الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

عن محبته ، وأريد أن آمرك بشئ فعرفني كيف قلبك فيه ، فقال : أنت تعلم كيف أفعل ، فقل لي ما شئت حتى أفعله ... ثم إنه أمسك عنه مدة مديدة ودعا به ، فقال : يا باغر ، قد حضرت حاجة أكبر من الحاجة التي قدمتها فكيف قلبك ؟ قال : قلبي على ما تحبُّ فقل ما شئت حتى أفعله ، فقال : هذا المنتصر قد صح عندي أنه على إيقاع التدبير عليَّ وعلى غيري حتى يقتلنا ، وأريد أن أقتله فكيف ترى نفسك في ذلك ؟

ففكر باغر في ذلك ونكس رأسه طويلًا وقال : هذا لا يجئ منه شئ ، قال : وكيف ؟ قال : يقتل الابن والأبُ باقٍ ؟ إذاً لا يستوي لكم شئ ، ويقتلكم أبوه كلكم به ، قال : فما ترى عندك ؟ قال : نبدأ بالأب أولاً فنقتله ، ثم يكون أمر الصبي أيسر من ذلك ، فقال له : ويحك وتفعل هذا ويتهيأ ؟ قال : نعم أفعله ، وأدخل عليه حتى أقتله ، فجعل يردد عليه ، فيقول : لا تفعل غير هذا ، ثم قال له : فادخل أنت في أثري فإنْ قتلته وإلا فاقتلني وضَعْ سيفك عليَّ ، وقل : أراد أن يقتل مولاه ، فعلم بغا حينئذ أنه قاتله ، وتوجه له في التدبير في قتل المتوكل » .

وقد روى الطبري « ٧ / ٤٣٤ » تفاصيل كثيرة ، في مكافأة باغر على قتله المتوكل ، وفي صراع الأتراك فيما بينهم ، وصراعهم مع الخلافة .

٣٤١

القائد وصيف التركي :

١. قال الصفدي في الوافي « ٢٧ / ٢٥٩ » : « الأمير التركي وصيف ، غلام الإمام المتوكل ، كان من كبار الأمراء القواد ، استولى على المعتز ، واحتجرَ واصطفى لنفسه الأموال والذخائر ، فشغبت عليه الفراغنة والأشروسنية ، وطالبوه بالأرزاق ، فقال مالكم عندنا إلا التراب ! فوثبوا عليه وقتلوه بالدبابيس ، وقطعوا رأسه ونصبوه على رمح في سنة ثلاث وخمسين ومائتين .

وكان وصيف هو وبغا الشرابي ، قد حجرا على المستعين ، حتى قال الشاعر :

خليفةٌ في قفصٍ

بينَ وصيفٍ وبَغَا

يقول ما قالا له

كما تقول البَبَّغَا

وكان في الأصل مملوكاً لشيخ من أهل قم ، اشتراه لما سُبِيَ من الديلم ، وأحسن تربيته ، وأسلمه مع ابنه في المكتب ، وكان إذا وقع في يده شئ تركه عند بقال في المحلة . ثم إنه بعد بلوغه تعلق بالعمل بالسلاح ، ثم توجه مع بعض الجند إلى خراسان بعدما أخذ ماله من عند البقال ، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن اتصل بالمتوكل . ولما تولى وصيف على قم طلب الشيخ أستاذه واعترف له بالرق ، فأنكر ذلك ، فقال له : أنا مملوكك فلان ، ودفع إليه ثلاث بدر وقماشاً ودواب وطيباً بمثل ذلك ، وأمر لابن الشيخ بعشرة آلاف درهم ، وبعث إلى زوجة الشيخ وبناته مالاً كثيراً ، ودفع إلى البقال خمس مائة دينار ، وقال : يا أهل قم ، ما على وجه الأرض أحدٌ أوجب حقاً عليَّ منكم ، إلا أني أخالفكم في التشيع » .

٢. كان وصيف قائداً كبيراً عند الواثق ، ولما مات عمل لتولية المتوكل : « لما توفي حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف وعمر بن فرج وابن الزيات وأحمد

٣٤٢

بن خالد أبوالوزير ، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق وهو غلام أمرد ، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية فإذا هو قصير فقال لهم وصيف : أما تتقون الله تُولون مثل هذا الخلافة ، وهو لا يجوز معه الصلاة » .

فاستقر رأيهم على تولية جعفر وجاؤوا به من السجن . « الطبري : ٧ / ٣٤١ » .

ولهذا صار وصيف مقرباً عند المتوكل ، وقد ورد أنه عندما جاء أحمد بن حنبل الى بغداد لقيه في الطريق فلم يسلم عليه مباشرةً ، وأرسل له شخصاً يسلم عليه نيابةً عنه ويقول له : حرض المتوكل على خصمك ابن أبي دؤاد ليعزله !

