الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

ذلك الإمام أحمد بن حنبل ، ومحمد بن نوح ، فحُملا على بعير وسُيِّرا إلى الخليفة عن أمره بذلك ، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد .

ولما اقتربا من طرسوس جاءهما الصريخ بموت المأمون ، فأعيدا إلى السجن ولبث فيه أحمد ثمانية وعشرين شهراً ، وقيل نيفاً وثلاثين شهراً .

وعقد المعتصم مجلساً واستدعى أحمد من السجن ، وأحضر الفقهاء فناظروه بحضرته ثلاثة أيام فغلبهم ، فحرضوا الخليفة عليه فقال له : لعنك الله ، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني ، ثم قال : خذوه واخلعوه واسحبوه .

قال أحمد : فأُخذت وسُحبت ، وخُلعت وجئ بالعُقَابين « خشب يثبت به المضروب » والسياط وأنا أنظر ، فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له يعني المعتصم : شدَّ قطع الله يديك ، ويجئ الآخر فيضربني سوطين . فذهبَ عقلي فلم أُحِسّ بالضرب ، وَأَرْعَبَهُ ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت !

ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت ، وقد أطلقت الأقياد من رجلي ، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين .

وتولى الخلافة ابنه الواثق ، وقد اشتد في عهده القول بخلق القرآن ، وقتل بيده أحمد بن نصر الخزاعي لعدم إقراره بخلق القرآن ، وكان الإمام أحمد في عهده معتقلاً في منزله ، وأرسل إليه الواثق كتاباً يأمره فيه أن لا يجتمع بالناس ، ولا يساكنه بأرض ولا مدينة هو فيها » .

٢٠١

وقال أحمد في العلل « ١ / ٦٩ » : « وفي أثناء ذلك كله يتعطف به الخليفة « المعتصم » ويقول : يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي ، فيقول الإمام : يا أمير المؤمنين ، يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله حتى أجيبهم إليها . فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة ، فقالوا : يا أمير المؤمنين : هذا كافر ضال مضل . وقال له إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد : يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين ، فعند ذلك حميَ واشتد غضبه ، وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شئ .

قال الإمام أحمد : فعند ذلك قال لي : لعنك الله ، طمعت فيك أن تجيبني ، ثم قال : خذوه واخلعوه واسحبوه . قال الإمام : فأخذت وسُحبت وخُلعت وجئ بالعُقَابَيْن والسياط وأنا أنظر ، وكان معي شعرات من شعر النبي مصرورة في ثوبي ، فجردوني منه وصرت بين العقابين ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، الله الله ، إن رسول الله قال : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث وتلوت الحديث ، وإن رسول الله قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم . فبمَ تستحل دمي ولم آت شيئاً من هذا ؟ يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك . فكأنه أمسك .

ثم لم يزالوا به يقولون له : يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر . فأمر بي فقمت بين العقابين وجئ بكرسي فأقمت عليه ، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي

٢٠٢

الخشبتين فلم أفهم ، فتخلعت يداي ، وجئ بالضرابين ومعهم السياط ، فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له : يعني المعتصم : شد قطع الله يديك ، ويجئ الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك ، فضربوني أسواطاً فأغميَ عليَّ وذهب عقلي مراراً ، فإذا سكن الضرب يعود عليَّ عقلي .

وقام المعتصم إليَّ يدعوني إلى قولهم فلم أجبه ، وجعلوا يقولون : ويحك ، الخليفة على رأسك ، فلك إقبل ، وأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه ، فأعادوا الضرب ثم جاء إليَّ الثالثة ، فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب !

ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب . وأرعبه ذلك من أمري ، وأمرني فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي وكان ذلك في اليوم العشرين من رمضان ، سنة إحدى وعشرين ومأتين .

وكان جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً . وقيل : ثمانين سوطاً ، ولكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً . ويقول أشاباض أحد الجلادين : ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطاً ، لو ضربته فيلاً لهدمته » .

٥. تكفي الرواية المتقدمة لسجن أحمد وهي رواية أتباعه ، ليحكم الباحث بأن المعتصم أطلقه لأنه أقرَّ له بأن القرآن مخلوق ، وتكرار أحمد لقوله : ذهب عقلي ، تبريرٌ لإقراره لهم ، فهو يقول : لقد غبت عن الوعي ، ولم أدرِ ماذا قلت لهم !

٢٠٣

وقال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٦٨ » : « ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله ، وكان جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً ، وقيل ثمانين سوطاً ، ولكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً . وقد كان الإمام أحمد رجلاً رقيقاً أسمر اللون » .

