وترجم له الخطيب البغدادي ، فقال « ٢ / ٢٣٠ » : « محمد بن الحسين بن حفص بن عمر ، أبو جعفر الخثعمي الأشناني الكوفي : قدم بغداد وحدث بها عن عباد بن يعقوب الرواجني ، وعباد بن أحمد العزرمي ، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمداني ، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي ، ومحمد بن عبيد المحاربي ، وفضالة بن الفضيل التميمي . روى عنه محمد بن سليمان الباغندي ، والقاضي أبو عبد الله المحاملي ، وأبو عمرو بن السماك ، ومحمد بن عمر الجعابي ، ومحمد بن زيد بن مروان ، وأبو الحسين بن البواب المقرئ ، ومحمد بن المظفر الحافظ ، وغيرهم ...
أبو الحسن محمد بن أحمد بن حماد بن سفيان الحافظ ، قال : سنة خمس عشرة وثلاث مائة ، فيها مات أبو جعفر محمد بن الحسين بن حفص بن عمر الخثعمي مولى الأشناني لسبع خلون من صفر يوم الخميس . وأخبرني بعض أصحابنا أنه سمعه يقول : إنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين ، وكان ثقة حجة » .
٢. وفي تاريخ الطبري « ٩ / ١٨٥ » : « ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي : وفيها « سنة ٢٣٦ » أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه . فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق « سجن مظلم تحت الأرض » فهرب الناس ، وامتنعوا من المصير إليه ، وحُرث ذلك الموضع ، وزُرع ما حواليه » .
٣. وقال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٥٢ » : « وكان آل أبي طالب قبل خلافته « المنتصر » في محنة عظيمة وخوفٍ على دمائهم ، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة ، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد ، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ست وثلاثين ومائتين .
وفيها أمر المعروف بالذيريج بالسَّيْر إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهَدْمِه ومَحْو أرضه وإزالة أثره ، وأن يعاقب من وجد به ، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر ، فكلٌّ خشي العقوبة وأحْجَمَ ، فتناول الذيريج مِسْحاةً وهدم أعالي قبر الحسين ، فحينئذ أقدم الفعلة فيه ، وإنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد ، فلم يروا فيه أثر رِمَّةٍ ولا غيرها ! ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمَّن الناس ، وتقدم بالكف عن آل أبي طالب ، وترك البحث عن أخبارهم ، وأن لا يمنع أحد زيارة الحير لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه ولا قبر غيره من آل أبي طالب ، وأمر برد فدَكَ إلى ولد الحسن والحسين وأطْلَقَ أوقاف آل أبي طالب ، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم ، وفي ذلك يقول البحتري ، من أبيات له :
وإن علياً لأوْلى بكمْ |
|
وأزكى يداً عندكم من عُمَرْ |
وكلٌّ له فَضْلُه والحُجُو |
|
لُ يومَ التَّراهُنِ دونَ الغَرَرْ |
وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي وكان من شيعة آل أبي طالب ، وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت ، وأغريت بهم العامة :
ولقد بَرَرْتَ الطالبيةَ بعد ما |
|
ذُمُّوا زماناً بعدها وزمانا |
ورَدَدْتَ ألفةَ هاشم فرأيتَهُمْ |
|
بعد العداوة بينهم إخوانا |
آنستَ ليلَهُمُ وجُدْتَ عليهمُ |
|
حتى نسُوا الأحقادَ والأضغانا |
لو يعلمُ الأسلاف كيف بَرَرْتهم |
|
لرأوك أثقلَ من بها ميزانا » |
٤. وفي النجوم الزاهرة « ٢ / ٢٨٣ » : « أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل ذلك كله مزارع . فتألم المسلمون لذلك ، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء دعبل وغيره » .
٥. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي / ٣٧٤ : « فتألم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك :
بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ |
|
قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا |
فلقد أتاهُ بنو أبيه بمثله |
|
هذا لعمري قبرُه مهدوما |
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا |
|
في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما » . |
٦. وقال ابن الأثير في تاريخه « ٦ / ١٠٨ » : « في هذه السنة « ٢٣٦ » أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهَدْم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق ، فهرب الناس وتركوا زيارته ، وخُرب وزُرع » !
