الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

وترجم له الخطيب البغدادي ، فقال « ٢ / ٢٣٠ » : « محمد بن الحسين بن حفص بن عمر ، أبو جعفر الخثعمي الأشناني الكوفي : قدم بغداد وحدث بها عن عباد بن يعقوب الرواجني ، وعباد بن أحمد العزرمي ، وأبي كريب محمد بن العلاء الهمداني ، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي ، ومحمد بن عبيد المحاربي ، وفضالة بن الفضيل التميمي . روى عنه محمد بن سليمان الباغندي ، والقاضي أبو عبد الله المحاملي ، وأبو عمرو بن السماك ، ومحمد بن عمر الجعابي ، ومحمد بن زيد بن مروان ، وأبو الحسين بن البواب المقرئ ، ومحمد بن المظفر الحافظ ، وغيرهم ...

أبو الحسن محمد بن أحمد بن حماد بن سفيان الحافظ ، قال : سنة خمس عشرة وثلاث مائة ، فيها مات أبو جعفر محمد بن الحسين بن حفص بن عمر الخثعمي مولى الأشناني لسبع خلون من صفر يوم الخميس . وأخبرني بعض أصحابنا أنه سمعه يقول : إنه ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين ، وكان ثقة حجة » .

٢. وفي تاريخ الطبري « ٩ / ١٨٥ » : « ذكر خبر هدم قبر الحسين بن علي : وفيها « سنة ٢٣٦ » أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي ، وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه . فذُكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق « سجن مظلم تحت الأرض » فهرب الناس ، وامتنعوا من المصير إليه ، وحُرث ذلك الموضع ، وزُرع ما حواليه » .

١٢١

٣. وقال المسعودي في مروج الذهب « ٤ / ٥٢ » : « وكان آل أبي طالب قبل خلافته « المنتصر » في محنة عظيمة وخوفٍ على دمائهم ، قد مُنعوا زيارة قبر الحسين والغري من أرض الكوفة ، وكذلك منع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد ، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ست وثلاثين ومائتين .

وفيها أمر المعروف بالذيريج بالسَّيْر إلى قبر الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وهَدْمِه ومَحْو أرضه وإزالة أثره ، وأن يعاقب من وجد به ، فبذل الرغائب لمن تقدم على هذا القبر ، فكلٌّ خشي العقوبة وأحْجَمَ ، فتناول الذيريج مِسْحاةً وهدم أعالي قبر الحسين ، فحينئذ أقدم الفعلة فيه ، وإنهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللحد ، فلم يروا فيه أثر رِمَّةٍ ولا غيرها ! ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلف المنتصر فأمَّن الناس ، وتقدم بالكف عن آل أبي طالب ، وترك البحث عن أخبارهم ، وأن لا يمنع أحد زيارة الحير لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه ولا قبر غيره من آل أبي طالب ، وأمر برد فدَكَ إلى ولد الحسن والحسين وأطْلَقَ أوقاف آل أبي طالب ، وترك التعرض لشيعتهم ودفع الأذى عنهم ، وفي ذلك يقول البحتري ، من أبيات له :

وإن علياً لأوْلى بكمْ

وأزكى يداً عندكم من عُمَرْ

وكلٌّ له فَضْلُه والحُجُو

لُ يومَ التَّراهُنِ دونَ الغَرَرْ

وفي ذلك يقول يزيد بن محمد المهلبي وكان من شيعة آل أبي طالب ، وما كان امتحن به الشيعة في ذلك الوقت ، وأغريت بهم العامة :

ولقد بَرَرْتَ الطالبيةَ بعد ما

ذُمُّوا زماناً بعدها وزمانا

ورَدَدْتَ ألفةَ هاشم فرأيتَهُمْ

بعد العداوة بينهم إخوانا

١٢٢

آنستَ ليلَهُمُ وجُدْتَ عليهمُ

حتى نسُوا الأحقادَ والأضغانا

لو يعلمُ الأسلاف كيف بَرَرْتهم

لرأوك أثقلَ من بها ميزانا »

٤. وفي النجوم الزاهرة « ٢ / ٢٨٣ » : « أمر بهدم قبر الحسين رضي الله عنه وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل ذلك كله مزارع . فتألم المسلمون لذلك ، وكتب أهل بغداد شتم المتوكل على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء دعبل وغيره » .

٥. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي / ٣٧٤ : « فتألم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد ، وهجاه الشعراء ، فمما قيل في ذلك :

بالله إن كانت أميةُ قد أتَتْ

قتلَ ابن بنت نبيِّهَا مظلومَا

فلقد أتاهُ بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتلهِ فَتَتَّبعُوهُ رميما » .

٦. وقال ابن الأثير في تاريخه « ٦ / ١٠٨ » : « في هذه السنة « ٢٣٦ » أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهَدْم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى بالناس في تلك الناحية من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق ، فهرب الناس وتركوا زيارته ، وخُرب وزُرع » !

