الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

وكان جلوسه فيه في سنة تسع وثلاثين ومائتين ، ثم دعا بالطعام وحضر الندماء وسائر المغنين والملهين ، وأكل الناس . ورام النوم فما تهيأ له ، فقال له الفتح : يا مولاي ، ليس هذا يوم نوم ، فجلس للشرب . فما كان الليل رامَ النوم ، فما أمكنه فدعا بدهن بنفسج ، فجعل منه شيئاً على رأسه وتنشقه فلم ينفعه .

فمكث ثلاثة أيام بلياليها لم ينم ، ثم حُمَّ حُمَّى حَادَّة ، فانتقل إلى الهاروني قصر أخيه الواثق ، فأقام به ستة أشهر عليلاً ، وأمر بهدم البرج » .

ما قيمة الخلافة إذا كان الخليفة مُنْحَطاً !

عملت الحكومات على نسج هالة كاذبة على شخصية الخليفة ، واخترعت له صفات ومناقب ، لتتناسب شخصيته مع لقبه الرسمي : خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

بل جعلوه خليفة الله تعالى ، وفضلوه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! فقد سمى معاوية نفسه « خليفة الله » وقال : « الأرض لله وأنا خليفة الله ، فما أخذت من مال الله فهولي ، وما تركت منه كان جائزاً لي ! فقال صعصعة :

تُمَنِّيكَ نفسُكَ ما لا يكونُ

جهلاً معاويَ لا تأثمِ » .

« مروج الذهب : ٣ / ٥٢ ، وجمهرة خطب العرب : ١ / ٤٤٥ » .

وفي أنساب الأشراف للبلاذري / ١١٠٩ : « فقال صعصعة بن صوحان : ما أنت وأقصى الأمة في ذلك إلا سواء ، ولكن من ملك استأثر ! فغضب معاوية وقال : لهممتُ ! قال صعصعة : ما كل من هَمَّ فعل ! قال : ومن يَحُولُ بيني وبين ذلك ؟! قال : الذي يحول بين المرء وقلبه ، وخرج » !

٤١

وفَضَّلَ علماء البلاط والرواة الخليفة الأموي على الرسول الهاشمي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

ففي سنن أبي داود « ٢ / ٤٠٠ » : « عن الربيع بن خالد الضبي قال : سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته : رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه ، أم خليفته في أهله ؟ فقلت في نفسي : لله عليَّ ألا أصلي خلفك صلاة أبداً وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنك معهم » ! « والنهاية : ٩ / ١٥١ ، وتاريخ دمشق : ١٢ / ١٥٨ » .

وقال ابن حزم في الإحكام « ٤ / ٥٨١ » : « أوَليس ابن عباس يقول : أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض ! أقول لكم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ! وكان إسحاق بن راهويه يقول : من صح عنده حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم خالفه يعني باعتقاده ، فهو كافر » .

أقول : المتوكل نموذجٌ للحاكم القرشي الذين عظَّموه وضخَّموه ! وقد كان متجاهراً بالفحشاء ، غارقاً في الدُّون من قرنه الى قدمه ، ومن أصله الى فصله .

كانت عقيدة المتوكل وسياسته مضادةً لآبائه !

كان الخلفاء العباسيون الى الواثق مُنَزِّهِين لله تعالى ، يرفضون أفكار التجسيم وأحاديثه الموضوعة . ومنها مقولة أن القرآن قديمٌ لأنه كلام الله تعالى وجزءٌ منه !

فقد أجاب المنزهة على هذه المقولة بأن الله تعالى وجودٌ غير مركب ، والقرآن كلامه المخلوقٌ ، وكل شئ ما عداه عز وجل فهو مخلوق .

وأمر المأمون بتأديب من يقول بقدم القرآن لأنه يجعله إلهاً مع الله تعالى !

٤٢

ونهى أن يعطى منصباً في الدولة . وتابع المعتصم سياسة أخيه المأمون ، فكان يمتحن العلماء في القول بقدم القرآن . وواصل الواثق سياسة أبيه المعتصم .

لكن المتوكل خالفهم فجمع العلماء المشبِّهين والمجسمين ، وشجعهم وأغدق عليهم ، وقمع العلماء المنزهين وأهملهم !

من جهة أخرى ، قامت حركة العباسيين والحسنيين على الدعوة الى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أي بني هاشم ، والبراءة من بني تَيْمٍ وعَدِيٍّ وأمية .

لكن المنصور بعد أن ثار عليه الحسنيون ، أمر المحدثين والفقهاء والولاة أن لا يَرْوُوا شيئاً في فضائل علي عليه‌السلام ، ولا شيئاً يطعن بأبي بكر وعمر ، وأن يفضلوهما عليه ، وأن يضيفوا مدح أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة وقال : « والله لأرغمن أنفي وأنوفهم ، وأرفع عليهم بني تيم وعدي » . « منهاج الكرامة / ٦٩ » .