قال الذهبي في تاريخه « ١٨ / ٨٧ » : « قال حنبل في حديثه .. فأخبرني أبي قال : لما دخلنا إلى العساكر إذا نحن بموكب عظيم مقبل ، فلما حاذى بنا قالوا : هذا وصيف .

وإذا فارس قد أقبل فقال لأحمد : الأمير وصيف يقرؤك السلام ويقول لك : إن الله قد أمكنك من عدوك ، يعني ابن أبي دؤاد ، وأمير المؤمنين يَقبل منك فلا تدع شيئاً إلا تكلمت به . فما رد عليه أبوعبد الله شيئاً . وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين ، ودعوت لوصيف » .

وهذا يدل على غطرسة وصيف ، وعلى أن نظرتهم لأحمد بن حنبل كانت عادية !

٣. وعندما أراد المتوكل أن يغدر بإيتاخ ، أرسله الى الحج : « فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف » . « الطبري : ٧ / ٣٥٠ » .

٣٤٣

٤. ثم غدر المتوكل بوصيف ، فقلص صلاحياته وكتب فرامين بمصادرة أمواله في البلاد . قال الذهبي في سير أعلام النبلاء « ١٢ / ٣٨ » : « وانحرفت الأتراك على المتوكل لمصادرته وصيفاً وبغا ، حتى اغتالوه » .

وقال ابن تغري في مورد اللطافة « ١ / ١٥٧ » : « وكان المتوكل بايع ولده المنتصر محمداً . ثم إنه أراد أن يعزله ويولي ولده المعتز لمحبته لأمه قبيحة ، فسأل المتوكل ولده المنتصر أن ينزل عن العهد لأخيه المعتز فأبى ، فغضب المتوكل عليه ، وصار يحضره المجالس العامة ويحط منزلته ، ويتهدده ويشتمه ويتوعده .

ثم اتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لكونه صادر وصيف التركي وبغا ، فاتفق الأتراك حينئذ مع المنتصر على قتل أبيه المتوكل » .

٥. قال الذهبي في سيره « ١٢ / ٣٩ » : « وسكر المتوكل سكراً شديداً ، ومضى من الليل إذ أقبل باغر في عشرة متلثمين تبرق أسيافهم ، فهجموا علينا ، وقصدوا المتوكل ، وصعد باغر وآخر إلى السرير فصاح الفتح : ويلكم مولاكم . وتهارب الغلمان والجلساء والندماء ، وبقي الفتح ، فما رأيت أحداً أقوى نفساً منه بقي يمانعهم ، فسمعت صيحة المتوكل إذ ضربه باغر بالسيف المذكور على عاتقه ، فقده إلى خاصرته وبعج آخر الفتح بسيفه ، فأخرجه من ظهره ، وهو صابر لايزول ، ثم طرح نفسه على المتوكل فماتا ، فَلُفَّا في بساط ثم دفنا معاً .

وكان بغا الصغير استوحش من المتوكل لكلام ، وكان المنتصر يتألف الأتراك ، لا سيما من يُبعده أبوه » .

٣٤٤

وفي سمط النجوم « ٣ / ٤٦٦ » : « حملهم الطغيان على الفتك بالخليفة المتوكل ، لما أراد أن يصادر مملوك أبيه وصيفاً التركي لكثرة أمواله وخزائنه ، فتعصب له باغر التركي ، وانحرف الأتراك عن المتوكل فدخل باغر ومعه عشرة أتراك ، وهو في مجلس أنسه ، بعد مضي هزيع من الليل ، فصاح الفتح : ويلكم هذا سيدكم وابن سيدكم ! وهرب من كان حوله من الغلمان والندمان على وجوههم ، فبقي الفتح وحده والمتوكل غائب سكران ، فضربه باغر بالسيف على عاتقه فقدَّه إلى حقوه ، فطرح الفتح نفسه عليه ، فضربهما باغر ضربة ثانية فماتا جميعاً ، فلفهما معاً في بساط ومضى هو ومن معه ، ولم ينتطح في ذلك عنزان » .

٦. وأرسل المنتصر وصيفاً الى غزو الروم ، وكتب له أن يبقى هناك أربع سنين ، ففي تاريخ الطبري « ٧ / ٤٠٨ » : « كتب معه المنتصر كتاباً إلى وصيف يأمره بالمقام ببلاد الثغر ، إذا هو انصرف من غزاته أربع سنين ، يغزو في أوقات الغزو منها » .

وهذا يدل على أن المنتصر أخذ يعمل للتخلص من وصيف ، فلما قتل المنتصر عاد وصيف وبغا ، وصار مقربين عند المستعين الذي صار خليفةً بعد المنتصر .

