الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

٢٤. وأشهد أنك أوفيت بعهد الله تعالى ، وأن الله تعالى موف بعهده لك ، وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا : والمقصود به عهد الله الذي أعطاه علي عليه‌السلام لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض وفاته أن يصبر على ما يرتكب في حقه وحق زوجته وأولاده . من ذلك ما رواه في الكافي « ١ / ٢٨١ » : « فقال أمير المؤمنين : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لقد سمعت جبرئيل يقول للنبي : يا محمد عرفه أنه تنتهك الحرمة ، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله ، وعلى أن تخضب لحيته من رأسه بدم عبيط . قال أمير المؤمنين : فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتى سقطت على وجهي ، وقلت : نعم قبلت ورضيت ، وإن انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومُزق الكتاب وهُدمت الكعبة وخُضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط ، صابراً محتسباً أبداً ، حتى أُقدم عليك » .

٢٥. وأشهد أنك أمير المؤمنين حقاً : فقد ثبت عندنا أن هذا اللقب سمى الله به علياً عليه‌السلام ثم أخذه الآخرون ، ففي الكافي « ١ / ٤١١ » : أن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « ذاك إسمٌ سمى الله به أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لم يُسَمَّ به أحدٌ قبله ، ولا يتسمى به بعده إلا كافر » . وقيل إن الكافر في مثل هذا الحديث بمعنى كافر النعمة .

٢٦. الذي نطق بولايتك التنزيل : كقوله تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . والآية نص في ولاية علي عليه‌السلام ، لفظها عام ومصداقها خاص ، فهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع ، والواو في : وهم راكعون ، حالية ، ولا يصح كونها عاطفة .

٢٨١

٢٧. وأخذ لك العهد على الأمة بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هذا وليكم من بعدي ، فإن أطعتموه رشدتم » . « الكافي : ١ / ١٥٣ » . وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبريدة : « لا تقع في علي ، فإنه مني وأنا منه ، وهو وليكم بعدي » . « مسند أحمد : ٥ / ٣٥٦ » .

٢٨ . وأشهد أنك وعمك وأخاك ، الذين تاجرتم الله بنفوسكم فأنزل الله فيكم : إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ .

وفي شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني النيسابوري « ٢ / ٦ » : « عن عبد الله بن عباس في قول الله تعالى : مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ : يعني علياً وحمزة وجعفر . مِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ : يعني حمزة وجعفراً . وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ : يعني علياً كان ينتظر أجله والوفاء لله بالعهد والشهادة في سبيل الله » .

٢٩. أشهد يا أمير المؤمنين أن الشاك فيك ما آمن بالرسول الأمين ، وأن العادل بك غيرك عادل عن الدين القويم : فمن ثبت عنده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى لعلي عليه‌السلام هذه المكانة ، وأنه لاينطق عن الهوى ، فكيف يرد قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويكفر به .

والذي ينحرف عن ولايته ويتولى غيره من الأنداد ، فقد انحرف عن الدين القويم الذي أكمله الله بولايته بحكم قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

٢٨٢

٣٠. وأشهد أنك المعني بقول العزيز الرحيم : وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ : ومعنى هذه الفقرة واضح .

٣١. وأشهد أنك لم تزل للهوى مخالفاً ، وللتقى محالفاً ، وعلى كظم الغيظ قادراً ، وعن الناس عافياً ، وإذا عصي الله ساخطاً ، وإذا أطيع الله راضياً ، وبما عهد الله إليك عاملاً : هذا بيانٌ لحالة الثبات والصمود في موقف أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي صفة صاحب الدين والمبدأ . وقد عرف بذلك عليه‌السلام في الحرب والسلم ، والشدة والرخاء .

٣٢. وأشهد أنك ما اتقيتَ ضارعاً ، ولا أمسكتَ عن حقك جازعاً : وهذا بيانٌ لسياسته عليه‌السلام مع أهل السقيفة ، فقد كان يلين وقت اللين ويشتد وقت الشدة ، ويقيم الحجة بالبرهان ، وهو في ذلك ينفذ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال عليه‌السلام : « أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما الأمة صانعة بي بعده ، فلم أكُ بما صنعوا حين عاينته بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت » . « كتاب سليم بن قيس / ٢١٥ » .

٣٣. وأشهد أنك يا أمير المؤمنين جاهدت في الله حق جهاده ، حتى دعاك الله إلى جواره : روى النسائي في خصائص علي عليه‌السلام / ٤٠ ، والحاكم : ٣ / ١٢٢ ، وصححه على شرط الشيخين ، عن أبي سعيد الخدري قال : كنا جلوساً ننظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج الينا قد انقطع شسع نعله فرمى به إلى علي عليه‌السلام فقال : إن منكم رجلاً يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، قال أبوبكر : أنا ؟ قال : لا . قال عمر : أنا ؟ قال : لا ، ولكن خاصف النعل » .