٧. وقال في مآثر الإنافة « ١ / ٢٣٠ » : « بلغ من بغضه لعلي وأهل بيته أنه في سنة ٢٣٦ أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل ، ومنع الناس من زيارته » !
٨.
وفي أمالي الطوسي /
٣٢٥
: « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج
الرخجي قال : حدثني أبي ، عن عمه عمر بن فرج ، قال : أنفذني المتوكل في تخريب قبر
الحسين فصرت إلى الناحية ، فأمرت بالبقر فَمُرَّ بها على القبور ، فمرَّت عليها كلها ، فلما بلغت قبر الحسين عليهالسلام لم تمرَّ عليه ! قال عمي عمر بن فرج : فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي ! فو الله ما جازت على قبره ولا تخطته ! قال لنا محمد بن جعفر : كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد صلىاللهعليهوآله فأنا أبرأ إلى الله منه . وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه ، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته » . أي بولادتي منه .
٩. وفي أمالي الطوسي / ٣٢٦ : « حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي ، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مسلمة بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : حدثني إبراهيم الديزج قال : بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين عليهالسلام وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي : أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين ، فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف فعل أولم يفعل . قال الديزج : فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب به إليه ، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار ثم أتيته ، فقال لي : ما صنعت ؟ فقلت : قد فعلت ما أمرتَ به ، فلم أر شيئاً ، ولم أجد شيئاً ! فقال لي : أفلا عمقته ؟ قلت : قد فعلت وما رأيت ، فكتب إلى السلطان : إن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً ، وأمرته فمخره بالماء ، وكَرَبَهُ بالبقر .
قال
أبوعلي العماري : فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر فقال لي : أتيت في خاصة غلماني فقط ، وإني نبشت فوجدت باريةً جديدة وعليها بدنُ الحسين بن علي
ووجدت منه رائحة المسك ، فتركت البارية على حالتها وبدن الحسين على البارية ، وأمرتُ بطرح التراب عليه ، وأطلقت عليه الماء ، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر ، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه ! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة : لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه » .
١٠.
في أمالي الطوسي / ٣٢٧ :
« قال : حدثني أبو برزة الفضل بن محمد بن عبد الحميد ، قال : دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره ، أعوده في مرضه الذي مات فيه ، فوجدته بحال سوء ، وإذا هو كالمدهوش وعنده الطبيب ، فسألته عن حاله وكانت بيني وبينه خلطة وأنس يوجب الثقة بي والإنبساط إليَّ ، فكاتمني حاله وأشار لي إلى الطبيب ، فشعر الطبيب بإشارته ولم يعرف من حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله ، فقام فخرج وخلا الموضع ، فسألته عن حاله فقال : أخبرك والله وأستغفر الله : إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين ، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر ، فوافيت الناحية مساء معنا الفعلة والروزكاريون « العمال الميامون »
معهم المساحي والمرور ، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه ، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت ، فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية وجعل الغلمان ينبهونني ، فقمت وأنا ذَعِرٌ فقلت للغلمان : ما شأنكم ؟ قالوا : أعجب شأن ! قلت : وما ذاك ؟ قالوا : إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب ، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا ! وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض فقلت : إرموهم ، فرموا
فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهمٌ منها إلا في صاحبه الذي رمى به فقتله ! فاستوحشت لذلك وجزعتُ وأخذتني الحُمَّى والقَشعريرة !
ورحلت عن القبر لوقتي ، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لماَّ لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم إلي به !
قال أبو برزة : فقلت له : قد كفيتَ ما تحذر من المتوكل ، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر فقال لي : قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي مالا أرجو معه البقاء ! قال أبو برزة : كان هذا في أول النهار ، فما أمسى حتى مات !
قال ابن خشيش : قال أبوالفضل : إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة عليهاالسلام فسأل رجلاً من الناس عن ذلك فقال له : قد وجب عليه القتل إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر . قال : ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر ، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر » !
١١.