٧. وقال في مآثر الإنافة « ١ / ٢٣٠ » : « بلغ من بغضه لعلي وأهل بيته أنه في سنة ٢٣٦ أمر بهدم قبر الحسين بن علي وما حوله من المنازل ، ومنع الناس من زيارته » !

٨. وفي أمالي الطوسي / ٣٢٥ : « حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن فرج الرخجي قال : حدثني أبي ، عن عمه عمر بن فرج ، قال : أنفذني المتوكل في تخريب قبر

١٢٣

الحسين فصرت إلى الناحية ، فأمرت بالبقر فَمُرَّ بها على القبور ، فمرَّت عليها كلها ، فلما بلغت قبر الحسين عليه‌السلام لم تمرَّ عليه ! قال عمي عمر بن فرج : فأخذت العصا بيدي فما زلت أضربها حتى تكسرت العصا في يدي ! فو الله ما جازت على قبره ولا تخطته ! قال لنا محمد بن جعفر : كان عمر بن فرج شديد الإنحراف عن آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنا أبرأ إلى الله منه . وكان جدي أخوه محمد بن فرج شديد المودة لهم رحمه الله ورضي عنه ، فأنا أتولاه لذلك وأفرح بولادته » . أي بولادتي منه .

٩. وفي أمالي الطوسي / ٣٢٦ : « حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي ، عن أبي علي الحسين بن محمد بن مسلمة بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر ، قال : حدثني إبراهيم الديزج قال : بعثني المتوكل إلى كربلاء لتغيير قبر الحسين عليه‌السلام وكتب معي إلى جعفر بن محمد بن عمار القاضي : أعلمك أني قد بعثت إبراهيم الديزج إلى كربلاء لنبش قبر الحسين ، فإذا قرأت كتابي فقف على الأمر حتى تعرف فعل أولم يفعل . قال الديزج : فعرفني جعفر بن محمد بن عمار ما كتب به إليه ، ففعلت ما أمرني به جعفر بن محمد بن عمار ثم أتيته ، فقال لي : ما صنعت ؟ فقلت : قد فعلت ما أمرتَ به ، فلم أر شيئاً ، ولم أجد شيئاً ! فقال لي : أفلا عمقته ؟ قلت : قد فعلت وما رأيت ، فكتب إلى السلطان : إن إبراهيم الديزج قد نبش فلم يجد شيئاً ، وأمرته فمخره بالماء ، وكَرَبَهُ بالبقر .

قال أبوعلي العماري : فحدثني إبراهيم الديزج وسألته عن صورة الأمر فقال لي : أتيت في خاصة غلماني فقط ، وإني نبشت فوجدت باريةً جديدة وعليها بدنُ الحسين بن علي

١٢٤

ووجدت منه رائحة المسك ، فتركت البارية على حالتها وبدن الحسين على البارية ، وأمرتُ بطرح التراب عليه ، وأطلقت عليه الماء ، وأمرت بالبقر لتمخره وتحرثه فلم تطأه البقر ، وكانت إذا جاءت إلى الموضع رجعت عنه ! فحلفت لغلماني بالله وبالأيمان المغلظة : لئن ذكر أحد هذا لأقتلنه » .

١٠. في أمالي الطوسي / ٣٢٧ : « قال : حدثني أبو برزة الفضل بن محمد بن عبد الحميد ، قال : دخلت على إبراهيم الديزج وكنت جاره ، أعوده في مرضه الذي مات فيه ، فوجدته بحال سوء ، وإذا هو كالمدهوش وعنده الطبيب ، فسألته عن حاله وكانت بيني وبينه خلطة وأنس يوجب الثقة بي والإنبساط إليَّ ، فكاتمني حاله وأشار لي إلى الطبيب ، فشعر الطبيب بإشارته ولم يعرف من حاله ما يصف له من الدواء ما يستعمله ، فقام فخرج وخلا الموضع ، فسألته عن حاله فقال : أخبرك والله وأستغفر الله : إن المتوكل أمرني بالخروج إلى نينوى إلى قبر الحسين ، فأمرنا أن نكربه ونطمس أثر القبر ، فوافيت الناحية مساء معنا الفعلة والروزكاريون « العمال الميامون » معهم المساحي والمرور ، فتقدمت إلى غلماني وأصحابي أن يأخذوا الفعلة بخراب القبر وحرث أرضه ، فطرحت نفسي لما نالني من تعب السفر ونمت ، فذهب بي النوم فإذا ضوضاء شديدة وأصوات عالية وجعل الغلمان ينبهونني ، فقمت وأنا ذَعِرٌ فقلت للغلمان : ما شأنكم ؟ قالوا : أعجب شأن ! قلت : وما ذاك ؟ قالوا : إن بموضع القبر قوماً قد حالوا بيننا وبين القبر وهم يرموننا مع ذلك بالنشاب ، فقمت معهم لأتبين الأمر فوجدته كما وصفوا ! وكان ذلك في أول الليل من ليالي البيض فقلت : إرموهم ، فرموا

١٢٥

فعادت سهامنا إلينا فما سقط سهمٌ منها إلا في صاحبه الذي رمى به فقتله ! فاستوحشت لذلك وجزعتُ وأخذتني الحُمَّى والقَشعريرة !

