الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

رؤساء الوزارة

الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات :

كان محمد بن عبد الملك الزيات من أسرة عادية من الدسكرة « الأعلام : ٦ / ٢٤٨ » ، والظاهر أنها المقدادية الواقعة قرب بعقوبة . وقد استوزره المعتصم ، ثم الواثق .

روى ابن الزيات أن المعتصم ضحك يوماً من نفسه ، فسألناه عن سبب ضحكه فقال إن منجماً رآه فقال له : « الطالع أسدٌ وهو الطالع في الدنيا ، وإنه يوجب لك الخلافة ، وأنت تفتح الآفاق وتزيل الممالك ويعظم جيشك ، وتبني بلاداً عظيمة ويكون من شأنك كذا ومن أمرك كذا ، وقصَّ عليَّ جميع ما أنا فيه الآن !

قلت : فهذا السعود ، فهل عليَّ من نحوس ؟ قال : لا ، ولكنك إذا ملكت فارقت وطنك وكثرت أسفارك . قلت : فهل غير هذا ؟ قال : نعم ، ما شئ أنحس عليك من شئ واحد . قلت : ما هو ؟ قال : يكون المتولَّون عليك في أيام ملكك أصولهم دنية سفلة ، فيغلبون عليك ويكونون أكابر أهل مملكتك ...

ولكني ما ذكرته إلى الآن ، ولما بلغت الرحبة وقعت عيني على موضعه فذكرته ، وذكرت كلمته وتأمَّلتكما حواليَّ وأنتما أكبر أهل مملكتي ، وأنت ابن زيَّات وهذا ابن قَيَّار ، وأومأ إلى ابن أبي دؤاد ، فإذا قد صح جميع ما قال !

فأنفذت هذا الخادم في طلبه والبحث عنه لأفي له بسالف الوعد ، فعاد إليَّ وذكر أنه قد مات قريباً .. وأخذني الضحك ، إذ ترأس في دولتي أولاد السُّفَّل . قال : فانكسرنا ، ووددنا أنا ما سألناه » ! « نشوار المحاضرة : ٧ / ٢١٢ » .

٣٢١

وقال في تاريخ بغداد « ٣ / ١٤٥ » : « كان بين محمد بن عبد الملك وبين أحمد بن أبي دؤاد ، عداوةٌ شديدة ، فلما ولي المتوكل دارَ ابن أبي داود على محمد ، وأغرى به المتوكل حتى قبض عليه ، وطالبه بالأموال » .

وقال البغدادي في خزانة الأدب « ١ / ٤٢٨ » : « وكان ابن الزيات قد اتخذ تنوراً من حديد ، وأطراف مساميره المحددة إلى داخله ، وهي قائمة مثل رؤوس المسالّ ، وكان يعذب فيه أيام وزارته ، فكيفما انقلب المعذب أو تحرك من حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه ! وإذا قال له أحد : إرحمني أيها الوزير ، فيقول له : الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة ! فلما اعتقله المتوكل أمر بإدخاله في التنور وقيده بخمسة عشر رطلاً من الحديد ، فقال له : يا أمير المؤمنين إرحمني ، فقال له : الرحمة خَوَرٌ في الطبيعة ، كما كان يقول للناس ! وكان ذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وكانت مدة تعذيبه في التنور أربعين يوماً ، إلى أن مات فيه » !

وتدل روايتنا عن الإمام الهادي عليه‌السلام على أن المتوكل كان في سجن ابن الزيات ، فأخرجه ابن أبي دؤاد وعقد البيعة له ، ثم بطشوا بابن الزيات !

قال خيران الأسباطي « الكافي : ١ / ٤٩٨ » : « قدمت على أبي الحسن عليه‌السلام « الإمام الهادي » المدينة فقال لي : ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام . قال فقال لي : إن أهل المدينة يقولون : إنه مات . فلما أن قال لي : الناس ، علمت أنه هو . ثم قال لي : ما فعل جعفر « المتوكل » ؟ قلت : تركته أسوأ الناس حالاً في السجن . قال فقال : أما إنه

٣٢٢

صاحب الأمر . ما فعل ابن الزيات ؟ قلت : جعلت فداك الناس معه والأمر أمره . قال فقال : أما إنه شؤم عليه . قال : ثم سكت وقال لي : لابد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه . يا خيران ، مات الواثق ، وقد قعد المتوكل جعفر ، وقد قتل ابن الزيات . فقلت : متى جعلت فداك ؟ قال : بعد خروجك بستة أيام » .