٢٨٣

٣٤. السلام عليك يا أمير المؤمنين ، عبدت الله مخلصاً ، وجاهدت في الله صابراً .. لا تحفل بالنوائب ، ولا تهن عند الشدائد ، ولا تحجم عن محارب . أفِكَ من نسب غير ذلك ، وافترى باطلاً عليك : وهذه باقة من صفاته عليه‌السلام في الجهاد والسياسة . وقد رد في آخرها ما يحاوله أعداؤه وفي طليعتهم المتوكل أن يفتروا عليه غير ذلك .

٣٥. وأنت أول من آمن بالله وصلى له ، وجاهد وأبدى صفحته في دار الشرك ، والأرض مشحونةٌ ضلالةً ، والشيطانُ يعبد جهرةً : وهذا وصفٌ لشجاعته عليه‌السلام في مرحلة مكة قبل إسلام الناس ، ثم عندما كانوا يبتعدون بأنفسهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

ففي السنوات الثلاث الأولى لم يكن أحد مسلماً غير بضعة من بني هاشم ، وقد هاجَ زعماء المشركين وعملوا ليل نهار لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان عليٌّ عليه‌السلام مهموماً في حراسته ليله ونهاره ، مع أبيه ، وعمه حمزة ، وأخيه جعفر .

وبعد الثلاث سنوات كان حصار الشعب ، وكان يوجد بعض المسلمين ، لكنهم لم يسدوا فراغاً ولا وقفوا في منع خطر أو ضرر . وقد ادعوا بعد ذلك لبعضهم بطولات ، لكن اعترفوا بأنهم لم يوصلوا صاع حنطة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشعب ! وأن ثقل الأمور طوال كان على عاتق بني هاشم ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام خاصة .

وقد رووا أن أبا بكر أجاره ابن الدغنة سيد الأحابيش ، وأن عمر أجاره العاص بن وائل ، أما علي عليه‌السلام فلم يستجر بأحد ، وكان مضرب المثل في خدمته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والدفاع عنه ، وتحديه لأعدائه !

٣٦. وأنت القائل لاتزيدني كثرة الناس حولي عزة ، ولا تفرقهم عني وحشة ، ولو أسلمني الناس جميعاً لم أكن متضرعاً . اعتصمتَ بالله فعززتَ :

٢٨٤

فبَيَّنَ بهذه الفقرة أن سبب شجاعته درجةُ اعتصامه وعبوديته لله تعالى .

٣٧. أشهد شهادة حق ، وأقسم بالله قسم صدق أن محمداً وآله صلوات الله عليهم سادات الخلق .. وأنه القائل لك : والذي بعثني بالحق ما آمن بي من كفر بك :

ويؤيد هذه الشهادة النبوية أحاديث متعددة نص بعضها على أفضلية بني هاشم على غيرهم ، ونص بعضها على أن عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يقاس بهم أحد .

ففي مناقب أحمد لابن الجوزي / ١٦٣ : « سمعت عبد الله بن حنبل يقول : حدث أبي بحديث سفينة فقلت : يا أبة ما تقول في التفضيل ؟ قال : في الخلافة أبوبكر وعمر وعثمان . فقلت فعلي بن أبي طالب ؟ قال : يا بني علي بن أبي طالب من أهل البيت لا يقاس بهم أحد » .

وفي الرياض النضرة للطبري « ٢ / ٢٧٥ » : « قال رجل لابن عمر : يا أبا عبد الرحمن : فعلي كرم الله وجهه ؟ قال ابن عمر : علي من أهل البيت لا يقاس بهم ، علي مع رسول الله في درجته ، إن الله عز وجل يقول : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، فاطمة مع رسول الله في درجته ، وعلي مع فاطمة الزهراء » .

٣٨. مولاي ، فضلك لا يخفى ، ونورك لا يُطفى ، وإن من جحدك الظلوم الأشقى : أهم هذه الصفات أنه عليه‌السلام حجة الله على خلقه ، وله أدلته من القرآن والسنة . ولعن مستحلي حرمة العترة اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه قال : « خمسة لعنتهم وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله ، والتارك لسنتي ، والمكذب بقدر الله ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والمستأثر بالفئ ، والمستحل له » . « الكافي : ١ / ٢٩٣ » .