واستمرت سياسته حتى جاء المأمون ، فأعلن فضائل علي وأبنائه عليهم‌السلام .

ولما جاء المتوكل خالف أسلافه المأمون والمعتصم والواثق ، ورفع راية العداوة لعلي وأبنائه عليهم‌السلام ، واضطهدهم ، وهدم قبر الحسين عليه‌السلام ومنع زيارته ، ومنع زيارة قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام في النجف الأشرف وقيل هدمه . ومنع زيارة قبر موسى بن جعفر عليه‌السلام في بغداد . وقَرَّبَ النواصب ودعمهم مادياً ومعنوياً .

٤٣

وَضَعَ المتوكل خطةً واسعة لنشر النُّصْب والتجسيم

فقد نفذ سياسةً متشددة لإحياء النصب الأموي والتجسيم ، وقامت سياسته على تبني علماء النصب والتجسيم وإغداق المال والجوائز عليهم ، وإعطائهم المناصب الكبيرة ، ليؤثروا في ثقافة الناس .

وقام بتكوين حركة باسم أهل الحديث بقيادة الشاب ابن صاعد ، وهي أشبه بميليشا مسلحة ، تقوم بقمع الشيعة في بغداد !

ثم قام باختيار أحد العلماء الشَّيَبَة المعروفين ، وهو أحمد بن حنبل ، ليكون مرجعاً دينياً للدولة ، وغطاءً شرعياً للمتوكل وأتباعه .

كما تَبَنَّي كُتب النصب والتجسيم وعممها على الناس ، فقد تبنى مسند أحمد ، ثم ارتضى أحمد صحيح محمد بن إسماعيل البخاري فصار الكتاب الرسمي للدولة !

كما قمعَ الأشعرية والمعتزلة ، وحرم إعطاءهم المناصب ، وضيَّق عليهم .

ثم تفنن في قمع الشيعة ، ففرض الإقامة الجبرية على إمامهم الهادي عليه‌السلام في سامراء ، وعمل لقتله .

واضطهد العلويين قاطبة وأفقرهم وشردهم وسجنهم . واضطهد شيعتهم ، ومنعهم من زيارة المشاهد المشرفة لأئمتهم عليهم‌السلام ، خاصة زيارة قبر الحسين عليه‌السلام بكربلاء ، وقبر أمير المؤمنين عليه‌السلام في النجف ، وقبر الكاظم عليه‌السلام ببغداد ، وضيق على جامع بُراثا ، وهو الجامع المركزي للشيعة في بغداد .

٤٤

كان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام

قال ابن الأثير في الكامل « ٦ / ١٠٨ » : « وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته ، وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم ! وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث ، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهوأصلع ، ويرقص بين يدي المتوكل ، والمغنون يغنون :

قد أقبل الأصلع البدين ، خليفة المسلمين ، يحكي بذلك علياً !

والمتوكل يشرب ويضحك ! ففعل ذلك يوماً والمنتصر حاضر ، فأومأ إلى عبادة يتهدده فسكت خوفاً منه ، فقال المتوكل ما حالك ؟ فقام وأخبره ، فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس هو ابن عمك ، وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ! فكل أنت لحمه إذا شئت ، ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه ! فقال المتوكل للمغنين : غنوا جميعاً :

غَارَ الفَتَى لابنِ عَمِّهْ

رأسُ الفَتى في حَرِ أمِّهْ » !

وقال النويري في نهاية الأرب « ٢٢ / ٢٨٢ » : « في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأمر أن يسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى في الناس في تلك الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثالثة حبسناه في المِطبق « سجن مظلم تحت الأرض » فهرب الناس وتركوا زيارته ، وحُرث وزُرع !

٤٥

وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ولأهل بيته ، وكان يقصد من يتولى علياً وأهل بيته بأخذ المال والروح ! وكان من جملة ندمائه عبَّادة المخنث ، وكان أصلع فيشد تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه ويرقص والمغنون يغنون . . » .

وروى ذلك عمر بن الوردي في تاريخه « ١ / ٢١٦ » ، وقال : « وكان يجالس من اشتهر ببغض علي ، كابن الجهم الشاعر ، وأبي السمط ، وكان من أحسن الخلفاء سيرةً ، ومنع القول بخلق القرآن ، فغطى ذمه لعليٍّ على حسناته . قلت :

وكم قد مُحِي خيرٌ كما انمحتْ

ببغض علي سيرة المتوكل

تعمق في عدلٍ ولما جنى على

جناب عليٍّ حطه السيلُ من علِ »

ولا ندري ماذا رأى ابن الوردي من « عدالة » المتوكل ! وقد روى بغضه لعلي عليه‌السلام عامة المؤرخين ، فهو شهادةٌ متواترةٌ بأنه ناصبيٌّ منافق ، وقد قال ابن حجر في فتح الباري « ١ / ٦٠ » : « وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق » .

وقال في فتح الباري « ٧ / ٥٧ » : « وفي الحديث تلميحٌ بقوله تعالى : قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، فكأنه أشار إلى أن علياً تام الإتباع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى اتصف بصفة محبة الله له ، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق » .

كما رووا أن من يبغض علياً عليه‌السلام لا يكون ابن أبيه ! ففي الصحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بَوِّروا أولادكم بحب علي بن أبي طالب أي اختبروا طيب ولادتهم بحبه . وقال جابر : كنا نُبَوِّرُ أولادنا بحب علي » .

٤٦

« غريب الحديث لابن الجوزي : ١ / ٩٠ ، والنهاية لابن الأثير : ١/١٦١ ، ولسان العرب : ٤ / ٨٧ ، وتاج العروس : ١٠ / ٢٥٧ ، وتهذيب اللغة : ١٥ / ١٩١ » .

وروى المسعودي في مروج الذهب « ٢ / ٦٥ » قصة دُلف بن أبي دلف في بغض علي عليه‌السلام وقال : « وجمعتُ طرق الحديث : لاينتقصُ عليّاً أحد إلا كان لغير رَشْدَةٍ ، الوارد فيها ، فرواه من نيف وستين طريقاً » . وتاريخ بغداد : ١٢ / ٤١٨ ، وتاريخ دمشق : ٤٩ / ١٥٠ .

وقد روى ذلك عن أبي دلف ابن كثير ، فقال في النهاية « ١٠ / ٣٢٣ » : « وكان يقول : من لم يكن متغالياً في التشيع فهو ولد زنا . فقال له ابنه دلف : لستُ على مذهبك يا أبة . فقال : والله لقد وطأت أمك قبل أن أشتريها ، فهذا من ذاك » !

وفي مناقب آل أبي طالب « ٢ / ١٠ » : « عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أحمد قال : سمعت الشافعي يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : قال أنس بن مالك : ما كنا نعرف الرجل لغير أبيه إلا ببغض علي بن أبي طالب . . . كان الرجل من بعد يوم خيبر يحمل ولده على عاتقه ثم يقف على طريق علي ، فإذا نظر إليه أومى بإصبعه : يا بنيَّ تُحِبُّ هذا الرجل ؟ فإن قال نعم ، قبله ، وإن قال لا قال له : إلحق بأمك » !

وفي تاريخ دمشق « ٤٢ / ٢٨٧ » : « عن الوليد بن عبادة بن الصامت ، عن أبيه قال : كنا نُبَوِّرُ « نمتحن » أولادنا بحب علي بن أبي طالب ، فإذا رأينا أحداً لا يحب علي بن أبي طالب ، علمنا أنه ليس منا ، وأنه لغير رَشْدَة » .

أقول : كفى بذلك حكماً من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأصل المتوكل ، الذي زعموا أنه خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومحيي سنته ، وجعلوه قطب أولياء الله المتقين ، معاذ الله !

٤٧

قَرَّبَ المتوكل العلماء المجسمين والنواصب وأغدق عليهم

قال الخطيب البغدادي في تاريخه « ٣ / ١٤٧ » : « عن محمد بن يحيى الصولي قال : في سنة أربع وثلاثين ومائتين ، نهى المتوكل عن الكلام في القرآن ، وأشخص الفقهاء والمحدثين إلى سر من رأى ، منهم القاضي التيمي البصري ، ومحمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، وابنا أبي شيبة ، ومصعب الزبيري .. ووصلهم » .

وقال في تاريخ بغداد « ١٠ / ٦٧ » : « حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال : سنة أربع وثلاثين ومائتين فيها أشخص المتوكل الفقهاء والمحدثين ، فكان فيهم مصعب الزبيري ، وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان ، وهما من بني عبس ، وكانا من حفاظ الناس ، فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق ، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس ، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية ، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية ! فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور ، ووضع له منبر واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس . فأخبرني حامد بن العباس أنه كتب عن عثمان بن أبي شيبة . وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة ، وكان أشد تقدماً من أخيه عثمان ، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً » .

وقال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٤ » : « وفي سنة ٢٣٤ ، أظهر المتوكل السنة ، وزجر عن القول بخلق القرآن ، وكتب بذلك إلى الأمصار ، واستقدم المحدثين إلى سامراء ، وأجزل صلاتهم ، ورووا أحاديث الرؤية والصفات » .