وذكر المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٥ » أن بطشهم بابن الزيات كان بعد أشهر ، قال : « سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات بعد خلافته بأشهر ، فقبض أمواله وجميع ما كان له ، وقلد مكانه أبا الوزير ، وقد كان ابن الزيات اتخذ للمصادَرين والمغضوب عليهم تنُّوراً من الحديد رؤوس مساميره إلى داخله قائمة مثل رؤوس المسالّ ، في أيام وزارته للمعتصم والواثق ، فكان يعذب الناس فيه ، فأمر المتوكل بإدخاله في ذلك التنور ، فقال محمد بن عبد الملك الزيات للموكل به أن يأذن له في دواة وبطاقة ليكتب فيها ما يريد ، فاستأذن المتوكل في ذلك فأذن له فكتب :

هي السبيل فمن يوم إلى يوم

كأنه ما تُريك العين في النومِ

لا تجزعنَّ رويداً إنها دوَلٌ

دُنْيَاً تنقَّلُ من قومٍ إلى قوم .

قال : وتشاغل المتوكل في ذلك اليوم فلم تصِل الرقعة اليه ، فلما كان الغد قرأها فأمر بإخراجه فوجده ميتاً . وكان حَبْسُه في ذلك التنور إلى أن مات أربعين يوماً ، وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً » .

٣٢٣

وفي نشوار المحاضرة « ٨ / ١٩ » : « قال الفضل بن مروان : ولا نعلم وزيراً وَزَرَ وزارةً واحدة بلا صَرْف ، لثلاثة خلفاء متَّسقين ، غير محمد بن عبد الملك » .

وقال في النهاية « ١٤ / ٣٣٣ » : « أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق .. فطلبه فركب بعد غدائه يظن أن الخليفة بعث إليه ، فأتت به الرسل إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط عليه وقُيِّدَ ، وبعثوا في الحال إلى داره ، فأخذ جميع ما كان فيها من الأموال واللآلئ والجواهر والحواصل والجواري والأثاث ، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشراب ، وبعث الخليفة إلى حواصله وضياعه بسائر الاماكن ، فاحتيط عليها ، وأمر به أن يعذب فمنع من الطعام ، وجعلوا يساهرونه ، كلما أراد الرقاد نُخِسَ بالحديد ، ثم وضع بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله ، فأقيم عليها ووُكِّلَ به من يمنعه من الرقاد ، فمكث كذلك أياماً حتى مات ..

ويقال : إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهو تحت الضرب . ويقال : إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه ، فنبشت عليه الكلاب فأكلت لحمه وجلده ، سامحه الله .. وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحواً من تسعين ألف ألف دينار » .

أقول : كان هذا الأسلوب الدموي في انتقال السلطة وما زال ، أمراً ثابتاً عند الشعوب المختلفة ، وثقافةً سائدةً ، ففي نفس السنة التي قتل فيها المتوكل ابن الزيات ، قَتَلَ ملك الروم ميخائيل أمه تدورة ، بعد أن ملكت ست سنين . « النهاية : ١٤ / ٣٣٣ » .

٣٢٤

أما الديمقراطيات الغربية فقد جعلت انتقال السلطة في الغرب سلمياً ، في الظاهر ، لكنها لم تحقق ذلك في شعوب العالم التي تحت نفوذها ، فبقي دموياً بشكل عام !

الوزير عمر بن الفرج الرخجي :

١. كتبنا له ترجمة في سيرة الإمام الجواد عليه‌السلام ووصفناه بأنه ممسحة الخلفاء ، لأنهم كانوا يكلفونه بالمهمات القذرة ! وكان ناصبياً معادياً لأهل البيت عليهم‌السلام ، بعكس أخيه محمد الذي كان من خيرة أصحاب الأئمة : الرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ، وصار والياً للمتوكل على مصر لفترة . « تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٤٨٥ » .

٢. ذكرنا في سيرة الإمام الجواد عليه‌السلام أن عمر الرخجي كان والياً على مكة والمدينة وأنه حاول قتل الإمام الجواد عليه‌السلام بالسم ، فقد قال كما في « الثاقب في المناقب / ٥١٧ » : « سمعت من أبي جعفر شيئاً لو رآه محمد أخي لكفر ! فقلت : وما هو أصلحك الله ؟ قال : إني كنت معه يوماً بالمدينة إذ قُرِّب الطعام فقال : أمسكوا . فقلت : فداك أبي قد جاءكم الغيب ؟فقال : عليَّ بالخبَّاز ، فجئ به فعاتبه وقال : من أمرك أن تسمني في هذا الطعام ؟ فقال له : جعلت فداك ، فلان ! ثم أمر بالطعام فرفع وأتي بغيره » !

يقصد أنه رأى من الإمام الجواد عليه‌السلام شيئاً لو رآه أخوه محمد لصار من الغلاة فيه ، واعتقد أنه يعلم الغيب ، وكفر بذلك ! أما هو فلا يكفر ويقول إن الجواد عليه‌السلام ساحر ! ثم ذكر أن الإمام عليه‌السلام كشف محاولة قتله بالسم ، وأبعد الرخجي التهمة عن نفسه وأنه هو صاحب المحاولة ، مع أنه كان والي مكة والمدينة ! فتفكيره كتفكير مشركي قريش ،

٣٢٥

فهم يرون أنهم غير معنيين بالإيمان بالمعجزات التي يشاهدونها ولا بتفسيرها ! بل عليهم أن يقولوا إن صاحب المعجزة ساحر ، حتى لا يفتتن به الناس !

