المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

عبد القادر الإدريسي السوداني

المسلمون قوّة الوحدة في عالم القوى

المؤلف:

عبد القادر الإدريسي السوداني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-86-7
الصفحات: ٣٥٤

الآخر في استجماع عناصر الاعتقاد التي يصلح لها الدين وتلتمس النجاة ... فإنّ الفريقين يقيمان صلاتهما بالإسلام على الإيمان بكتاب الله وسنّة رسوله ويتفقان اتفاقاً مطلقاً على الأصول الجامعة في هذا الدين فإن اشتجرت الآراء بعد ذلك في الفروع الفقهية والتشريعية فإنّ مذاهب المسلمين كلّها سواء في أنّ للمجتهد أجره أخطأ أم أصاب ...

وعندما ندخل مجال الفقه المقارن ونعيش الشقة التي يحدثها الخلاف الفقهي بين رأي ورأي أو بين تصحيح حديث وتضعيفه نجد أنّ المدى بين الشيعة والسنّة كالمدى بين المذهب الفقهي لأبي حنيفة والمذهب الفقهي لمالك أو الشافعي (١).

وقد كتب الأستاذ عميد زنجاني بحثاً جميلاً حول وفاق المذاهب الإسلامية على الصعيد الفقهي نقتبس من بحثه القيّم المقاطع التالية :

الأحكام الفقهية على قسمين :

الأوّل : وهو الحجر الأساس للفقه الإسلامي وهو أصول العبادات ، وأصول المعاملات وساير الأُسس المتفق عليها في شتّى أبواب الفقه من القضاء والحدود والديات ، وهذه دعائم الفقه ومحكماته التي لم يختلف فيها أساطين الفقه وفقهاء المذاهب الإسلامية.

الثاني : الفروع التي لا يضرّ الاختلاف فيها سواء أكانت في الشؤون العملية أم في المسائل النظرية.

__________________

١ ـ السنة والشيعة حجّة مفتعلة : ٢٠ نقلاً عن كتاب كيف نفهم الإسلام للشيخ محمّد الغزالي : ١٤٢ ـ ١٤٥.

١٢١

من الضروري أن نعرف أنّه هل الوفاقيات هي العمدة في الأهمّيّة والقيمة أم الخلافات بعد تسليط الضوء على المسائل الفقهية نرى وفاق جميع فقهاء السنّة والشيعة في الصلوات الواجبة وعددها ، وأصول أوقاتها ، وأركانها ، وأجزائها الرئيسية ، وعمدة الشرائط المعتبرة فيها ، وأمّا الخلاف فقد وقع في مثل التكتّف هل هو راجح أو جائز أم لا؟

وأنّ المأكول والملبوس هل يجوز السجود عليهما أم لا؟

ونرى في صيام شهر رمضان كذلك أنّ وجوبه والمحرّمات الرئيسية والمبطلات الأصلية مشتركة بين الفقهاء ، وموقع الخلاف في فروع : مثل بقايا الغذاء المتخلّفة بين الأسنان إن ابتلعها عامداً نهاراً.

ومن العبادات الهامة الحجّ فأعمال العمرة من الإحرام والطواف وصلاة الطواف والسعي والتقصير وكذا أعمال الحجّ من الإحرام والوقوف بعرفة والمزدلفة وأعمال منى وغيرها ممّا اتّفق الكلّ عليه وكذا كثير من محرّمات الإحرام وإن اختلفوا في أنّ المحرم هل يجوز له خطبة النساء في حال الإحرام أم لا؟

كما أنّ الأقوال الفقهية المتفق عليها بين جميع المذاهب الفقهية من مذاهب السنّة والشيعة تبلغ حدّاً موفوراً بحمد الله ، كذلك حين نقارن فتاوى الشيعة من مذاهب السنّة نجد أكثرها موافقة لأحد الأقوال من فقهاء أحد المذاهب الأربعة. وقد نرى من تلك الوفاقيات حتّى في أصول الأدلّة الفقهية ، مثلاً الشيعة لا تستند على القياس عند اليأس من العثور على النصّ في الكتاب والسنّة ، بل تنتقل رأساً إلى الإباحة في الشبهات البدوية وإلى الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ونرى ابن حزم يوافق الشيعة وصنف كتاباً

١٢٢

في أبطال القياس والرأي والاستحسان.

يرى فقهاء الإمامية اشتراط الاجتهاد في القاضي وقد وافق عليه الإمام الشافعي ، وقال الشيعة بجواز شهادة الصبيان إذا بلغوا عشر سنين في الجراح والشجاج بشرط عدم تفرّقهم وبشرط اجتماعهم على المباح وقد وافق الإمام مالك على هذا الرأي.

من الجدير بالذكر أنّا نجد في التاريخ شخصيات عديدة من فقهاء الشيعة قد تصدّوا كرسي التدريس والإفتاء على المذاهب الأربعة وغيرها ، وكان منهم شيخ الفقهاء أبو جعفر الطوسي وقد تصدى لكرسي التدريس بدعوة من الخليفة العباسي القائم بأمر الله المتوفّي٤٦٧ هـ.