ورحلت عن القبر لوقتي ، ووطنت نفسي على أن يقتلني المتوكل لماَّ لم أبلغ في القبر جميع ما تقدم إلي به !

قال أبو برزة : فقلت له : قد كفيتَ ما تحذر من المتوكل ، قد قتل بارحة الأولى وأعان عليه في قتله المنتصر فقال لي : قد سمعت بذلك وقد نالني في جسمي مالا أرجو معه البقاء ! قال أبو برزة : كان هذا في أول النهار ، فما أمسى حتى مات !

قال ابن خشيش : قال أبوالفضل : إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة عليها‌السلام فسأل رجلاً من الناس عن ذلك فقال له : قد وجب عليه القتل إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر . قال : ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر ، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر » !

١١. وفي أمالي الطوسي / ٣٢٦ : « حدثني أبوعبد الله الباقطاني ، قال : ضمني عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى هارون المعري ، وكان قائداً من قواد السلطان ، أكتب له ، وكان بدنه كله أبيض شديد البياض حتى يديه ورجليه كانا كذلك ، وكان وجهه أسود شديد السواد كأنه القير ، وكان يتفقأ مع ذلك مادة منتنة ، قال : فلما آنس بي سألته عن سواد وجهه ، فأبى أن يخبرني ، ثم إنه مرض مرضه الذي مات فيه ، فقعدت فسألته ، فرأيته كأنه يحب أن يكتم عليه ، فضمنت له الكتمان فحدثني قال : وجهني المتوكل أنا والديزج لنبش قبر الحسين وإجراء الماء عليه ،

١٢٦

فلما عزمت على الخروج والمسير إلى الناحية رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام ، فقال : لا تخرج مع الديزج ولا تفعل ما أمرتم به في قبر الحسين .

فلما أصبحنا جاؤوا يستحثونني في المسير ، فسرت معهم حتى وافينا كربلاء ، وفعلنا ما أمرنا به المتوكل ، فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام فقال : ألم آمرك ألا تخرج معهم ولا تفعل فعلهم ، فلم تقبل حتى فعلت ما فعلوا ! ثم لطمني وتفل في وجهي ، فصار وجهي مسوداً كما ترى ، وجسمي على حالته الأولى » !

ملاحظات على نصوص هدم القبر الشريف

١. استمرت محاولة المتوكل هدم القبر الشريف نحو سنة من شعبان سنة ٢٣٦ الى شعبان ٢٣٧ ، حتى استطاع أن يمنع الزوار من زيارته ويهدمه .

لكن الشيعة واصلوا تحدي السلطة والذهاب الى الزيارة أكثر من عشر سنين حتى هلك المتوكل ، وواصل هو منع الزوار ومطاردتهم ، وحرث مكان القبر !

٢. كان أكبر تجمع لزيارة الناس لقبر الحسين عليه‌السلام في شهر شعبان . ففي أمالي الطوسي / ٣٢٨ : « بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام فيصير إلى قبره منهم خلق كثير ، فأنفذ قائداً من قواده ، وضم إليه كتفاً من الجند كثيراً ، ليشعب قبر الحسين عليه‌السلام ويمنع الناس من زيارته والإجتماع إلى قبره عليه‌السلام ، فخرج القائد إلى الطف وعمل بما أمر ، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين ، فثار أهل السواد به ، واجتمعوا عليه وقالوا : لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته ، ورأوا من الدلائل ما

١٢٧

حملهم على ما صنعوا ، فكتب بالأمر إلى الحضرة ، فورد كتاب المتوكل إلى القائد بالكف عنهم والمسير إلى الكوفة ، مظهراً أن مسيره إليها في مصالح أهلها ، والإنكفاء إلى المصر ! فمضى الأمر على ذلك حتى كانت سنة سبع وأربعين ، فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه‌السلام ، وأنه قد كثر جمعهم كذلك وصار لهم سوق كبير ، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين ، ونَبَشَ القبر وحرث أرضه ، وانقطع الناس عن الزيارة . وعمل على تتبع آل أبي طالب والشيعة رضي الله عنهم ، فقتل ولم يتم له ما قَدَّر » .