وفي أمالي الطوسي /
٣٢٦
: « حدثني أبوعبد الله الباقطاني ، قال :
ضمني عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري ، وكان قائداً من قواد السلطان ، أكتب له ، وكان بدنه كله أبيض شديد البياض حتى يديه ورجليه كانا كذلك ، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنه القير ، وكان يتفقأ مع ذلك مادة منتنة ، قال : فلما آنس بي سألته عن سواد وجهه ، فأبى أن يخبرني ، ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه ، فقعدت فسألته ، فرأيته كأنه يحب أن يكتم عليه ، فضمنت له الكتمان فحدثني قال : وجهني المتوكل أنا والديزج لنبش قبر الحسين وإجراء الماء عليه ،
فلما عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله في المنام ، فقال : لا تخرج مع الديزج ولا تفعل ما أمرتم به في قبر الحسين .
فلما أصبحنا جاؤوا يستحثونني في المسير ، فسرت معهم حتى وافينا كربلاء ، وفعلنا ما أمرنا به المتوكل ، فرأيت النبي صلىاللهعليهوآله في المنام فقال : ألم آمرك ألا تخرج معهم ولا تفعل فعلهم ، فلم تقبل حتى فعلت ما فعلوا ! ثم لطمني وتفل في وجهي ، فصار وجهي مسوداً كما ترى ، وجسمي على حالته الأولى » !
ملاحظات على نصوص هدم القبر الشريف
١. استمرت محاولة المتوكل هدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة ٢٣٦ الى شعبان ٢٣٧ ، حتى استطاع أن يمنع الزوار من زيارته ويهدمه .
لكن الشيعة واصلوا تحدي السلطة والذهاب الى الزيارة أكثر من عشر سنين حتى هلك المتوكل ، وواصل هو منع الزوار ومطاردتهم ، وحرث مكان القبر !
٢. كان أكبر تجمع لزيارة الناس لقبر
الحسين عليهالسلام
في شهر شعبان . ففي
أمالي الطوسي / ٣٢٨ :
« بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليهالسلام
فيصير إلى قبره منهم خلق كثير ، فأنفذ قائداً من قواده ، وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً ، ليشعب قبر الحسين عليهالسلام ويمنع الناس من زيارته والإجتماع إلى قبره عليهالسلام
، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر ، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين ، فثار أهل السواد به ،
واجتمعوا عليه وقالوا : لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته ، ورأوا من الدلائل ما
حملهم على ما صنعوا ، فكتب بالأمر إلى الحضرة ، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة ، مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها ، والإنكفاء إلى المصر ! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين ، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليهالسلام ، وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير ، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين ، ونَبَشَ القبر وحرث أرضه ، وانقطع الناس عن الزيارة . وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم ، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر » .
وفي أمالي الطوسي / ٣٢٩ : « حدثني عبد الله بن دانية الطوري ، قال : حججت سنة سبع وأربعين ومائتين ، فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام على حال خيفة من السلطان ، وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين عليهالسلام فإذا هوقد حرثت أرضه ومُخِر فيها الماء ، وأُرسلت الثيران العوامل في الأرض ، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً ، فتُضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها ، ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب ! فما أمكنني الزيارة ، فتوجهت إلى بغداد ، وأنا أقول في ذلك :
تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ |
|
قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما |
فلقد أتاكَ بنوأبيه بمثلها |
|
هذا لعمرُك قبره مهدوما |
أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا |
|
في قتله فتتبعوه رميما |
فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة فقلت : ما الخبر ؟ قالوا : سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل ، فعجبت لذلك وقلت : إلهي ليلة بليلة » .
