الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

وزكرياء ، وميمون بن إبراهيم ، ومحمد بن موسى المنجم ، وأخاه أحمد بن موسى ، وعلي بن يحيى بن أبي منصور ، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً ، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له : أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك ، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له : يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم ، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين !

وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له ، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد ، فقال لهما عبيد الله : إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما ، وأخذ ما تملكان ، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار ، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين ، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد ، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن ، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام ، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك ، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد ، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد ، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار ، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق ، وهو يخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً

٦١

حتى أطلق أرزاقي ، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً ، كما أخذ فضلاً فحبس ، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم ، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار ، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي ، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار ، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل ، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل ، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هو لم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه ، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك ، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك ، فقال : أبلغ أمير المؤمنين أني ميت ، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج ، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات ، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح ، فقال لهما المتوكل : إني أريد مالي الذي ضمنتماه ، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة ، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد ، وقبضا أمتعته كلها ، وجميع ملكه ، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين ، وأخذا ما أخذا من أصحابه .. الخ . » .

أقول : هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية ، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين ! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلقيبه المتوكل على الله ! وأي إدارة هذه ؟ وأي خلافة لرسول الله هذه ؟!

٦٢

نكب كاتب إيتاخ سليمان بن وهب ثم احتاج اليه !

روى التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة « ١ / ٥١ » كيف أخذ المتوكل كاتب إيتاخ ، قال : « سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول : كان المتوكل من أغلظ الناس على إيتاخ ، فذكر فيه حديثاً طويلاً ، وصف فيه كيف قبض المتوكل على إيتاخ وابن وهب ببغداد لما رجعا من الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب .

قال سليمان بن وهب : وساعة قبض على إيتاخ ببغداد قبض عليَّ بسر من رأى ، وسُلِّمْتُ إلى عبيد الله بن يحي . وكتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى ، ليتقوى به على الأتراك ، لأنه كان معه بضعة عشر ألفاً لكثرة الظاهرية بخراسان ، وشدة شوكتهم ، فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال : هذا عدوي ففصل عظامه ! هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام ، وأبدأه لحاجتي فيرد عليَّ كما يرد المولى على عبده ، وكل ما دبره إيتاخ فعن رأيه ! فأخذني إسحاق وقيدني بقيد ثقيل ، وألبسني جبة صوف ، وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب ، فكنت لا أعرف الليل من النهار ، فأقمت كذلك نحو عشرين يوماً لايفتح على الباب إلا حملةً واحدة في كل يوم وليلة ، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء حار ، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان ، وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه .. » ثم روى كيف اضطر المتوكل للإفراج عنه لخبرته في تحصيل مالية البلاد التي كان يحكمها إيتاخ ، وهي : مصر ، والكوفة ، والحجاز ، وتهامة ، ومكة ، والمدينة . « النجوم الزاهرة : ٢ / ٢٧٥ » .

٦٣

قال : « فحُملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى بن عبد الملك صاحب ديوان الخراج ، والحسن بن محمد صاحب ديوان الضياع ، وأحمد بن إسرائيل الكاتب ، وأبو نوح ، وعيسى بن إبراهيم ، كاتب الفتح بن خاقان ، وداود بن الجراح صاحب الزمام ، فطُرحت في آخر المجلس ، فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم ، وقال : يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء أمير المؤمنين ، والله لأُفَرِّقن بين لحمك وعظمك ، ولأجعلن بطن الأرض أحب إليك من ظهرها ، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها .. الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشرة آلاف ألف درهم ، تؤديها في عشرة أشهر ، كل شهر ألف ألف درهم ، وتَتَرَفَّهُ عاجلاً مما أنت فيه ! فأمر إسحاق بأخذي في الحال وإدخالي الحمام ، وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها ، وبخور طيب فتبخرت ، واستدعاني إسحاق ..

فلما كان من غد حولني إلى دار كبيرة حسنة مفروشة ، ووكل على فيها بإحسان وإجلال ، واستدعيتُ كل من أردت ، وتسامع الناس بأمري ، وجاؤني ففرج عني ، ومضت سبعة وعشرون يوماً ، وقد أعددت ألف ألف درهم .. الخ . » !