٤٨

وفي كتاب العلل لأحمد بن حنبل « ١ / ٨٠ » : « استقدم المتوكل المحدثين إلى سامراء وأجزل عطاياهم وأكرمهم ، وأمرهم أن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية ! وتوفر دعاء الخلق للمتوكل ، وبالغوا في الثناء عليه ، والتعظيم له ، حتى قال قائلهم : الخلفاء ثلاثة : أبوبكر الصديق في قتل أهل الردة ، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم ، والمتوكل في إحياء السنة وإماتة التجهم » .

وقال ابن تميم التميمي في المحن / ٢٧١ : « ونفى كل بدعة ، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المجالس ، فصرف الله ذلك كله به ، فكان يبعث إلى الآفاق فيؤتى إليه بالفقهاء والمحدثين ، فخرَّج كل واحد منهم بثلاثين حديثاً في تثبيت القدر ، وثلاثين حديثاً في الرؤية ، وغير ذلك من السنن ، فتعلمها الناس حتى كثرت السنن وفشَت ونمَت ، وطُغيت البدعة وذلَّت » .

أقول : هذه النصوص صريحةٌ في أن لقب « محيي السنة » الذي أعطوه للمتوكل ، معناه إحياء أحاديث التجسيم التي يسمونها أحاديث الصفات والرؤية ، وإحياء البغض الأموي لأهل البيت عليهم‌السلام ونصب العداوة لهم .

لاحظ قول الراوي : فخرَّج كل واحد منهم بثلاثين حديثاً في تثبيت القدر ، وثلاثين حديثاً في الرؤية! فمن أين جاؤوا بها ؟!

لعل أصلها حديثان ، ثم نسجوا عليهما ! قال الذهبي في سيره « ٨ / ١٠٣ » : « قال ابن القاسم : سألت مالكاً عمن حدث بالحديث الذي قالوا : إن الله خلق آدم على صورته ، والحديث الذي جاء : إن الله يكشف عن ساقه وأنه يدخل يده في جهنم

٤٩

حتى يخرج من أراد ، فأنكر مالك ذلك إنكاراً شديداً ونهى أن يحدث بها أحد ! فقيل له إن ناساً من أهل العلم يتحدثون به فقال : من هو ؟ قيل ابن عجلان عن أبي الزناد ، قال : لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالماً وذكر أبا الزناد فقال : لم يزل عاملاً لهؤلاء حتى مات » .

ومعنى كلامه أن الراوي الأصلي لهذا الحديث أبو الزناد وهو متهم ، لأنه كان عاملاً عند بني أمية ، فهو موظف عندهم ينشر أحاديث التجسيم لكعب الأحبار وغيره من اليهود ! وهو نص على أن الدولة الأموية تبنت تجسيم اليهود من القرن الأول ودسته في أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووظفت رواة ينشرونه في المسلمين !

وكلُّ واحدٍ من الرواة والفقهاء الذين جمعهم المتوكل من البلدان ، داعيةٌ من دعاة التجسيم والنصب ! فمصعب الزبيري وابن أخيه الزبير بن بكار ، مؤلفان معروفان بتعصبهما ونصبهما لأهل البيت عليهم‌السلام . وعثمان بن أبي شيبة صاحب المسند الذي أكثر فيه من أحاديث النصب والتجسيم .. الخ . وابن أبي الشوارب : أموي من بني العاص جعله المتوكل قاضي القضاة في سامراء وفي نفس الوقت قاضياً في بغداد ، وهو أستاذ الشاب ابن صاعد الذي جعله المتوكل شيخ أهل الحديث في بغداد .

وهشام بن عمار الذي سموه محدث الشام ، وعظَّمَهُ المتوكل ، كان يبيع الحديث بالصفحة ! ورووا عنه أحاديث التجسيم ، ورووا عنه وقاحته ، وسيأتي ذكره .

٥٠

أسس حزب أهل الحديث أو الصاعدية

أسس المتوكل مجموعة في بغداد من العوام الخشنين وسماهم : أهل الحديث ، والمحدثين ، وأهل السنة . وسماهم المسلمون : مجسمة الحنابلة ، والنواصب .

وروى الذهبي سخرية البغوي الإمام المعروف ، من إسم أهل الحديث ، ومن رئيسهم ابن صاعد ، فقال في سير أعلام النبلاء : « ١٤ / ٤٤٩ » : « اجتاز أبوالقاسم البغوي بنهر طابَق على باب مسجد ، فسمع صوت مُسْتَمْلٍ فقال : من هذا ؟ فقالوا : ابنُ صاعد . قال : ذاك الصبي ! قالوا : نعم . قال : والله لا أبرحُ حتى أُملي هاهنا ! فصعد دكةً وجلس ، ورآه أصحاب الحديث فقاموا وتركوا ابن صاعد . ثم قال : حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن يولد المحدثون ! وحدثنا طالوت قبل أن يولد المحدثون ! وحدثنا أبونصر التمار . . فأملى ستة عشر حديثاً عن ستة عشر شيخاً ، ما بقي من يروي عنهم سواه » !