أقول : يدل استشهاد الشاعر بشعر ابن بسام على أنه كان منتشراً بين المسلمين . ويدل ما تقدم على أن المتوكل بدأ حملته على كربلاء سنة ٢٣٦ ، وهدمَ القبر الشريف ومنع زيارته لكن المسلمين من أهل الكوفة وغيرهم كسروا المنع ، ورأوا المعجزات ، فأصروا على زيارة قبر الحسين عليهالسلام وتحضروا للمواجهة في السنة الثانية ، ووجه اليهم المتوكل جيشاً كثيفاً ، لكن لما رأى إصرارهم على قتاله ، أمر قائده أن يرجع ويدعي أنه جاء في مهمة تتعلق بولاية الكوفة ! واستمر الأمر على هذا نحو عشر سنين ، وكان المنع من الزيارة سارياً ، لكنه غير محترم . وبلغ المتوكل في آخر عمره توافد الناس الى كربلاء : « وأنه قد كثر جمعهم وصار لهم سوق كبير ، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين » ! واستطاعت قواته أن تهدم القبر الشريف ، لكن الله تعالى هدم عمره وسقط طائر الحمام الزاجل في بغداد بقتله ، كما قالت الرواية .
ومعنى هذا أن محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف استمرت إحدى عشرة سنة فقد بدأت سنة ٢٣٦ ، واستمرت حتى هلك في الرابع من شوال سنة ٢٤٧ .
٣. واجه الإمام الهادي عليهالسلام خطة المتوكل . وعند صدور المنع أمر الشيعة في بغداد أن يتجنبوا المواجهة ، ثم وجههم الى الزيارة وتحدي منع السلطة .
ففي
الكافي « ١ / ٥٢٥ » :
« خرج نهيٌ عن زيارة مقابر قريش « الكاظمين »
والحاير « كربلا »
فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له : إلق بني الفرات والبرسيين وقل لهم : لايزوروا مقابر قريش ، فقد أمر الخليفة أن يُتفقد كل من زار فيقبض
عليه » ثم أمر الإمام عليهالسلام الشيعة بزيارة قبر الحسين عليهالسلام وجعلها أولوية قبل غيره . قال المفيد في المقنعة / ٤٨٢ : « روى إبراهيم بن عقبة قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث : « الإمام الهادي عليهالسلام » أسأله عن زيارة أبي عبد الله الحسين عليهالسلام ، وزيارة أبي الحسن موسى وأبي جعفر محمد بن علي عليهالسلام ببغداد ؟ فكتب إليَّ : أبوعبد الله عليهالسلام المقدم ، وهذان أجمع وأعظم ثواباً » . وكامل الزيارة / ٥٠٠ .
ثم قام الإمام الهادي عليهالسلام بعمل ملفت في الحث على زيارة قبر جده الحسين عليهالسلام فقد كان مريضاً فأمر أن يرسلوا له شخصاً يزور الحسين عليهالسلام ويدعو له .
ففي الكافي « ٤ / ٥٦٨ » : « عن أبي هاشم الجعفري قال : بعث إليَّ أبو الحسن عليهالسلام في مرضه وإلى محمد بن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد ما زال يقول : إبعثوا إلى الحير ، إبعثوا إلى الحير ، فقلت لمحمد : ألا قلت له : أنا أذهب إلى الحير ، ثم دخلت عليه وقلت له : جعلت فداك : أنا أذهب إلى الحير ؟ فقال : انظروا في ذاك ، ثم قال لي : إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي ، وأنا أكره أن يسمع ذلك ، قال : فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال : ما كان يصنع بالحير وهو الحير فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي : أجلس حين أردت القيام ، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي : ألا قلت له : إن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت ، وأمره الله عز وجل أن يقف بعرفة ، وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها . فأنا أحب أن يدعي الله لي حيث يحب الله أن يدعى فيها » .
وروى في الحبل المتين / ٢٢٨ ، ومصباح المتهجد / ٧٨٨ ، عن الإمام الهادي عليهالسلام قال : « علامات المؤمن خمس : صلاة الإحدى والخمسين ، وزيارة الأربعين ، والتختم في اليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » .
ورُوِيَ ذلك عن الإمام الحسن العسكري عليهالسلام ، وهو يدل على أن الإمام الهادي وابنه الحسن العسكري عليهماالسلام قاوما معاً هجمة المتوكل لهدم قبر الحسين عليهالسلام .
٤. نسب بعضهم الأبيات : تالله إن كانت أمية قد أتت .. الخ . الى ابن السكيت ، والصحيح أنها لابن بسام ، أو البسامي .