٦٤

الفصل الثالث :

سياسة المتوكل مع الإمام الهادي عليه‌السلام

من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم !

من ثوابت الخليفة القرشي : أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم ، أو بالمكيدة ، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس !

وكان شعار معاوية المعروف : إن لله جنوداً من عسل ! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر رحمه‌الله . كما في المستطرف / ٣٥٢ ، وغيره .

وقال معاوية : لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره . أي العمل الجدِّي المهم هو : أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه ، فتزيحه من طريقك ! « محاضرات الراغب : ١ / ٥٣١ » .

قال في جمهرة الأمثال « ٢ / ٣٧٦ » : « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد ، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد ! « ورواه في الأمثال للميداني : ١ / ٦٣٠ ، والمستقصى للزمخشري / ٣٣٤ ، وطبقات الأطباء : ١ / ١٥٤ : والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب : ١ / ١٧٢ ، والتذكرة الحمدونية / ١٤٩٧ ، وتاريخ دمشق : ١٩ / ١٨٩ » .

وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس ، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي عليه‌السلام وهو يعلم أنه إمام رباني ، وأنه لا يعمل للسلطة ! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام عليه‌السلام ، فقد رأى أمه تطلب دعاءه ، وتنذر له النذور !

٦٥

١ . سَجَنَ المتوكل الإمام عليه‌السلام ليقتله فنجاه الله :

روى الصدوق في الخصال / ٣٩٥ : « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي ، قال : لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري عليه‌السلام جئتُ أسأل عن خبره قال : فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل ، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه ، فقال : يا صقر ما شأنك ؟ فقلت : خيرٌ أيها الأستاذ . فقال : أقعد ، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت : أخطأت في المجئ ! قال : فوحى الناس عنه ، ثم قال لي : ما شأنك وفيم جئت ؟ قلت : لخير ما ، فقال : لعلك تسأل عن خبر مولاك ؟ فقلت له : ومن مولاي ؟ مولاي أمير المؤمنين ! فقال : أسكت ، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك ، فقلت : الحمد لله . قال : أتحب أن تراه ؟ قلت : نعم . قال : أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده . قال : فجلست فلما خرج قال لغلام له : خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه ، قال : فأدخلني إلى الحجرة ، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به عليه‌السلام جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور ! قال : فسلمت فرد ، ثم أمرني بالجلوس ، ثم قال لي : يا صقر ما أتى بك ؟ قلت : يا سيدي جئت أتعرف خبرك ؟ قال : ثم نظرت إلى القبر فبكيت ! فنظر إلي فقال : يا صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء الآن ، فقلت : الحمد لله .

ثم قلت : يا سيدي حديث يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أعرف معناه ، قال وما هو ؟ فقلت قوله : لا تعادوا الأيام فتعاديكم ، ما معناه ؟ فقال : نعم ، الأيام نحنُ ما

٦٦

قامت السماوات والأرض ، فالسبتُ إسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والإثنين الحسن والحسين ، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا ، والخميس ابني الحسن بن علي ، والجمعة ابن ابني ، وإليه تجتمع عصابة الحق ، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً .

فهذا معنى الأيام ، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة . ثم قال عليه‌السلام : وَدِّعْ واخرج ، فلا آمن عليك » .

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها عليه‌السلام عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق . كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام . . وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن ، سئل الصادق عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : أو لم يسيروا في الأرض ، قال : معناه أو لم ينظروا في القرآن » .

ملاحظات

١. يظهر أن سجن الإمام عليه‌السلام في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء ، في أوائل خلافة المتوكل ، ولم يسجن في سامراء بعدها .

٢. أما الصقر بن أبي دلف ، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت عليهم‌السلام من زمن الإمام الصادق عليه‌السلام , وكانت بغداد : الكرخ وبراثا ، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة ، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم عليه‌السلام .

٦٧

والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه ، وكان يميل الى الشيعة ، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل ، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى .

٣. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد ، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران ، وأسس مدينة كرج . وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية : قبيلة عِجل بن لُجَيْم .

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً ، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة ، وبقي قسم منهم في الجبل ، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما ، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل .

٤. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي ، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة عليهم‌السلام التكويني ، وتفسير قوله تعالى : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ . « التوبة : ٣٦ » .

وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد ، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني ، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة ، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي ، قالوا : « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري ، هم الموكلون بمصالح العالم ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً » . « خلاصة الأقوال للعلامة / ٣٦٤ » .

٦٨

ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي ، الملعون على لسان الإمام المهدي عليه‌السلام ، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين .

قال الطوسي في الغيبة / ٤١٤ : « وكان الكرخيون مُخمسة ، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة ، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به . . وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه ، أكثر من أن تحصى ، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا » .

أقول : أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة ، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه . ولم يكن الصقر من أهل الغلو ، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو ، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر ، وعدة أوصياء الأنبياء عليهم‌السلام ونقبائهم ، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون ، وفي هداية المجتمع . وبحثه خارج عن غرضنا .

٢ . واتهم المتوكل الإمام عليه‌السلام بجمع السلاح للثورة عليه :

وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى ، بل وعظه فبكى المتوكل ، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة !

وقد روت ذلك عامة المصادر ، ومنها المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ١٠ » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال : حدثنا محمد بن يزيد المبرد : « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل ، وقيل له : إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته ، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه ، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ ، ولا بساط في البيت

٦٩

إلا الرمل والحصى ، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه ، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، فأُخذ على ما وجد عليه ، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل ، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس ، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه ، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه ، ولا حالة يتعلل عليه بها . فناوله المتوكل الكأس الذي في يده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه ، فأعفاه ، وقال : أنشدني شعراً أستحسنه ، فقال : إني لقليل الرواية للأشعار ، فقال : لا بد أن تنشدني . فأنشده :

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ

فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا

أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل

قد طالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ

ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا

فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا

قال : فأشفق كل من حضر على علي ، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه ، قال : والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلاً حتى بلت دموعه لحيته ، وبكى من حضره ، ثم أمر

٧٠

برفع الشراب ، ثم قال له : يا أبا الحسن ، أعليك دَينٌ ؟ قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فأمر بدفعها إليه ، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً » .

ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « ١٨ / ١٩٩ » ، فقال : « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم ، ومن نيته التوثب ، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف ، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات ، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهو يشرب ... » . واليافعي في مرآة الجنان : ٢ / ١١٩ ، والقلقشندي في معالم الخلافة : ١ / ٢٣٢ ، والأبشيهي في المستطرف : ٢ / ٨٧٤ ، وغيرهم ، وغيرهم .

٣. وكان يقول : أعياني أمرُ ابن الرضا !

كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً ، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي عليه‌السلام الى شرب الخمر ، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به !

وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام عليه‌السلام من العترة الذين طهرهم الله تعالى ! روى في الكافي « ١ / ٥٠٢ » : « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسر قال : كان المتوكل يقول : ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا ! أبى أن يشرب معي أو ينادمني أو أجد منه فرصة في هذا ! فقالوا له : فإن لم تجد منه ، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف ، يأكل ويشرب ويتعشق . قال : إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا ! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة ، وبنى له فيها ، وحول الخمارين والقيان إليه ، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً ، حتى يزوره هو فيه !

٧١

فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن عليه‌السلام في قنطرة وصيف ، وهو موضع يتلقى فيه القادمون ، فسلم عليه ووفاه حقه ، ثم قال له : إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك ، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط .

فقال له موسى : فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي ؟ قال : فلا تضع من قدرك ولا تفعل ، فإنما أراد هتكك ، فأبى عليه ، فكرر عليه . فلما رأى أنه لا يجيب قال : أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهو عليه أبداً !

فأقام ثلاث سنين ، يبكر كل يوم فيقال له : قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح . فيقال : قد سكر فبكِّر ، فيبكر . فيقال : شرب دواءً ! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ، ولم يجتمع معه عليه » .