٢٨٥

« ستة لعنتهم ولعنهم الله ، وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله ، والمكذب بقدر الله ، والمتسلط بالجبروت ليذل من أعز الله ويعز من أذل الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل من عترتي ما حرم الله ، والمستحل لحرم الله » . « الحاكم : ٢ / ٥٢٥ وصححه » .

٣٩. وأشهد أنك ما أقدمتَ ، ولا أحجمت ، ولا نطقت ، ولا أمسكتَ ، إلا بأمر من الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وقد رووا أن خالد بن الوليد بعث بريدة يشتكي على علي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال بريدة : « فوقعت في علي حتى فرغت ، ثم رفعت رأسي فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب غضباً لم أره غضب مثله إلا يوم قريظة والنضير ، فنظر إلى فقال : يا بريدة أحب علياً فإنما يفعل ما أمر به ! فقمت وما من الناس أحد أحب إلى منه » . « أوسط الطبراني : ٥ / ١١٧ ، ومجمع الزوائد : ٩ / ١٢٩ ، وتاريخ دمشق : ٤٢ / ١٩١ ، وفي رواية أخرى فيه : « قال له : أنافقت بعدي يا بريدة » !

٤٠. وأنت ولي الله وأخو رسوله ، والذابُّ عن دينه ، والذي نطق القرآن بتفضيله : قال الله تعالى : وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا . دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا . « النساء : ٦٨ ـ ٦٩ » . وجهاد علي عليه‌السلام بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كافٍ لتفضيله على كافة الصحابة خاصة الفارين في الحروب ، لكن القرشيين عَصَبُوا دماء مشركيهم الذين قتلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعلي عليه‌السلام لأنه كبير بني هاشم ، وانتقموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشخص علي ! ومن انتقامهم أنهم جعلوا الجهاد الدعوة الى الإسلام وليس القتال . فعلي مقاتل وليس مجاهداً ، وفلان وفلان مجاهدون ولو لم يقاتلوا ! وقد استمات الفخر الرازي لإثبات هذا التزييف القرشي ، فقال إن أبا

٢٨٦

بكر جاهد بالدعوة الى الإسلام ، وعلي قاتل فقط ! قال في تفسيره « ١١ / ٩ » : « وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي « ص » وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل ، ولا شك أن الأول أفضل » !

٤١. أشهد أنك المخصوص بمدحة الله ، المخلص لطاعة الله ، لم تبغ بالهدى بدلاً ، ولم تشرك بعبادة ربك أحداً ، وإن الله تعالى استجاب لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك دعوته :

ففي كمال الدين / ٢٨٥ ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام : « أخبرني ربي جل جلاله أنه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك ، فقلت : يا رسول الله ومن شركائي من بعدي ؟ قال : الذين قرنهم الله عز وجل بنفسه وبي ، فقال : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ . فقلت : يا رسول الله ومن هم ؟ قال : الأوصياء مني إلى أن يردوا علي الحوض كلهم هاد مهتد ، لايضرهم من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه ، بهم تنصر أمتي وبهم يمطرون وبهم يدفع عنهم البلاء ويستجاب دعاؤهم » .

٤٢. فلما أشفق من فتنة الفاسقين واتقى فيك المنافقين ، أوحى الله رب العالمين : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ . فوضع على نفسه أوزار المسير ، ونهض في رمضاء الهجير فخطب فأسمع ، ونادى فأبلغ :

ومعنى عصمة الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآية أن يعصمه من ارتداد أمته ، ولا يصح تفسيرها بغير ذلك ، كما بينا في كتاب : تفسير آيات الغدير الثلاث .

٢٨٧

٤٣ . فما آمن بما أنزل الله فيك على نبيه إلا قليل ، ولا زاد أكثرهم إلا تخسيراً ، ولقد أنزل الله تعالى فيك من قبل وهم كارهون : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ..

٤٤. السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وسيد الوصيين ، وأول العابدين ..

٤٥. أنت مطعم الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً لوجه الله لا تريد منهم جزاء ولا شكوراً ... وأنت الكاظم للغيظ ، والعافي عن الناس ، والله يحب المحسنين . وأنت الصابر في البأساء والضراء وحين البأس ..

وهذه صفات ثابتةٌ لأمير المؤمنين عليه‌السلام دون مخالفيه ، وقد روتها مصادر الجميع .

٤٦. والله تعالى أخبر عما أولاك من فضله بقوله : أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ . وقد ورد تفسيرها بأمير المؤمنين عليه‌السلام .

٤٧. وأنت المخصوص بعلم التنزيل ، وحكم التأويل ، ونصر الرسول ، ولك المواقف المشهورة ، والمقامات المشهورة ، والأيام المذكورة ، يوم بدر ويوم الأحزاب :

وقد روى المؤرخون أن المسلمين قتلوا نصف قتلى بدر من عتاة المشركين ، وقتل علي عليه‌السلام وحده نصفهم . وحاول القرشيون بعدها أن يطمسوا بطولة علي عليه‌السلام !