وفي التنبيه والإشراف / ٣١٥ : « وبويع المستعين أحمد بن محمد المعتصم في اليوم الذي توفي فيه المنتصر ، وغلب على التدبير والأمر والنهي أوتامش بن أخت بغا الكبير .. ولم يزل مقيماً بسر من رأى إلى أن قَتَلَ وصيفٌ وبُغَا باغرَ التركي أحد المتقدمين في قتل المتوكل ، فشغب الموالي وتحزبوا ، فانحدر ومعه وصيف وبغا إلى مدينة السلام ، لثلاث خلون من المحرم سنة ٢٥١ . وبايع الأتراك بسر من رأى أبا عبد الله المعتز لحرب من بمدينة السلام ، فكانت الحروب بينهم سنة إلا أياماً يسيرة ، والقيم بأمر المستعين محمد

٣٤٥

بن عبد الله بن طاهر ، إلى أن خلع المستعين نفسه ، وسَلَّم َالخلافة إلى المعتز لليلتين خلتا من المحرم سنة ٢٥٢ .. وصار إليه وصيف وبغا فردهما إلى مراتبهم ، ولم يزل يعمل في الحيلة عليهما إلى أن شغب الموالي فقتلوا وصيفاً الجمعة سلخ شوال سنة ٢٥٣ » .

القائد صالح بن وصيف :

برز صالح بن وصيف بعد قتل أبيه ، وكانت له أدوار في قيادة الترك لا تقل عن أبيه ، فكان الأمر الناهي في خلافة المستعين ، وهو الذي اتفق مع بُغا على قتل باغر قاتل المتوكل ، فثار عليهما الجند الأتراك ، فهربا مع أبيه وصيف والخليفة المستعين الى بغداد ، فبايع الأتراك المعتز ، ووقعت الحرب بينه وبينه والمستعين ، ثم اتفقوا على خلع المستعين وتثبيت المعتز في الخلافة .

ورجع صالح بن وصيف الى سامراء وبايع المعتز ، ثم جاء بالمهتدي من بغداد الى سامراء ونصبه خليفة ، وأجبر المعتز على خلع نفسه ، ثم قتله ، وصار الآمر الناهي في دولة المهتدي ، حتى جاء القائد التركي موسى بن بُغا بجيشه من الري فقتل صالح بن وصيف ، ثأراً للمعتز ، وقتل المهتدي أيضاً !

في تاريخ الخلفاء / ٢٦٤ ، ملخصاً : « وقدم موسى بن بُغا من الري يريد سامرا ، لقتل صالح بن وصيف بدم المعتز ، وأخذ أموال أمه ومعه جيشه ، فصاحت العامة على ابن وصيف : يا فرعون قد جاءك موسى ! فطلب موسى من بغا الإذن على المهتدي فلم يأذن له ، فهجم بمن معه عليه وهو جالس في دار العدل فأقاموه وحملوه على فرس ضعيفة وانتهبوا القصر ، وأدخلوا المهتدي إلى دار ناجود وهو يقول : يا موسى إتق الله ، ويحك ما تريد ! قال : والله ما نريد إلا خيراً ، فاحلف

٣٤٦

لنا ألا تمالئ صالح بن وصيف ، فحلف لهم ، فبايعوه حينئذ ثم طلبوا صالحاً ليناظروه على أفعاله فاختفى ، وندبهم المهتدي إلى الصلح فاتهموه أنه يدري مكانه ، فجرى في ذلك كلام ، ثم تكلموا في خلعه . فخرج إليهم المهتدي من الغد متلقداً بسيفه ، فقال : قد بلغني شأنكم ، لست كمن تقدمني مثل المستعين والمعتز ، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط وقد أوصيت وهذا سيفي ! والله لأضربن ما استمسكت قائمته بيدي ، أما دينٌ ، أما حياءٌ ، أما رعةٌ ؟ لم يكن الخلاف على الخلفاء والجرأة على الله ؟

ثم قال : ما أعلم عِلْمَ صالح ، فرضوا وانفضوا . ونادى موسى بن بغا : من جاء بصالح فله عشرة آلاف دينار ، فلم يظفر به أحد ، واتفق أن بعض الغلمان دخل زقاقاً وقت الحر ، فرأى باباً مفتوحاً فدخل فمشى في دهليز مظلم ، فرأى صالحاً نائماً ، فعرفه وليس عنده أحد ، فجاء إلى موسى فأخبره ، فبعث جماعة فأخذوه وقُطعت رأسه ، وطِيفَ به .. فكتب المهتدي إلى بكيال أن يقتل موسى ومفلحاً أحد أمراء الأتراك أيضاً ، أو يمسكهما ، ويكون هو الأمير على الأتراك كلهم ! فأوقف بكيال موسى على كتابه وقال : إني لست أفرح بهذا وإنما هذا يعمل علينا كلنا ، فأجمعوا على قتل المهتدي وساروا إليه ، فقاتل عن المهتدي المغاربة والفراغنة والأشروسنية ، وقُتل من الأتراك في يوم أربعة آلاف ، ودام القتال إلى أن هُزم جيش الخليفة وأُمسك هو ، فعُصِر على خصيتيه فمات ، وذلك في رجب سنة ست وخمسين » !