يقصد : كان أحمد أسمر نحيفاً نحيل الجسم ، لايتحمل جسمه الضرب !

ونحن نثق بشهادة اليعقوبي المعاصر لأحمد ، قال في تاريخه « ٢ / ٤٧٢ » : « وامتحن المعتصم أحمد بن حنبل في خلق القرآن ، فقال أحمد : أنا رجل علمت علماً ، ولم أعلم فيه بهذا . فأحضر له الفقهاء ، وناظره عبد الرحمن بن إسحاق وغيره ، فامتنع أن يقول إن القرآن مخلوق ، فضرب عدة سياط ، فقال إسحاق بن إبراهيم : ولني يا أمير المؤمنين مناظرته ، فقال : شأنك به ! فقال إسحاق : هذا العلم الذي علمته نزل به عليك ملك أو علمته من الرجال ؟ قال : بل علمته من الرجال . قال : شيئاً بعد شئ أو جملة ؟ قال : علمته شيئاً بعد شئ . قال : فبقي عليك شئ لم تعلمه ؟ قال : بقي عليَّ . قال : فهذا مما لم تعلمه ، وقد علمكه أمير المؤمنين . قال : فإني أقول بقول أمير المؤمنين . قال : في خلق القرآن ؟ قال : في خلق القرآن ! فأشهد عليه وخلع عليه ، وأطلقه إلى منزله » .

كما نصت على ذلك شهادة الجاحظ المعاصر لأحمد ، وهو من الأشاعرة المتعصبين ضد الشيعة ، قال في رسائله « ٣ / ٢٩٢ » في مناقشته لأتباع أحمد : « فنحن لم نُكفِّر إلا من أوسعناه حجة ، ولم نمتحن إلا أهل التهمة ، وليس كشف المتهم من التجسس ، ولا امتحان الظنين من هتك الأسرار . ولو كان كل كشف هتكاً وكل

٢٠٤

امتحان تجسساً ، لكان القاضي أهتك الناس لستر ، وأشد الناس كشفاً لعورة . والذين خالفوا في العرش إنما أرادوا نفي التشبيه فغلطوا ، والذين أنكروا أمر الميزان إنما كرهوا أن تكون الأعمال أجساماً وأجراماً غلاظاً .

فإن كانوا قد أصابوا فلا سبيل عليهم ، وإن كان قد أخطأوا فإن خطأهم لايتجاوز بهم إلى الكفر . وقولهم وخلافهم بعد ظهور الحجة تشبيهٌ للخالق بالمخلوق ، فبين المذهبين أبين الفرق . وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة والمخلصين ، إعذاراً وإنذاراً : امتحنتني وأنت تعرف ما في المحنة ، وما فيها من الفتنة ، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة !

قال المعتصم : أخطأت ، بل كذبت ، وجدتُ الخليفة قبلي قد حبسك وقيدك ، ولو لم يكن حبسك على تهمة لأمضى الحكم فيك ، ولو لم يَخَفْك على الإسلام ما عَرَض لك ، فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة ، ولا من طريق الإعتساف ولا من طريق كشف العورة ، إذ كانت حالك هذه الحال وسبيلك هذه السبيل .

وقيل للمعتصم في ذلك المجلس : ألا تبعث إلى أصحابه حتى يشهدوا إقراره ، ويعاينوا انقطاعه ، فينقض ذلك استبصارهم فلا يمكنه جحد ما أقر به عندهم ؟ فأبى أن يقبل ذلك وأنكره عليهم وقال : لا أريد أن أوتى بقوم إن اتهمتهم ميزتُ فيهم بسيرتي فيهم ، وإن بان لي أمرهم أنفذت حكم الله فيهم ، وهم ما لم أوتَ بهم كسائر الرعية ، وكغيرهم من عوام الأمة ، وما من شئ أحب إليَّ من الستر ، ولا شئ أولى بي من الأناة والرفق ، وما زال به رفيقاً ، وعليه رقيقاً ، ويقول : لأن

٢٠٥

أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق ! حتى رآه يعاند الحجة ، ويكذب صراحاً عند الجواب . وكان آخر ما عاند فيه وأنكر الحق وهو يراه : أن أحمد بن أبي دواد قال له : أليس لا شئ إلا قديم أو حديث ؟ قال : نعم . قال : أوليس القرآن شيئاً ؟ قال : نعم . قال : أوليس لا قديم إلا الله ؟ قال : نعم . قال : فالقرآن إذا حديث ؟ قال : ليس أنا متكلم . وكذلك كان يصنع في جميع مسائله ، حتى كان يجيبه في كل ما سأل عنه ، حتى إذا بلغ المخنق ، والموضع الذي إن قال فيه كلمة واحدة برئ منه صاحبه قال : ليس أنا متكلم !