٣. وبعد أن قتل المعتصم الإمام الجواد عليه‌السلام أمره أن يوكَّل شخصاً بابنه الإمام الهادي عليه‌السلام بعنوان معلم ، ويكون تحت رقابته التامة ، ويعزله عن الناس حتى لا يفتنوا به كما فتنوا بأبيه ! فاختار الرخجي الجنيدي ونصبه لهذه المهمة ، وأمر حاكم المدينة أن ينفذ أوامره ، فكانت النتيجة إيمان الجنيدي بإمامة الهادي عليه‌السلام !

٤. وبعد المعتصم كان الواثق يوكل اليه تعذيب الوزراء والجباة ، الذين يغضب عليهم ، ليستخرج منهم الأموال !

قال ابن حمدون في التذكرة « ٢ / ١٠٦ » : « لما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب ، جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي ، ثم وجه إليه يوماً : طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه ، فإن أذعن بها وإلا فجرِّده واضربه مائة سوط ، ولا تتوقف عن هذا لحظة واحدة ، ففعل عمر » .

٥. أما المتوكل فأوكل اليه أسوأ الأدوار ، ثم بطش به أسوأ البطش ! فقد غضب عليه في أول خلافته ، قال الطبري « ٧ / ٣٤٧ » : « وفيها « سنة ٢٣٣ » غضب المتوكل على عمر بن فرج ، وذلك في شهر رمضان فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فحبسه عنده ، وكتب في قبض ضياعه وأمواله » .

وفي مروج الذهب « ٤ / ١٩ » : « سخط المتوكل على عمر بن الفرج الرخجي ، وكان من عِلْيَةِ الكتاب وأخذ منه مالاً وجوهراً ، نحو مائة ألف وعشرين ألف دينار ،

٣٢٦

وأخذ من أخيه نحواً من مائة ألف وخمسين ألف دينار ، ثم صولح محمد على أحد وعشرين ألف ألف درهم ، على أن يرد إليه ضياعه ثم غضب عليه غضبةً ثانية ، وأمر أن يُصْفَعَ في كل يوم ، فأحصي ما صفع فكان ستة آلاف صفعة ، وألبسه جبة صوف ، ثم رضي عنه ، وسخط عليه ثالثة ، وأحدر إلى بغداد ، وأقام بها حتى مات » !

وفي تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٥ » : « وسخط على عمر بن فرج الرخجي ، وعلى أخيه محمد ، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك » .

ووصف القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٢ / ١٢ » ، بطش المتوكل به لما بلغه أنه كان في الأهواز يفتخر على قاضيها بقربه من المتوكل ، وأنه أخذ منه الألوف ولم يحاسبه ، فوشى به القاضي الى المتوكل فأرسل جاء به الى سامراء ، وأركبه على حمار وسجنه وعذبه ، وباع أملاكه !

٦. ثم رضي عليه المتوكل وأوكل اليه مهمة هدم قبر الحسين عليه‌السلام ، فبعثه أكثر من مرة بجيش ، وقاتل أهل الكوفة حتى أخضعهم ، ثم هدم القبر !

روى الطوسي في الإمالي / ٣٢٥ : « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال : حدثني أبي ، عن عمه عمر بن فرج ، قال : أنفذني المتوكل في تخريب قبر الحسين عليه‌السلام فصرت إلى الناحية ، فأمرت بالبقر فمُرَّ بها على القبور ، فمرت عليها كلها ، فلما بلغت قبر الحسين عليه‌السلام لم تمر عليه ! قال عمي عمر بن فرج : فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي ! فوالله ما جازت على

٣٢٧

قبره ولا تخطته . قال لنا محمد بن جعفر : كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنا أبرأ إلى الله منه . وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه ، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته » . أي أفرح بولادتي منه .

٧. ثم أوكل اليه المتوكل حكم الحجاز ليضطهد العلويين ويفقرهم ويبيدهم ! قال أبوالفرج في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥ : « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البر بهم ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً ، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر » !

٨. وبعد أن نفذ أوامر المتوكل ، وارتكب لأجله الجرائم ، غضب عليه وعزله ، وأذله ! وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أعان ظالماً سلطه الله عليه . « الخرائج : ٣ / ١٠٥٨ » .

وتقدم أن المتوكل أنه سمع بعائشة بنت عمر الرخجي ، فأمره في جوف الليل والمطر أن يأتيه بها ، فوطأها ثم ردها إلى منزل أبيها ! « المحاسن للجاحظ / ١١٨ » .