قال عمر بن عبد العزيز كما في شرح النهج : ٤ / ٥٨ : « كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود ، فمر بي يوماً وأنا ألعب مع الصبيان ، ونحن نلعن علياً ، فكره ذلك ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي ، فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة شبه المعرض عني ، حتى أحسست

٢٨٨

منه بذلك ، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي ، فقلت له : ما بال الشيخ ؟ فقال لي : يا بنى ، أنت اللاعن علياً منذ اليوم ؟ قلت : نعم ، قال : فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ! فقلت : يا أبت ، وهل كان علي من أهل بدر ؟ فقال : ويحك ! وهل كانت بدر كلها إلا له ! فقلت : لا أعود ، فقال : الله أنك لا تعود ! قلت : نعم ، فلم ألعنه بعدها .

ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة وهو حينئذ أمير المدينة فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه ، حتى يأتي إلى لعن علي فيجمجم ، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم » .

٤٨. ويوم أُحُد : إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ : وأنت تذود المشركين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين وذات الشمال :

وقد وصف الله تعالى فرار المسلمين في أحُد في نحو ستين آية إذ تركوا نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله لسيوف المشركين ، وثبت معه أول الأمر أبو دجانة ونسيبة بنت عمارة وعلي عليه‌السلام فجرح الأولان وبقي عليٌّ عليه‌السلام وحده ، فقاتل هو والنبي حتى وقع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حفرة واجتمع المشركون ليقتلوه ، فكشفهم علي عليه‌السلام وأمر جبرئيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقعد في ظل الصخرة ، وأن يقاتل علي عليه‌السلام وحده ، فواصل رد حملاتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى نصره الله ، وقرر المشركون أن ينسحبوا !

٤٩. ويوم حنين على ما نطق به التنزيل : لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ . « التوبة : ٢٥ » والمؤمنون أنت ومن يليك :

٢٨٩

وقد انهزم في حنين جميعاً وكانوا اثني عشر ألفاً ! ونكثوا بيعتهم تحت الشجرة في الحديبية على أن لايفروا ! وثبت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنو عبد المطلب ومعهم أيمن بن أم أيمن فقط ، فقاتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قتال الأبطال ، ورتب علي عليه‌السلام بني هاشم لحماية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحمل على هوازن وكانوا عشرين ألفاً ، وكان يقصد قادتهم واحداً بعد الآخر ، حتى قتل أربعين من حمَلَة الرايات ! وكان يأسر بعضهم ويأتي بهم فيضعهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وقد أقسم ابن هشام في السيرة « ٤ / ٨٩٦ » فقال : « فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى مكتَّفين عند رسول الله » . وكان علي عليه‌السلام هو الذي أسرهم وكتَّفهم !

٥٠. ويوم خيبر إذ أظهر الله خَوَرَ المنافقين ، وقطع دابرَ الكافرين ، والحمد لله رب العالمين : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا :

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتح القسم الأول من خيبر واسمه : النطاة ، وترك فيه علياً عليه‌السلام يرتب أموره ، وجاء الى القسم الآخر واسمه : الكتيبة ، والفاصلة بينهما بضعة كيلومترات ، فحاصر حصونها وأهمها : القموص ، والسلالم والوطيح ، حاصرها أكثر من عشرين يوماً ، وكان يرسل المسلمين بقيادة الصحابة المعروفين فيرجعون منهزمين ، وقد وبخهم الله تعالى بقوله : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا .

ثم قال الصحابة أرسل الى علي عليه‌السلام فأرسل اليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاء وكان أرمد العينين ، فشافاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بريقه ، وقال فيه كلمته المعروفة .

٢٩٠

قال ابن هشام « ٣ / ٧٩٧ » : « بعث أبا بكر الصديق برايته إلى بعض حصون خيبر ، فقاتل فرجع ولم يك فتح ، وقد جَهِدَ ! ثم بعث الغد عمر بن الخطاب فقاتل ثم رجع ولم يك فتح ، وقد جَهِدَ ! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ليس بفرار ! فدعا رسول الله علياً وهو أرمد فتفل في عينه ثم قال : خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك . يقول سلمة : فخرج والله بها يأنج ، يهرول هرولة ، وإنا لخلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم من حجارة تحت الحصن .. فما رجع حتى فتح الله على يديه » .