قال السمعاني في الأنساب « ١ / ٣٤٦ » : « البسامي : بفتح الباء الموحدة والسين المهملة المشددة بعدهما الألف وفي آخرها الميم ، هذه النسبة إلى بسام ، وهو إسم لجد أبي الحسن علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام الشاعر البسامي ، من أهل بغداد ، سائر الشعر ، مشهورٌ عند أهل الأدب ، روى عنه محمد بن يحيى الصولي ، وأبوسهل أحمد بن محمد بن زياد القطان ، وغيرهما .. مات البسامي في صفر سنة اثنتين وثلاث مائة » . فقد كان في مطلع شبابه عندما هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين عليهالسلام .
وفي وفيات الأعيان « ٣ / ٣٦٣ » : « كانت أمه أمامة ابنة حمدون النديم .. وكان من أعيان الشعراء ، ومحاسن الظرفاء ، لَسِنَاً مطبوعاً في الهجاء ، لم يسلم منه أمير ولا وزير ، ولا صغير ولا كبير ... ولما هَدم المتوكل على الله قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في سنة ست وثلاثين ومائتين ، عمل البسامي :
تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ |
|
قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما |
فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله |
|
هذا لعمرك قبرُه مهدوما |
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا |
|
في قتله فتتبعوه رميما ! |
وكان المتوكل كثير التحامل على علي وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلق به ، وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره ، ومنع الناس من إتيانه . هكذا قال أرباب التواريخ .
ولابن بسام المذكور من التصانيف : أخبار عمر بن أبي ربيعة ، ولم يستقص أحد في بابه أبلغ منه ، وكتاب أخبار الأحوص ، وكتاب مناقضات الشعراء » .
٥. ذكر المؤرخون أن دعبلاً الخزاعي هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين عليهالسلام ، ولم أجد شعره في ذلك ، إلا بيتاً واحداً يتهم فيه المتوكل بالتخنث ، كما في ديوانه / ٤٨ :
ولستُ بقائل قَذَعاً ولكنْ |
|
لأمْرٍ مَّا تَعَبَّدَكَ العبيدُ |
وأبياتاً في الحث على زيارة قبر الحسين عليهالسلام وذم الناهين ، في ديوانه / ١١٤ :
زُرْ خيرَ قبرٍ بالعراق يُزَارُ |
|
وَاعْصِ الِحمَارَ فمَنْ نَهَاكَ حِمَارُ |
لم لا أزوركَ يا حسينُ لك الفدا |
|
قومي ومن عطفت عليه نزار |
ولك المودةُ في قلوب ذوي النهى |
|
وعلى عدوك مَقْتَةٌ ودَمارُ |
يا ابنَ الشهيدِ ويا شهيداً عَمُّهُ |
|
خيرُ العمومة جعفرُ الطيَّار |
عجباً لمصقولٍ أصابكَ حَدُّهُ |
|
في الوجه منك وقد عَلاك غُبَارُ |
هدم قبر الحسين عليهالسلام قبل المتوكل
في
كامل الزيارات لابن قولويه /
٢٢١
: « عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي
، قال : خرجت في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين عليهالسلام
مستخفياً من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلا ، فاختفيت في ناحية القرية حتى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر ، فلما دنوت منه أقبل نحوي رجل فقال لي : إنصرف مأجوراً فإنك لا تصل إليه ، فرجعت فزعاً حتى إذا كان يطلع الفجر أقبلت
نحوه ، حتى إذا دنوت منه خرج إليَّ الرجل فقال لي : يا هذا إنك لا تصل إليه ! فقلت له : عافاك الله ولم لا أصل إليه وقد أقبلت من الكوفة أريد زيارته ، فلا تَحُلْ بيني وبينه ، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا ، قال فقال لي : إصبر قليلاً فإن موسى بن عمران عليهالسلام سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن علي عليهماالسلام فأذن له ، فهبط من السماء في سبعين ألف ملك ، فهمَّ بحضرته من أول الليل ينتظرون طلوع الفجر ، ثم يعرجون إلى السماء .
قال فقلت له : فمن أنت عافاك الله ، قال : أنا من الملائكة الذين أمروا بحرس قبر الحسين عليهالسلام والإستغفار لزواره ! فانصرفت وقد كاد أن يطير عقلي لما سمعت منه . قال : فأقبلت حتى إذا طلع الفجر أقبلت نحوه فلم يحل بيني وبينه أحد ، فدنوت من القبر وسلمت عليه ودعوت الله على قَتَلتِهِ ، وصليت الصبح ، وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام » .
أقول : هذا الحديث وغيره يدل على أن الأمويين كانوا يمنعون الشيعة من التجمع عند قبر الحسين عليهالسلام ومن زيارته ، وكان المنع متفاوتاً حسب تشدد والي الكوفة وتساهله ، وحسب قوة الخليفة الأموي أو ضعفه .
لكن الأمويين لم يهدموا قبر الحسين عليهالسلام ، وأول من ارتكب جريمة هدمه : المنصور الدوانيقي ، وذلك بعد ثورة الحسنيين عليه وانتصاره عليهم سنة ١٤٥ ، فقد أمر والي الكوفة عيسى بن موسى أن يهدمه !
روى
الطوسي في أماليه /
٣٢١
: « حدثنا يحيى بن عبد الحميد الِحَّماني
أملاه عليَّ في منزله ، قال : خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة ، من منزلي
فلقيني أبو بكر بن عياش ، فقال لي : إمض بنا يا يحيى إلى هذا فلم أدر من يعني ، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعة ، وكان راكباً حماراً له ، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه ، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم ، التفت إليَّ فقال لي : يا بن الحِمَّاني ، إنما جررتك معي وجَشَّمتك معي أن تمشي خلفي ، لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية ! قال : فقلت : من هو يا أبا بكر ؟ قال هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى !
فسكت عنه ، ومضى وأنا أتبعه حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى ، وبصر به الحاجب وتبينه ، وكان الناس ينزلون عند الرحبة ، فلم ينزل أبوبكر هناك ، وكان عليه يومئذ قميص وإزار ، وهو محلول الإزار . قال : فدخل على حمار وناداني : تعالى يا ابن الحماني ، فمنعني الحاجب فزجره أبوبكر وقال له : أتمنعه يا فاعل وهو معي ؟ فتركني فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان ، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره ، وبجنبي السرير رجال متسلحون ، وكذلك كانوا يصنعون ، فلما أن رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره ، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه .
فلما استقر أبوبكر على السرير التفت
فرآني حيث أنا واقف فناداني : تعال ويحك فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليَّ قميص وإزار فأجلسني بين يديه ، فالتفت إليه موسى فقال : هذا رجل تُكَلِّمُنَا فيه ؟ قال : لا ، ولكني جئت به شاهداً عليك .
قال : في ماذا ؟ قال : إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر . قال : أيُّ قبر ؟ قال : قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله !
وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر ، وحرثها وزرع الزرع فيها ، فانتفخ موسى حتى كاد أن يَنْقَدَّ ، ثم قال : وما أنت وذا ؟
قال : إسمع حتى أخبرك ، إعلم أني رأيت
في منامي كأني خرجت إلى قومي بني غاضرة ، فلما صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني ، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني ، فمضيت لوجهي فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق ، فرأيت هناك عجوزاً فقالت لي : أين تريد أيها الشيخ ؟ قلت : أريد الغاضرية . قالت لي : تَبَطَّنْ هذا الوادي فإنك إذا أتيت آخره اتضح لك الطريق . فمضيت ففعلت ذلك فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك ، فقلت : من أين أنت أيها الشيخ ؟ فقال لي : أنا من أهل هذه القرية . فقلت : كم تعدُّ من السنين ؟ فقال : ما أحفظ ما مضى من سني وعمري ، ولكن أبعدُ ذكري أني رأيت الحسين بن علي عليهالسلام
ومن كان معه من أهله ومن تبعه ، يمنعون الماء الذي تراه ، ولا يمنع الكلاب ولا الوحوش شربه ! فاستفظعت ذلك وقلت له : ويحك أنت رأيت هذا ؟ قال : إي والذي سمك السماء ، لقد رأيت هذا أنها الشيخ وعاينته ، وإنك وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين ، إن كان في الدنيا مسلم ! فقلتُ : ويحك وما هو ؟ قال : حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه . قلت : ما أجرى إليه؟ قال :
أيكرب قبر ابن النبي صلىاللهعليهوآله وتحرث أرضه ؟ قلت : وأين القبر ؟ قال : ها هوذا أنت واقف في أرضه ، فأما القبر فقد عميَ عن أن يعرف موضعه !
