمن أيّ وسط بدأ الخلاف في الأُمم السابقة؟ ومن أيّ شريحة اجتماعية انطلق وانتشر؟

الملفت للنظر ما يؤكّد عليه القرآن الكريم ، في هذا السياق ، من أنّ سبب الاختلاف في تلك الأُمم ، ليس الجهل بالحقائق ، ومنطلق الخلاف ليس من الأوساط الجاهلة بالدين والبعيدة عنه ، وإنّما جاء الاختلاف من واقع العلم والمعرفة ، وانبثق من الأوساط العالمة بالدين ، والتي تحتضن الدعوة والكتب السماوية المقدّسة.

وهذا ما يظهر من آيات قرآنية عديدة. يقول تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا) (٢). (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) (٣). (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (٤).

__________________

١ ـ التوبة (٩) : ٤٧.

٢ ـ البقرة (٢) : ٢١٣.

٣ ـ آل عمران (٣) : ١٩.

٤ ـ آل عمران (٣) : ١٠٥.

١٧٤

وقد استوقفت هذه الملاحظة العديد من العلماء المفسرين للقرآن ، عند تناولهم لبعض هذه الآيات الكريمة.

يقول السيد محمّد حسين الطباطبائي ، عند تفسيره للآية رقم٢١٣ من سورة البقرة : إنّه تعالى يخبرنا أنّ الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين ، وإنّما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين : من العلماء بكتاب الله ، بغياً بينهم وظلماً وعتوّاً (١).

ويتحدّث السيّد عبد الأعلى السبزواري بتوضيح أكثر حول الموضوع عند تفسيره للآية ٢١٣ من سورة البقرة فيقول : والمعنى أنّ الاختلاف إنّما حصل من حملة الكتاب العالمين به ، بغياً بينهم وتجاوزاً ، فحرّفوا كتاب الله تعالى ، وضيّعوه وتعدّوا حدوده.

ويُستفاد من قوله تعالى : (إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ) (٢) أنّ الاختلاف الحاصل في الكتاب والشريعة ، لا يكون إلّا من حملة الكتاب الذين قد استبانت لهم الآيات ، وهم الأصل في الاختلاف الواقع في الأديان الإلهية ، وأنّ غيرهم ، وإن كانوا على الخلاف ، ولكنّهم منحرفون عن الصراط وليسوا بغاة ، ويشهد لذلك الاختلاف في كلّ علم ، فإنّه يكون من العالمين به دون غيرهم ممن لا علم له به.

كما يستفاد من قوله تعالى : (بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (٣) ، أنّ الكتاب إنّما نزل لرفع الاختلاف ، والتوفيق بين الناس ، وإسعادهم بما فيه من الحجج

__________________

١ ـ تفسير الميزان ٢ : ١٢٢.

٢ ـ البقرة (٢) : ٢١٣.

٣ ـ البقرة (٢) : ٢١٣.

١٧٥

الواضحة والبراهين القويمة ، ولكن يشوب الحق أهواء العالمين به ، وأغراضهم الفاسدة ، وزيغهم بتحريف الكتاب ، أو تأويله بما لا يرتضيه ، عزّ وجلّ ، أو بتبديل آياته ، والأخذ بمتشابهاته ، والإعراض عن محكماته (١).

وحول تفسير الآية ١٠٥ من سورة آل عمران يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي :

ثمّ نهاهم عن سلوك مسلك المتفرّقين ، الذين جاءهم الدين والبينات الموجب لقيامهم به ، واجتماعهم ، فتفرقوا واختلفوا ، وصاروا شيعاً ، ولم يصدر ذلك عن جهل وضلال ، وإنما صدر عن علم وقصد سيء ، وبغي من بعضهم على بعض (٢).

ويؤكّد نفس الحقيقة الدكتور وهبة الزحيلي عند تفسيره للآية ٢١٣ من سورة البقرة فيقول : ثمّ ذكر الله تعالى أنّ بعض أهل الكتاب ، جعلوا كتابهم مصدر الاختلاف عدواناً وتجاوزاً للحقّ ، فقال : لقد اختلف الرؤساء والأحبار وعلماء الدين في الكتاب الذي أنزله الله للحقّ بعدما جاءتهم البينات الواضحة ، والأدلّة على سلامة الكتاب ، وعصمته من إثارة الخلاف ، وإنّه لإسعاد الناس ، لا لإشقائهم والتفريق بينهم ، ولم يكن ذلك الاختلاف من أولي العلم القائمين على الدين ، الحافظين له بعد الرسل ، والمطالبين بتقرّر ما فيه ، إلّا حسداً وبغياً ـ جوراً ـ منهم ، وتعدّياً لحدود الشريعة التي أقامها حواجز للناس (٣).