وكتابه الخلاف في الأحكام لنموذج من عمله الوافر وإحاطته بالأقوال والمذاهب الفقهية تتلمذ عليه٣٠٠ من مجتهدي عصره من السنّة والشيعة.

اتفق جمهور فقهاء الإسلام في قواعد تبتني عليها شتّى الأحكام الشرعية ويستقي كثير من الآراء الفقهية من ينابيعها :

منها : القاعدة المتّخذة عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه (١).

ومنها : قاعدة الرفع المأخوذة عن حديث الرفع (٢).

ومنها : قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام (٣).

__________________

١ ـ الكافي ٥ : ٣١٣ ، باب النوادر ، ح٤٠.

٢ ـ التوحيد : ٣٥٣ ، باب الاستطاعة ، ح٢٤ ، كنز العمال ٤ : ٢٣٣ ، ح١٠٣٠٧.

٣ ـ الكافي ٥ : ٢٨٠ ، باب الشفعة ، ح٤ بدون قيد «الإسلام» ومع قيد «في الإسلام» في معاني الأخبار : ٢٨١ ، وفي المستدرك للحاكم النيسابوري ٢ : ٥٨ بدون قيد في الإسلام وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٤ : ١١٠ مع قيد «في الإسلام».

١٢٣

ومنها : قاعدة نفي العسر والحرج (١).

المتخذة من قوله تعالى (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢).

ومنها : قاعدة اليد المأخوذة من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : على اليد ما أخذت حتّى تؤدي (٣).

ومنها : قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به (٤).

هنا مساحة كبيرة من الاتّفاق في مجال الحديث والعلوم النقلي المأثور :

إنّ المطالع لكتب الحديث المتداولة والموثوق بها لدى كلّ من أهل السنّة والشيعة يجد أن الأحاديث التي تتفق في اللفظ أو المعنى أكثر من الأحاديث التي ينفرد بها مذهب خاص. هذا الاتفاق لا يختصّ بموضوع دون آخر بل يتّسع وينسحب إلى شتّى الموضوعات والمجالات. فنرى طائفة كبيرة من الروايات المشتركة في الفقه ، كما نجد قسماً عظيماً منها في العقائد والأخلاقيات والآداب وغيرها من الموضوعات الإسلامية ، وقد ثبت أن أئمة الحديث والفقه من أهل السنّة كانوا يروون عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ومحدّثي الشيعة وكبار علمائهم ، روى أصحاب الصحاح الستة عن رجال من الشيعة

__________________

١ ـ الكافي ٣ : ٤.

٢ ـ الحج (٢٢) : ٧٨ ، واستدل على قاعدة نفي العسر والحرج أيضاً :

بقوله تعالى : (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ) المائدة (٥) : ٦.

وبقوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة (٢) : ٢٨٦

٣ ـ عوالي اللئالي ١ : ٢٢٤ ، مسند أحمد ٥ : ١٣ لكن نصه : (على اليد ما أخذتْ حتّى تؤديه).

٤ ـ لا توجد روايات تدل بالصراحة عليها بل تمسّك الفقهاء بها كالشيخ الطوسي ( في المبسوط٣ : ١٩ ) وابن إدريس الحلّي ( في السرائر ٢ : ٥٧ ) والعلامة الحلّي ( في تذكرة الفقهاء ١٤ : ١٦٩ ) وغيرهم.

١٢٤

كأبان بن تغلب وجابر الجعفي ومحمّد بن حازم وعبيد الله بن موسى وغيرهم ، وكان المقياس في العمل بالحديث ورواية الراوي هو الثقة بصدق الراوي وأمانته في النقل ـ سنياً كان أو شيعياً ـ كالحكمة التي يأخذها المؤمن متى وأنى وجدها.

وهذا هو نفس المقياس الذي يعتمد عليه عند الشيعة الإمامية. وكان محدّثوا الشيعة كثيراً ما يروون الأحاديث النبوية بطرق غير أئمّة الشيعة كثيراً ما يروون الأحاديث النبوية بطرق غير أئمّة أهل البيت وأصحابهم ، وفقهاء الشيعة يستندون في الأحكام الشرعية إلى الأحاديث المروية ممن خالفهم في المذهب إذا توفّرت شرائط الحديث واسموا أخبارهم بالموثّقات (١).

لا .. للتكفير :

أراد الإسلام لمجتمعه أن يكون مجتمعاً قائماً على التسامح والرحمة ، وأن تكون أبواب المجتمع المسلم مفتوحة مشرعة على أبناء البشرية جمعاء لا استقطابهم واحتوائهم تحت راية الإيمان بالله والخضوع لشريعته. لذلك لم يتشدّد الإسلام في وضع شرائط ومؤهّلات الانتماء لكيانه الاجتماعي. فمجرّد إعلان الشهادتين ( لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ) كاف لقبول عضوية الفرد في مجتمع المسلمين ، بأن يصبح جزءاً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم. ثمّ يبقى المجال مفتوحاً لتفاوت مستوى الإخلاص ودرجات الإيمان والتقوى بين أفراد المجتمع.