٣٤٧

رئيس الأطباء بخت يشوع :

١. معنى بختيشوع : عبد المسيح ، فالبخت في اللغة السريانية العبد ، ويشوع عيسى عليه‌السلام . وكان بختيشوع يلحق بأبيه في معرفته بصناعة الطب ومزاولته لأعمالها ، وخدم هارون الرشيد ، وتميز في أيامه » . « طبقات الأطباء / ١٨٦ » .

« جورجس بن جبرئيل : طبيب سرياني الأصل . هو أبو بختيشوع الطبيب ورأس هذا البيت . كان رئيس الأطباء في جنديسابور ، واعتل المنصور العباسي ، فأُرشد إليه ، فاستدعاه فقدم بغداد سنة ١٤٨ ، فأحبه المنصور ، فمكث حظياً عنده ونقل له كتباً كثيرة من اليونانية إلى العربية . ثم اعتل جورجس وطلب الأوبة إلى جنديسابور فأذن له المنصور ، فعاد سنة ١٥٢ ومات فيها .

من تصانيفه عدا ما ترجمه إلى العربية : كناش ، ألفه بالسريانية وترجمه حنين بن إسحاق الى العربية » . « الأعلام : ٢ / ١٤٦ »

٢. وفي طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة / ٢٠١ : « بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع : كان سريانياً نبيل القدر ، وبلغ من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ، ما لم يبلغه أحد من سائر الأطباء الذين كانوا في عصره ، وكان يضاهي المتوكل في اللباس والفرش . ونقل حنين بن إسحاق لبختيشوع بن جبرائيل كتباً كثيرة من كتب جالينوس إلى اللغة السريانية والعربية .

قال فثيون الترجمان : لما ملك الواثق الأمر ، كان محمد بن عبد الملك الزيات وابن أبي دؤاد يعاديان بختيشوع ويحسدانه على فضله وبره ومعروفه وصدقاته ، وكمال

٣٤٨

مروءته ، فكانا يغريان الواثق عليه إذا خلوا به ، فسخط عليه الواثق وقبض على أملاكه وضياعه ، وأخذ منه جملة طائلة من المال ، ونفاه إلى جندي سابور ، وذلك في سنة ثلاثين ومائتين ، فلما اعتل بالإستسقاء وبلغ الشدة في مرضه ، أنفذ من يحضر بختيشوع ، ومات الواثق قبل أن يوافي بختيشوع .

ثم صلحت حال بختيشوع بعد ذلك في أيام المتوكل حتى بلغ في الجلالة والرفعة وعظم المنزلة وحسن الحال وكثرة المال وكمال المروءة ومباراة الخلافة في الزي واللباس والطيب والفرش والصناعات والتفسيح والبذخ في النفقات ، مبلغاً يفوق الوصف ، فحسده المتوكل وقبض عليه .

قال فثيون الترجمان : كان المعتز بالله قد اعتل في أيام المتوكل علة من حرارة امتنع معها من أخذ شئ من الأدوية والأغذية ، فشق ذلك على المتوكل كثيراً ، واغتم به وصار إليه بختيشوع والأطباء عنده وهو على حاله في الإمتناع ، فمازحه وحادثه ، فأدخل المعتز يده في كُمِّ جُبةِ وَشْيٍ يمانٍ مُثقله ، كانت على بختيشوع وقال : ما أحسن هذا الثوب ، فقال بختيشوع : يا سيدي ما له والله نظير في الحسن وثمنه عليَّ ألف دينار ، فكل لي تفاحتين وخذ الجبة ، فدعا بتفاح فأكل اثنتين ، ثم قال له : تحتاج يا سيدي الجبة إلى ثوب يكون معها ، وعندي ثوب هو أخٌ لها فاشرب لي شربة سكنجبين وخذه ، فشرب شربة سكنجبين ، ووافق ذلك اندفاع طبيعته . فبرأ المعتز وأخذ الجبة والثوب وصلح من مرضه .

فكان المتوكل يشكر هذا الفعل أبداً لبختيشوع .