__________________

١ ـ مواهب الرحمن ٣ : ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

٢ ـ تفسير السعدي تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان : ١٤٦.

٣ ـ التفسير المنير ٢ : ٢٤٨.

١٧٦

ولعلّ القرآن الكريم ، من خلال إثارته وطرحه المكرّر ، للدور السلبي الذي لعبه علماء الدين في الأُمم السابقة ، الذين اتّخذوا الدين مطيّة المصلحية ، مع بعضهم البعض ، فمزّقوا وحدة أُممهم ، وحوّلوها إلى أحزاب متناحرة ، وشيع متصارعة باسم الدين.

لعلّ القرآن يريد بذلك تنبيه الأُمّة وتحذيرها ، لتنظر إلى علمائها بعقول واعية ، ولتتعامل معهم بعيون مفتوحة ، لا بثقة عمياء وتقديس مطلق.

إذا اختلف علماء الدين :

قد يحدث الاختلاف والنزاع داخل أيّ شريحة من شرائح المجتمع ، وعلى أيّ مستوى من مستوياته ، وهو أمر سيء ضارّ ، لكن أضراره تبقى ضمن حدود معيّنة ، أمّا إذا حدث الاختلاف والنزاع في وسط علماء الدين ، فإنّ الإضرار ستكون أشدّ ، والخطر أعظم ، وذلك ؛ لأنّه ينطوي على الأبعاد التالية :

استغلال الدين :

في الخلاف بين علماء الدين ، يصبح الدين هو ميدان الصراع ، وتكون القضايا الدينية هي أدوات النزاع والخلاف ، حيث يسعى كلّ طرف للتحصّن بالدين ، في مقابل الطرف الآخر ، وتعزيز موقفه في النزاع بمبرّرات دينية ، وقد يكون ، كما هو الغالب ، جوهر الصراع اختلافاً مصلحياً ، لكنّه ما يلبث أن يأخذ المنحى الديني ، أو يكون في البداية اختلافاً محدوداً ، ضمن مسألة من المسائل الدينية ، لكن حالة الصراع توسّع رقعة الخلاف ، وبشكل مفتعل متكلّف ، يطال أغلب المسائل والقضايا الدينية ، حتّى يصبح الدين الواحد دينين ، والمذهب مذهبين ، والمدرسة الفكرية تنشطر إلى مدرستين.

ثمّ يزايد كلّ طرف على الآخر في التمسّك بالدين ، ويتهمه في دينه

١٧٧

وعقيدته والتزامه ، ويعطي لنفسه الحقّ في إصدار أحكام التكفير والتفسيق والمروق والخروج من الدين.

وهكذا يصبح الدين ساحة صراع ، وخنادق للقتال ، ومواقع للمهاجمة والرمي وتصويب السهام ، فتتمزّق الأُمّة وتحترب وتتشرذم باسم الدين ، وتحت رايات تحمل شعاراته ، وخلف قيادات تلبس مسوحه.

طمس الحقائق الدينية وتحريفها :

لعلّ من أسوأ وأخطر آثار الصراع والخلاف بين علماء الدين ، انعكاسه على طرح وتبيين الحقائق الدينية.

فقد يلجأ بعض طرفي الصراع ، أو كلاهما ، إلى إنكار حقيقة دينية ، أو طمسها ، لأنّ الطرف الآخر يستفيد منها ، أو يقول بها.

وقد يحرّف شيئاً من مفاهيم الدين ، أو ينسب للدين ما ليس منه ، نكاية بالطرف الآخر ، وكم حصل في الديانات السابقة ، وحتّى في الإسلام ، تحريف وتزوير وإضافة وإنقاص ، بسبب حالات الخلاف والصراع ، بين المذاهب والمدارس والجهات الدينية.