قال أبو بكر بن عياش : وما كنت رأيتُ القبر قبل ذلك الوقت قطُّ ، ولا أتيته في طول عمري ، فقلت : من لي بمعرفته ؟ فمضى معي الشيخ حتى وقف بي على حير له باب وآذن ، له إذا جماعة كثيرة على الباب ، فقلت للآذن : أريد الدخول على ابن رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : لا تقدر على الوصول في هذا الوقت . قلت : ولمَ ؟ قال : هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله ، ومعهما جبرئيل وميكائيل ، في رعيل من الملائكة كثير .
قال أبوبكر بن عياش : فانتبهت وقد دخلني روعٌ شديد وحزنٌ وكآبةٌ ، ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام ، ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدينٍ كان لي على رجل منهم ، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقيني عشرة من اللصوص ، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم ، فقالوا لي : ألق ما معك وانج بنفسك وكانت معي نفيقة ، فقلت : ويحكم أنا أبو بكر بن عياش ، وإنما خرجت في طلب دينٍ لي ، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتضرُّوا بي في نفقتي فإني شديد الإضاقة ، فنادى رجل منهم : مولاي ورب الكعبة لا يعرض له . ثم قال لبعض فتيانهم : كن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن .
قال أبوبكر : فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام ، وأتعجب من تأويل الخنازير حتى صرت إلى نينوى ، فرأيت والله الذي لا إله إلا هو الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته ، رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء ، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا فقلت : لا إله إلا الله ما كان هذا إلا وحياً ، ثم سألته كمسألتي إياه في المنام ، فأجابني ثم قال لي : إمض بنا فمضيت فوقفت معه على الموضع وهو مكروب ، فلم يفتني شئ في منامي إلا الآذن والحير ، فإني لم أر حِيراً ولم أر آذناً ؟ فاتق الله أيها الرجل ، فإني قد آليت على نفسي ألا أدعَ إذاعة هذا الحديث ، ولا زيارةَ ذلك الموضع وقصدَه وإعظامَه ، فإن موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرئيل وميكائيل عليهمالسلام لحقيقٌ بأن يرغب في إتيانه وزيارته ، فإن أبا حصين حدثني أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : من رآني في المنام فإياي رأى ، فإن الشيطان لا يتشبه بي .
فقال له موسى : إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك ، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنك تتحدث بهذا لأضربن عنقك ، وعنق هذا الذي جئت به شاهداً علي ! فقال أبوبكر : إذن يمنعني الله وإياه منك ، فإني إنما أردت الله بما كلمتك به !
فقال له : أتراجعني يا عامر وشتمه ! فقال له : أسكت أخزاك الله وقطع لسانك !
فأرعد موسى على سريره ثم قال : خذوه !
فأخذ الشيخ عن السرير ، وأخذت أنا ، فوالله لقد مر بنا من السحب والجرِّ والضرب ، ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبداً ، وكان أشد ما مرَّ بي من ذلك أن رأسي كان يُجَرُّ على الصخر ، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي ، وموسى يقول : أقتلوهما بني كذا وكذا بالزاني لا يكني !
وأبو بكر يقول له : أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك ، اللهم إياك أردنا ، ولولد وليك غضبنا ، وعليك توكلنا .
فصيَّر بنا جميعاً إلى الحبس ، فما لبثنا في الحبس إلا قليلاً ، فالتفت إليَّ أبوبكر ورأي ثيابي قد خرقت وسالت دمائي ، فقال : يا حِمَّاني قد قضينا لله حقاً ، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً ، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله صلىاللهعليهوآله .
فما لبثنا إلا مقدار غدائةٍ ونومة ، حتى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه ، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد ، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبراً ، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً ، وكان أبوبكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً ، ثم يقول : اللهم إن هذا فيك فلا تَنْسَهْ ، فلما دخلنا على موسى ، وإذا هو على سرير له فحين بصر بنا قال : لا حيا الله ولا قرب ، من جاهل أحمق يتعرض لما يكره ، ويلك يا دعي ، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم !
فقال له أبوبكر : قد سمعت كلامك ، والله حسبك ! فقال له : أخرج قبحك الله ، والله لئن بلغني أن هذا الحديث شاع ، أو ذكر عنك لأضربن عنقك !
ثم التفت إليَّ وقال : يا كلب وشتمني وقال : إياك ثم إياك أن تظهر هذا ، فإنه إنما خُيِّلَ لهذا الشيخ الأحمق شيطانٌ يلعب به في منامه ، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه ، فخرجنا وقد يئسنا من الحياة !
فلما وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره ، فلما أراد أن يدخل منزله التفت إليَّ وقال : إحفظ هذا الحديث وأثبته عندك ، ولا تحدثن هؤلاء الرعاع ، ولكن حدث به أهل العقول والدين » .
ملاحظات
١. أبوبكر بن عياش ، من كبار أئمة السنة وقرائهم وعُبَّادهم : « روى له البخاري في صحيحه ومسلم في مقدمة كتابه وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة . وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة » . « الكواكب النيرات / ١٠٢ » .
قال الذهبي في سيره : « ٨ / ٤٩٥ » : « أبوبكر بن عياش بن سالم الأسدي ، مولاهم الكوفي الحناط بالنون ، المقرئ ، الفقيه ، المحدث ، شيخ الإسلام ، وبقيه الأعلام مولى واصل الأحدب ... لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة » .
وقد روى عنه كبار أئمة المذاهب ، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب « ١٢ / ٣١ » : « وعنه الثوري ، وابن المبارك ، وأبوداود الطيالسي ، وأسود بن عامر شاذان ، ويحيى بن آدم ، ويعقوب القمي ، وابن مهدي ، وابن يونس ، وأبونعيم ، وابن المديني ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابنا أبي شيبة ، وإسماعيل بن أبان الوراق ، ويحيى بن يحيى النيسابوري ، وخالد بن يزيد الكاهلي ... وآخرون » .
ويظهر من غضبه لهدم قبر الحسين عليهالسلام ومبادرته الى النهي عن المنكر ، أنه صاحب دين ، لكن طريقته في الإستنكار ساذجة ، ثم نراه تراجع وسكت ! وقد كانت له مكانة واحترام في الناس ، فلو أنه وقف في المسجد ودعا المسلمين الى الإعتراض لأجابه الكثيرون ، لكنه اعترض بطريقة بدائية ، فزجره الوالي العباس بأسلوب فرعون ، وقال له : قصتك ومنامك خيال وحماقة ، وأنت فارسي مولى بني أسد ، ونحن والحسين هاشميون ، فلا تدخل بيننا !
وقصته تدل على أن مؤسس جريمة هدم قبر الحسين عليهالسلام المنصور الدوانيقي ! وأن المسلمين حتى غير الشيعة نقموا عليه واعترضوا .
٢. أعاد المسلمون مشهد الحسين عليهالسلام بعد الدوانيقي ، وعادوا الى زيارته حتى جاء حفيده هارون ، الذي سموه الرشيد ، فهدمه مرة ثانية !
روى الطوسي في أماليه / ٣٢١ : « حدثني يحيى بن المغيرة الرازي ، قال : كنت عند جرير بن عبد الحميد ، إذ جاءه رجل من أهل العراق ، فسأله جرير عن خبر الناس ، فقال : تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين عليهالسلام وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت ! قال : فرفع جرير يديه ، فقال : الله أكبر ، جاءنا فيه حديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنه قال : لعن الله قاطع السدرة ، ثلاثاً ، فلم نقف على معناه حتى الآن ، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لايقف الناس على قبره » .
أقول : معنى : تغيير مصرعه ، تغيير قبره ومكان قتله عليهالسلام . وقد قطعت قبل تلك السدرة سدرتان : سدرة البقيع وكانت تستظل بها الزهراء عليهاالسلام ، وسدرة الحديبية التي بايع النبي صلىاللهعليهوآله تحتها المسلمين . وقاطعهما واحد ، ولا مجال للتفصيل .