٣٤٩

٣. وحدث أبومحمد بدر بن أبي الإصبع ، عن أبيه عن أبي عبد الله محمد بن الجراح عن أبيه ، أن المتوكل قال يوماً لبختيشوع : أدعني . فقال : السمع والطاعة فقال : أريد أن يكون ذلك غداً . قال : نعم وكرامة . وكان الوقت صائفاً وحره شديداً . فقال بختيشوع لأعوانه : وأصحابه أمرنا كله مستقيم إلا الخيْش فإنه ليس لنا منه ما يكفي ، فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد من الخيش بسر من رأى ففعلوا ذلك ، وأحضروا كل من وجدوه من النجادين والصناع ، فقطع لداره كلها صونها وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها ، خيْشاً ، حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيَّش . وإنه فكر في روائحه التي لا تزول إلا بعد استعماله مدة ، فأمر بابتياع كل ما يقدر عليه بسر من رأى من البطيخ ، وأحضر أكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يَدْلِكُونَ الخيشَ بذلك البطيخ ليلتهم كلها ، وأصبح وقد انقطعت روائحه ..

وأمر طباخيه بأن يعملوا خمسة آلاف جونة « طبق » في كل جونة بابُ خبز سَميد دَسْتٍ رِقاق ، وزن الجميع عشرون رطلاً ، وحَمَلٌ مشويٌّ وجَدْيٌ باردٌ ، وفائقةٌ ودجاجتين مصدرتان ، وفرخان ومصوصان ، وثلاثة ألوان ، وجام حلواء .

فلما وافاه المتوكل رأى كثرة الخيش وجِدَّته فقال : أي شئ ذهب برائحته ، فأعاد عليه حديث البطيخ ، فعجب من ذلك ، وأكل هو وبنو عمه والفتح بن خاقان على مائدة واحدة ، وأجلس الأمراء والحجاب على سماطين عظيمين ، لم

٣٥٠

يُرَ مثلهما لأمثاله ، وفُرقت الجُوَنُ على الغلمان والخدم والنقباء والركابية والفراشين والملاحين وغيرهم من الحاشية ، لكل واحد جونة .

وقال : قد أمنتُ ذمَّهم لأنني ما كنت آمن لو أطعموا على موائد ، أن يرضى هذا ويغضب الآخر ، ويقول واحد شبعت ويقول آخر لم أشبع ، فإذا أعطى كل إنسان جونةً من هذه الجُوَن كفته ، واستشرف المتوكل على الطعام ، فاستعظمه جداً . وأراد النوم فقال لبختيشوع : أريد أن تنومني في موضع مضئ ، لا ذباب فيه ، وظن أنه يتعنته بذلك ، وقد كان بختيشوع تقدم بأن تجعل أجاجين السيلان « أوني الدبس » في سطوح الدار ، ليجتمع الذباب عليه ، فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة ! ثم أدخل المتوكل إلى مربع كبير سقفه كله كُواء فيها جامات يضئ البيت منها ، وهو مخيَّش مُظَهَّر بعد الخيش بالدبقي المصبوغ بماء الورد والصندل والكافور ، فلما اضطجع للنوم أقبل يشم روائح في نهاية الطيب ، لا يدري ما هي ، لأنه لم يرَ في البيت شيئاً من الروائح والفاكهة والأنوار ، ولا خلف الخيش لا طاقات ، ولا موضع يجعل فيه شئ من ذلك ، فتعجب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح حتى يعرف صورتها ، فخرج يطوف فوجد حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبواباً صغاراً لطافاً كالطاقات ، محشوة بصنوف الرياحين والفواكه واللخالخ والمشام ، التي فيها التفاح والبطيخ المستخرج ما فيها ، المحشوة بالنمام والحماحم اليماني المعمول بماء الورد والخلوق والكافور ، والشراب العتيق ، والزعفران الشعر .

٣٥١

ورأى الفتح غلماناً قد وُكلوا بتلك الطاقات ، مع كل غلام مجمرة فيها نِدٌّ يسجره ويبخر به ، والبيت من داخله إزارٌ من اسفيداج مخرم خروماً صغاراً لا تبين ، تخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت .

فلما عاد الفتح وشرح للمتوكل صورة ما شاهده ، كثر تعجبه منه ، وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته وكمال مروءته ، وانصرف من داره قبل أن يستتم يومه ، وادعى شيئاً وجده من التياث بدنه ، وحقد عليه ذلك ، فنكبه بعد أيام يسيرة ، وأخذ له مالاً كثيراً لا يُقدر ، ووجد له في جملة كسوته أربعة آلاف سراويل دبيقي سيتيزي ، في جميعها تكك إبريسم أرميني .

وحضر الحسين بن مخلد فختم على خزانته ، وحمل إلى دار المتوكل ما صلح منها وباع شيئا كثيراً ، وبقي بعد ذلك حطب وفحم ونبيذ وتوابل ، فاشتراه الحسين بن مخلد بستة آلاف دينار . وذكر أنه باع من جملته بمبلغ ثمانية آلاف دينار .

