الإمام علي الهادي عليه السلام

الشيخ علي الكوراني العاملي

الإمام علي الهادي عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي الكوراني العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

الفصل الخامس :

خطة المتوكل لإبادة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم

كان المتوكل يبغض أسلافه لحبهم علياً عليه‌السلام

قال ابن الأثير في الكامل « ٧ / ٥٦ » : « وقيل إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء : المأمون ، والمعتصم ، والواثق ، في محبة علي وأهل بيته !

وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي ، وعمر بن فرج الرخجي ، وأبوالسمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية ، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة .

وكانوا يخوفونه من العلويين ، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم ، والإساءة إليهم . ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان ، فغطت هذه السيئة جميع حسناته ، وكان من أحسن الناس سيرة ، ومنع الناس من القول بخلق القرآن ، إلى غير ذلك من المحاسن » .

وهذا وغيره يدل على أن سياسة المتوكل في بغض أهل البيت عليهم‌السلام لم تكن عابرة ، بل كانت عن عمد وإصرار ، وتخطيط !

١٠١

أرسل المتوكل الرُّخَّجِي المتوحش والياً على الحجاز !

قال أبوالفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥ : « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي ، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ، ومنع الناس من البِرِّ بهم ، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً ! حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر !

إلى أن قتل المتوكل ، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم ، ووجه بمال فرقه فيهم ، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ، ومضادة مذهبه » .

أقول : لاحظ الإنحطاط الذي وصل اليه عمر الرخجي غلام المتوكل ، حيث حبس آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ، ومنع من يحتاج منهم الى الطعام والشراب أن يطلب مساعدة أحد ، ثم كان يعاقب من يساعده بعقاب شديد وغرامة كبيرة !

وهو بذلك يتعمد إفقارهم وإذلالهم ليموتوا جوعاً !

وقد دفع ذلك عدداً منهم الى الثورة في هذا البلد وذاك ، لأن المسلمين يثقون بهم ولا يثقون بالعباسيين ، ومنهم من يبذل نصرته ودمه للعلويين .

ومعنى : كان القميص بين عدد من العلويات .. أنه قد يوجد مجموعة نساء في بيت ، ليس عندهن ثياب وافية للصلاة بعددهن ، فيتبادلن الثوب للصلاة فتصلي فيه واحدة بعد الأخرى ، ثم يجلسن للعمل بثيابهن غير الساترة !

١٠٢

قال البيومي في الإمامة وأهل البيت « ٣ / ١٩٣ » : « وهكذا شرَّع من يسمونه أمير المؤمنين المتوكل على الله ، أن تقبع العلويات الطاهرات في بيوتهن عاريات ، يتبادلن القميص المرقع عند الصلاة ، وأن تختال الفاجرات العاهرات بالحلي وحلل الديباج ، بين الإماء والعبيد » .

اضطهد المتوكل الشيعة في مصر

في البيان للمقريزي « ١ / ٣٩ » : « ظلت مصر ملجأً آمناً لآل علي بن أبي طالب إلى أن جاء زمن المتوكل العباسي ، وكان يبغض العلويين ، فأمر واليه في مصر بإخراج آل علي بن أبي طالب منها ، فأخرجوا من الفسطاط إلى العراق في عام ٢٣٦ ، ثم نقلوا إلى المدينة في العام نفسه ، واستتر من كان بمصر على رأي العلوية » .

وقال البلاذري في أنساب الأشراف : ٣ / ١٣٧ ، ونحوه الطبري : ٦ / ٤١٦ : « كان إدريس بن عبد الله بن حسن في وقعة فخ مع الحسين بن علي ، فهرب في خلافة الهادي إلى مصر ، وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن منصور ، الذي يعرف بالمسكين ، وكان واضح يتشيع ، فحمله على البريد إلى المغرب .. » .

وفي المواعظ للمقريزي « ٤ / ١٥٩ » : « ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق ، فأخرجهم إسحاق بن يحيى الختلي أمير مصر ، وفرق فيهم الأموال ليتجملوا بها ، وأعطى كل رجل ثلاثين ديناراً ، والمرأة خمسة عشر ديناراً ، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست وثلاثين ومائتين ، وقدموا العراق فأخرجوا إلى المدينة في شوال منها ، واستتر من كان

١٠٣

بمصر على رأي العلوية ، حتى أن يزيد بن عبد الله أمير مصر ضرب رجلاً من الجند في شئ وجب عليه ، فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه ، فزاده ثلاثين درة « ضربة » ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكل ، فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجندي مائة سوط ، فضربها ، وحمل بعد ذلك إلى العراق في شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين !

وتتبع يزيد الروافض فحملهم إلى العراق ، ودل في شعبان على رجل يقال له محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنه بويع له ، فأحرق الموضع الذي كان به وأخذه فأقر على جمع من الناس بايعوه ، فضرب بعضهم بالسياط ، وأخرج العلوي هو وجمع من آل أبي طالب ، إلى العراق في شهر رمضان . ومات المتوكل في شوال » .

وفي النجوم الزاهرة « ٢ / ٣٠٩ » : « يزيد بن عبد الله بن دينار « والي مصر سنة ٢٤٢ » تتبع الروافض بمصر وأبادهم ، وعاقبهم ، وامتحنهم ، وقمع أكابرهم ، وحمل منهم جماعة إلى العراق على أقبح وجه . ثم التفت إلى العلويين فجرت عليهم منه شدائد من الضيق عليهم ، وأخرجهم من مصر » .

واضطهد والي مصر محمد بن الفَرَج

في تاريخ اليعقوبي « ٢ / ٤٨٥ » : « وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد ، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك ، فوجه كتاباً في حمله ، وقبضت

١٠٤

أموالهما ، وكان ذلك في سنة ٢٣٣ ، وكان عمر محبوساً ببغداد ، ومحمد محبوساً بسر من رأى ، فأقاما سنتين » .

وقال الطبري « ٧ / ٣٤٧ » : « فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب ، فحبس عنده وكتب في قبض ضياعه وأمواله ... وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار ، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار ، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيراً فرشاً ، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار » .

أقول : كان محمد بن الفرج رحمه‌الله عالماً تقياً مؤلفاً ، ويظهر أن سبب قبوله ولاية مصر أن المتوكل جعل ولايتها لابنه المنتصر فولاه عليها .

ولا بد أن يكون محمد استأذن الإمام الهادي عليه‌السلام لأنه ملتزم بطاعته ، ومكانته عنده جليلة ، وقد أرسل اليه ينبهه الى الإستعداد لغضب المتوكل !

ففي الكافي « ١ / ٥٠٠ » عن النوفلي قال : « قال لي محمد بن الفرج : إن أبا الحسن عليه‌السلام كتب إليه : يا محمد أجمع أمرك وخذ حذرك . قال : فأنا في جمع أمري لست أدري ما كتب إلي حتى ورد عليَّ رسولٌ حملني من مصر مقيداً ، وضَرَبَ على كل ما أملك « صادره » ! وكنت في السجن ثمان سنين .

ثم ورد عليَّ منه عليه‌السلام في السجن كتاب فيه : يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي . فقرأت الكتاب فقلت : يكتب إليَّ بهذا وأنا في السجن ، إن هذا لعجب ! فما مكثت أن خُلِّيَ عني ، والحمد لله » .

١٠٥

وفي الإرشاد « ٢ / ٣٠٤ » : « وروى أحمد بن عيسى قال : أخبرني أبويعقوب قال : رأيت محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشية من العشايا ، وقد استقبل أبا الحسن عليه‌السلام فنظر إليه نظراً شافياً ، فاعتل محمد بن الفرج من الغد ، فدخلت عليه عائداً بعد أيام من علته ، فحدثني أن أبا الحسن عليه‌السلام قد أنفذ إليه بثوب وأرانيه مدرجاً تحت رأسه ، قال : فكُفِّنَ فيه والله » .

أقول : ترجمنا لمحمد رضي الله عنه في سيرة الجواد عليه‌السلام وكان من كبار أصحاب الأئمة عليهم‌السلام . وأخوه عمر من أشد النواصب ، وعلاقتهما مع ذلك جيدة !

واضطهد المتوكل قاضي قضاة مصر

روت مصادر التاريخ أن المتوكل أمر بإهانة قاضي قضاة مصر : أبي بكر محمد بن أبي الليث ، بحجة أنه أكل أموال الناس ، والسبب أمر آخر !

ففي تاريخ الخلفاء للسيوطي « ١ / ٢٥٣ » : « وفي سنة سبع وثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث ، وأن يضربه ويطوف به على حمار ! ففعل ونعمَ ما فعل ، فإنه كان ظالماً من رؤوس الجهمية ، وولي القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك وبعد تمنُّع ، وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطاً ليرد المظالم إلى أهلها » .