فلا هو قال في أول الأمر : لا علم لي بالكلام ، ولا هو حين تكلم فبلغ موضع ظهور الحجة ، خضع للحق . فمقته الخليفة وقال عند ذلك : أفٍّ لهذا الجاهل مرة والمعاند مرة . وأما الموضع الذي واجه فيه الخليفة بالكذب ، والجماعة بالقحة وقلة الإكتراث وشدة التصميم ، فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد : تزعم أن الله رب القرآن ؟ قال : لو سمعت أحداً يقول ذلك لقلت . قال : أفما سمعت ذلك قط من حالف ولا سائل ، ولا من قاص ، ولا في شعر ، ولا في حديث !

قال : فعرف الخليفة كذبه عند المسألة ، كما عرف عنوده عند الحجة .

وأحمد بن أبي دواد حفظك الله أعلم بهذا الكلام ، وبغيره من أجناس العلم ، من أن يجعل هذا الإستفهام مسألة ، ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة . ولكنه أراد أن يكشف لهم جرأته على الكذب ، كما كشف لهم جرأته في المعاندة . فعند ذلك ضربه الخليفة . وأية حجة لكم في امتحاننا إياكم ، وفي إكفارنا لكم .

٢٠٦

وزعم يومئذ أن حكم كلام الله كحكم علمه ، فكما لا يجوز أن يكون علمه محدثاً ومخلوقاً ، فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقاً محدثاً .

فقال له : أليس قد كان الله يقدر أن يبدل آية مكان آية ، وينسخ آية بآية ، وأن يذهب بهذا القرآن ويأتي بغيره ، وكل ذلك في الكتاب مسطور ؟

قال : نعم . قال : فهل كان يجوز هذا في العلم ، وهل كان جائزاً أن يبدل الله علمه ويذهب به ويأتي بغيره ؟ قال : ليس .

وقال له : روينا في تثبيت ما نقول الآثار ، وتلونا عليك الآية من الكتاب ، وأريناك الشاهد من النقول التي بها لزم الناس الفرائض ، وبها يفصلون بين الحق والباطل ، فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث .

فلم يكن ذلك عنده ، ولا استخذى من الكذب عليه في غير هذا المجلس ، لأن عدة من حضره أكثر من أن يطمع أحدا أن يكون الكذب يجوز عليه .

وقد كان صاحبكم هذا يقول : لا تقية إلا في دار الشرك . فلو كان ما أقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية ، فقد أعمل التقية في دار الإسلام ، وقد أكذب نفسه . وإن كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم منه ، وليس منكم . على أنه لم ير سيفاً مشهوراً ، ولا ضرب ضرباً كثيراً ، ولا ضرب إلا ثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار ، مشعثة الأطراف ، حتى أفصح بالإقرار مراراً !

٢٠٧

ولا كان في مجلس ضيق ، ولا كانت حاله حال مؤيسة ، ولا كان مثقلاً بالحديد ولا خلع قلبه بشدة الوعيد . ولقد كان ينازع بألين الكلام ، ويجيب بأغلظ الجواب ، ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش .

وعبتم علينا إكفارنا إياكم ، واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث ، وقلتم : تكفروننا على إنكار شئ يحتمله التأويل ويثبت بالأحاديث ، فقد ينبغي لكم أن لا تحتجوا في شئ من القدر والتوحيد بشئ من القرآن ، وأن لا تكفروا أحداً خالفكم في شئ ! وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا ، وإلى عداوتنا والنصب لنا » .

أقول : هاتان شهادتان على أن أحمد لم يصمد أمام امتحان المعتصم ، إحداهما من اليعقوبي الثقة المتثبت ، والثانية من الجاحظ وقد واجه بها الحنابلة فلم يردوها .

ويؤيد ذلك أن المسعودي قال إن المعتصم ضرب أحمد ليقول بخلق القرآن ، وكأنه قال به . قال في مروج الذهب « ٣ / ٤٦٤ » : « وفيها « سنة ٢١٩ » ضَرَب المعتصم أحمد بن حنبل ثمانية وثلاثين سوطاً ليقول بخلق القرآن » .