وفي أمالي الطوسي / ٣٢٩ : « حدثني عبد الله بن دانية الطوري ، قال : حججت سنة سبع وأربعين ومائتين ، فلما صدرت من الحج صرت إلى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام على حال خيفة من السلطان ، وزرته ثم توجهت إلى زيارة الحسين عليه‌السلام فإذا هوقد حرثت أرضه ومُخِر فيها الماء ، وأُرسلت الثيران العوامل في الأرض ، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالاً ، فتُضرب بالعصي الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها ، ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب ! فما أمكنني الزيارة ، فتوجهت إلى بغداد ، وأنا أقول في ذلك :

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاكَ بنوأبيه بمثلها

هذا لعمرُك قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا

في قتله فتتبعوه رميما

١٢٨

فلما قدمت بغداد سمعت الهائعة فقلت : ما الخبر ؟ قالوا : سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل ، فعجبت لذلك وقلت : إلهي ليلة بليلة » .

أقول : يدل استشهاد الشاعر بشعر ابن بسام على أنه كان منتشراً بين المسلمين . ويدل ما تقدم على أن المتوكل بدأ حملته على كربلاء سنة ٢٣٦ ، وهدمَ القبر الشريف ومنع زيارته لكن المسلمين من أهل الكوفة وغيرهم كسروا المنع ، ورأوا المعجزات ، فأصروا على زيارة قبر الحسين عليه‌السلام وتحضروا للمواجهة في السنة الثانية ، ووجه اليهم المتوكل جيشاً كثيفاً ، لكن لما رأى إصرارهم على قتاله ، أمر قائده أن يرجع ويدعي أنه جاء في مهمة تتعلق بولاية الكوفة ! واستمر الأمر على هذا نحو عشر سنين ، وكان المنع من الزيارة سارياً ، لكنه غير محترم . وبلغ المتوكل في آخر عمره توافد الناس الى كربلاء : « وأنه قد كثر جمعهم وصار لهم سوق كبير ، فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبر الحسين » ! واستطاعت قواته أن تهدم القبر الشريف ، لكن الله تعالى هدم عمره وسقط طائر الحمام الزاجل في بغداد بقتله ، كما قالت الرواية .

ومعنى هذا أن محاولات المتوكل لهدم القبر الشريف استمرت إحدى عشرة سنة فقد بدأت سنة ٢٣٦ ، واستمرت حتى هلك في الرابع من شوال سنة ٢٤٧ .

٣. واجه الإمام الهادي عليه‌السلام خطة المتوكل . وعند صدور المنع أمر الشيعة في بغداد أن يتجنبوا المواجهة ، ثم وجههم الى الزيارة وتحدي منع السلطة .

ففي الكافي « ١ / ٥٢٥ » : « خرج نهيٌ عن زيارة مقابر قريش « الكاظمين » والحاير « كربلا » فلما كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له : إلق بني الفرات والبرسيين وقل لهم : لايزوروا مقابر قريش ، فقد أمر الخليفة أن يُتفقد كل من زار فيقبض

١٢٩

عليه » ثم أمر الإمام عليه‌السلام الشيعة بزيارة قبر الحسين عليه‌السلام وجعلها أولوية قبل غيره . قال المفيد في المقنعة / ٤٨٢ : « روى إبراهيم بن عقبة قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث : « الإمام الهادي عليه‌السلام » أسأله عن زيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ، وزيارة أبي الحسن موسى وأبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام ببغداد ؟ فكتب إليَّ : أبوعبد الله عليه‌السلام المقدم ، وهذان أجمع وأعظم ثواباً » . وكامل الزيارة / ٥٠٠ .

ثم قام الإمام الهادي عليه‌السلام بعمل ملفت في الحث على زيارة قبر جده الحسين عليه‌السلام فقد كان مريضاً فأمر أن يرسلوا له شخصاً يزور الحسين عليه‌السلام ويدعو له .

ففي الكافي « ٤ / ٥٦٨ » : « عن أبي هاشم الجعفري قال : بعث إليَّ أبو الحسن عليه‌السلام في مرضه وإلى محمد بن حمزة فسبقني إليه محمد بن حمزة وأخبرني محمد ما زال يقول : إبعثوا إلى الحير ، إبعثوا إلى الحير ، فقلت لمحمد : ألا قلت له : أنا أذهب إلى الحير ، ثم دخلت عليه وقلت له : جعلت فداك : أنا أذهب إلى الحير ؟ فقال : انظروا في ذاك ، ثم قال لي : إن محمداً ليس له سر من زيد بن علي ، وأنا أكره أن يسمع ذلك ، قال : فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال : ما كان يصنع ب‍الحير وهو الحير فقدمت العسكر فدخلت عليه فقال لي : أجلس حين أردت القيام ، فلما رأيته أنس بي ذكرت له قول علي بن بلال فقال لي : ألا قلت له : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر وحرمة النبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت ، وأمره الله عز وجل أن يقف بعرفة ، وإنما هي مواطن يحب الله أن يذكر فيها . فأنا أحب أن يدعي الله لي حيث يحب الله أن يدعى فيها » .