أقول : لما رأى الإمام عليه‌السلام إصرار أخيه على المنكر ، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية عليهم‌السلام ، دعا عليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً ، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة ، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً !

هذا ، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام . وله ذرية كثيرة ، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء .

٤. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام عليه‌السلام :

« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال : بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن عليه‌السلام أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك ، فقال للرسول : قل له إني راكب ، فلما خرج الرسول قال لنا : كذب ، ما يريد إلا غير ما قال ! قالا : قلنا : يا

٧٢

مولانا فما الذي يريد ؟ قال : يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله ، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا ، وهو يركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر ، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته ، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه ، ويمرض شهراً .

قال فارس : فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول : أين ابن عمى المدني ؟ فيقول له : سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش ، فيقول : ألحقوه بنا ، ووردنا النهر والقنطرة ، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت ، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا ، ورُسل المتوكل تحثُّه ، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر ، وعبر سائر الجيش ودوابنا ، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر ، وعثر المتوكل فلحقوا به ، ورجع سيدنا ، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه ، وبقي عليلاً شهراً ! وعتب على أبي الحسن عليه‌السلام قال : أبوالحسن عليه‌السلام إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : صدق الملعون » .

٥. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام عليه‌السلام وتنذر له :

روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ » : « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال : مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة ، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها . وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون

٧٣

عنده صفة يفرج بها عنك ، فبعث إليه ووصف له علته ، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد ، فيوضع عليه .

فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو والله أعلم بما قال . وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها . ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي ، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً ، فقال لسعيد الحاجب : أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح ، واحمله إليَّ .

قال إبراهيم بن محمد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح ، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة ، لم أدر كيف أصل إلى الدار ، فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته : عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة ، على حصير بين يديه ، فلم أشك أنه كان يصلي ، فقال لي : دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي : دونك المصلى ، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس .

فأخذت ذلك وصرت إليه ، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له : كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه ، وهذا خاتمي على الكيس ، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار ، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته ، ورددت السيف

٧٤

والكيسين وقلت له : يا سيدي عَزَّ عليَّ ! فقال لي : وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ » .

أقول : البطحائي العلوي ، الذي افترى على الإمام عليه‌السلام هو مع الأسف : محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عليه‌السلام .

٦ . بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار :

من غطرسة المتوكل وبذخه : أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء ، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها ، وكان يعطيهم نفقاتها ، أو قسماً منها .

فقال الإمام الهادي عليه‌السلام كما في الهداية / ٣٢٠ : « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا ، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر ، وأعوانه عليه الترك . . .

ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به ، ووجه إلى أبي الحسن عليه‌السلام بثلاثين ألف درهم ، وأمره أن يستعين بها على بناء دار ، وركب المتوكل يطوف على الأبنية ، فنظر إلى دار أبي الحسن عليه‌السلام لم ترتفع إلا قليلاً ، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان : عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها : لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن عليه‌السلام لأضربنَّ عنقه ، فقال له عبيد الله : يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة ، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه ، وقال له : تحدثه بما جرى ، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال : إنْ رَكِب فليفعل ذلك ! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك ، فقال عبيد الله : ليس والله يركب » ! أي قال رئيس الوزراء : إن المتوكل لن يركب ، لأنه يعرف أن الإمام عليه‌السلام يتكلم بإلهام من الله تعالى !

٧٥

٧ . حاول المتوكل إذلال الإمام عليه‌السلام فدعا عليه :

« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال : كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً ، ودون ولده وأهله ، أراد أن يبين موضعه عندهم . فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم ، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس ، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين ، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم ، ويَخرجوا مشاة بين يديه ، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى !

ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة ، وكان يوماً قائظاً شديد الحر .

وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة . قال زرافة : فأقبلت إليه وقلت له : يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة ، وما قد تكلفته من المشقة ، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال : يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني ، أو قال بأعظم قدراً مني ، ولم أزل أسائله وأستفيد منه ، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف . فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم ، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري ، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل ، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام ، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث ، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح ، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما ، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد

٧٦

وما سمعته من قوله : ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني . وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال : بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه ؟ فقلت له : والله إني سمعته يقوله ، فقال لي : إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك ! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أو سبب يجري .