وروى ابن العمراني في الإنباء في تاريخ الخلفاء « ١ / ١٠٥ » أن أحمد استعطف المعتصم بأن خالد بن ابراهيم الشيباني من أنصار بني العباس ، قال : « وحين أحضره المعتصم بين يديه سلَّمَ وتكلم بكلام أعجب الناس ، ثم قال في أثناء كلامه : يا أمير المؤمنين إن لآبائى سبقاً في هذه الدعوة ، فليسعني ما وسع أصحاب رسول الله من السكوت والرضا من جميعهم بأن القرآن كلام الله » . وهو يقصد أبا داود

٢٠٨

خالد بن إبراهيم الذهلي . وكان نقيباً وليس من أجداد أحمد ، لكن حنبلاً وأولاده كانوا يتقربون به الى السلطة .

ويظهر أنهم أطلقوا أحمد ، لأنه أقر بما أرادوا وتشفع اليهم بالذهلي الذي يتقرب اليه أبوه حنبل . ولو أنه لم يقر لهم بخلق القرآن لم يطلق ، ولم يسمح له بالتحديث والإفتاء ! بل بقي في السجن مع نُعيم بن حماد ، فقد بقي بعده في السجن عشر سنين حتى مات ، ودفنوه ولم يصلوا عليه !

قال في تاريخ بغداد « ١٣ / ٣١٥ » : « حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال : سنة تسع وعشرين ومائتين ، فيها مات نعيم بن حماد ، وكان مقيداً محبوساً لامتناعه من القول بخلق القرآن ، فَجُرَّ بأقياده فألقيَ في حفرة ، ولم يُكفن ولم يُصل عليه » .

أما زميله الآخر ابن نصر فبقي ثلاث عشرة سنة : « قال محمد بن إسحاق السراج : قتل أحمد بن نصر بن مالك يوم السبت غرة رمضان سنة إحدى وثلاثين . وأنزل رأسه وأنا حاضر ببغداد يوم الثلاثاء لثلاث خلت من شوال سنة سبع وثلاثين ومائتين » . « تاريخ بغداد : ٥ / ٣٨٣ » .

٤. زعم أحمد أنه كان معه سرٌّ رباني نجَّاه من السجن والألم ! مع أنه قال إنه ضرب بضعاً وثلاثين سوطاً ، وأغمي عليه مرات من الألم ، أو من الخوف .

قال في العلل « ١ / ٧٣ » : « ثم قال : خذوه واخلعوه واسحبوه . فأخذتُ وسحبتُ وخُلعت وجئ بالعُقَابَيْن « خشبتان لتثبيت المجلود » والسياط ، وأنا أنظر ، وكان معي شعرات من شعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مصرورة في ثوبي ، فجردوني منه » .

٢٠٩

وروى الذهبي في تاريخ « ٥ / ١٠٦٣ » عن حنبل قال : « أعطى بعض ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله وهو في الحبس ثلاث شعرات فقال : هذه من شعر النبي ، فأوصى عند موته أن يجعل على كل عين شعرة ، وشعرة على لسانه . ففعل به ذلك عند موته » .

وقال في سيره « ١١ / ٢١٢ » : « عبد الله بن أحمد : رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي فيضعها على فيه يقبلها ، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه يغمسها في الماء ويشربه يستشفي به » .

أقول : الفضل بن الربيع كان حاجب المنصور ، وحسب قول أحمد إن بعض ولده أعطاه ثلاث شعرات من شعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعله يقصد أحد أحفاده ، وكان له أولاد كثرة موظفون في الدولة ، ولا يمكن إثبات صدق الذي أعطاه الشعرات ، وأنها من أثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

أحاط ابن حنبل نفسه بهالةٍ من المبالغات !

تجد في حديث أحمد عن نفسه ، وحديث أتباعه عنه ، كثيراً من المبالغة وغير المعقول ، فهو الذي أسس الغلو في شخصه ، وربى عليه تلاميذه وأولاده !

ويكفي مبالغته في كتابه المسند وقد اعتبره كله صحيحاً ، وقال إنه اختاره من مئات ألوف الأحاديث ، وأن ما لايوجد فيه ، فهو غير صحيح !

قال الإمام الحنبلي أبوموسى المديني الأصفهاني المتوفى سنة ٥٨١ ، في كتابه خصائص مسند الإمام أحمد / ١٣ ، طبعة مكتبة التوبة بالرياض ١٤١٠ هجرية : « قال لنا حنبل

٢١٠

بن إسحاق : جمعنا عمي « أحمد » لي ولصالح ولعبد الله ، وقرأ علينا المسند وما سمعه منه يعني تاماً ، غيرنا ، وقال لنا : إن هذا الكتاب قد جمعته وأتقنته من أكثر من سبع مائة وخمسين ألفاً ، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه ، فإن كان فيه ، وإلا فليس بحجة .

سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى يقول : كتب أبي عشرة آلاف ألف حديث ، ولم يكتب سواداً في بياض إلا قد حفظه !

سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول : قلت لأبي رحمه الله تعالى : لم كرهت وضع الكتب وقد عملت المسند ؟ فقال : عملت هذا الكتاب إماماً ، إذا اختلف الناس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رجعوا إليه .

قال الشيخ الحافظ أبوموسى رحمه الله : ولم يخرج إلا عمن ثبت عنده صدقه وديانته ، دون من طُعن في أمانته » .

قال أبو زرعة الرازي « تاريخ بغداد : ٥ / ١٨٥ » : « كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ! فقيل له : وما يدريك ؟ قال : ذَاكَرْتُهُ فأخذت عليه الأبواب » .

فهو إذن ، يحفظ مليون حديث ، واختار منها سبع مئة وخمسين ألفاً ، ثم اختار منها الصحيح ، وهو مسنده الذي بلغت أحاديثه نحو ثلاثين ألفاً !

وهذا الكلام لا يوافقه عليه أحد من المحدثين ، حتى علماء الحنابلة أنفسهم !

كما أن مسنده يستحيل أن يكون كله صحيحاً ، لكثرة المتناقضات فيه .

٢١١

فإذا تجاوزنا كتابه ، وجدنا يغلو في شخصه ، وأولاده صالح وحنبل وعبد الله يغلون فيه ، وتلاميذه خاصة المروزي . وتبدأ مبالغتهم من طفولته ، ونسبه ، الى علمه ، وزهده في الدنيا ، وموته ، وقبره ، وأن الله تعالى ينزل ويزور قبره !

قالوا عن أصل أحمد : جاءت أمه الى بغداد وهي حاملة به

قالوا : كان حنبل جندياً في بخارى في زمن المنصور ، مع المسيب بن زهير ، وقد أدبه المسيب هو وإسحاق بن عيسى السعدي ، لأنهما حركا الجند للشغب ، فضربهما المسيب وحلق رأسيهما ، وقد يكون نفاه الى مرو ، أو رضي عليه وولاه سرخس ، لأنهم قالوا وليَ سرخس ، وكان من أبناء الدعوة . « تاريخ بغداد : ٥ / ١٨١ » .

والصحيح أن حنبلاً أوغيره من أجداده لم يكونوا من أبناء الدعوة العباسية ، بل أحد أقاربهم الهذليين ، والمرجح أنه قريبهم بالتحالف أو الولاء .

وذكروا أن محمداً مات في مَرْوخراسان ، وخرجت زوجته وهي حامل بأحمد ، وجاءت الى بغداد فولدته . ولم يذكروا هل تزوجت بعد ذلك .

وقد تفرد ابن كثير فقال « النهاية : ١٠ / ٣٥٩ » : « قالوا : وقدم به أبوه من مرو وهو حمل فوضعته أمه ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه » .

مع أن أحمد نفسه قال إن أمه جاءت به وهو حمل في بطنها ، ولم يقل أحدٌ غير ابن كثير إن أباه جاء به ! ولعله اخترع ذلك ليرفع المهانة عن إمامه أحمد !

٢١٢

لم يكن أحمد من شيبان وقد يكون حليفهم

لم يَدَّعِ أحمد طول عمره أنه من شيبان ، فقد قال يحيى بن معين : « ما سمعت أحمد بن حنبل يقول : أنا من العرب قط .. محمد بن الفضل يقول : وضع أحمد بن حنبل عندي نفقته ، وكان يجئ في كل يوم فيأخذ منه حاجته ، فقلت له يوماً : يا أبا عبد الله ، بلغني أنك من العرب ، فقال : يا أبا النعمان نحن قوم مساكين ، فلم يزل يدافعني حتى خرج ولم يقل لي شيئاً » . « تهذيب الكمال : ١ / ٤٤٤ » .

لكن ابنه الصغير صالح كتب نسباً ، وقالوا رآه أبوه ولم ينكره . ولم يذكر صالح من أين أخذه ! قال ابن كثير في النهاية « ١٠ / ٣٥٩ » « ورويَ عن صالح بن الإمام أحمد قال : رأى أبي هذا النسب في كتاب لي فقال : وما تصنع به ؟ ولم ينكر النسب » .

وحرفوا كلام ابنه صالح ، فصار النسب في كتاب لأبيه ، قال الذهبي في سيره « ١١ / ١٧٨ » : « قال الحافظ أبومحمد بن أبي حاتم في كتاب مناقب أحمد : حدثنا صالح بن أحمد ، قال : وجدت في كتاب أبي نسبه ، فساقه إلى مازن » !