يقول البغوي : أن هؤلاء الصبيان الذين سمَّوْهم المحدثين ، إنما هم أحداث ، لا علم عندهم ، وقد جمعهم المتوكل حول أحمد بن حنبل ، وجعله إماماً لهم !

ومعنى قوله : حدثنا أحمد بن حنبل قبل أن يولد المحدثون ! أن الحديث والمحدثين كانوا قبل هذه الفئة الذين سموا أنفسهم أهل الحديث ، وأحمد بن حنبل نفسه كان محدثاً ، ولم يكن إمام فئة تسمى أهل الحديث .

فالمتوكل هو الذي حَنْبَلهم ، وجعل ابن حنبل إماماً لهم ، فصار الإمام أحمد .

٥١

والمتوكل هو الذي بَخَّرهم ، فقد تبنى أحمد ومسنده ، وتبنى أحمد البخاري ، فصار كتابه الصحيح الرسمي مع مسند أحمد .

وابن صاعد الذي سخر منه البغوي هو : يحيى بن محمد بن صاعد . وهو غلامٌ عباسي معرق ، فجده من غلمان أبي جعفر المنصور . « كتاب العرش لابن أبي شيبة / ٢٦ » .

وتعرف طريقة تفكير ابن صاعد وحزبه المتطرف ، من قصته مع الحافظ الإمام ابن عقدة ، المشهود له عند جميع المسلمين !

ففي تاريخ بغداد « ٥ / ٢٢١ » : « روى ابن صاعد ببغداد في أيامه حديثاً أخطأ في إسناده ، فأنكر عليه ابن عقدة الحافظ ، فخرج عليه أصحاب ابن صاعد وارتفعوا إلى الوزير علي بن عيسى ، وحبس بن عقدة فقال الوزير : من يَسأل « ابن صاعد » ويَرجع إليه ؟ فقال : ابن أبي حاتم ، قال فكتب إليه الوزير يسأله عن ذلك فنظر وتأمل ، فإذا الحديث على ما قال ابن عقدة ، فكتب إليه بذلك ، فأطلق ابن عقدة وارتفع شأنه .

سمعت بن الجعابي يقول : دخل ابن عقدة بغداد ثلاث دفعات ، فسمع في الدفعة الأولى من إسماعيل القاضي ونحوه ، ودخل الثانية في حياة ابن منيع وطلب مني شيئاً من حديث يحيى بن صاعد لينظر فيه ، فجئت إلى ابن صاعد وسألته أن يدفع إليَّ شيئاً من حديثه لأحمله إلى ابن عقدة ، فدفع إليَّ مسند علي بن أبي طالب فتعجبت من ذلك ، وقلت في نفسي كيف دفع إلي هذا وابن عقدة أعرف الناس به مع اتساعه في حديث الكوفيين ، وحملته إلى ابن عقدة فنظر فيه

٥٢

ثم رده عليَّ فقلت : أيها الشيخ هل فيه شئ يستغرب ؟ فقال : نعم فيه حديث خطأ فقلت : أخبرني به ، فقال : والله لا أعرفنك ذلك حتى أجاوز قنطرة الياسرية ، وكان يخاف من أصحاب ابن صاعد !

فطالت عليَّ الأيام انتظاراً لوعده ، فلما خرج إلى الكوفة سرت معه ، فلما أردت مفارقته قلت : وعدك ؟ قال : نعم ، الحديث عن أبي سعيد الأشج ، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة . ومتى سمع منه ؟! وإنما ولد أبوسعيد في الليلة التي مات فيها يحيى بن زكريا بن أبي زائدة !

فودعته وجئت إلى ابن صاعد فقلت له : ولد أبوسعيد الأشج في الليلة التي مات فيها يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ! فقال : كذا يقولون ، فقلت له : في كتابك حديث عن الأشج عنه ، فما حاله ؟فقال لي : عَرَّفك ذلك ابن عقدة؟ فقلت : نعم فقال : لأجعلن على كل شجرة من لحمه قطعةً !

ثم رجع يحيى إلى الأصول ، فوجد الحديث عنده عن شيخ غير أبي سعيد ، عن ابن أبي زائدة ، وقد أخطأ في نقله ، فجعله على الصواب » .