٩. وقد ورد أن الإمام الجواد عليه‌السلام دعا على عمر الرخجي ، ففي الكافي « ١ / ٤٩٧ » : « محمد بن سنان قال : دخلت على أبي الحسن « الإمام الهادي عليه‌السلام » فقال : يا محمد حدث بآل فرج حدث ؟ فقلت : مات عمر . فقال : الحمد لله ، حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرة . فقلت : يا سيدي لو علمت أن هذا يسرُّكَ لجئتُ حافياً أعدو إليك . قال : يا محمد أوَلا تدري ما قال لعنه الله لمحمد بن علي أبي ؟ قال

٣٢٨

قلت : لا . قال : خاطبه في شئ فقال : أظنك سكران ! فقال أبي : اللهم إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً ، فأذقه طعم الَحرَب وذلَّ الأسر . فوالله إن ذهبت الأيام حتى حَرِبَ ما لَه « خسره » وما كان له ، ثم أخذ أسيراً ، وهوذا قد مات لا رحمه الله . وقد أدال الله عز وجل منه . وما زال يديل أولياءه من أعدائه » .

أقول : استشكل الرجاليون في هذه الرواية بأن وفاة محمد بن سنان سنة ٢٢٠ ، ووفاة الرخجي ٢٣٧ ، لكن الرواية قرينة على أن وفاة ابن سنان بعد هذا التاريخ .

الوزير الفتح بن خاقان :

كان للمتوكل عدة وزراء ، لكن أهمهم الفتح بن خاقان الذي قُتل معه ، ثم عبيد الله بن يحيى بن خاقان . وعندما قَتَل المتوكل ابن الزيات كلف شخصاً إسمه أبو الوزير فتسلم أمواله الواسعة . ثم استوزر الجرجرائي ، ثم استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان . وكان فوقهم جميعاً الفتح بن خاقان .

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣ و ٦ » : « فكانت أيام أبي الوزير في الوزارة يسيرة ، وقد كان اتخذ للوزارة محمد بن الفضل الجرجرائي ، ثم صرفه .. غلب عليه الفتح بن خاقان : وكان الفتح بن خاقان التركي مولاه ، أغلبَ الناس عليه ، وأقربَهم منه ، وأكثرهم تقدُّماً عنده » .

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء « ١٢ / ٨٢ » : « الفتح بن خاقان : الأمير الكبير الوزير الأكمل ، أبومحمد التركي ، شاعر مترسل بليغ مفوه ، ذوسؤدد وجود ومحاسن ، على لعب فيه . وكان المتوكل لا يكاد يصبر عنه ، استوزره ، وفوض إليه إمرة

٣٢٩

الشام ، فبعث إليها نواباً عنه .. وكان أحد الأذكياء ، دخل المعتصم على الأمير خاقان فمازح ابنه هذا وهو صبي ، فقال : يا فتح ، أيما أحسن داري أو داركم ؟ فقال الفتح : دارنا إذا كنت فيها ، فوهبه مئة ألف . وكان الفتح ذا باع أطول في فنون الأدب . قتل مع المتوكل سنة سبع وأربعين » .

ومدحه ابن النديم في الفهرست فقال / ١٣٠ : « الفتح بن خاقان بن أحمد ، في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب ، من أولاد الملوك ، اتخذه المتوكل أخاً ، وكان يقدمه على سائر ولده وأهله ، وكان له خزانة « مكتبة » جمعها له علي بن يحيى المنجم لم يُرَ أعظم منها كثرةً وحسناً . وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين . قال أبوهَفَّان : ثلاثة لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ أحب َّإليهم من الكتب والعلوم : الجاحظ ، والفتح بن خاقان ، وإسماعيل بن إسحاق القاضي » .

أقول : تدل أخبار الفتح على أنه كان إنساناً محترماً ، وكان في عمله مع المتوكل مهنياً أميناً ، لم يُؤْذِ أحداً ، ولا دفع المتوكل الى ذلك . على عكس زميله عبيد الله بن يحيى بن خاقان ! قال أبوالفرج « مقاتل الطالبيين / ٣٩٥ » : « كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب .. واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسئ الرأي فيهم ، فحسَّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله . وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين عليه‌السلام وعفى أثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له ، لايجدون أحداً زاره إلا أتوه به ، فقتله أو أنهكه عقوبة » !

٣٣٠

بل نجد أن الفتح بن خاقان كان يعتقد أن الإمام الهادي عليه‌السلام ولي الله تعالى ، ويطلب أن يدعو للمتوكل أو يعالجه ، فقد روى في الكافي « ١ / ٤٩٩ » : « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال : مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة ، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها . وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرج بها عنك ، فبعث إليه ووصف له علته ، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « عصارة الدهن » فيداف بماء ورد ، فيوضع عليه .. » . وتقدم ذلك في فصل سياسة المتوكل مع الإمام عليه‌السلام .