ولأنّ في الناس من يحاول إلباس الدين ثوب أنانيته ونظرته الضيّقة أو

__________________

١ ـ مجلة التوحيد ، العدد٧ ، السنة الثانية : ٥٠ ـ ٥٥.

١٢٥

المصلحية فقد حارب الإسلام ورفض أيّ دور بوليسي على بوّابة الإسلام ، بأن ينصب أحد من نفسه شرطياً يطرد الراغبين في الدخول إلى رحاب المجتمع الإسلامي ، أو يحكم بإخراج أحد ممن يعيش في ظلال الإسلام.

فبنصّ قاطعٍ صريح ينهى الله سبحانه وتعالى عن رفض من يتظاهر بقبول الإسلام وإن كان ذلك المتظاهر قد خاض لتوّه معركة ضدّ الإسلام وقاتل المسلمين ، يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (١).

ففي الحرب إذا وجّه أحد المحاربين الكافرين تحيّة الإسلام ( السلام عليكم ) لأحد من المسلمين كإعلان منه بالانتماء للإسلام وجب على المسلمين قبوله واعتباره فرداً منهم مهما كانت دوافعه وخلفيّاته وسوابقه.

ونستعرض فيما يلي بعض الأحاديث والنصوص وآراء العلماء التي تؤكّد تسامح الإسلام وسعة رحاب كيانه الاجتماعي :

يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق أحد أعلام السلفيين المعاصرين :

إنّنا نحكم لشخص ما أو لقوم ما بالإسلام إذا ظهر لنا من أحوالهم أو في إشارة ترشد إلى ذلك كأن نجدهم يصلّون أو يسيرون في طرقات المسلمين ، أو يلبسون ملابسهم ، أو يسمّون على طعامهم كالمسلمين ، أو يشهدون أمامنا أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله.

والدليل على ذلك أنّ الله تعالى يقول : (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ

__________________

١ ـ النساء (٤) : ٩٤.

١٢٦

السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) (١) ، وهذا من الله إنكار على بعض المسلمين الذين قتلوا في الحرب رجلاً مع رفع يديه مستسلماً للمسلمين شاهداً شهادة الإسلام ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأسامة بن زيد الذي قتل في الحرب رجلاً بعد أن قال لا إله إلّا الله : أقتلته بعد أن قال لا إله إلّا الله! وما تفعل بلا إله إلّا الله إذا جاءت يوم القيامة! فقال أسامة يا رسول الله ، أنما قالها متعوّذاً! فقال صلى الله عليه وآله وسلم : هلا شققت عن قلبه! وذلك أنّ هذا الرجل الذي قتله أسامة كان قتل طائفة من المسلمين فلمّا علاه أسامة بالسيف قال : لا إله إلّا الله! وفي هذه قرينة أكيدة تبلغ درجة الدليل أنّ مثل هذا كافر القلب وأنّه لم يقل ذلك إلّا خوفاً من السيف ومع ذلك أمرنا الرسول أن نكفّ عنه حتّى مع عدم أمننا من انقلابه علينا بعد ذلك وقتاله لنا. وهذا من أعظم الأدلّة على أنّ لا إله إلّا الله تحرّم علينا دم قائلها حتّى لو قطعنا بيقين أنّه كاذب في هذه الكلمة.

ومن الأدلّة أيضاً على وجوب معاملة الرجل معاملة المسلمين حتّى لو لم يقم عندنا الدليل على إسلامه حقيقةً قولُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف (٢).

ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كافّة الوفود التي جاءته إسلامها وشهد لها بذلك وعاملهم معاملة المسلمين مع أنّ كثيراً منهم لم يكن الإيمان قد دخل قلوبهم بعد ، وكثير منهم كان يجهل حقائق الإيمان ، كما قال تعالى : (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٣).

__________________

١ ـ النساء (٤) : ٩٤.

٢ ـ صحيح البخاري ١ : ٩ و ١٣.

٣ ـ الحجرات (٤٩) : ١٤.

١٢٧

وهذه شهادة من الله سبحانه على أناس أنّهم لم يدخل الإيمان في قلوبهم بعد ومع ذلك أمرهم سبحانه أن يقولوا : أسلمنا ، ولا شكّ أنّ قولهم أسلمنا يلزم المؤمنين أن يعاملوهم بالإسلام فيكفّوا عن دمائهم ويلقوا عليهم السلام ونحو ذلك من حقوق المسلم على المسلم.