١٣٠

وروى في الحبل المتين / ٢٢٨ ، ومصباح المتهجد / ٧٨٨ ، عن الإمام الهادي عليه‌السلام قال : « علامات المؤمن خمس : صلاة الإحدى والخمسين ، وزيارة الأربعين ، والتختم في اليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم » .

ورُوِيَ ذلك عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، وهو يدل على أن الإمام الهادي وابنه الحسن العسكري عليهما‌السلام قاوما معاً هجمة المتوكل لهدم قبر الحسين عليه‌السلام .

٤. نسب بعضهم الأبيات : تالله إن كانت أمية قد أتت .. الخ . الى ابن السكيت ، والصحيح أنها لابن بسام ، أو البسامي .

قال السمعاني في الأنساب « ١ / ٣٤٦ » : « البسامي : بفتح الباء الموحدة والسين المهملة المشددة بعدهما الألف وفي آخرها الميم ، هذه النسبة إلى بسام ، وهو إسم لجد أبي الحسن علي بن محمد بن منصور بن نصر بن بسام الشاعر البسامي ، من أهل بغداد ، سائر الشعر ، مشهورٌ عند أهل الأدب ، روى عنه محمد بن يحيى الصولي ، وأبوسهل أحمد بن محمد بن زياد القطان ، وغيرهما .. مات البسامي في صفر سنة اثنتين وثلاث مائة » . فقد كان في مطلع شبابه عندما هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين عليه‌السلام .

وفي وفيات الأعيان « ٣ / ٣٦٣ » : « كانت أمه أمامة ابنة حمدون النديم .. وكان من أعيان الشعراء ، ومحاسن الظرفاء ، لَسِنَاً مطبوعاً في الهجاء ، لم يسلم منه أمير ولا وزير ، ولا صغير ولا كبير ... ولما هَدم المتوكل على الله قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في سنة ست وثلاثين ومائتين ، عمل البسامي :

تالله إن كانت أميةُ قد أتتْ

قتلَ ابن بنت نبيها مظلوما

فلقد أتاهُ بنوأبيه بمثله

هذا لعمرك قبرُه مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبعوه رميما !

١٣١

وكان المتوكل كثير التحامل على علي وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين ، فهدم هذا المكان بأصوله ودوره وجميع ما يتعلق به ، وأمر أن يبذر ويسقى موضع قبره ، ومنع الناس من إتيانه . هكذا قال أرباب التواريخ .

ولابن بسام المذكور من التصانيف : أخبار عمر بن أبي ربيعة ، ولم يستقص أحد في بابه أبلغ منه ، وكتاب أخبار الأحوص ، وكتاب مناقضات الشعراء » .

٥. ذكر المؤرخون أن دعبلاً الخزاعي هجا المتوكل لهدمه قبر الحسين عليه‌السلام ، ولم أجد شعره في ذلك ، إلا بيتاً واحداً يتهم فيه المتوكل بالتخنث ، كما في ديوانه / ٤٨ :

ولستُ بقائل قَذَعاً ولكنْ

لأمْرٍ مَّا تَعَبَّدَكَ العبيدُ

وأبياتاً في الحث على زيارة قبر الحسين عليه‌السلام وذم الناهين ، في ديوانه / ١١٤ :

زُرْ خيرَ قبرٍ بالعراق يُزَارُ

وَاعْصِ الِحمَارَ فمَنْ نَهَاكَ حِمَارُ

لم لا أزوركَ يا حسينُ لك الفدا

قومي ومن عطفت عليه نزار

ولك المودةُ في قلوب ذوي النهى

وعلى عدوك مَقْتَةٌ ودَمارُ

يا ابنَ الشهيدِ ويا شهيداً عَمُّهُ

خيرُ العمومة جعفرُ الطيَّار

عجباً لمصقولٍ أصابكَ حَدُّهُ

في الوجه منك وقد عَلاك غُبَارُ

هدم قبر الحسين عليه‌السلام قبل المتوكل

في كامل الزيارات لابن قولويه / ٢٢١ : « عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي ، قال : خرجت في آخر زمان بني مروان إلى زيارة قبر الحسين عليه‌السلام مستخفياً من أهل الشام حتى انتهيت إلى كربلا ، فاختفيت في ناحية القرية حتى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر ، فلما دنوت منه أقبل نحوي رجل فقال لي : إنصرف مأجوراً فإنك لا تصل إليه ، فرجعت فزعاً حتى إذا كان يطلع الفجر أقبلت

١٣٢

نحوه ، حتى إذا دنوت منه خرج إليَّ الرجل فقال لي : يا هذا إنك لا تصل إليه ! فقلت له : عافاك الله ولم لا أصل إليه وقد أقبلت من الكوفة أريد زيارته ، فلا تَحُلْ بيني وبينه ، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني هاهنا ، قال فقال لي : إصبر قليلاً فإن موسى بن عمران عليه‌السلام سأل الله أن يأذن له في زيارة قبر الحسين بن علي عليهما‌السلام فأذن له ، فهبط من السماء في سبعين ألف ملك ، فهمَّ بحضرته من أول الليل ينتظرون طلوع الفجر ، ثم يعرجون إلى السماء .