وتذكر بعض رواياتنا أنه كان محباً للإمام الهادي عليه‌السلام ويعمل لدفع الضرر عنه ، فقد روى الشيخ الطوسي في الامالي / ٢٧٥ ، عن أبي موسى المنصوري وهو أمير عباسي من أولاد المنصور ، وكان منقطعاً الى الإمام الهادي عليه‌السلام ، فبعث المتوكل اليه الفتح بن خاقان ، ولما جاء أكرمه ودفع له مخصصاته المتأخرة .

ولما خرج قال له الفتح : لست أشكُّ أنك سألته دعاءً لك ، فالتمس لي منه دعاء ! فلما دخلت إليه عليه‌السلام قال لي : يا أبا موسى هذا وجهُ الرضا . فقلت : ببركتك يا سيدي .. قلت : إن الفتح قال لي كيت وكيت . قال : إنه يوالينا بظاهره ويجانبنا بباطنه ، الدعاء لمن يدعو به . إذا أخلصتَ في طاعة الله واعترفتَ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبحقنا أهل البيت ، وسألت الله تبارك وتعالى شيئاً ، لم يحرمك » .

٣٣١

وقال له الفتح : « ذكر الرجل يعني المتوكل خبر مال يجئ من قم ، وقد أمرني أن أرصده لأخبره به ، فقل لي : من أي طريق يجئ حتى أجتنبه » !

وقد يكون الفتح صادقاً ، وسيأتي ذلك في ترجمة المنصوري في أصحاب الإمام عليه‌السلام .

الوزير عبيدالله بن يحيى بن خاقان :

ذكر القاضي التنوخي في نشوار المحاضرة « ٨ / ١٢ » كيف تمكن عبيد الله بن يحيى بن خاقان من المتوكل ، قال : « حدثنا أبوجعفر أحمد بن إسرائيل ، قال : كان سبب رفعه عبيد الله بن يحيى : طلبُ المتوكل لحدثٍ من أولاد الكتاب يوقع بحضرته في الأبنية والمهمات ، لأنه كان قد أسقط الوزارة ، بعد صرف محمد بن الفضل الجرجرائي واقتصر على أصحاب الدواوين ، وأمرهم أن يعرضوا الأعمال بأنفسهم ، وجعل التاريخ في الكتب باسم وصيف التركي ، وانتصب منصب الوزارة ، وإن كان لم يسم بها . فأسميَ له جماعة فاختار عبيد الله من بينهم ، فحضر أول يوم ، فصلَّى في الدار ركعات وجلس وعليه قباء وسيف ومنطقة وشاشية على رسم الكتاب . قال أبوالحسين لأنه لم يكن أحد يصل إلى الخليفة ، إلَّا بقباء وسيف ومنطقة من الناس كلهم ، إلَّا القضاة ، لا في موكب ولا غيره ، فإذا كان يوم موكب ، كانت الأقبية كلها سواداً ، وإذا كان غير يوم موكب فربما كانت من بياض ، وفي الأكثر سواداً .

٣٣٢

فلما صلَّى عبيد الله وجلس لم يجتز به أحد من الحاشية كبير ولا صغير إلَّا قام إليه قائماً وسلَّم عليه ، حتى قام إلى رئيس الفراشين ! فرآه بعض الحاشية فقال : من هذا الشقي الذي قد قام لسائر الناس حتى قام إلى الكلاب ؟ فقيل له فلان .

ثم أذن له المتوكل لما خلا ، فدخل إليه وكان على رأسه قلنسوة سوداء شاشية ، وكان طويل العنق فظهرت عنقه . فلما رآه المتوكل أومأ بيده إلى قفاه ومسحه شبه صفعة ، فأخذ عبيد الله يده فقبلها فنفق عليه وخف على قلبه وسُرَّ بذلك ، واستخف روحه وقال له : أكتب . فكتب وهو قائم : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ، إلى قوله عز وجل : وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا . فكتب : وينصرك الله يا أمير المؤمنين نصراً عزيزاً ، فزاد ذلك في تقبل المتوكل له وتفاءل بذلك ، وقال له : إلزم الدار ، فكان يلزمها منذ السحر ، إلى وقت نوم المتوكل في الليل .

وقوي أمره مع الأيام ، حتى صار يعرض الأعمال ، كما كان الوزراء يعرضونها وليس هو بعدُ وزير ، والتاريخ لوصيف . فأمره المتوكل في بعض الأيام أن يكتب نسخة في أمر الأبنية فقال : نعم . فلما كان بعد ساعة سأله هل كتبت ؟ فقال : لم يكن معي دواة . فقال : أكتب الساعة ، فاستحضر دواة ، وكان إيتاخ الحاجب قائماً يسمع ذلك ، فلما خرج عبيد الله قال له : إنما طلبك أمير المؤمنين لتكتب بين يديه فإذا حضرت بلا دواة فلأي شئ تجئ ؟ فقال له عبيد الله : وأي مدخل لك أنت في هذا ، أنت حاجب أو وزير ؟ فاغتاظ من ذلك فأمر به فبُطح وضربه على رجليه عشرين مقرعة ، وقال له : الآن علمت أن لي فيه مدخلاً !