لكن الظاهر خلافاً للسيوطي أن سبب عزله أنه حكم لخصم وكيل أم المتوكل ، وحكم بوراثة أبناء البنات ، فنقم عليه المتوكل ، لأنه يجب أن يحكم دائماً لوكلاء الخليفة ومن يتعلق به ! ويجب أن يحكم بوراثة العم والعصبة ، لأن العباسيين

١٠٦

يعتبرون الحكم بوراثة أبناء البنات حكماً بوراثة الحسن والحسين عليهما‌السلام لخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دون عمه العباس ، ولذلك يحكمون بوراثة العشيرة !

قال ابن حجر في كتابه : رفع الإصر عن قضاة مصر « ١ / ١٢١ » : « خوصم إلى الحارث في دار من دور السيدة أم الخليفة فحكم على وكيلها ، فأخرج الدار من يده ودفعها للخصم ، فكتب بذلك الوكيل إلى العراق ، فجاء كتاب الفضل بن مروان إلى أمير مصر ينكر على الحارث ذلك ويقول في كتابه : إن الحارث لم يزل معروفاً بالإنحراف عن السلطان والمباعدة لأسبابه ، فتُكلمه أن مقام وكلاء جهة أمير المؤمنين في ضياعها ودورها ومستغلاتها بمصر ، مقامُ من يحوطها .

ويأمرُ برد الدار التي كانت في أيديهم لهم ، كما كانت قبل حكمه فيها ، وترك النظر في شئ مما في أيدي وكلائها بما يوهن أمرهم !

وتأمره بالتقدم إلى الحارث ، بعدم التعرض إلى النظر في شئ يتعلق بأمير المؤمنين وبمنعه من ذلك إن حاوله . وكتب في ربيع الآخر سنة أربعين ومائتين .

ولم يزل الحارث على طريقته حتى حكم في دار الفيل ، وهي دار أبي عثيم مولى مسلمة بن مخلد ، وكان تحبيسها في سنة ثلاث وتسعين . وأصل ذلك أن جماعة من قضاة مصر منهم توبة والفضل بن فضالة والعمري وهارون الزهري أخرجوا وتاجاً مولى أبي عثيم من الحبس « الوقف » لأن صاحب الحبس لم يسمه في كتاب تحبيسه . ثم آل الاستحقاق إلى محمد بن ناصح مولى أبي عثيم ، وإلى عزة بنت عمرو بن رافع مولى ابن عثيم ، فتوفيت عزة وتركت ولدها إبراهيم بن عبد

١٠٧

الصمد المعروف بابن السائح ، فخاصمهم فيها فأخرجهم الزهري ، وحكم بإخراج بني البنات من العقب .

فلما ولي محمد بن أبي الليث فسخ حكم الزهري ودفع نصيبها إلى بني السائح . فلما ولي الحارث بن مسكين فسخ حكم ابن أبي الليث ، وأخرج بني السائح فخرج إسحاق بن إبراهيم بن عبد الصمد بن السائح ، إلى العراق فتظلم من الحارث ورفع قصته إلى المتوكل ، فأمر بإحضار الفقهاء فحضروا ، واتفقوا على تخطئة الحارث في الحكم المذكور ، وتناولوه بألسنتهم !

وكان الفقهاء الذين نظروا في قضية الحارث على رأي الكوفيين ، وحكم الحارث إنما هو على رأي المدنيين ، وبلغ ذلك الحارث ما جرى هناك من ذكره ، فخشي من العزل ، فبادر بكتاب إلى العراق يستعفي ، فصادف وصول كتابه عقب أمر المتوكل بعزله ، فكتب إليه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قاضي العراق : إن كتابك وصل باستعفائكم فأنهيت كتابك إلى أمير المؤمنين وأنك تستعفي مما تقلدته من القضاء ، فأمر أيده الله بإجابتك إلى ذلك وإعفائك إسعافاً لك فيما سألت ، وتفضلاً بما أدى إلى موافقة فراقك في العمل بحسب ذلك موفقاً . وكتب المتوكل إلى أمير مصر يزيد بن عبد الله بن الأغلب بالنظر في قضية ابن السائح ، فجمع أهل البلد من الفقهاء والشيوخ ، وكان ورود الكتاب عليه بالصرف في يوم الجمعة لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين » .

١٠٨

أقول : العجب من بعض الرواة كالذهبي والسيوطي ، حيث ذموا الحارث بن أبي الليث وجعلوه جهمياً ، ظالماً آكلاً أموال الناس ، وإنما ذنبه أنه خالف هوى المتوكل في بعض أحكامه ، فغضب عليه المتوكل ، وقلده الرواة !

قال الذهبي في سيره « ٩ / ٤٤٦ » : « وبعث المتوكل إلى نائبه بمصر فحلق لحية قاضي القضاة محمد بن أبي الليث وضربه ، وطوف به على حمار في رمضان وسجن ، وكان ظلوماً جهمياً ، ثم ولي القضاء الحارث بن مسكين ، فكان يضربه كل حين عشرين سوطاً ليؤدي ما وجب عليه ، فإنا لله » .

وقال ابن حجر : « فكانوا يحضرون محمد بن أبي الليث كل يوم بين يدي الحارث ، فيضربه عشرين سوطاً ، ليخرج عما يجب عليه من الحقوق ، فأقام على ذلك أياماً ثم أشير عليه بتركه . وقيل له إنه لا ينبغي للقاضي فعل ذلك لقبحه ، فصرفه » .

وواصل المتوكل اضطهاد ابن أبي الليث ، فصادر أمواله وأموال أقاربه ، ولو كانت مهمة لذكروها . وحمله الى بغداد ومات فيها سنة ٢٥٥ . « تاريخ بغداد « ٢ / ٢٩١ » .

واضطهد أحد تجار بغداد

وذكر الطبري في تاريخه قصة وجيه في بغداد ، قتله المتوكل بتهمة شتم الشيخين ، والمرجح أنه كان معارضاً للمتوكل أو محباً لأهل البيت عليهم‌السلام ، فقد كانت قصته بعد غضب أهل بغداد لهدم قبر الحسين عليه‌السلام وكتابتهم شتم المتوكل على الجدران ، فيظهر أن السلطة دبرت له هذه التهمة ، وقتله الخليفة هذه القتلة !

١٠٩

قال الطبري « ٧ / ٣٧٥ » : « وفيها « سنة ٢٤١ » ضُرِب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم ، صاحب خان عاصم ببغداد ضرب فيما قيل ألف سوط . وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه ، أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة ، وسبعة عشر رجلاً ، شهاداتهم فيما ذكر مختلفة من هذا النحو ، فكتب بذلك صاحب بريد بغداد إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل ، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط ، فإذا مات رمى به في دجلة ، ولم تدفع جيفته إلى أهله ! فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى :

بسم الله الرحمن الرحيم ، أبقاك الله وحفظك ، وأتم نعمته عليك . وصل كتابك في الرجل المسمى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات ، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنهم وإكفارهم ورميهم بالكبائر ، ونسبتهم إلى النفاق وغير ذلك ، مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم . وتثبتك في أمر أولئك الشهود ، وما شهدوا به ، وما صح عندك من عدالة من عُدِّل منهم ، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به ، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك ، فعرضت على أمير المؤمنين أعزه الله ذلك ، فأمر بالكتاب إلى أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله ، بما قد نفذ إليه مما يشبه ما عنده أبقاه الله من نصرة دين الله وإحياء سنته ، والإنتقام ممن ألحد فيه ، وأن يضرب الرجل حداً في مجمع الناس

١١٠

حد الشتم ، وخمس مائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها ، فإن مات ألقيَ في الماء من غير صلاة ، ليكون ذلك ناهياً لكل ملحد في الدين خارج من جماعة المسلمين ، وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا ، قد قال بعضهم : إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم ، لما ضُرب تُرك في الشمس حتى مات ثم رُمِيَ به في دجلة » .

أقول : آل عاصم عائلة كوفية من بني ضبة ، سكن بعضهم في بغداد ، وفيهم من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، وعرف منهم العاصمي وكيل الإمام المهدي عليه‌السلام .

وقد يكون منهم هذا الشهيد ابن عاصم ، الذي قتله المتوكل بافتراء عليه ، فقد ترجم علماؤنا لعدة رجال من آل عاصم .

قال الشيخ في الفهرست / ٧٣ : « أحمد بن محمد بن عاصم ، أبو عبد الله ، وهو ابن أخي علي بن عاصم المحدث ، ويقال له العاصمي ، ثقة في الحديث سالم الجنبة ، أصله الكوفة سكن بغداد ، وروى عن شيوخ الكوفيين . وله كتب » .