والنسب كما في كتاب العلل « ١ / ٤٥ » : « أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان » .

٢١٣

وقد تبناه الحنابلة ، وقال عنه المزي في تهذيب الكمال « ١ / ٤٤٣ » : « وهكذا قال أبو نصر بن ماكولا ، إلا أنه زاد بعد مازن : ابن ذهل بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة . وقال الحافظ أبوبكر الخطيب : قول عباس الدوري وأبي بكر بن أبي داود أن أحمد من بني ذهل بن شيبان غلط ، إنما كان من بني شيبان بن ذهل بن ثعلبة ، وذهل بن ثعلبة هذا هو عم ذهل بن شيبان .. وهذا هو ذهل المسن الذي منه دغفل ابن حنظلة ، والقعقاع بن شور .. فينبغي أن يقال : أحمد بن حنبل الذهلي » .

ومع أنه لم يشهد بهذا النسب أحدٌ من خبراء الأنساب ، فقد اعتبره الحنابلة صحيحاً ، وافتخروا بأن إمامهم عربي ، في محيط يفتخر بالعرب ويحتقر الموالي !

أما قولهم إن حنبلاً كان من أبناء الدعوة العباسية ، فقد أخذوه من كلام أحمد المتقدم الذي استعطف به المعتصم ، كما في كتاب : الإنباء في تاريخ الخلفاء « ١ / ١٠٥ » لابن العمراني قال : « ثم قال في أثناء كلامه : يا أمير المؤمنين إن لآبائي سبقاً في هذه الدعوة فليسعني ما وسع أصحاب رسول الله من السكوت والرضا من جميعهم » .

وهو يقصد أبا داود خالد بن إبراهيم الذهلي الذي كان نقيباً ، وهو من فرع آخر ، وليس من أجداد أحمد ، وإن افتخر به حنبل .

كان جده حنبل مجنداً مشاغباً

قالوا إن جده حنبلاً كان مجنداً في بخارى ، وكان مشاغباً فأدبه قائده . وقالوا إنه صار والي سرخس ، ولم أجد مؤشراً على صحة هذا القول ، فلو ترقى وصار والياً على محافظة مهمة في خراسان كسرخس ، فلماذا كان ابنه محمد في مَرْو فقيراً ؟

٢١٤

قال في تاريخ بغداد « ٥ / ١٨١ » : « وجده حنبل بن هلال وليَ سرخس ، وكان من أبناء الدعوة . فسمعت إسحاق بن يونس صاحب ابن المبارك يقول : ضرب حنبلَ بن هلال وأبا النجم إسحاق بن عيسى السعدي المسيبُ بن زهير الضبي ببخارى ، في دسهم إلى الجند في الشغب ، وحلقهما » .

وقلنا إن الذي كان من أبناء الدعوة وتقرب به أحمد الى العباسيين ، هو خالد بن إبراهيم الشيباني ، وهو بحسب النسب الذي ادعوه لأحمد من أعمام آبائه :

قال ابن حزم في جمهرة أنساب العرب / ٣١٩ : « ومن بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة : أبوداود خالد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن قعبل بن الحارث ، أحد النقباء لبني العباس ، وهو ولي خراسان بعد أبي مسلم . ومنهم : دغفل النسابة ، وهو دغفل بن حنظلة بن يزيد بن عبدة بن عبد الله بن ربيعة بن عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة . والقعقاع بن شور ومطير بن القعقاع بن شور ، حكم بجهة الموصل . والفقيه الجليل أبوعبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة ، وابناه : عبد الله قاضي حمص ، وصالح قاضي الثغر وابن ابنه : زهير بن صالح ، محدث . وابن أخيه محمد بن أحمد بن صالح ، محدث » .

فالنقيب أبو داود الذهلي ، كان قائداً عند أبي مسلم ، قال ابن خلدون « ٣ / ١٢٤ » : « ثم بعث أبومسلم كعباً من النقباء إلى أبيورد فافتتحها ، ثم أبا داود خالد بن إبراهيم من النقباء إلى بلخ ، وبها زياد بن عبد الرحمن القشيري ، فجمع له أهل بلخ

٢١٥

وترمذ وجند طخارستان ، ونزل الجوزجان ولقيهم أبوداود فهزمهم ، وملك مدينة بلخ » . وقال في أنساب الأشراف « ٤ / ٢٢٨ » : « لما مات أبوداود خالد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن قعبل بن ثابت بن سالم بن حذلم بن الحارث بن عمرو بن سالم بن الحارث بن عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة ، كتب المنصور إلى أبي عصام عبد الرحمن بن سليم بولاية خراسان ، ثم عزله بعد أربعين يوماً » .