٥١. مولايَ ، أنت الحجة البالغة ، والمحجة الواضحة ، والنعمة السابغة ، والبرهان المنير ، فهنيئاً لك ما آتاك الله من فضل ، وتباً لشانئك ذي الجهل ... شهدتَ مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع حروبه ومغازيه ، تحمل الراية أمامه ، وتضرب بالسيف قدامه ...

٥٢. وكم من أمرٍ صدَّك عن إمضاء عزمك فيه التُّقى ، واتبع غيرك في نيله الهوى .. ولقد أوضحت ما أشكل من ذلك لمن توهم وامترى ، بقولك صلى الله عليك : قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وَجْهَ الحيلة ، ودونها حاجزٌ من تقوى الله ، فيدعها رأيَ العين ، وينتهز فرصتها من لا جريحة له في الدين !صدقتَ وخسر المبطلون :

وهذه ميزة سامية لأمير المؤمنين عليه‌السلام على غيره ، في إصراره على طهارة الوسي لة والهدف ، فهدفه إعادة العهد النبوي ، وتثبيت قيم الإسلام ، حتى لو كان فيها خسارة سياسية عليه . وقد انتقد سياسة الغدر ومخالفة قيم الإسلام ، فقال « نهج البلاغة : ١ / ٩٢ » : « ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة ! ما لهم قاتلهم الله . قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وجهَ

٢٩١

الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه ، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين » .

وقال عليه‌السلام « الكافي : ٨ / ٢٤ » : « وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية .. تصفية العمل أشد من العمل ، وتخليص النية من الفساد ، أشد على العاملين من طول الجهاد . هيهات لولا التقى لكنت أدهى العرب » .

٥٣. وإذ ماكرك الناكثان فقالا : نريد العمرة ، فقلت لهما : لعمري ما تريدان العمرة لكن الغدرة ، وأخذت البيعة عليهما ، وجددت الميثاق فجدا في النفاق ، فلما نبهتهما على فعلهما أغفلا وعادا ، وما انتفعا ، وكان عاقبة أمرهما خسرا .

٥٤. ثم تلاهما أهل الشام فسرت إليهم بعد الإعذار ..

٥٥. مولاي ، بك ظهر الحق .. وعدوك عدو الله ، جاحدٌ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يدعو باطلاً ويحكم جائراً ، ويتأمر غاصباً ، ويدعو حزبه إلى النار ..

٥٦. وعلى من سلَّ سيفه عليك وسللت عليه سيفك يا أمير المؤمنين ..

٥٧. والأمر الأعجب والخطب الأفظع بعد جحدك حقك ، غصب الصديقة الزهراء سيدة النساء فدكاً ..

٥٨. قال الله جل وعز : إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا .. إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، فاستثنى الله تعالى نبيه المصطفى وأنت يا سيد الأوصياء من جميع الخلق ..

٥٩. ثم أفرضوك سهم ذوي القربى مكراً ، وأحادوه عن أهله جوراً ..

٢٩٢

روى النسائي في سننه « ٧ / ١٢٨ » : « أن نجدة الحروري حين خرج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن تراه ؟ قال : هو لنا لقربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قسمه رسول الله لهم ، وقد كان عمر عرض علينا شيئاً رأيناه دون حقنا ، فأبينا أن نقبله ، وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم ، ويقضي عن غارمهم ، ويعطي فقيرهم ، وأبى أن يزيدهم على ذلك » .

٦٠. وأشبهت في البيات على الفراش الذبيح عليه‌السلام إذ أجبت كما أجاب ..

٦١. ثم محنتك يوم صفين ، وقد رُفعت المصاحف حيلةً ومكراً ..

٦٢. صلوات الله عليك غاديةً ورائحةً ، وعاكفة وذاهبة .. وفي مدح الله تعالى لك غنى عن مدح المادحين وتقريظ الواصفين ، قال الله تعالى : مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا .

٦٣. ولما رأيتَ أنك قد قاتلت الناكثين والقاسطين والمارقين ، وصدقك رسول الله وعده صلى‌الله‌عليه‌وآله فأوفيت بعهده ، قلت : أما آن أن تخضب هذه من هذه ..

٦٤. اللهم العن قتلة أنبيائك وأوصياء أنبيائك بجميع لعناتك ، وأصْلِهِمْ حَرَّ نارك ، والعن من غصب وليك حقه وأنكر عهده ، وجحده بعد اليقين والإقرار ..

٦٥. اللهم صل على محمد خاتم النبيين ، وسيد المرسلين وآله الطاهرين ، واجعلنا بهم متمسكين وبموالاتهم .. » .