ثم حسده حمدون ووشى إلى المتوكل وبذل فيما بقي في يده مما ابتاعه ستة آلاف دينار ، فأجيب إلى ذلك وسلم إليه فباعه بأكثر من الضعف .

وكان هذا في سنة أربع وأربعين ومائتين للهجرة .

ولما توفي بختيشوع خلف عبيد الله ولده وخلف معه ثلاث بنات ، وكان الوزراء والنظار يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال ، فتفرقوا واختفوا ، وكان موته يوم الأحد لثمان بقين من صفر ، سنة ست وخمسين ومائتين » .

٣٥٢

٤. وفي معرفة الجواهر لأبي الريحان البيروني « ١ / ٧٠ » : « دخل بختيشوع على المتوكل يوم مهرجان « عيد نيروز الفرس » فقال : أين هديتك ؟ فقال : هديتي لم يملكها خليفة قبلك ولا مَلِك ! وأخرج ملعقة زبرجد توزن ثمانية مثاقيل ، وحكى عن أبيه جبريل أنه فصد دنانير جارية يحيى بن خالد ، وأنه لما عاد إليها للتثنية وجدها تأكل رماناً بهذه الملعقة ، وحين تم التسريح وشد العرق قالت له : خذ هذه الملعقة فأخذتها . فاعجب بها المتوكل وقال بحقٍّ ما أهلكوا أنفسهم !

وأحضر عتاب الجوهرى لتقويمها فنكل وقال : ما أعرف لهذه قيمة » !

٥. وفي تاريخ الطبري « ٣ / ٣٨٢ » : « وفيها « سنة ٢٤٤ » غضب المتوكل على بختيشوع وقبض ماله ، ونفاه إلى البحرين » .

وفي تاريخ الطبري « ٧ / ٣٨٧ » : « وفيها « سنة ٢٤٥ » ضرب بختيشوع المتطبب مائة وخمسين مقرعة ، وأثقل بالحديد ، وحبس في المطبق في رجب » .

أقول : تدل هذه النصوص على أن المتوكل شخصية مريضة ، فبدل أن يُقدر طبيبه ويحبه ، ويستفيد من فكره ونبوغه لنفع المسلمين ، أو نفعه الشخصي ، حسده وحقد عليه ودمر حياته ، وخسَّرَ المجتمع طبيباً نابغاً !

فلا شك أنه مريض بالحسد ، وصاحب شخصية معقدة غير سوية .

٣٥٣

تسليط العلماء النواصب والمجسمة على الأمة

تقدم في ترجمة المتوكل أنه قَرَّبَ النواصب والمجسمة : « فكان فيهم مصعب الزبيري وإسحاق بن أبي إسرائيل ، وإبراهيم بن عبد الله الهروي ، وعبد الله وعثمان ابنا محمد بن أبي شيبة الكوفيان وهما من بنى عبس ، وكانا من حفاظ الناس . فقسمت بينهم الجوائز وأجريت عليهم الأرزاق ، وأمرهم المتوكل أن يجلسوا للناس ، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية ، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية ! فجلس عثمان بن محمد بن أبي شيبة في مدينة أبي جعفر المنصور ، ووضع له منبر ، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس فأخبرني حامد بن العباس أنه كتب عن عثمان بن أبي شيبة . وجلس أبوبكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة ، وكان أشد تقدماً من أخيه عثمان ، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً » . « تاريخ بغداد : ١٠ / ٦٧ » .

وتقدمت ترجمة بعضهم ، ولا يتسع المجال لترجمة الجميع ، ومنهم يحيى بن محمد بن صاعد عالم جسمة الحنابلة ، وجده من غلمان المنصور . « العرش لابن أبي شيبة / ٢٦ » .

هشام بن عمار الدمشقي :

وهذه فقرات من ترجمته من سيرأعلام النبلاء : ١١ / ٤٢٠ ، قال : « الإمام الحافظ العلامة المقرئ ، عالم أهل الشام ، أبوالوليد السلمي .. وحدث عنه من أصحاب الكتب : البخاري ، وأبوداود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وروى الترمذي عن رجل عنه ، ولم يلقه مسلم ، ولا ارتحل إلى الشام ..

٣٥٤

قال صالح بن محمد جزرة : كان هشام بن عمار يأخذ على الحديث ولا يحدث ما لم يأخذ . كنت شارطت هشاماً أن أقرأ عليه بانتخابي ورقة ، فكنت آخذ الكاغد الفرعوني وأكتب مقرمطاً ، فكان إذا جاء الليل أقرأ عليه إلى أن يصلي العتمة ، فإذا صلى العتمة يقعد وأقرأ عليه فيقول : يا صالح ليس هذه ورقة ، هذه شقة !