قال فقلت له : فمن أنت عافاك الله ، قال : أنا من الملائكة الذين أمروا بحرس قبر الحسين عليه‌السلام والإستغفار لزواره ! فانصرفت وقد كاد أن يطير عقلي لما سمعت منه . قال : فأقبلت حتى إذا طلع الفجر أقبلت نحوه فلم يحل بيني وبينه أحد ، فدنوت من القبر وسلمت عليه ودعوت الله على قَتَلتِهِ ، وصليت الصبح ، وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام » .

أقول : هذا الحديث وغيره يدل على أن الأمويين كانوا يمنعون الشيعة من التجمع عند قبر الحسين عليه‌السلام ومن زيارته ، وكان المنع متفاوتاً حسب تشدد والي الكوفة وتساهله ، وحسب قوة الخليفة الأموي أو ضعفه .

لكن الأمويين لم يهدموا قبر الحسين عليه‌السلام ، وأول من ارتكب جريمة هدمه : المنصور الدوانيقي ، وذلك بعد ثورة الحسنيين عليه وانتصاره عليهم سنة ١٤٥ ، فقد أمر والي الكوفة عيسى بن موسى أن يهدمه !

روى الطوسي في أماليه / ٣٢١ : « حدثنا يحيى بن عبد الحميد الِحَّماني أملاه عليَّ في منزله ، قال : خرجت أيام ولاية موسى بن عيسى الهاشمي في الكوفة ، من منزلي

١٣٣

فلقيني أبو بكر بن عياش ، فقال لي : إمض بنا يا يحيى إلى هذا فلم أدر من يعني ، وكنت أجل أبا بكر عن مراجعة ، وكان راكباً حماراً له ، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه ، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم ، التفت إليَّ فقال لي : يا بن الحِمَّاني ، إنما جررتك معي وجَشَّمتك معي أن تمشي خلفي ، لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية ! قال : فقلت : من هو يا أبا بكر ؟ قال هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى !

فسكت عنه ، ومضى وأنا أتبعه حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى ، وبصر به الحاجب وتبينه ، وكان الناس ينزلون عند الرحبة ، فلم ينزل أبوبكر هناك ، وكان عليه يومئذ قميص وإزار ، وهو محلول الإزار . قال : فدخل على حمار وناداني : تعالى يا ابن الحماني ، فمنعني الحاجب فزجره أبوبكر وقال له : أتمنعه يا فاعل وهو معي ؟ فتركني فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان ، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره ، وبجنبي السرير رجال متسلحون ، وكذلك كانوا يصنعون ، فلما أن رآه موسى رحب به وقربه وأقعده على سريره ، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه .

فلما استقر أبوبكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف فناداني : تعال ويحك فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليَّ قميص وإزار فأجلسني بين يديه ، فالتفت إليه موسى فقال : هذا رجل تُكَلِّمُنَا فيه ؟ قال : لا ، ولكني جئت به شاهداً عليك .

١٣٤

قال : في ماذا ؟ قال : إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر . قال : أيُّ قبر ؟ قال : قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله !

وكان موسى قد وجه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر ، وحرثها وزرع الزرع فيها ، فانتفخ موسى حتى كاد أن يَنْقَدَّ ، ثم قال : وما أنت وذا ؟

قال : إسمع حتى أخبرك ، إعلم أني رأيت في منامي كأني خرجت إلى قومي بني غاضرة ، فلما صرت بقنطرة الكوفة اعترضني خنازير عشرة تريدني ، فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني ، فمضيت لوجهي فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق ، فرأيت هناك عجوزاً فقالت لي : أين تريد أيها الشيخ ؟ قلت : أريد الغاضرية . قالت لي : تَبَطَّنْ هذا الوادي فإنك إذا أتيت آخره اتضح لك الطريق . فمضيت ففعلت ذلك فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك ، فقلت : من أين أنت أيها الشيخ ؟ فقال لي : أنا من أهل هذه القرية . فقلت : كم تعدُّ من السنين ؟ فقال : ما أحفظ ما مضى من سني وعمري ، ولكن أبعدُ ذكري أني رأيت الحسين بن علي عليه‌السلام ومن كان معه من أهله ومن تبعه ، يمنعون الماء الذي تراه ، ولا يمنع الكلاب ولا الوحوش شربه ! فاستفظعت ذلك وقلت له : ويحك أنت رأيت هذا ؟ قال : إي والذي سمك السماء ، لقد رأيت هذا أنها الشيخ وعاينته ، وإنك وأصحابك هم الذين يعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين ، إن كان في الدنيا مسلم ! فقلتُ : ويحك وما هو ؟ قال : حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه . قلت : ما أجرى إليه؟ قال :

١٣٥

أيكرب قبر ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحرث أرضه ؟ قلت : وأين القبر ؟ قال : ها هوذا أنت واقف في أرضه ، فأما القبر فقد عميَ عن أن يعرف موضعه !