والنتيجة : أن أحمد لم يقل يوماً إنه عربي ، لكن أولاده قالوا ذلك لحاجتهم اليه بعد أن صار أبوهم أحمد مشهوراً . ونسبه الذي ذكروه لايوجب الإطمئنان ، ولا ينطبق على ما رووه عن جده حنبل ، إلا أن يكون حنبل حليفاً لهلال بن أسد وليس ابنه ، أو كان أصله من تميم ، وهو يخفيه لأنه من أولاد حرقوص بن زهير .

قال علماءٌ : إن أحمد من ذرية حرقوص رأس الخوارج ؟

ألَّفَ الطبري المؤرخ كتاباً في إثبات سند حديث الغدير ، سماه : الرد على الحرقوصية ، وهو يقصد الحنابلة .

وقد تكون تسميته لهم بالحرقوصية لأن إمامهم ابن حنبل من ذرية رئيس الخوارج حرقوص بن زهير ، أو لأنهم نواصب كالخوارج أتباع حرقوص .

وقد اختار المستشرق كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي « ٣ / ٥٠ » في تفسير إسم : الرد على الحرقوصية ، أن الحرقوصية هم الحنابلة ، وأن الطبري سماهم بذلك ، لأن أحمد بن حنبل من أولاد زهير بن حرقوص !

٢١٦

وقال السيد ابن طاوس قدس‌سره في الإقبال / ٤٥٣ : « من ذلك ما رواه محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير ، صنفه وسماه كتاب الرد على الحرقوصية ، روى فيه حديث الغدير وما نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على علي بالولاية والمقام الكبير ، وروى ذلك من خمس وسبعين طريقاً » .

وقال في الطرائف / ٣٨ : « ورأيت في بعض ما صنفه الطبري في صحة خبر يوم الغدير أن إسم الكتاب : الرد على الحرقوصية ، يعني الحنبلية ، لأن أحمد بن حنبل من ولد حرقوص بن زهير الخارجي ، وقيل : إنما سماه الطبري بهذا الإسم ، لأن البر بهاري الحنبلي تعرض للطعن في شئ مما يتعلق بخبر يوم غدير خم » .

وجزم به الصدوق في علل الشرائع « ٢ / ٤٦٧ » فروى عن إبراهيم بن سفيان : « إنما كانت عداوة أحمد بن حنبل مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام أن جده ذا الثدية قتله علي بن أبي طالب يوم النهروان ، وكان رئيس الخوارج » . ونحوه المناقب « ٣ / ٢١ و ٢٢٠ » .

وذكر النجاشي الرجالي المعروف / ٣٢٢ ، كتاب الرد على الحرقوصية ، قال : « محمد بن جرير أبوجعفر الطبري عامي ، له كتاب الرد على الحرقوصية ، ذكر طرق خبر يوم الغدير ، أخبرنا القاضي أبوإسحاق إبراهيم بن مخلد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا محمد بن جرير بكتابه الرد على الحرقوصية » .

وعليه ، لابد أن يكون انتساب جده حنبل الى بني شيبان بالتحالف ، تهرباً من نسبه الى حرقوص التميمي ذي الثدية ، لأنه نسبٌ منفورٌ عند جميع المسلمين !

٢١٧

كانت الفارسية اللغة الأم لأحمد بن حنبل

وذلك لأن أمه فارسية من مَرْو ، وعاش في بغداد بين المَرْوِيين الخراسانيين ، فقد روى الذهبي في سيره « ١١ / ٢١٨ » عن حفيده زهير بن صالح ، قال : « وسأل « أحمد » ابن خالته عمن بقي من أهله بخراسان ، في خلال الأكل ، فربما استعجم عليه فيكلمه جدي بالفارسية ، ويضع اللحم بين يديه وبين يدي » .

ومما يشير الى محيطه الفارسي قول تلميذه المروذي في : الرد على الجهمية / ٤٧ : « كان أبوعبد الله لا يلحن في الكلام ، قال : وأخبرت أنه لما نوظر بين يدي الخليفة لم يتعلق عليه بلحن .. وقال لي ابن أبي حسان الوراق : طلب مني أبوعبد الله وهو في السجن كتاب حمزة في العربية ، فدفعته إليه فنظر فيه قبل أن يُمتحن » .

سبب تناقض ابن حنبل في موقفه من أهل البيت عليهم‌السلام

يوجد تناقض في أحاديث ابن حنبل وأقواله في أهل البيت النبوي عليهم‌السلام ! ولا نجد سبباً لذلك إلا الجو السياسي الذي كان يميل اليهم في زمن المأمون والمعتصم والواثق ، ثم صار جواً معادياً لهم في زمن المتوكل !