بل أمرنا الكتاب والسنّة بالحكم بالإسلام لكلّ من أظهر شيئاً من الدين وأعلن الدخول في الإسلام حتّى لو كان منافقاً كاذباً كالأعراب الذين أعلنوا الإسلام ولم يفهموه ولم يعلموا حقائق الإيمان بعد ، وكالمتعوّذين الخائفين الذين قد يعلنون الإسلام ويخفون من الكفر ما الله به عليم ، وكلّ أولئك أمرنا الله أن نقبل علانيتهم وندع سرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى ، كما قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علانية المنافقين وعاملهم بذلك ، ولم يعاملهم بما أظهر الله سبحانه وتعالى للنبي من أسرارهم ، وبما وقف عليه الرسول نفسه من أخبارهم بل ترك معاقبتهم على سوء نيتهم لله سبحانه وتعالى (١).

وفي صحيح البخاري بسنده قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :

مَنْ شهد أن لا إله إلّا الله ، واستقبل قبلتنا ، وصلّى صلاتنا ، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم ، له ما للمسلم ، وعليه ما على المسلم (٢).

وفيه أيضاً بالإسناد إلى أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مَن صلّى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته (٣).

__________________

١ ـ فصول من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله : ٩٦ ـ ١٠٠.

٢ ـ صحيح البخاري ١ : ١٠٣

٣ ـ المصدر السابق : ١٠٢.

١٢٨

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحرقة فصبّحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم ، فلما غشيناه قال : لا إله إلّا الله ، فكفّ الأنصاري عنه فطعنته برمحي حتّى قتلته ، فلمّا قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فقال : يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلّا الله؟ قلت : كان متعوّذاً.

قال : فما زال يكرّرها حتّى تمنّيت أنّي لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم (١).

وفي الصحيحين ـ واللفظ للبخاري ـ بالإسناد إلى المقدار بن عمرو أنّه قال : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفّار فاقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثمّ لاذ منّي بشجرة فقال : أسلمت لله ، أأقتله يا رسول الله ، بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقتله فإن قتلته فإنّه بمنزلتك قبل أن تقتله ـ أي أصبح مؤمناً ـ وأنك بمنزلته قبل ان يقوم كلمته التي قال ـ أي تكون كافراً حربياً ـ (٢).

ويعلق السيّد شرف الدين رحمه الله على هذا الحديث قائلاً :

ليس في كلام العرب ولا غيرهم عبارة هي أدلّ على احترام الإسلام وأهله من هذا الحديث الشريف ، وأي عبارة تكايله في ذلك أو توازنه وقد قضى بأنّ المقدار على سوابقه وحسن بلائه لو قتل ذلك الرجل لكان بمنزلة الكافرين المحاربين لله ولرسوله ، وكان المقتول بمنزلة واحد من أعاظم السابقين وأكبر البدريين الأحديين ، وهذه أقصى غاية يؤمها المبالغ في احترام

__________________

١ ـ المصدر السابق : ج٨ ، ٣٦ «بتلخيص» وصحيح مسلم ١ : ٦٨ «بتلخيص» ..

٢ ـ صحيح البخاري ٥ : ١٩ وصحيح مسلم ١ : ٦٦ ـ ٦٧.

١٢٩

أهل التوحيد فليتق الله كلّ مجازف عنيد (١).

وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في خبر سفيان بن السمط قال : الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس ، شهادة لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت وصيام شهر رمضان (٢).

وقال سلام الله عليه في خبر سماعة : الإسلام شهادة ان لا إله إلّا الله ، والتصديق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المناكح والمواريث ، وعلى ظاهره جماعة الناس (٣).

وقال الإمام محمّد الباقر عليه السلام في صحيح حمران بن أعين من جملة حديث : والإسلام ما ظهر من قول أو فعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها ، وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث ، وجاز النكاح ، واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ، فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الإيمان (٤).

قال مغنية : قال صاحب مصباح الفقيه الآغا رضا الهمداني في الجزء الثالث من كتاب الطهارة ص٤٩ : من أقر بالشهادتين يعامل معاملة المسلمين من جواز المخالطة والمناكحة والتوارث حتّى ولو علم نفاقه وعدم اعتقاده (٥).

__________________

١ ـ الفصول المهمّة في تأليف الأمّة : ١٨ ـ ١٩.

٢ ـ الكافي ٢ : ٢٤.

٣ ـ المصدر السابق : ٢٥.

٤ ـ الكافي ٢ : ٢٦ ، الحديث٥ ، باب (الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان).

٥ ـ الشيعة في الميزان : ١١٦.

١٣٠

وهكذا أراد الإسلام لأبنائه أن يتربّوا على سعة الأفق ورحابه الصدر وروح التسامح ليستوعبوا ما قد يحدث بينهم من اختلاف في الرأي وتفاوت في الأفكار.