٢٩٣

الإمام الهادي عليه‌السلام يطلق ( إلياذة ) الشيعة في الأئمة عليهم‌السلام

١. الزيارة الجامعة نَصٌّ فريدٌ أملاه الإمام علي الهادي عليه‌السلام على موسى بن عمران النخعي ، عندما قال له : علمني يا ابن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً ، إذا زرتُ واحداً منكم . فعلمه هذه الزيارة التي عرفت بالزيارة الجامعة .

وتقع في نحو عشر صفحات ، وتتضمن أهم صفات الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ومكانتهم ومقامهم عند الله تعالى .

ومنذ صدورها ، أخذت مكانتها الخاصة عند علماء الشيعة ومتدينيهم ، فهم يتلونها في مشاهدهم ومساجدهم وحسينياتهم وبيوتهم ، لأنها تعبر عن عقيدتهم في أئمتهم عليهم‌السلام ، فهي بحق ملحمة عقيدة المسلم الشيعي ، وأنشودته المحببة الى وجدانه ، وقصيدته العصماء التي يحب أن يلقيها في مديحهم .

فهي جديرة بأن يتأملها من أراد معرفة عقيدة الشيعة في أئمتهم عليهم‌السلام ، وأن يدرسها الشيعي ليتفهم مكانة نبيه وأئمته المعصومين عليهم‌السلام عند الله تعالى .

٢. أملى الإمام الهادي هذه الملحمة بلغةٍ لا يجيدها إلا أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم أفصح من نطق بالضاد ، وأقدر من تمكن من قيادها ، وأبرع معماريها .

تقرأ في هذه الزيارة مثل هذه الفقرة : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، ومعدن الرسالة ، وخزانَ العلم ، ومنتهى

٢٩٤

الحلم ، وأصولَ الكرم ، وقادةَ الأمم ، وأولياءَ النعم ، وعناصرَ الأبرار ، ودعائمَ الأخيار ، وساسةَ العباد ، وأركانَ البلاد ، وأبوابَ الإيمان ، وأمناءَ الرحمن ، وسلالةَ النبيين ، وصفوةَ المرسلين ، وعترةَ خِيَرة رب العالمين ، ورحمة الله وبركاته .

وهذه الفقرة : السلام على محالِّ معرفة الله ، ومساكن بركة الله ، ومعادن حكمة الله ، وحفظة سر الله ، وحملة كتاب الله ، وأوصياء نبي الله ، وذرية رسول الله ..

فتَبْهُرُك قدرة معمارها على بناء العبارة العربية ، وخبرته في انتقاء الكلمات من أسفاطها كما ينتقي الخبير جواهره ، وتبهرك خيوط ربطه وحروف التعدية التي يشد بها الأفعال والأسماء والحروف ، فتتقابل الكلمات والفقرات وتتناغم .

هذا ، ولايتسع المجال لوصف خصائص التعبير والمضمون في الزيارة الجامعة .

٣. في شخصية النبي والإمام سرٌّ وهيام : سِرٌّ هو ارتباط المعصوم بربه ، ومدده منه . وهيامُ المؤمنين به ، إيماناً وحباً وطاعةً . كما تجد ذلك في سيرتهم عليهم‌السلام وفي تعامل المؤمنين معهم ، وتتعرف عليه في الزيارة الجامعة .

وقد كان ذلك حقيقة من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي أمالي الصدوق / ٤١٤ : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وأهلي أحب إليه من أهله وعترتي أحب إليه من عترته ، وذاتي أحب إليه من ذاته » .

وفي الكافي « ٨ / ٧٨ » قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « كان رجل يبيع الزيت وكان يحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حباً شديداً . كان إذا أراد أن يذهب في حاجته لم يمض حتى ينظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد عرف ذلك منه فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه » .

٢٩٥

٣. بَلَّغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمته أن الله تعالى أعطى الأئمة من عترته عليهم‌السلام السر من بعده وأمر أمته أن تحبهم معه ، لكن قريشاً عملت ضد العترة ، لأن خلافة النبي برأيها يجب أن تكون لبطون قريش ، وليس لعترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

واتهمت قريش أنصار العترة النبوية بأنهم يغالون في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيهم ، ويدَّعون أنهم يعلمون الغيب ، وكانو يسمونهم : عُبَّاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله !

وقد قال لهم أبو بكر في المدينة وسهيل بن عمرو في مكة ، بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كان يعبد محمداً ، فإن محمداً قد مات » . « مسند أحمد « ٦ / ٢٢٠ » .

٤. يتصور البعض أن المشكلة في قضية أهل البيت عليهم‌السلام هي الغلو ، لكن الغلو محصور في حفنة ألَّهوا أهل البيت والعياذ بالله ، وقد حسم الأئمة عليهم‌السلام الموقف منهم ، وكَفَّرُوا كل من ألَّه مخلوقاً ، أو أشركه مع الله تعالى .