وروى الحاكم في المستدرك « ٣ / ٣٩٤ » : « حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن عاصم بن بلال الضبي الشهيد ، ثنا أحمد بن محمد بن علي بن رزين ، ثنا علي بن خشرم ، ثنا أبو مخلد عطاء بن مسلم ، ثنا الأعمش ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : شهدنا صفين مع علي رضي الله عنه .. » . لكن وصف الشهيد قد يكون لشخص في السند لا يوافق قتله زمن المتوكل . وكذا قول الحاكم في « ٣ / ٤٦٥ » :

١١١

« فحدثنيه أبو عبد الله ، محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن عاصم الشهيد ، رضي الله عنه » . ولذلك نتوقف فيه .

نجَّى أهل الدينور أنفسهم من شر المتوكل

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان « ١ / ٣٥١ » : « كان بالدينور « غرب إيران من جهة العراق » شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب أهل الإمامة ، وكان له أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه ويدرسون عنده ، يقال له : بشر الجعاب ، فرفع صاحب الخبر بالدينور الى المتوكل أن بالدينور رجلاً رافضياً يحضره جماعة من الرافضة ويتدارسون الرفض ، ويسبون الصحابة ويشتمون السلف .

فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتاب إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا ، والفرقة التي تجالسه . فكتب عبيد الله بن يحيى بذلك ، فلما وصل إلى العامل كتابه ، وكان صديقاً لبشر الجعاب حسن المصافاة له شديد الإشفاق عليه ، همَّهُ ذلك وشقَّ عليه ، فاستدعى بشراً وأقرأه ما كوتب به في أمره ، وأمر أصحابه فقال له بشر : عندي في هذا رأيٌ إن استعملته كنت غير مستبطأ فيما أُمرت به ، وكنت بمنجاة مما أنت خائف عليَّ منه .

قال : وما هو ؟ قال : بالدينور شيخ خفاف إسمه بشر ، ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف ، وليس بمحفوظ عنده ما نسبت إليه من الحرفة والصناعة ، فَسُرَّ العامل بقوله وعمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه ، ووصل الباء بما صارت به فاء ، فكان أخبره عن بشر

١١٢

الخفاف أنه أبله في غاية البله والغفلة ، وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة ! وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون منه الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة ، ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة ، فإذا حصلت وحازوا ما لهم منها ما طلوه بدينه ولَوَوْهُ بحقه ، واعتلوا بأنواع الباطل عليه ، فإذا انقضى وقت السادر ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها ، وافوا بشراً هذا واعتذروا إليه وخدعوه وابتدروا يعدونه الوفاء ، ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة والمعاهدة الباطلة ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة ، فيحسن ظنه بهم وسكونه ويستسلم إليهم ، ويستأنف إعطاءهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه ، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة ، وحملوه على ما تقدم من السنة ، ثم لا يزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلعه في وقت حاجتهم ودفعه عن حقه في إبان غلاتهم ، فلا يتنبه من رقدته ولا يفيق من سكرته !

فأنفذ صاحب الخبر كتابه وأشار بتقديم الخفاف أمام القوم ، والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة ، ساكناً إلى أنه من ركاكته وفهاهته بما يضحك الحاضرين ، ويحسم الإشتغال بالبحث عن هذه القصة ويتخلص من هذه الثلاثة .

فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم فأمر أن يجَلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم ، وأمر فعلق بينه وبينهم سلبية ، ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده ، ففعل ذلك .

١١٣

وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين فقُدِّموا إليه يَقْدَمُهم بشر الخفاف ، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر فقال له : أنت بشر الخفاف ؟ فقال : نعم . فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة وإتمام هذه المدالسة ، وجواز هذه المغالطة ، فقال له : إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أمركم شئ أنكره ، فأمر بالكشف عنه وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته ، فقال له بشر : نحن حاضرون فما الذي تأمرنا به ؟ قال : بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع إليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة ، فقال بشر : ما أعرف من هذا شيئاً . قال : قد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم ، فقال : ما تقول في السلف ؟ فقال : لعن الله السلف . فقال له عبيد الله : ويلك أتدري ما تقول ! قال : نعم ، لعن الله السلف ! فخرج خادم من بين يدي المتوكل فقال لعبيد الله : يقول لك أمير المؤمنين سله الثالثة ، فإن أقام على هذا فاضرب عنقه ، فقال له : إني سائلك هذه المرة فإن لم تتب وترجع عما قلت أمرت بقتلك ، فما تقول الآن في السلف ؟ فقال : لعن الله السلف قد خَرَّبَ بيتي وأبطل معيشتي ، وأتلف مالي ، وأفقرني ، وأهلك عيالي !