فما دام الجميع يرفعون شعار الإسلام ويعلنون الالتزام به فهم مسلمون مهما تعدّدت مذاهبهم وتنوّعت فرقهم. كيف والأصول واحدة متفق عليها بين المذاهب ، والأُسس واحدة ينطلق منها الجميع؟!

بيد أنّ مرضاً خبيثاً تفشّى في بعض الأوساط الإسلامية هو مرض التسرّع في تكفير من يخالفهم في المذهب أو الرأي ، فالإسلام عند هؤلاء المرضى محدود النطاق ضيق الإطار يتلخّص فيما يرونه ويعتقدونه ومن حادّ عنه قيد شعرة خلعوا عنه رداء الإسلام وحكموا بكفره وزندقته!

الخوارج أوّل من ابتدع التكفير :

بعدما اضطرّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى قبول التحكيم في حربه بصفين ضد تمرّد معاوية بن أبي سفيان سنة ٣٧ هـ ، تكتّل جماعة من جيش الإمام علي معلنين مخالفتهم للصلح مع معاوية وقبول التحكيم ، وخرجوا على طاعة الإمام وبدؤوا بتكوين نظرية وفلسفة لخروجهم ورفضهم التحكيم ، وتطرّفوا في موقفهم إلى حدّ الحكم بكفر الإمام علي ، وشنّ الحرب ضد حكومته وقتل أتباعه وأصحابه (١).

ويذكر التاريخ بعض موارد تطرّفهم منها : أنّهم أصابوا في طريقهم مسلماً ونصرانياً فقتلوا المسلم لأنّه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣٤.

١٣١

واستوصوا بالنصراني وقالوا : أحفظوا ذمة نبيّكم (١)!

وأقبل واصل بن عطاء مسافراً مع رفقه له فاحسّ بالخوارج متمركزين في أحد منعطفات الطريق ، فأصاب الهلع رفاقه من بطش الخوارج لكنّه طمئنهم بأنّه سيؤمّن لهم النجاة بادعائه أنّه وأصحابه مشركون أمام الخوارج ، وبالفعل لم يعتد الخوارج عليهم بل طبّقوا عليهم قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (٢)!

قيل : لما أقبلت الخارجة من البصرة حتّى دنت من النهروان رأى عصابة منهم رجلاً يسوق بامرأة على حمار ، فدعوه فانتهروه فأفزعوه وقالوا له : من أنت؟ قال : أنا عبد الله بن خبّاب صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فقالوا له : أفزعناك؟ قال : نعم. قالوا : لا روع عليك ، حدّثنا عن أبيك حديثاً سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تنفعنا به. فقال : حدّثني أبي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال : تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه ، يمسي فيها مؤمناً ويُصبح كافراً ، ويُصبح كافراً ويمسي مؤمناً. قالوا : لهذا الحديث سألناك ، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيراً. قالوا : ما تقول في عثمان في أوّل خلافته وفي آخرها؟ قال : إنّه كان محقّاً في أوّلها وفي آخرها. قالوا : فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده؟ قال : إنّه أعلم بالله منكم وأشدّ توقّياً على دينه وأنفذ بصيرة. فقالوا : إنّك تتّبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها ، والله لنقتلنّك قتلة ما قتلناها أحداً.

__________________

١ ـ شرح نهج البلاغة ٢ : ٢٨٠.

٢ ـ التوبة (٩) : ٦ شرح نهج البلاغة ٢ : ٢٨١ (بتصرف).

١٣٢

فأخذوه وكتفوه ثمّ أقبلوا به وبامرأته وهي حُبلى متم ، حتّى نزلوا تحت نخل مواقير ، فسقطت منه رطبة ، فأخذها أحدهم فتركها في فيه ، فقال آخر : أخذتها بغير حلّها وبغير ثمن ، فألقاها. ثمّ مرّ بهم خنزير لأهل الذمّة فضربه أحدهم بسيفه ، فقالوا : هذا فساد في الأرض ، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه ، فلمّا رأى ذلك منهم ابن خبّاب قال : لئن كنتم صادقين فيما أرى فما عليّ منكم من بأس ، إنّي مسلم ما أحدثتُ في الإسلام حدثاً ، ولقد آمنتموني قلتم : لا روع عليك. فأضجعوه فذبحوه ، فسال دمه في الماء ، وأقبلوا إلى المرأة فقالت : أنا امرأة ألا تتّقون الله! فبقروا بطنها ، وقتلوا ثلاث نسوة من طيّء ، وقتلوا أمّ سنان الصيداويّة (١).

هكذا ابتلى الخوارج بمرض تكفير المسلمين المخالفين لهم في الرأي ، وكانت ظاهرة جديدة في الأُمّة ، حيث لم يتجرّأ عليها أحد قبلهم مع حصول الاختلاف في الرأي والموقف والذي قد يصل إلى حدّ الاقتتال كمقتل الخليفة عثمان وحرب الجمل وحرب صفين دون أن يكفّر أحد من الطرفين الآخر.