٣٣٣

فلم يتأخر عبيد الله عن الخدمة ، وعاد فجعل يمشي ويعرج ، فسأل المتوكل عن خبره فعرف الصورة ، فغلظ عليه ذلك ، وقال : إنما قَصَدَهُ إيتاخ لمحبتي له .

وكان قد اجتمع في نفس المتوكل من إيتاخ العظائم ، مما كان يعمل به في أيام الواثق ، ولا يقدر له على نكبته لتمكَّنه من الأتراك .

فأمر بأن يخلع على عبيد الله من الغد ، وأن لا يعرض أحد من أصحاب الدواوين عليه شيئاً ، وأن يدفعوا أعمالهم إليه ليعرضها ، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم ، فندم إيتاخ على ما فعله ، وجعل يداري عبيد الله ويثاقفه ، وقوي أمر عبيد الله حتى حذف بنفسه من غير أمر إسمَ وصيف من التاريخ وأثبت إسمه . ثم أمر له المتوكل برزق الوزارة ، ثم خوطب بالوزارة بعد مُدَيْدَة وخلع عليه لها خلعاً أخر .

ثم قلَّده كتابة المعتز وخلع عليه ، ثم قلَّده كتابة المؤيد وخلع عليه ، وضمَّ المتوكل إلى ابنيه ، بضعة عشر ألف رجل ، وجعل تدبيرهم إلى عبيد الله ، فكان وزيراً أميراً . فلما تمكَّن هذا التمكَّن بالجيش والمحل ، عارض إيتاخ وبطَّأ حوائجه وقصده ، ووضع من كُتَّابه ، ولم يزل ذلك يقوى من فعله إلى أن دبَّرَ على إيتاخ ، فقتله على يد إسحاق بن إبراهيم الطاهري ببغداد ، بعد عود إيتاخ من الحجّ » .

وقال اليعقوبي « ٢ / ٤٨٨ » : « سخط المتوكل على محمد بن الفضل كاتب ديوان التوقيع لأمر وقف عليه منه ، فصير مكانه عبيدالله بن يحيى بن خاقان ورفعه وأعلى مرتبته وولاه وأمره أن يكتب : مولى أمير المؤمنين وكان ولاؤه في الأزد » .

٣٣٤

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق « ٣٨ / ١٤٣ و ١٤٦ » : « عبيد الله بن يحيى بن خاقان بن عرطوج ، أبوالحسن التركي ، وزير المتوكل ، قدم مع المتوكل دمشق فيما وجدت بخط عبد الله بن محمد الخطابي الشاعر الدمشقي ، في تسمية من قدم مع المتوكل . وقدمها مرة أخرى منكوباً حين نفاه المستعين إلى برقة سنة ثمان وأربعين ومائتين . وكان عوده إلى بغداد سنة ثلاث وخمسين ومئتين بعد أن حج ، ثم استوزره المعتمد في شعبان سنة ست وخمسين ومئتين .. قال أحمد بن أبي طاهر : تقلد عبيد الله بن يحيى بن خاقان الوزارة مرتين وكان نُفي في وقت النكبة إلى بَرْقة ، فاجتاز بدمشق ، وعيسى بن الشيخ يتقلدها فلقيه عيسى بن الشيخ وترجل له وأعظمه وبره وأكرمه وخدمه .. فلما تقلد عبيد الله بن يحيى الوزارة المرة الثانية حفظ له ذلك ، ولم يزل حتى قلده الديار البكرية وإرمينية » .

وكان الوزير عبيد الله بن خاقان أداة للمتوكل في هدم قبر الإمام الحسين عليه‌السلام واضطهاد الذاهبين لزيارته وتعذيبهم وقتلهم . فقد استمرت محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة ٢٣٦ الى شعبان ٢٣٧ ، وورد فيها إسم الوزير عبيد الله بن خاقان ، وأنه أرسل عدداً من القادة في جند كثيف ، ومعهم متطرفون من النواصب . كما ذكرنا في فصل هدم القبر الشريف .

وعاش الوزير عبيد الله بعد المتوكل ، وكان وزيراً لعدة خلفاء ، حتى توفي فجأة سنة ٢٦٠ ، في أيام شهادة الإمام العسكري عليه‌السلام فقد روى الصدوق في كمال الدين / ٤٧٥ ، تفتيش السلطة عن الإمام المهدي عليه‌السلام قال : « فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان .. فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله

٣٣٥

عليه على نعشه مكفناً ، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه ، فلما هم بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة بشعره قطط بأسنانه تفليج ، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال : تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي ، فتأخر جعفر ، وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرَّ .. فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك ، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية ، فطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي ، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي . وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة ، وخروج صاحب الزنج بالبصرة ، فشغلوا بذلك عن الجارية ، فخرجت عن أيديهم ، والحمد لله رب العالمين » .