قال : وكان يأخذ على كل ورقتين درهماً ويشارط ويقول : إن كان الخط دقيقاً فليس بيني وبين الدقيق عمل .. سمعت محمد بن عوف يقول : أتينا هشام بن عمار في مزرعة له ، وهو قاعد على مورج له وقد انكشفت سوءته ، فقلنا : يا شيخ غط عليك . فقال : رأيتموه لن ترمد عينكم أبداً ، يعني يمزح .

أخبرني بعض أصحاب الحديث ببغداد أن هشام بن عمار قال .. وجَّهَ المتوكل بعض ولده ليكتب عني .. قال : ونحن نلبس الأزر ولا نلبس السراويلات فجلست فانكشف ذكري فرآه الغلام ، فقال : إستتر يا عم . قلت : رأيته ، قال : نعم . قلت : أما إنه لا ترمد عينك أبداً إن شاء الله !

قال : فلما دخل على المتوكل ضحك ، قال فسأله فأخبره بما قلت له ، فقال : فأل حسن تفاءل لك به رجل من أهل العلم ! إحملوا إليه ألف دينار .

قلت : لم يخرج له الترمذي سوى حديث سوق الجنة .. ونصه بتمامه : إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم ، ثم يؤذن في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا ، فيزورون ربهم ويبرز لهم عرشه ، ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ، ويجلس

٣٥٥

أدناهم وما فيهم من دني على كثبان المسك والكافور ، وما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلساً .

قال أبوهريرة : قلت : يا رسول الله ، وهل نرى ربنا ؟ قال : نعم ، قال : هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر قلنا : لا . قال : كذلك لا تمارون في رؤية ربكم ، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضره الله محاضرة حتى يقول للرجل منهم : يا فلان ابن فلان ، أتذكر يوم كذا وكذا ، فيذكره ببعض غدراته في الدنيا ، فيقول : يا رب ، أفلم تغفر لي ؟ فيقول : بلى ، فسعة مغفرتي بلغت بك منزلتك هذه .. ويقول ربنا تبارك وتعالى : قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم ، فنأتي سوقاً قد حفت به الملائكة وفيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب ، فيحمل لنا ما اشتهينا ، ليس يباع فيها ولا يشترى . وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضاً ..

ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن : مرحباً وأهلاً ، لقد جئت وإنَّ بك من الجمال أفضل مما فارقتنا عليه ، فيقول : إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار ، ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا » !

ونلاحظ في شخصية هشام ابن عمار ماديته ، وعدم تقيد الأخلاقي ، وأحاديث تجسيم الله تعالى وتشبيهه ، وكأن الله تعالى شخص من أقارب هشام بن عمار ورواته !

٣٥٦

علي بن جهم : مستشار المتوكل :

قال القاضي نور الله في الصوارم المهرقة / ٣٠٠ : « وقد أرشدهم إلى ذلك كلام القاضي ابن خلكان من علماء أهل السنة في تاريخه المشهور ، عند بيان أحوال علي بن جهم القرشي ، حيث قال ما حاصله : إن التسنن لا يجتمع مع حب علي بن أبي طالب ! وما كتبه أهل ما وراء النهر في زمان السلطان الأعظم الأمير تيمور وغيره من فتوى اشتراط بغض علي عليه‌السلام بقدر شعيرة ، أو حبة رمانة ، في صحة الإسلام ، مشهورٌ ، وفي ألسنة الجمهور مذكور » !

وفي الإمامة وأهل البيت « ٣ / ١٩٣ » : « وكان المتوكل يقرب علي بن جهم لا لشئ إلا لأنه كان يبغض أمير المؤمنين علي المرتضى رضي الله عنه وكرم الله وجهه في الجنة ، وكان ابن الجهم هذا مأبوناً ، سمعه أبوالعيناء يوماً يطعن على الإمام علي ، فقال له : إنك تطعن على الإمام علي ، لأنه قتل الفاعل والمفعول من قوم لوط ، وأنت أسفلهما » .

وقال في شرح النهج « ٣ / ١٢٢ » : « ومن المنتسبين إلى سامة بن لؤي علي بن الجهم الشاعر .. وكان مبغضاً لعلي عليه‌السلام . وقد هجاه أبوعبادة البحتري فقال فيه :

إذا ما حُصَّلَتْ عَلْيَا قريشٍ

فلا في العِير أنتَ ولا النَّفِير

وما الجهْمُ بن بدر حينَ يعزى

من الأقمار ثَمَّ ولا البدور

علامَ هجوتَ مجتهداً علياً

بما لفَّقتَ من كذبٍ وزور

أمالك في استكَ الوجْعاءِ شُغْلٌ

يكفُّك عن أذى أهل القبور

قال أبوالفرج : وكان علي بن الجهم من الحشوية ، شديد النصب ، عدواً للتوحيد والعدل .. خطب امرأة من قريش فلم يزوجوه ، وبلغ المتوكل ذلك فسأل عن

٣٥٧

السبب فحدث بقصة بني سامة بن لؤي ، وأن أبا بكر وعمر لم يدخلاهم في قريش ، وأن عثمان أدخلهم فيها ، وأن علياً عليه‌السلام أخرجهم منها ، فارتدوا ، وأنه قتل من ارتد منهم وسبى بقيتهم فباعهم من مصقلة بن هبيرة .