بل المشكلة تقصير المسلمين في حق أهل البيت عليهم‌السلام ، وإعراضهم عنهم ورفعهم مخالفيهم وظالميهم مقابلهم ! وقد حاربت قريش بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحبهم وكأنه ارتكب جريمة ، ووصفوه بالضلال والغلو ، والكفر ! كما قال الكميت رحمه‌الله :

وطائفةٌ قد كَفَّرَتْنِي بِحُبِّكُمْ

وطائفةٌ قالوا مسئٌ ومذنبُ

فما ساءني تكفيرُ هاتيكَ منهمُ

ولا عيبُ هاتيكَ التي هيَ أعْيَبُ

يعيبونني من خِبِّهم وضلالهمْ

على حبكم بل يسخرون وأعجب

وقالوا ترابيٌّ هواهُ ورأيهُ

بذلك أدعى فيهم وألقب

فلا زلت منهم حيث يتهمونني

ولا زلت في أشياعكم أتقلب

وأحمل أحقاد الأقارب فيكم

ويُنْصَبُ لي في الأبعدين فأنصب

٢٩٦

بخاتمكم غصباً تجوز أمورهم

فلم أرَ غصباً مثله حين يغصب

فقل للذي في ظِلِّ عمياءَ جُونَةٍ

ترى الجور عدلاً أين لا أينَ تذهب

بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سنةٍ

ترى حبهم عاراً عليَّ وتَحْسِبُ

فَمَا لِيَ إلَّا آلَ أحمدَ شيعةٌ

وماليَ إلا مذهبَ الحق مذهبُ

٥. لم تستطع الحكومات القرشية المتعاقبة أن تبعد الأمة عن العترة النبوية ، فكانت لهم شيعة يؤمنون بهم ، وتنامى وجودهم رغم الإضطهاد .

وكان الناس في كل جيل يشاهدون أنواع الكرامات والمعجزات لأمير المؤمنين والصديقة الزهراء والحسن والحسين وزين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي ، والحسن العسكري والإمام المهدي ، صلوات الله عليهم . وترويها مصادرهم .

وقد رووا أن عَتَّاباً القائد قال للإمام الهادي عليه‌السلام : « الناس يقولون إنك تعلم الغيب ، وقد تبينتُ من ذلك خَلَّتين » . « مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٥١٥ » .

وقال تلميذ الطبيب بختيشوع عن الإمام الهادي عليه‌السلام : « إن كان مخلوق يعلم الغيب فهو » . « دلائل الإمامة / ٤١٨ » .

ظاهرة النصب والغلو في أهل البيت عليهم‌السلام

اختلفت الأمة في عليٍّ والأئمة من عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من تكفيرهم .. الى تأليههم ! قال الشهرستاني في الملل والنحل « ١ / ٢٧ » : « كان علي رضي الله عنه مع الحق والحق معه ، وظهر في زمانه الخوارج عليه ، مثل الأشعث بن قيس ، ومسعود بن فدكي

٢٩٧

التميمي ، وزيد بن حصين الطائي ، وغيرهم . وكذلك ظهر في زمانه الغلاة في حقه مثل عبد الله بن سبأ ، وجماعة معه . ومن الفريقين ابتدأت البدعة والضلالة وصدق فيه قول النبي (ص) : يهلك فيه اثنان : محبٌّ غالٍ ، ومبغض قالٍ » .

أما الوسطية بين التكفير والتأليه ، فهي عند الإمام الهادي عليه‌السلام الإيمان بصفاتهم التي نصت عليها الزيارة الجامعة . ولذلك كان موقف الأئمة عليهم‌السلام شديداً ممن غلوا فيهم وألهوهم ، ومن أنقصونهم حقهم ، أو صادروه وأعطوه لغيرهم !

فمذهب أهل بيت النبوة عليهم‌السلام هو الوحي النقي ، وهو بنقائه ينفي عنه تقصير المقصرين ، وغلو الغالين ، وادعاء الكذابين ، نفياً بَتاً لا لبسَ فيه !

وقد سجلت المصادر مواقف الأئمة عليهم‌السلام الحاسمة ممن ادعى لهم الألوهية ، أو الشراكة مع الله تعالى ، أو النبوة ، أو الحلول . فهؤلاء الغلاة أعشت أبصارهم معجزات الأئمة عليهم‌السلام ، وبدل أن تكون سبباً لتعميق إيمانهم بالله تعالى ، ضاقت عقولهم عن عظمة الله عز وجل وعطائه لأوليائه ، وسوَّل لهم الشيطان أن الله تعالى حلَّ فيهم ، معاذ الله !