فقد كان ابن عقدة من كبار علماء الشيعة ، وكان حفظه عجيباً ، وقد خضع له المحدثون ، وألَّف الذهبي في ترجمته كتاباً ، وقال عنه في سير أعلام النبلاء : « ١٥ / ٣٤٠ » :

« الحافظ العلامة ، أحد أعلام الحديث ، ونادرة الزمان ، وصاحب التصانيف ، وهو المعروف بالحافظ ابن عقدة . وكَتب عنه ما لا يُحد ولا يُوصف من خلقٍ كثير بالكوفة وبغداد ومكة ، وجمع التراجم والأبواب والمشيخة ، وانتشر حديثه وبعد

٥٣

صيته » . وقال عنه في تذكرة الحفاظ « ٣ / ٣٨٩ » : « حافظ العصر ، والمحدث البحر ، أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي . كان إليه المنتهى في قوة الحفظ ، وكثرة الحديث ، وصنَّف وجمع وألَّف ، في الأبواب والتراجم » .

وكان ابن عقدة رحمه‌الله يسكن الكوفة ، ويأتي الى بغداد ويحدث في مسجد براثا ، فصحَّح خطأً لابن صاعد ، فحرك ابن صاعد مجسمة الحنابلة ، فألزموا حاكم بغداد بحبسه ! ولا بد أن ابن عقدة أقنع الوزير أن يسأل أستاذ ابن صاعد عن المسألة ، فسأله فظهر الحق مع ابن عقدة ، فأطلقه وارتفعت مكانته .

ثم نقل عن الجعابي أنه جاء الى ابن عقدة ببعض أحاديث ابن صاعد ، فوجد فيها خطأ ، فطلب الجعابي أن يخبره به ، فامتنع ابن عقدة لأن ذلك يحرك عليه ابن صاعد وسفهاءه ، وقال له سأعطيك خطأه عندما أغادر بغداد الى الكوفة ، وأصل الى قنطرة الياسرية ، خارج بغداد !

ولما أخبر الجعابي ابن صاعد بخطئه الواضح ، فبدل أن يشكره ويشكر ابن عقدة تأسف لأنه أفلت منه ، ثم توعده بقوله : لأجعلن على كل شجرة من لحمه قطعةً ! وهذا يدل على طبيعة ابن صاعد العدوانية هو وجماعته ، وأنهم أهل شر لا علم ! فقد كانوا مجموعة متخصصة بالمشاكل ، ولهم أدوار في مهاجمة مجالس الشيعة في بغداد خاصة في جامع براثا والكرخ ، ثم في هدم قبر الحسين عليه‌السلام .

٥٤

وقد تحولوا الى مذهب متطرف ، وتسموا بالصاعدية ! قال المقدسي في البدء والتاريخ « ٥ / ١٤٩ » : « وأما الصاعدية فهم أصحاب ابن صاعد ، يجيزون خروج أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، لأنه روى : لا نبيَّ بعدي إلا ما شاء الله » !

الصاعدية أجداد الوهابية !

قال ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه « ١ / ١٠٤ » : « ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة : أبوعبد الله بن حامد ، وصاحبه القاضي ، وابن الزاغوني ، فصنفوا كتباً شانوا بها المذهب !

ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام فحمَلوا الصفات على مقتضى الحسّ ، فسمعوا أن الله تعالى خلق آدم على صورته ، فأثبتوا له صورةً ووجهاً زائداً على الذات ، وعينين وفماً ولهوات ، وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات ، ويديْن وأصابع وكفاً ، وخنصراً وإبهاماً ، وصدراً وفخذاً ، وساقين ورجلين . وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس . وقالوا يجوز أن يَمُسَّ ويُمَس ، ويدني العبد من ذاته !

وقال بعضهم : ويتنفس ! ثم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل ، وقد أخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات فسموها بالصفات تسميةً مبتدعة ، لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ، ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله تعالى ، ولا إلى إلغاء ما يوجبه الظاهر من سمات الحدوث ، ولم يقنعوا بأن يقولوا صفة فعل ، حتى قالوا صفة ذات .

ثم ، لما أثبتوا أنها صفات ذات قالوا لا نحملها على توجيه اللغة ، مثل يد على نعمة وقدرة ، ومجئ وإتيان على معنى بر ولطف ، وساق على شدة ، بل قالوا نحملها على

٥٥

ظواهرها المتعارفة ، والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين ، والشئ إنما يحمل على حقيقته ، إذا أمكن .

ثم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ، ويقولون : نحن أهل السنة ! وكلامهم صريح في التشبيه ، وقد تبعهم خلقٌ من العوام !

فقد نصحت التابع والمتبوع فقلت لهم : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل ، وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول وهو تحت السياط : كيف أقول ما لم يُقل ! فإياكم أن تبتدعوا في مذهبه ما ليس منه .