وتسرّب هذا الداء الوبيل من الخوارج لغيرهم ، وصار التكفير سلاحاً في معارك الخلاف المذهبي والفكري لدى الفئات المتعصّبة المتطرّفة ، حيث تعتبر كلّ جهة متعصبة أنّ الإسلام محصور في عقيدتهم وفهمهم ، وأنّ من خالف ذلك الفهم ولو أدنى مخالفة فهو خارج عن حظيرة الإسلام محكوم بالكفر أو الشرك!

فمثلاً ينقل عن محمّد بن موسى الحنفي قاضي دمشق المتوفي سنة ٥٠٦ هـ

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٣ : ٣٤١.

١٣٣

قوله : لو كان لي أمر لأخذت من الشافعية الجزية (١).

كما ينقل عن أبي حامد الطوسي المتوفي سنة ٥٦٧ هـ قوله : لو كان لي أمر لوضعت عليهم [ الحنابلة ] الجزية (٢).

ومعنى وضع الجزية اعتبارهم غير مسلمين يعاملون كأهل الكتاب.

وحينما طرح ابن تيمية الدمشقي المتوفّى سنة ٨٦٧ هـ آراءه المخالفة لآراء سائر العلماء والمذاهب نودي في دمشق : من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصاً الحنابلة (٣).

يعني أنّهم كفرة محاربون.

على أنّ الشيخ ابن حاتم الحنبلي يقول : من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم (٤).

وعكسه الشيخ أبو بكر الواعظ البكري المتوفى ٤٧٦ هـ في جوامع بغداد ذهب إلى تكفير الحنابلة (٥).

وهذا الشيخ الملقّب بسيف الدين الآمدي المتوفى سنة ٦٣١ هـ كان حنبلياً ثمّ صار شافعياً وتعصّب عليه جماعة من فقهاء البلاد وحكموا عليه بالكفر والزندقة (٦).

__________________

١ ـ تاريخ الإسلام ٣٥ : ١٤٨.

٢ ـ المصدر السابق ٣٩ : ٣٩٨.

٣ ـ الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ١ : ٨٩.

٤ ـ تذكرة الحفاظ ٣ : ١١٨٧ ، وفي الوافي بالوفيات جاء اسمه هكذا (عتيق بن عبد الله البكري) ج١٩ : ٢٩٥.

٥ ـ شررات الذهب ٤ : ٤٩.

٦ ـ لاحظ وفيات الأعيان ٣ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

١٣٤

ولعلّ من أعظم تلك الفتن التي وقعت بين المذاهب هي فتنة ابن القشيري الشافعي عندما ورد بغداد سنة ٤٦٩ هـ وجلس في النظامية وأخذ يذمّ الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم ، وكتب إلى الوزير يشكو الحنابلة ويسأله المعونة ، وهجم أصحاب القشيري على زعيم الحنابلة عبد الخالق بن عيسى ، ووقع قتال بين الطرفين وأغلق أتباع القشيري الشافعيون أبواب سوق مدرسة النظام ، وغضب أبو إسحاق الشيرازي وكاتب فقهاء الشافعية نظام الملك غضباً لتسلّط الحنابلة واتسعت الفتنة وفكر الخليفة في حلّ هذه المشكلة واهتدى إلى سعيه في الصلح ، فجمع القشيري وأصحابه وأبا جعفر الشريف زعيم الحنابلة وأصحابه بمحضر الوزير ، فقام القشيري رئيس الشافعية والتفت إلى الوزير عندما طلب منه الصلح وقال : أيّ صلح يكون بيننا؟! إنّما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دين أو تنازع في ملك ، فأمّا هؤلاء القوم فإنّهم يزعمون إنّا كفّار ونحن نزعم أنّ من لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً فأيّ صلح يكون بيننا (١)؟!

محنة خلق القرآن :

وفي أواخر القرن الثاني الهجري أُثيرت مسألة على بساط البحث بين علماء المسلمين وهي تحديد هوية القرآن هل هو مخلوق محدث أوجده الله أو هو قديم لانتسابه لله سبحانه (٢)؟

بالطبع ليس لنتيجة البحث هذا أيّ تأثير على أصول العقيدة ولا برامج التشريع ولا مصالح الحياة ، بل هو بحث هامشي لا داعي له لذلك امتنع الأئمّة

__________________

١ ـ ذيل طبقات الحنابلة ١ : ٦ (بتصرّف).

٢ ـ لاحظ شرح الأصول الخمسة : ٥٢٧ ، ولاحظ بحوث في الملل والنحل ٢ : ٢٥٣.

١٣٥

الهداة من الخوض فيه ، فقد سأل الرّيّان بن الصلت الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام : ما تقول في القرآن؟ فقال : كلام الله لا تتجاوزوه ، ولا تطلبوا الهدى في غيره فتضلوا (١).

فالمهمّ هو الالتزام بالقرآن وعدم الضلال عنه.