قال أبو بكر بن عياش : وما كنت رأيتُ القبر قبل ذلك الوقت قطُّ ، ولا أتيته في طول عمري ، فقلت : من لي بمعرفته ؟ فمضى معي الشيخ حتى وقف بي على حير له باب وآذن ، له إذا جماعة كثيرة على الباب ، فقلت للآذن : أريد الدخول على ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لا تقدر على الوصول في هذا الوقت . قلت : ولمَ ؟ قال : هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله ، ومعهما جبرئيل وميكائيل ، في رعيل من الملائكة كثير .

قال أبوبكر بن عياش : فانتبهت وقد دخلني روعٌ شديد وحزنٌ وكآبةٌ ، ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام ، ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدينٍ كان لي على رجل منهم ، فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى إذ صرت بقنطرة الكوفة لقيني عشرة من اللصوص ، فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم ، فقالوا لي : ألق ما معك وانج بنفسك وكانت معي نفيقة ، فقلت : ويحكم أنا أبو بكر بن عياش ، وإنما خرجت في طلب دينٍ لي ، والله الله لا تقطعوني عن طلب ديني وتضرُّوا بي في نفقتي فإني شديد الإضاقة ، فنادى رجل منهم : مولاي ورب الكعبة لا يعرض له . ثم قال لبعض فتيانهم : كن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن .

١٣٦

قال أبوبكر : فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام ، وأتعجب من تأويل الخنازير حتى صرت إلى نينوى ، فرأيت والله الذي لا إله إلا هو الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته ، رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء ، فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا فقلت : لا إله إلا الله ما كان هذا إلا وحياً ، ثم سألته كمسألتي إياه في المنام ، فأجابني ثم قال لي : إمض بنا فمضيت فوقفت معه على الموضع وهو مكروب ، فلم يفتني شئ في منامي إلا الآذن والحير ، فإني لم أر حِيراً ولم أر آذناً ؟ فاتق الله أيها الرجل ، فإني قد آليت على نفسي ألا أدعَ إذاعة هذا الحديث ، ولا زيارةَ ذلك الموضع وقصدَه وإعظامَه ، فإن موضعاً يأتيه إبراهيم ومحمد وجبرئيل وميكائيل عليهم‌السلام لحقيقٌ بأن يرغب في إتيانه وزيارته ، فإن أبا حصين حدثني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من رآني في المنام فإياي رأى ، فإن الشيطان لا يتشبه بي .

فقال له موسى : إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحمقة التي ظهرت منك ، وبالله لئن بلغني بعد هذا الوقت أنك تتحدث بهذا لأضربن عنقك ، وعنق هذا الذي جئت به شاهداً علي ! فقال أبوبكر : إذن يمنعني الله وإياه منك ، فإني إنما أردت الله بما كلمتك به !

فقال له : أتراجعني يا عامر وشتمه ! فقال له : أسكت أخزاك الله وقطع لسانك !

فأرعد موسى على سريره ثم قال : خذوه !

١٣٧

فأخذ الشيخ عن السرير ، وأخذت أنا ، فوالله لقد مر بنا من السحب والجرِّ والضرب ، ما ظننت أننا لا نكثر الأحياء أبداً ، وكان أشد ما مرَّ بي من ذلك أن رأسي كان يُجَرُّ على الصخر ، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي ، وموسى يقول : أقتلوهما بني كذا وكذا بالزاني لا يكني !

وأبو بكر يقول له : أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك ، اللهم إياك أردنا ، ولولد وليك غضبنا ، وعليك توكلنا .

فصيَّر بنا جميعاً إلى الحبس ، فما لبثنا في الحبس إلا قليلاً ، فالتفت إليَّ أبوبكر ورأي ثيابي قد خرقت وسالت دمائي ، فقال : يا حِمَّاني قد قضينا لله حقاً ، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً ، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فما لبثنا إلا مقدار غدائةٍ ونومة ، حتى جاءنا رسوله فأخرجنا إليه ، وطلب حمار أبي بكر فلم يوجد ، فدخلنا عليه فإذا هو في سرداب له يشبه الدور سعة وكبراً ، فتعبنا في المشي إليه تعباً شديداً ، وكان أبوبكر إذا تعب في مشيه جلس يسيراً ، ثم يقول : اللهم إن هذا فيك فلا تَنْسَهْ ، فلما دخلنا على موسى ، وإذا هو على سرير له فحين بصر بنا قال : لا حيا الله ولا قرب ، من جاهل أحمق يتعرض لما يكره ، ويلك يا دعي ، ما دخولك فيما بيننا معشر بني هاشم !