قال : وكيف ؟ قال : أنا رجل أسلف الأَكَرة وأهل الدستان الخفاف والتمسكات على أن يوفوني الثمن مما يحصل من غلاتهم ، فأصير إليهم عند حصول الغلة في بيادرهم ، فإذا أحرزوا الغلات دفعوني عن حقي ، وامتنعوا من توفيتي مالي .

ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلي ويحلفون بالله لا يعاودون مطلي وظلمي ، فإنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي ، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه

١١٤

وأعطيهم ما يطلبونه ، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسر مالي ، فقد اختلَّت حالي ، وافتقرت عيالي !

قال : فسمع ضحك عال من وراء السبيبة ، وخرج الخادم فقال : إستحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم ! فقالوا : يا أمير المؤمنين في حل وسعة ، فصرفهم ، فلما توسطوا صحن الدار قال بعض الحاضرين : هؤلاء قوم مجانٌّ محتالون ، وصاحب الخبر مسقط لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته ، وينبغي أن يستقصي الفحص عن هذا والنظر فيه ، فأمر بردهم فلما أمروا بالرجوع قال بعض الجماعة التابعة لبعض : ليس هذا من ذلك الذي تقدم ، فينبغي أن نتولى الكلام نحن ونسلك طريق الجد والديانة ، فرجعوا فأمروا بالجلوس ، ثم أقبل عبيد الله على القوم فقال : إن الذي كتب في أمركم ليس ممن تقدم على الكتب بما لا يقبله علماً ويحيط به خبراً ، وقد أخذ أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم .

فقالوا : إفعل ما أمرت به ، فقال : من خير الناس بعد رسول الله ؟ قلنا : علي بن أبي طالب ، فقال الخادم بين يديه : قد سمعت ما قالوا ، فأخبر أمير المؤمنين به ، فمضى ثم عاد فقال : يقول لكم أمير المؤمنين هذا مذهبي . فقلنا : الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين في دينه ، ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه .

ثم قال لهم : ما تقولون في أبي بكر رضي الله عنه ؟ فقالوا رحمة الله على أبي بكر نقول فيه خيراً ، قال فما تقولون في عمر ؟ قلنا : رحمة الله عليه ولا نحبه . قال : ولمَ ؟ قلنا : لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى . قال فسمعنا من وراء السبيبة

١١٥

ضحكاً أعلى من الضحك الأول ، ثم أتى الخادم فقال لعبيد الله عن المتوكل أتبعهم صلة ، فقد لزمتهم في طريقهم مؤونة واصرفهم ، فقالوا : نحن في غنى وفي المسلمين من هو أحق بهذه الصلة وإليها أحوج . وانصرفوا » .

أقول : هذا يدل على نهاية نصب المتوكل ، بحيث إذا جاءه خبر عن شيخ له جماعة يدرسون عنده ويتبعون مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، يبادر الى البطش بهم !

كان مسجد براثا مركزاً للشيعة قبل بغداد !

ذكرنا في سيرة الإمام الكاظم عليه‌السلام أن مسجد براثا أسسه أمير المؤمنين عليه‌السلام في عودته من حرب الخوارج سنة ٣٨ ، وأنه كان مركزاً للشيعة قبل تأسيس بغداد ، وكانت الكرخ بلدة فيها شيعة . ثم أسس المنصور بغداد بين براثا والكرخ .

قال في معجم البلدان : ١ / ٣٦٢ : « بُرَاثا : بالثاء المثلثة والقصر : محلةٌ كانت في طرف بغداد في قِبْلة الكرخ وجنوبي باب مُحَوِّل وكان لها جامع مفرد تصلي فيه الشيعة » .

وفي أمالي الطوسي / ١٩٩ ، عن الإمام الباقر صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إن أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله لما رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء فقال للناس : إنها الزوراء ، فسيروا وجَنِّبوا عنها فإن الخسف أسرع إليها من الوتد في النخالة ، فلما أتى موضعاً من أرضها قال : ما هذه الأرض ؟ قيل أرض بحرا ، فقال : أرض سباخ ، جنبوا ويَمِّنوا . فلما أتى يمنة السواد فإذا هو براهب في صومعة له فقال له : يا راهب ، أَنْزِلُ هاهنا ؟ فقال له الراهب : لا تنزل هذه الأرض بجيشك . قال : ولمَ ؟ قال : لأنه لا ينزلها إلا نبي أووصي نبي بجيشه يقاتل في سبيل الله ، هكذا نجد في كتبنا .