موقف أمير المؤمنين عليه‌السلام من الذين ألَّهُوه

في مناقب آل أبي طالب « ١ / ٢٢٧ » : « أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين هو الله ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال : أنت هو ، فقال له ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب ! فلما أبى حبسه واستتابه ثلاثة أيام فأحرقه بالنار ! وروي أن سبعين رجلاً

٢٩٨

من الزط أتوه عليه‌السلام بعد قتال أهل البصرة يدعونه إلهاً بلسانهم وسجدوا له قال لهم : ويلكم لا تفعلوا إنما أنا مخلوق مثلكم ! فأبوا عليه فقال : فإن لم ترجعوا عما قلتم فيَّ وتتوبوا إلى الله لأقتلنكم ، قال : فأبوا فخدَّ لهم أخاديد وأوقد ناراً فكان قنبر يحمل الرجل بعد الرجل على منكبه ، فيقذفه في النار ، ثم قال :

إني إذا أبصرتُ أمراً منكرا

أوقدتُ ناراً ودعوتُ قنبرا

ثم احتفرتُ حُفَراً فحُفَرا

وقنبرٌ يخطم خطماً منكرا » .

والصحيح أنه عليه‌السلام حبسهم واستتابهم ، فحفر لهم حُفَراً مثقوبة على بعضها ودخَّنَ عليهم ، فلم يرجع بعضهم فقتلهم .

قال ابن عبد البر في التمهيد « ٥ / ٣١٧ » : « فاتخذوه رباً وادعوه إلهاً ، وقالوا له : أنت خالقنا ورازقنا ، فاستتابهم واستأنى وتوعدهم ، فأقاموا على قولهم ، فحفر لهم حفراً دخن عليهم فيها طمعاً في رجوعهم فأبوا فحرقهم » . ونحوه فتح الباري : ١٢ / ٢٣٨ ، وتاريخ الذهبي : ٣ / ٦٤٣ ، وأنساب السمعاني : ٥ / ٤٩٨ ، ورجال الطوسي : ١ / ٢٨٨ .

موقف الإمام الصادق عليه‌السلام من الذين ألَّهُوه

في رجال الطوسي « ٢ / ٥٨٧ » : « عن أبي بصير قال : قال لي أبو عبد الله : يا أبا محمد إبرأ ممن يزعم أنا أرباب ، قلت : برئ الله منه ، قال : إبرأ ممن يزعم أنا أنبياء . قلت : برئ الله منه » .

وفي أصل زيد الزراد / ٤٦ ، قال : « لما لبى أبو الخطاب بالكوفة وادعى في أبي عبد الله عليه‌السلام ما ادعى ، دخلت على أبي عبد الله مع عبيد بن زرارة فقلت له : جعلت

٢٩٩

فداك لقد ادعى أبو الخطاب وأصحابه فيك أمراً عظيماً ! إنه لبى : لبيتُك جعفر لبيك معراج ! وزعم أصحابه أن أبا الخطاب أسريَ به إليك ، فلما هبط إلى الأرض من ذلك دعا إليك ، ولذلك لبى بك !

قال : فرأيت أبا عبد الله عليه‌السلام قد أرسل دمعته من حماليق عينيه وهو يقول : يا رب برئت إليك مما ادعى فيَّ الأجدع عبد بني أسد ! خشع لك شعري وبشرى ، عبدٌ لك ابن عبد لك ، خاضع ذليل . ثم أطرق ساعة في الأرض كأنه يناجي شيئاً ثم رفع رأسه وهو يقول : أجل أجل ، عبدٌ خاضعٌ خاشعٌ ذليلٌ لربه ، صاغرٌ راغمٌ ، من ربه خائف وجل . لي والله ربٌّ أعبده لا أشرك به شيئاً !

ماله أخزاه الله وأرعبه ، ولا آمن روعته يوم القيامة . ما كانت تلبية الأنبياء هكذا ولا تلبية الرسل ، إنما لبيتُ : بلبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك » !

وفي رجال الطوسي « ٢ / ٥٨٤ » : « ثم قال : على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فأشهد بالله أنه كافرٌ فاسقٌ مشرك . وأنه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدواً وعشياً ، ثم قال : أما والله إني لأنفس على أجساد أُصْلِيَتْ معه النار » .

موقف الإمام الكاظم عليه‌السلام من الذين ألَّهُوه

ففي رجال الطوسي « ٢ / ٥٨٧ » : « فقال يحيى : جعلت فداك إنهم يزعمون أنك تعلم الغيب ؟ فقال : سبحان الله سبحان الله ، ضع يدك على رأسي ، فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت ! قال ثم قال : لا والله ، ما هي إلا وراثة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » .

٣٠٠