القائد العام لجيش الخلافة : إيتاخ

عندما توفي الواثق اجتمع كبار شخصيات الدولة : « أحمد بن أبي دؤاد ، وإيتاخ ، ووصيف ، وعمر بن فرج ، وابن الزيات ، وأحمد بن خالد أبوالوزير ، فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق ، وهو غلام أمرد ، فألبسوه دراعة سوداء وقلنسوة رصافية ، فإذا هو قصير » . « الطبري : ٧ / ٢٤١ » .

فكان إيتاخ القائد الأول ويليه وصيف ، لأن جيش الخلافة كان أكثره من الأتراك ، فكان لقادتهم دور في اختيار الخليفة ، ثم صار لهم كل الدور . وكان إيتاخ غلاماً للمعتصم ، فأوكل اليه تربية المتوكل ، فكان بمنزلة أبيه !

٣٣٦

قال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٤٣ » : « شرب ليلةً مع المتوكل ، فعربد عليه المتوكل فهمَّ إيتاخ بقتله ، فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له : أنت أبي وأنت ربيتني ، ودسَّ اليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج .. » .

قال الطبري « ٧ / ٣٥٠ » : « ذكر أن إيتاخ كان غلاماً خزرياً لسلام الأبرش طباخاً ، فاشتراه منه المعتصم في سنة ١٩٩ وكان لإيتاخ رَجْلَةٌ وبأسٌ ، فرفعه المعتصم ومن بعده الواثق حتى ضم إليه من أعمال السلطان أعمالاً كثيرة ، وولاه المعتصم معونة سامرا مع إسحاق بن إبراهيم ، وكان من قِبَله رجُلٌ ومن قِبَل إسحاق رجُلٌ ، وكان من أراد المعتصم أو الواثق قَتْلَهُ فعند إيتاخ يُقتل ، وبيده يحبس ، منهم محمد بن عبد الملك الزيات ، وأولاد المأمون من سندس وصالح بن عجيف وغيرهم . فلما وليَ المتوكل كان إيتاخ في مرتبته إليه الجيش ، والمغاربة ، والأتراك ، والموالي ، والبريد ، والحجابة ، ودار الخلافة .

فخرج المتوكل بعد ما استوت له الخلافة متنزهاً إلى ناحية القاطول ، فشرب ليلة فعربد على إيتاخ فهمَّ إيتاخ بقتله ، فلما أصبح المتوكل قيل له فاعتذر إليه والتزمه وقال له : أنت أبي وربيتني ، فلما صار المتوكل إلى سامرا دسَّ إليه من يشير عليه بالإستئذان للحج ففعل وأذن له ، وصيره أمير كل بلدةٍ يدخلها ، وخلع عليه وركب جميع القواد معه ، وخرج معه من الشاكرية والقواد والغلمان سوى غلمانه وحشمه بشر كثير ، فحين خرج صيرت الحجابة إلى وصيف ..

٣٣٧

لما قفل من مكة راجعاً إلى العراق وجَّه المتوكل إليه سعيد بن صالح الحاجب ، مع كسوة وألطاف ، وأمره أن يلقاه بالكوفة أوببعض طريقه ، وقد تقدم المتوكل إلى عامله على الشرطة ببغداد بأمره فيه .

فذكر عن إبراهيم بن المدبر أنه قال خرجت مع إسحاق بن إبراهيم حين قرب إيتاخ من بغداد ، وكان يريد أن يأخذ طريق الفرات إلى الأنبار ، ثم يخرج إلى سامر ، فكتب إليه إسحاق بن إبراهيم إن أمير المؤمنين أطال الله بقاءه قد أمر أن تدخل بغداد ، وأن يلقاك بنوهاشم ووجوه الناس ، وأن تقعد لهم في دار خزيمة بن خازم فتأمر لهم بجوائز . قال فخرجنا حتى إذا كنا بالياسرية ، وقد شحن ابن إبراهيم الجسر بالجند والشاكرية ، وخرج في خاصته وطرح له بالياسرية صفةً فجلس عليها ، حتى قالوا قد قرب منك فركب فاستقبله فلما نظر إليه أهوى إسحاق لينزل فحلف عليه إيتاخ ألا يفعل ، قال : وكان إيتاخ في ثلاث مائة من أصحابه وغلمانه ، عليه قباءٌ أبيض متقلداً سيفاً بحمائل ، فسارا جميعاً حتى إذا صارا عند الجسر ، تقدمه إسحاق عند الجسر وعبر حتى وقف على باب خزيمة بن خازم ، وقال لإيتاخ تدخل أصلح الله الأمير ، وكان الموكلون بالجسر كلما مر بهم غلام من غلمانه ، قدموه حتى بقي في خاصة غلمانه ، ودخل بين يديه قوم ، وقد فرشت له دار خزيمة ، وتأخر إسحاق وأمر ألا يدخل الدار من غلمانه إلا ثلاثة أو أربعة ، وأخذت عليه الأبواب ، وأمر بحراسته من ناحية الشط وكسرت كل درجة في قصر خزيمة بن خازم ، فحين دخل أغلق الباب خلفه ، فنظر فإذا