وحدّث سليمان بن جعفر الجعفري قال : قلت لأبي الحسن موسى بن جعفرعليهما السلام : يا ابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا ، فقال قوم : إنّه مخلوق ، وقال قوم : إنّه غير مخلوق؟ فقال عليه السلام : أما إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون ، ولكنّي أقول : إنّه كلام الله (٢).

إنّ امتناع الأئمّة من إعطاء رأيهم الصريح في الموضوع آنذاك إنّما هو ابتعاد منهم عن المشاركة في فتنة مشبوهة كما أشار إلى ذلك الإمام علي الهادي عليه السلام حيث كتب إلى بعض شيعته ببغداد الرسالة التالية : بسم الله الرحمن الرحيم. عصمنا الله وإيّاك من الفتنة فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة. نحن نرى : أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلّا الله عجل الله تعالى فرجه ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين جعلنا الله وإيّاك من (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (٣).

ولكن هذه المسألة الجزئية الهامشية أصبحت ملاكاً وحدّاً فاصلاً بين

__________________

١ ـ عيون أخبار الرضا عليه السلام ٢ : ٦٢.

٢ ـ توحيد الصدوق : ٢٢٤ باب القرآن ما هو ، ح٥.

٣ ـ المصدر السابق : ج٤ ، الأنبياء (٢١) : ٤٩.

١٣٦

الإيمان والكفر لدى المتعصّبين والمتطرّفين فهذا أبو عبد الله محمّد بن يحيى الذهلي ( ت سنة ٢٥٥ ) يقول : من زعم أنّ القرآن محدثٌ فهو عندنا جهمي لا يشك فيه ولا يمترى (١).

وشاع التكفير حتّى عند النساء يحدثنا الخطيب في تاريخ بغداد إنّ امرأة تقدّمت إلى قاضي الشرقية عبد الله بن محمّد الحنفي ، فقالت : إنّ زوجي لا يقول بمقالة أمير المؤمنين في القرآن ، ففرّق بيني وبينه (٢).

واتسع الخلاف بين المسلمين ، من تكفير البعض للبعض فطائفة تقول إنّ من قال القرآن غير مخلوق فهو كافر ، وعليه ابن أبي داود ( ت ٢٤٠ هـ ) وجماعته (٣) ، حتّى إنّ الخليفة الواثق استفكّ من الروم أربعة آلاف من الأسارى ، ولكنّه اشترط أنّ من قال القرآن مخلوق يخلى من الأسر ، ويعطى دينارين ومن امتنع عن ذلك فيترك في الأسر ولا يفكّ ، بمعنى أنّه رتّب آثار الكفر على من لم يقل بخلق القرآن (٤).

ولما قدم أحمد بن نصر إليه قال له الواثق : ما تقول في القرآن؟ [ وكان أحمد ممن يذهب إلى أنّ القرآن غير مخلوق ] فقال : كلام الله ، وأصرّ على رأيه غير متلعثم فقال بعض الحاضرين : هو حلال الدم! وقال ابن أبي داود : هو شيخ مختل لعل له عاهة أو تغيّر عقله ، يؤخّر أمره ويستتاب! فقال الواثق : ما أراه إلّا داعياً للكفرة ، ثمّ دعا بالصمصامة فقال : إذا قمت إليه فلا يقومنّ أحد

__________________

١ ـ سير أعلام النبلاء ١٢ : ٢٨٩.

٢ ـ تاريخ بغداد ١٠ : ٧٤.

٣ ـ الكامل في التاريخ ٧ : ٢٢.

٤ ـ لاحظ تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣٩ ، ولاحظ الكامل في التاريخ ٧ : ٢٤.

١٣٧

معي فإنّي احتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعرفه ، ثمّ أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيّد ، وأمر أن يشدّ رأسه بحبل ، وأمرهم أن يمدّوه ، ومشى إليه برجله وضرب عنقه ، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد (١)!

أليس مؤلماً أن يسبّب الخلاف في الرأي مثل هذه الجرائم المرعبة؟

وأليس عجيباً أن يحدث مثل ذلك في أمُة يقوم دينها على التسامح ويدعو إلى الرحمة ويؤكّد على حريّة الإنسان وكرامته وحرمة المسلم ومكانته؟

وقد نال مذهب الشيعة الإمامية حصّة الأسد في فتاوى التكفير التي يصدرها المتعصّبون البعيدون عن روح الإسلام وأخلاقه وكان من أواخرهم الشيخ ( نوح الحنفي ) فقد أفتى بتكفير الشيعة وأوجب قتلهم وأباح سبي ذراريهم ونسائهم سواء تابوا أم لم يتوبوا (٢)!