وفي أكثر من آية في القرآن الكريم ، جاء التحذير من التحريف والتزوير ، والطمس للحقائق الدينية ، بدوافع مصلحية ، وعلى خلفية التعصّب والاختلاف. يقول تعالى : (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (١) ، أيّ يصرفونه عن المعنى المقصود منه ، وينسبونه إلى معنى آخر.

وحينما يجد عالم الدين نفسه في مقابل عالم آخر ، فإن الدوافع الذاتية

__________________

١ ـ النساء (٤) : ٤٦.

١٧٨

قد تدفعه لإثبات تميزه ، أو تفوقه على مقابله ، وإن كان ذلك على حساب الحق والحقيقة ، إلا من عصم الله تعالى من الورعين المخلصين الأتقياء.

من هنا جاءت تعاليم الإسلام ، وتوجيهات أئمّة الهدى ، للتحذير من الدخول في أي نقاش أو مناظرة تشوبها الدوافع الذاتية ، فالحوار والجدال مع الآخرين المختلفين مع الإنسان دينياً ، يجب أن يكون خالصاً لخدمة الحقّ ، واستكشاف الحقيقة ، وضمن الآداب والضوابط ، التي ترتقي بالحوار والجدال إلى أفضل مستوى ، وأحسن أسلوب ، كما يقول تعالى : (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١) ، (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٢).

روي أنّ رجلاً قال للإمام الحسين بن علي عليه السلام : اجلس حتّى نتناظر في الدين فقال : يا هذا أنا بصير بديني ، مكشوف عليّ هداي ، فإن كنت جاهلاً بدينك ، فاذهب فاطلبه ، مالي وللمماراة؟! وإنّ الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول : ناظر الناس في الدين لئلا يظنّوا بك العجز والجهل (٣).

إنّ الإخلاص للحقيقة والموضوعية في الحوار والمناظرة عند الاختلاف ، تستلزم القبول بالحقّ ، وإن جاء على لسان الخصم ، وحتّى لو كان الطرف الآخر مبطلاً في أصل دعواه واتّجاهه ، لكنّه أورد برهاناً صحيحاً في معرض جداله ، فإنّه لا يصحّ رفض البرهان الصحيح بسبب العجز عن مقابلته.

وهذا ما يشير له حديث رائع مروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق

__________________

١ ـ العنكبوت (٢٩) : ٤٦.

٢ ـ النحل (١٦) : ١٢٥.

٣ ـ منية المريد : ١٧١.

١٧٩

عليه السلام قال فيه : أمّا الجدال بغير التي هي أحسن ، أن تجادل مبطلاً ، فيورد عليك باطلاً ، فلا تردّه بحجّة قد نصبها الله ، ولكن تجحد قوله ، أو تجحد حقاً ، يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله ، فتجحد ذلك الحقّ مخافة أن يكون له عليك فيه حجة ، لأنّك لا تدري كيف المخلص منه.

وفي فقرة أخرى من نفس الحديث : وأمّا الجدال بغير التي هي أحسن ، بأن تجحد حقاً لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله ، وإنّما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحقّ ، فهذا هو المحرّم لأنّك مثله ، جحد هو حقاً ، وجحدت أنت حقاً آخر (١).

وقد أفرد الإمام أبو حامد الغزالي باباً في موسوعته إحياء علوم الدين ، لبيان آفات المناظرة ، وما يتولّد منها من مهلكات الأخلاق (٢).

والغريب أن بعض العلماء يجاهر بتخليه عن الموضوعية ، ومخالفته للحقيقة والأحكام الشرعية ، بمبرّر التمايز عن الطرف الآخر ، ومخالفته فيما ذهب إليه.

وكمثال عن ذلك ، ما ذكره الزرقاني في المواهب اللدنية ، في صفة عمّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رواية علي في إسدالها على منكبه حين عمّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثمّ ذكر قول الحافظ العراقي أن ذلك أصبح شعار كثير من فقهاء الإمامية ، فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم (٣).

وفي تفسيره للآية الكريمة : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا

__________________

١ ـ الاحتجاج ١ : ١٤ ـ ١ذ٥ فصل ( في ذكر طرف مما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجدال ... ).

٢ ـ إحياء علوم الدين ١ : ٦٨.

٣ ـ لاحظ شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية ٦ : ٢٧٦.

١٨٠