ثم قلتم في الأحاديث : تحمل على ظاهرها ، وظاهر القدم الجارحة ، فإنه لما قيل في عيسى روح الله اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روحٌ ولجت في مريم ! ومن قال استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات !

وينبغي أن لا يهمل ما يثبت به الأصل وهو العقل ، فإنا به عرفنا الله تعالى وحكمنا له بالقدم ، فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت ، ما أنكر عليكم أحد إنما حملكم إياها على الظاهر قبيحٌ ، فلا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ما ليس منه .

ولقد كسيتم هذا المذهب شيناً قبيحاً ، حتى صار لا يقال حنبلي إلا مجسم !

ثم زينتم مذهبكم أيضاً بالعصبية ليزيد بن معاوية ، ولقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته ، وقد كان أبومحمد التميمي يقول في بعض أئمتكم : لقد شان المذهب شيناً قبيحاً ، لا يغسل إلى يوم القيامة » !

ويقصد بأئمتكم أبا يعلى الموصلي ، قال أبو الفداء « ٢ / ١٨٦ » : « وكان ابن التميمي الحنبلي يقول : لقد خريَ أبويعلي بن الفراء على الحنابلة خريةً لا يغسلها الماء » !

٥٦

أعطوا المتوكل لقب محي السنة ، وقطب الظاهر والباطن !

ذكرت مرةً لأحد علماء الوهابية أن المتوكل كان ناصبياً يبغض علياً عليه‌السلام وكان خماراً ، فاستنكر وقال : كلا ، إنه عندنا محي السنة ، ومذل النصارى والزنادقة !

وقال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٨٧ » : « وكان المتوكل محبباً إلى رعيته ، قائماً في نصرة أهل السنة ، وقد شبهه بعضهم بالصدِّيق في قتله أهل الردة ، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين ، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية . وقد أظهر السنة بعد البدعة ، وأخمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها فرحمه الله . وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور ، قال فقلت : المتوكل ؟ قال : المتوكل . قلت : فما فعل بك ربك ؟ قال : غفر لي . قلت : بماذا ؟ قال : بقليل من السنة أحييتها » !

وقد اشتهر لقبه محيي السنة وتفاخر به العوام المجسمة ، وتقرب اليهم الصوفية فأعطاه ابن عربي أعلى لقب في التصوف والعرفان وهو : القطب الرباني والغوث !

قال في فتوحاته المكية : ٢ / ٦ ، وفي الطبعة الجديد : ١١ / ٢٧٥ : « وقد يسمى رجل البلد قطب ذلك البلد ، وشيخ الجماعة قطب تلك الجماعة ، ولكن الأقطاب المصطلح على أن يكون لهم هذا الإسم مطلقاً من غير إضافة ، لا يكون منهم في الزمان إلا واحد ، وهو الغوث أيضاً وهو من المقربين ، وهو سيد الجماعة في زمانه . ومنهم من يكون ظاهر الحكم ويحوز الخلافة الظاهرة ، كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، والحسن ، ومعاوية بن يزيد ، وعمر بن عبد العزيز ، والمتوكل ! ومنهم من له الخلافة الباطنة خاصة ولا حكم له في

٥٧

الظاهر ، كأحمد بن هارون الرشيد السبتي ، وكأبي يزيد البسطامي . وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر » !

أقول : لا بد أن ابن عربي قرأ سيرة المتوكل من تاريخ الطبري وأمثاله ، وقرأ عن فسقه وخمره ، وقرأ عن تخنثه ونصبه ، لكنه أصيب بعمى التقرب لمحبيه ، فجعله كبير أولياء الله تعالى ! وكفى بذلك طعناً في مبدئية ابن عربي وفكره !

كيف كان المتوكل يدير الدولة ؟

كان النمط السائد للإدارة في العالم : أن الملك هو المقاول الأكبر ، فيختار وزيره الأول لينفذ أوامره ، ويجبي الماليات من الحكام . ثم يختار حكام الولايات ، ويتفق مع الواحد منهم على المبلغ السنوي عن المنطقة التي تحت يده .

فالمسألة الأولى في الحكم هي الماليات التي تصل الى الحاكم الصغير ثم الكبير . قال الطبري « ٧ / ٣٨٤ » : « كان انقطاع الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وهو وزير المتوكل ، وكانا يحملان إليه كل ما يأمرهما به ، وكان الحسن بن مخلد على ديوان الضياع ، وموسى على ديوان الخراج ، فكتب نجاح بن سلمة رقعة إلى المتوكل في الحسن وموسى ، يذكر أنهما قد خانا وقصرا فيما هما بسبيله ، وأنه يستخرج منهما أربعين ألف ألف درهم !