٣٣٨

ليس معه إلا ثلاثة غلمان ، فقال قد فعلوها ! ولو لم يؤخذ ببغداد ما قدروا على أخذه ، ولو دخل إلى سامرا فأراد بأصحابه قَتْلَ جميع من خالفه ، أمكنه ذلك .

قال : فأتيَ بطعام قرب الليل فأكل فمكث يومين أو ثلاثة ، ثم ركب إسحاق في حراقة وأعدَّ لإيتاخ أخرى ، ثم أرسل إليه أن يصير إلى الحراقة ، وأمر بأخذ سيفه فحدروه إلى الحراقة ، وصير معه قوم بالسلاح ، وصاعد إسحاق حتى صار إلى منزله ، وأخرج إيتاخ حين بلغ دار إسحاق ، فأدخل ناحية منها ، ثم قيد فأثقل بالحديد في عنقه ورجليه ، ثم قدم بابنيه منصور ومظفر وبكاتبيه سليمان بن وهب وقدامة ابن زياد النصراني ، بغداد وكان سليمان على أعمال السلطان ، وقدامة على ضياع إيتاخ خاصة فحبسوا ببغداد .

فأما سليمان وقدامة فضربا فأسلم قدامة ، وحبس منصور ومظفر .

وذكر عن تُرْك مولى إسحق أنه قال : وقفت على باب البيت الذي فيه إيتاخ محبوس فقال لي : يا تُرك . قلت : ما تريد يا منصور . قال : أقرئ الأمير السلام وقل له : قد علمت ما كان يأمرني به المعتصم والواثق في أمرك ، فكنت أدفع عنك ما أمكنني فلينفعني ذلك عندك . أما أنا فقد مر بي شدة ورخاء ، فما أبالي ما أكلت وما شربت ، وأما هذان الغلامان فإنهما عاشا في نعمة ولم يعرفا البؤس ، فصير لهما مرقة ولحماً وشيئاً يأكلان منه .

قال تُرك : فوقفت على باب مجلس إسحاق قال لي : مالك يا تُرك ، أتريد أن تتكلم بشئ . قلت : نعم . قال لي إيتاخ : كذا وكذا ! قال وكانت وظيفة إيتاخ رغيفاً

٣٣٩

وكوزاً من ماء ، ويأمر لابنيه بخوانٍ فيه سبعة أرغفة وخمس غرف « جمع غَرْفَة بمعنى ملعقة » فلم يزل ذلك قائماً حياة إسحاق ، ثم لا أدرى ما صنع بهما !

فأما إيتاخ فقُيِّدَ وصُيِّر في عنقه ثمانون رطلاً وقيدٌ ثقيل ، فمات يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ٢٣٥ ، وأشهد إسحاق على موته أبا الحسن إسحاق بن ثابت بن أبي عباد ، وصاحب بريد بغداد ، والقضاة ، وأراهم إياه ، لا ضربَ به ولا أثرَ ! وحدثني بعض شيوخنا أن إيتاخ كان موته بالعطش ، وأنه أُطعم فاستسقى فمنع الماء حتى مات عطشاً ، وبقي إبناه في الحبس حياة المتوكل فلما أفضى الأمر إلى المنتصر أخرجهما ، فأما مظفر فإنه لم يعش بعد أن أخرج من السجن إلا ثلاثة أشهر حتى مات ، وأما منصور فعاش بعده » .

قال المسعودي في التنبيه والإشراف / ٣١٣ : « بويع المتوكل جعفر بن محمد المعتصم .. وجفا الموالي من الأتراك واطَّرحهم وحطَّ مراتبهم ، وعمل على الإستبداد بهم والإستظهار عليهم » .

أقول : لم يترك المتوكل أحداً من أولياء نعمته وأصدقائه إلا وغدر به ! وقد حقد عليه الترك لغدره بقائدهم إيتاخ ، وتبايعوا على قتله .

قال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٣٤ » : « ولما عزم بُغا الصغير على قتل المتوكل دعا بباغر التركي ، وكان قد اصطنعه واتخذه وملأ عينه من الصِّلات ، وكان مقداماً أهوج ، فقال له : يا باغر أنت تعلم محبتي لك وتقديمي إياك وإيثاري لك وإحساني إليك ، وإني قد صرت عندك في حد من لا يُعْصَى له أمر ، ولا يخرج

٣٤٠