فضحك المتوكل وبعث إلى علي بن الجهم فأحضره وأخبره بما قال القوم ، وكان فيهم مروان بن أبي حفصة المكنى أبا السمط وهو مروان الأصغر ، وكان المتوكل يغريه بعلي بن الجهم ، ويضعه على هجائه وثلبه فيضحك منهما ، فقال مروان :

إن جهماً حين تنسبهُ

ليس من عُجْمٍ ولا عَرَبِ

لجِّ في شتمي بلا سببٍ

سارقٌ للشعر والنسب

من أناسٍ يَدَّعُونَ أباً

ماله في الناس من عقب » .

* *

٣٥٨

الفصل الثالث عشر :

الإمام الهادي عليه‌السلام مع المنتصر والمستعين والمعتز

ثلاثة خلفاء في ست سنين

عاصر الإمام الهادي صلوات الله عليه بعد المتوكل ، ثلاثة خلفاء في ست سنين : المنتصر « ٢٤٧ ـ ٢٤٨ » والمستعين « ٢٤٨ ـ ٢٥٢ » والمعتز « ٢٥٢ ـ ٢٥٥ » . واستشهد عليه‌السلام في خلافة المعتز . ثم جاء المهتدي « ٢٥٥ ـ ٢٥٦ » فحكم سنة واحدة ثم جاء المعتمد فحكم طويلاً : « ٢٥٦ ـ ٢٧٩ » .

عصفت العاصفة بالمتوكل ومن بعده !

جرت سفينة النظام العباسي بريحٍ طيبةٍ في زمن المتوكل ، فكانت الأمور طَوْعَ يديه ، وعشرات ألوف الجنود الأتراك الذين اشتراهم أبوه يركعون أمامه ويؤدون له فروض الإحترام . وتوسع في البذخ والترف حتى فاق آباءه وأجداده في عدد القصور التي شيدها ، والجواري التي ملكها ، والملايين التي أنفقها !

ثم جاء غضب الله على المتوكل والعباسيين ، فاضطرب نظام الخلافة بعده ، وقصرت أعمار الخلفاء ، وتسلط القادة الأتراك على مقدرات الدولة !

فقد ارتكب المتوكل خطأ فادحاً عندما قتل إيتاخ القائد العام للجنود الأتراك ، وكان أبوه المعتصم سَلَّمَهُ الى إيتاخ وهو طفلٌ فربَّاه ، وكان المتوكل يناديه يا أبي !

٣٥٩

وبقتله حقد عليه الأتراك ، حتى قتلوه شر قتلة وهو سكران ، ونصبوا بدله ابنه المنتصر ، لأنه كان على خلاف مع أبيه .

قال الطبري « ٧ / ٣٩٠ » ملخصاً : « ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين ، كان فيها مقتل المتوكل .. سبب ذلك : أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل ، وإقطاعها الفتح بن خاقان . فكُتبت الكتب بذلك وصارت إلى الخاتم « غرفة ختم المراسيم » على أن تتقدم يوم الخميس لخمس خلون من شعبان ، فبلغ ذلك وصيفاً واستقر عنده الذي أُمر به في أمره .

وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يُصِيِّرا غداهم عند عبد الله بن عمر البازيار ، يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال ، على أن يفتك بالمنتصر ويقتل وصيفاً وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم ، فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم ، فيما ذكر ابن الحفصي بابنه المنتصر ، مرةً يشتمه ، ومرةً يسقيه فوق طاقته ، ومرةً يأمر بصفعه ، ومرةً يتهدده بالقتل ..

حدثني بعض من كان في الستارة من النساء أنه التفت إلى الفتح فقال له : برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله إن لم تلطمه يعني المنتصر !

فقام الفتح ولطمه مرتين يُمِرُّ يده على قفاه ! فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل عليَّ مما تفعله بي ! فقال : إسقوه » !

وقال الذهبي في سيره : ١٢ / ٣٩ ، وتاريخه : ١٨ / ٢٠١ : « وسكر المتوكل سكراً شديداً ، ومضى من الليل ثلاث ساعات ، إذ أقبل باغر في عشرة متلثمين تبرق أسيافهم ،

٣٦٠