فقلت له : من أين لك ذلك ؟ فقال : أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ . ولا يجوز أن تبطل قول الإمام عليه‌السلام ! قال زرافة ، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه ، والفتح بن خاقان جميعاً ، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر ، وأزال الله نعمته ومملكته !

فلقيت الإمام أبا الحسن عليه‌السلام بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله ، فقال : صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن ، وهو دعاء المظلوم على الظالم ، فدعوت به عليه فأهلكه الله » . « مهج الدعوات / ٢٦٧ » .

وفي الخرائج : ١ / ٤٠٢ : ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال : « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي ، فخرج . فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت : ما يضرني أن آخذ بالحزم ، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم ، وإن لم يكن لم يضرني ذلك ، قال : فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها ، وفرقت كل ما

٧٧

كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم ، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه . فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي ، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه ، ولزمت خدمته ، وسألته أن يدعو لي وتوليته حق الولاية » .

وفي الثاقب / ٥٣٩ : « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال : دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت : يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك ، وكان سعيد يتشيع . فقال : هيهات ! قلت : بلى والله . فقال : وكيف ذلك ؟ قلت : بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل ، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال : يا سعيد ، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً ! إذهب واعزب ، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه ! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية ، فسألت عنه فقيل : قتل المتوكل ، فرجعنا وقلتُ بها » .

أقول : كذب سعيد ، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس ، ثم ادعى التشيع !

وفي الخرائج : ١ / ٤١٢ : « حدثنا ابن أرومة قال : خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله ، فلما دخلت عليه ، قال : تحب أن تنظر إلى إلهك ؟ قلت : سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار . قال : هذا الذي تزعمون أنه إمامكم ! قلت : ما أكره ذلك . قال : قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه .

٧٨

فلم ألبث أن خرج قال : أدخل ، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر ، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً ، قال : ما يبكيك ؟ قلت : لما أرى . قال : لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك . فسكن ما كان بي فقال : إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته . قال : فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه » .

٨. أظهر الله قدرة وليه عليه‌السلام فخاف الطاغية :

روى الخصيبي في الهداية الكبرى / ٣٢٢ : « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني ، قال : دخلنا على سيدنا أبي الحسن عليه‌السلام بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط ، وعيونهم تفيض من الدمع ، فأشار الينا عليه‌السلام بالجلوس فجلسنا وقال : هل علمتم ما علمه إخوانكم ؟ فقلنا : حدثنا منه يا سيدنا ذكراً . قال : نعم ، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته : تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة ، والقدرة لا تكون إلا لله ، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه ؟ فقلت له : وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو .

فأطرق ثم قال : إنك لتروي لكم قدرة دوننا ، ونحن أحق به منكم ، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا . فأمسكت عن جوابه ، لأنه أراد أن يبين جبره بي ، فنهضت فقال : لتقعدن وهو مغضب ، فخالفت أمره وخرجت ، فأشار إلى من حوله : الآن خذوه ، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني ! فصاح : الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا ، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت !

٧٩

فسقط لوجهه ، وخرجتُ فقلت : في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له . فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه .

فلما كان من غد ذلك اليوم ، فأذن لنا فدخلنا فقال : هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين ، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به ، ولن يقدر على ذلك .

فقلنا : يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً . فقال : أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى . قال : وجاءته الرسل من دار المتوكل ، فركب وهو يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفاً . ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله ، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا : أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي ، ومن مولاي أبي الحسن عليه‌السلام ، فقلنا له : سُرَّنَا سَرَّك الله ، فقال : إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلو مولاي بالسيف فأقتله . فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به ، وقد أخليت المجلس وأبطأت ، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به . فأخذت السيف بيدي ودخلت ، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض ، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه ، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه

٨٠