المتعصّبون يشهّرون سلاح التكفير :

كان مؤمّلاً أن تتجاوز الأُمّة الإسلامية هذه التفاهات وتتخلّص من أمراض القرون الماضية في هذا العصر الحديث ، وحيث تواجهها تحدّيات عظيمة ، وتعيش في عصر التقدّم العلمي والتكنولوجي ، ولكن ما يدعو إلى التألّم والأسف ظهور حركات وتوجّهات متعصّبة تريد إعادة ما حدث في التاريخ من صراعات طائفية مريرة تمزّق صفوف الأُمّة في وقت أحوج ما

__________________

١ ـ طبقات الشافعية الكبرى ١ : ٢٨٦ (بتصرّف).

٢ ـ العقود الدرّية في تنقيح الفتاوى الحامدية ٢ : ١٧٨ باب البردّة والتعزير نقل نص فتوى الشيخ نوح صاحب الفتوى الحامدية لحامد بن علي العمادي الحنفي ( ت ١١٧١ هـ ) ونقّحه محمّد أمين بن عمر ابن عبد العزيز ( ت ١٢٥٢ هـ ) وسمّاه بـ (العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية).

١٣٨

تكون فيه إلى الوحدة والتماسك لتدافع عن مقدّساتها المغتصبة وثرواتها المنهوبة ، وعاد سلاح التكفير من جديد تشهرّه هذه الفئات في وجه من يخالفها المعتقد أو الرأي من المذاهب الإسلامية.

ويستنتج الشيخ محمّد جواد مغنية بعد مطالعته لأهم كتب المتعصّبين ما يلي :

وأهم ما يلفت النظر في هذه الكتب هو الحرص الشديد على تكفير أُمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ـ غيرهم ـ حرصاً بلغ حدّ الشهوة أو الانتقام ، فمبدأهم الديني والاجتماعي والسياسي هو : أمّا أن تكون وهابياً وأمّا القتل لك ، والنهب لأموالك والسبي لذراريك (١).

كما يشير إلى ذلك الدكتور محمّد البهي عند دراسته لهؤلاء بقوله :

وهنا في هذه المبالغة يكمن عامل الفرقة بينهم [ المتعصّبين ] وبين بقيّة المسلمين ، فبينما هم يرون أنفسهم موحّدين أو أهل توحيد ، ويرون غيرهم ـ ممن لا يسلك سبيلهم في المبالغة ـ مشركين ، إذا بغيرهم ينظرون إليهم على أنّهم أهل تشدّد وتزمّت ، وأصحاب ضيق في الأفق والفهم لهذا الأصل الإسلامي وهو أصل التوحيد ، لأنّ زيارة القبور ، أو إقامتها على وجه الأرض سوف لا يعيد الآن بحالٍ وضع الوثنية العربية الأولى على عهد الدّعوة الإسلامية ومن ثمّ لا وجه لخشية الشرك ، فضلاً عن وقوعه ممن يقيم القبر أو يزوره.

والوثنية التي يمكن أن توجد في القرن العشرين ليست وثنية الأحجار أو

__________________

١ ـ هذه هي الوهابية : ٧.

١٣٩

الأموات ، إنّما هي وثنية الأحياء أصحاب السلطان والنفوذ. ولا يُقضى على هذه الوثنية بالدعوة إلى هدم القبور ، وتحريم زيارتها وإنّما بتحقيق شعور المساواة بين الحاكم والمحكوم ، وبتحقيق الإخاء والتعاون في الإسلام بين الفرد والمجتمع ، وتحقيق بقيّة المبادئ الإسلامية الأُخرى في المجتمع الإسلامي (١).

خطورة التكفير :

منحى التكفير واتهام الناس في أديانهم أمر مرفوض شرعاً وعقلاً ، والذين كانوا يسلكون هذا المنحى إنّما ينطلقون من جهلهم بحقائق الإسلام ومن ابتعادهم عن أخلاقه وتعاليمه الحضارية السامية ، وبالتالي فهم يشكّلون خطّاً شاذّاً منحرفاً في ثقافة الأُمّة وتاريخها.

وبمراجعة عابرة لأحكام الإسلام وآدابه ، ولسيرة ومواقف أئمة الهدى وعلماء الأُمّة المخلصين الواعين نكتشف مدى انحرافية ذلك المنحى وأنّه مظهر لحالات التخلّف والانحطاط التي عصفت بالأُمّة ، في الوقت الذي تتجلّى حضارية الفكر الإسلامي ، وتقدّمية مناهجه وسمو أخلاق الملتزمين به.

فهذا علي بن أبي طالب عليه السلام حينما تمرّد عليه الخوارج ، وهو الحاكم الشرعي المنتخب من جماهير الأمّة ، رغم أنّ الخوارج تجرأوا على الإمام برميه بالكفر والشرك ، إلّا أنّه وانطلاقاً من بصيرته الدينية النافذة ، وخلقه الإسلامي الرفيع ، رفض أن يعتبر الخوارج الذين كفّروه كفّاراً ، أو أن يحكم بخروجهم عن الإسلام.

__________________

١ ـ الفكر الإسلامي في تطوره : ٨١.

١٤٠