فقال له أبوبكر : قد سمعت كلامك ، والله حسبك ! فقال له : أخرج قبحك الله ، والله لئن بلغني أن هذا الحديث شاع ، أو ذكر عنك لأضربن عنقك !

١٣٨

ثم التفت إليَّ وقال : يا كلب وشتمني وقال : إياك ثم إياك أن تظهر هذا ، فإنه إنما خُيِّلَ لهذا الشيخ الأحمق شيطانٌ يلعب به في منامه ، أخرجا عليكما لعنة الله وغضبه ، فخرجنا وقد يئسنا من الحياة !

فلما وصلنا إلى منزل الشيخ أبي بكر وهو يمشي وقد ذهب حماره ، فلما أراد أن يدخل منزله التفت إليَّ وقال : إحفظ هذا الحديث وأثبته عندك ، ولا تحدثن هؤلاء الرعاع ، ولكن حدث به أهل العقول والدين » .

ملاحظات

١. أبوبكر بن عياش ، من كبار أئمة السنة وقرائهم وعُبَّادهم : « روى له البخاري في صحيحه ومسلم في مقدمة كتابه وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة . وتوفي سنة اثنتين وتسعين ومائة » . « الكواكب النيرات / ١٠٢ » .

قال الذهبي في سيره : « ٨ / ٤٩٥ » : « أبوبكر بن عياش بن سالم الأسدي ، مولاهم الكوفي الحناط بالنون ، المقرئ ، الفقيه ، المحدث ، شيخ الإسلام ، وبقيه الأعلام مولى واصل الأحدب ... لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة » .

وقد روى عنه كبار أئمة المذاهب ، قال ابن حجر في تهذيب التهذيب « ١٢ / ٣١ » : « وعنه الثوري ، وابن المبارك ، وأبوداود الطيالسي ، وأسود بن عامر شاذان ، ويحيى بن آدم ، ويعقوب القمي ، وابن مهدي ، وابن يونس ، وأبونعيم ، وابن المديني ، وأحمد بن حنبل ، وابن معين ، وابنا أبي شيبة ، وإسماعيل بن أبان الوراق ، ويحيى بن يحيى النيسابوري ، وخالد بن يزيد الكاهلي ... وآخرون » .

١٣٩

ويظهر من غضبه لهدم قبر الحسين عليه‌السلام ومبادرته الى النهي عن المنكر ، أنه صاحب دين ، لكن طريقته في الإستنكار ساذجة ، ثم نراه تراجع وسكت ! وقد كانت له مكانة واحترام في الناس ، فلو أنه وقف في المسجد ودعا المسلمين الى الإعتراض لأجابه الكثيرون ، لكنه اعترض بطريقة بدائية ، فزجره الوالي العباس بأسلوب فرعون ، وقال له : قصتك ومنامك خيال وحماقة ، وأنت فارسي مولى بني أسد ، ونحن والحسين هاشميون ، فلا تدخل بيننا !

وقصته تدل على أن مؤسس جريمة هدم قبر الحسين عليه‌السلام المنصور الدوانيقي ! وأن المسلمين حتى غير الشيعة نقموا عليه واعترضوا .

٢. أعاد المسلمون مشهد الحسين عليه‌السلام بعد الدوانيقي ، وعادوا الى زيارته حتى جاء حفيده هارون ، الذي سموه الرشيد ، فهدمه مرة ثانية !

روى الطوسي في أماليه / ٣٢١ : « حدثني يحيى بن المغيرة الرازي ، قال : كنت عند جرير بن عبد الحميد ، إذ جاءه رجل من أهل العراق ، فسأله جرير عن خبر الناس ، فقال : تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين عليه‌السلام وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت ! قال : فرفع جرير يديه ، فقال : الله أكبر ، جاءنا فيه حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لعن الله قاطع السدرة ، ثلاثاً ، فلم نقف على معناه حتى الآن ، لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لايقف الناس على قبره » .

أقول : معنى : تغيير مصرعه ، تغيير قبره ومكان قتله عليه‌السلام . وقد قطعت قبل تلك السدرة سدرتان : سدرة البقيع وكانت تستظل بها الزهراء عليها‌السلام ، وسدرة الحديبية التي بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحتها المسلمين . وقاطعهما واحد ، ولا مجال للتفصيل .

١٤٠