ففي طبقات الحنابلة « ١ / ٣٢٠ » : « سمعت محمد بن منصور يقول : كنا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل : يا أبا عبد الله ، ما تقول في هذا الحديث الذي يروى أن علياً قال : أنا قسيم النار ؟ فقال : وما تنكرون من ذا ، أليس روينا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعلي : لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ؟ قلنا : بلى . قال : فأين المؤمن ؟ قلنا في الجنة . قال : وأين المنافق ؟ قلنا : في النار . قال : فعلي قسيم النار » .

٢١٨

وفي تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي « ١ / ٢٥٧ » : « وحكى جدي أبوالفرج عن القاضي أبي يعلى بن الفراء في كتابه المعتمد في الأصول ، بإسناده الى صالح بن أحمد بن حنبل قال : قلت لأبي إن قوماً ينسبوننا الى توالي يزيد ؟ فقال يا بني ، وهل يتوالى يزيد أحد يؤمن بالله ؟ فقلت : فلم لاتلعنه ؟ فقال : وهل رأيتني لعنت شيئاً يا بني ، لم لا تلعن من لعنه الله في كتابه ؟ فقلت : وأين لعن الله يزيد في كتابه ؟ فقال في قوله تعالى : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم . فهل يكون فساد أعظم من القتل » . والمسائل والرسائل المروية عن أحمد : ١ / ٤١٠ ، والصواعق المحرقة / ٢٢٢ .

وقال ابن حجر في فتح الباري « ٧ / ٨١ » : « أخرج ابن الجوزي أيضاً من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألت أبي ما تقول في علي ومعاوية ؟ فأطرق ثم قال : إعلم أن علياً كان كثير الأعداء ، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا ، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطروه ، كياداً منهم لعلي ! فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له ! وقد ورد في فضائل معاوية أحاديث كثيرة ، لكن ليس فيها مايصح من طريق الإسناد . وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنسائي وغيرهما » .

وفي مناقب آل أبي طالب « ١ / ٢٢٥ » : « وسأل المعتصم أحمد بن حنبل : كان أبوبكر أفضل الصحابة أم علي ؟ قال : أبو بكر أفضل الصحابة وعلي أفضل أهل البيت ، قال : أترجح ابن العم على العم ؟ قال : إن حمزة والعباس قالا ذلك لرسول الله يوم أمر بسد الأبواب » .

٢١٩

أقول : كان كلام ابن حنبل في تفضيل علي وأهل البيت عليهم‌السلام وفي ذم معاوية ويزيد وبني أمية ، قبل أن يؤسس المتوكل حزب أهل الحديث والأثر ، ويجعله إماماً لهم ، ويتبنى بغض علي عليه‌السلام وحب معاوية وأحاديث التشبيه والرؤية !

أما بعد ذلك ، فصار مذهب ابن حنبل مدح بني أمية ، وبغض عليٍّ لكن قليلاً ، وانتبه أن لا تبغضه كثيراً فتخرج عن السنة !

روى البياضي في الصراط المستقيم « ٣ / ٢٢٤ » : « قال أحمد : لا يكون الرجل سنياً حتى يبغض علياً قليلاً » . وفي علل الشرائع « ٢ / ٤٦٨ » : « سمعت علي بن خشرم يقول كنت في مجلس أحمد بن حنبل فجرى ذكر علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : لايكون الرجل سنياً حتى يبغض علياً قليلاً ! قال علي بن خشرم : فقلت لا يكون الرجل سنياً حتى يحبه كثيراً . وفي غير هذه الحكاية قال علي بن خشرم : فضربوني وطردوني » !

من غلو الحنابلة ومبالغاتهم في إمامهم وأنفسهم

مَلَك ( بحري ) يبشر أحمد :

في تاريخ بغداد « ٥ / ١٨٦ » : « حدثنا سلمة بن شبيب قال : كنا عند أحمد بن حنبل فجاءه رجل فدق الباب ، وكنا قد دخلنا عليه خفياً ، فظننا أنه قد غَمز بنا ، فدق ثانية وثالثة ، فقال أحمد : أدخل . قال : فدخل فسلم وقال : أيكم أحمد ؟ فأشار بعضنا إليه ، قال : جئت إلى البحر من مسيرة أربع مائة فرسخ ، أتاني آتٍ في منامي فقال : إئت أحمد بن حنبل وسل عنه فإنك تُدل عليه ، وقل له : إن الله

٢٢٠