فأدناه المتوكل وشاربه تلك العشية وقال : يا نجاح ، خذل الله من يخذلك فبكر إليَّ غداً حتى أدفعهما إليك ، فغدا وقد رتب أصحابه وقال : يا فلان خذ أنت الحسن ، ويا فلان خذ أنت موسى ، فغدا نجاح إلى المتوكل فلقي عبيد الله وقد

٥٨

أمر عبيد الله أن يحجب نجاح عن المتوكل ، فقال له : يا أبا الفضل إنصرف حتى ننظر وتنظر في هذا الأمر ، وأنا أشير عليك بأمر لك فيه صلاح . قال : وما هو ؟ قال : أصلح بينك وبينهما وتكتب رقعة تذكر فيها أنك كنت شارباً ، وأنك تكلمت بأشياء تحتاج إلى معاودة النظر فيها ، وأنا أصلح الأمر عند أمير المؤمنين ! فلم يزل يخدعه حتى كتب رقعة بما أمره به فأدخلها على المتوكل وقال : يا أمير المؤمنين قد رجع نجاح عما قال البارحة ، وهذه رقعة موسى والحسن يتقبلان به بما كتبا ، فتأخذ ما ضمنا عنه ، ثم تعطف عليهما فتأخذ منهما قريباً مما ضمن لك عنهما ، فَسُرَّ المتوكل وطمع فيما قال له عبيد الله ، فقال : إدفعه إليهما ، فانصرفا به وأمرا بأخذ قلنسوته عن رأسه وكانت خزاً ، فوجد البرد فقال : ويحك يا حسن قد وجدت البرد ، فأمر بوضع قلنسوته على رأسه وصار به موسى إلى ديوان الخراج ، ووجها إلى ابنيه أبي الفرج وأبي محمد ، فأُخذ أبوالفرج وهرب أبومحمد ابن بنت حسن بن شنيف ، وأخذ كاتبه إسحاق بن سعد بن مسعود القطربلي وعبد الله بن مخلد المعروف بابن البواب ، وكان انقطاعه إلى نجاح ، فأقر لهما نجاح وابنه بنحومن مائة وأربعين ألف دينار ، سوى قيمة قصورهما وفرشهما ومستغلاتهما ، بسامرا وبغداد ، وسوى ضياع لهما كثيرة !

فأمر بقبض ذلك كله ، وضرب مراراً بالمقارع في غير موضع الضرب ، نحواً من مائتي مقرعة ، وغُمز وخُنق ، خنقه موسى الفرانق والمعلوف .

٥٩

فأما الحارث فإنه قال : عَصَرَ خصيتيه حتى مات ، فأصبح ميتاً يوم الإثنين لثمان بقين من ذي القعدة من هذه السنة ، فأمر بغسله ودفنه فدفن ليلاً .

وضرب ابنه محمد وعبد الله بن مخلد ، وإسحاق بن سعد نحواً من خمسين خمسين ، فأقر إسحاق بخمسين ألف دينار ، وأقر عبد الله بن مخلد بخمسة عشر ألف دينار ، وقيل عشرين ألف دينار ، وكان ابنه أحمد بن بنت حسن قد هرب فظفر به بعد موت نجاح ، فحبس في الديوان وأخذ جميع ما في دار نجاح وابنه أبي الفرج من متاع ، وقبضت دورهما وضياعهما حيث كانت وأخرجت عيالهما . وأخذ وكيله بناحية السواد وهو ابن عياش ، فأقر بعشرين ألف دينار .

وبعث إلى مكة في طلب الحسن بن سهل بن نوح الأهوازي ، وحسن بن يعقوب البغدادي ، وأُخذ بسببه قوم فحُبسوا . وقد ذكر في سبب هلاكه غير ما قد ذكرناه : ذُكر أنه كان يضاد عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، وكان عبيد الله متمكناً من المتوكل واليه الوزارة وعامة أعماله ، وإلى نجاح توقيع العامة ، فلما عزم المتوكل على بناء الجعفري ، قال له نجاح وكان في الندماء وقال : يا أمير المؤمنين أسمي لك قوماً تدفعهم إليَّ حتى أستخرج لك منهم أموالاً تبني بها مدينتك هذه ، فإنه يلزمك من الأموال في بنائها ما يعظم قدره ويجل ذكره ؟

فقال له : سمهم ، فرفع رقعة يذكر فيها موسى بن عبد الملك ، وعيسى بن فرخانشاه ، خليفة الحسن بن مخلد ، والحسن بن مخلد ، وزيدان بن إبراهيم خليفة موسى بن عبد الملك ، وعبيد الله بن يحيى وأخويه عبد الله بن يحيى

٦٠