١١٦

فقال له أمير المؤمنين : فأنا وصي سيد الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيدُ الأوصياء . فقال له الراهب : فأنت إذن أصلع قريش ووصي محمد ؟ قال له أمير المؤمنين : أنا ذلك . فنزل الراهب إليه فقال : خذ عليَّ شرائع الإسلام ، إني وجدت في الإنجيل نعتك وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرض عيسى صلى‌الله‌عليه‌وآله ! فقال أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله : قف ولا تخبرنا بشئ ثم أتى موضعاً فقال : إلكزوا هذه ، فلكزه برجله صلى‌الله‌عليه‌وآله فانبجست عين خرارة ، فقال : هذه عين مريم التي انبعثت لها !

ثم قال : إكشفوا هاهنا على سبعة عشر ذراعاً ، فكشف فإذا بصخرة بيضاء فقال علي صلى‌الله‌عليه‌وآله : على هذه وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت هاهنا ! فنصب أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله الصخرة وصلى إليها ، وأقام هناك أربعة أيام يتم الصلاة ، وجعل الحرم في خيمة من الموضع على دَعْوِة « مسافة قريبة » ثم قال : أرض براثا ، هذا بيت مريم عليها‌السلام هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء عليهم‌السلام » !

وفي مناقب آل أبي طالب : ٢ / ١٠٠ : « قال أمير المؤمنين : فاجلس يا حُبَاب ، قال : وهذه دلالةٌ أخرى ، ثم قال : فانزل يا حباب من هذه الصومعة وابن هذا الدير مسجداً ، فبنى حباب الدير مسجداً ، ولحق أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكوفة ، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعاد حباب إلى مسجده ببراثا » .

ومن ذلك اليوم والى عصرنا الحاضر ، صار مسجد براثا مركزاً علمياً وعبادياً واجتماعياً للشيعة ، ومَعْلَماً من معالم بغداد .

١١٧

وقد شهد في العصور المختلفة حملات وحشية من السلطة ، ومن الحنابلة المتطرفين الذين أسس حزبهم المتوكل .

وتقدم أن ابن عقدة رحمه‌الله كان يأتي من الكوفة الى بغداد ، فيملي أحاديثه على المسلمين في مسجد براثا . وأن النواصب أتباع المتوكل اعتدوا عليه وحبسوه !

وقد شهدت بغداد ومسجد براثا خاصة أنواعاً من اضطهاد السلطة للشيعة .

قال ابن طاووس في الملاحم والفتن / ٢٦٠ : « قال السليلي مصنف الكتاب : فرأيت مسجد براثا وقد هدمه الحنبليون ، وحفروا قبوراً فيه ، وأخذوا أقواماً قد حفر لهم قبور فغلبوا أهل البيت ودفنوهم فيه ، إرادةَ تعطيل المسجد وتصييره مقبرة ، وكان فيه نخل فقطع ، وأحرق جذوعه وسقوفه ! وذلك في سنة اثنتي عشرة وثلاث مائة , فعطل من سنته الحج ، وقد كان خرج سليمان بن الحسن يعني القرمطي في أول هذه السنة ، فقطع على الحاج وقتلهم وعطل الحاج ، ووقع الثلج ببغداد فاحترق نخلهم من البرد فهلك . فأخبرني مولاي ناقد أن أبا عمرو قاضي بغداد قال له : احترق لي بقرية على ثلاث فراسخ ببغداد يقال لها صرصر مائة ألف نخلة . قال السليلي : فأي شأن أحسن ، وأي أمر أوضح من هذا » .

أقول : ما تقدم إنما هو نماذج من ظلم المتوكل للشيعة في البلاد ، فتصور !

* *

١١٨

الفصل السادس :

هدم المتوكل قبر الإمام الحسين عليه‌السلام

عقدة المتوكل من الإمام الحسين عليه‌السلام وزواره

١ . في مقاتل الطالبيين / ٣٩٥ : « وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب ، غليظاً على جماعتهم ، مهتماً بأمورهم ، شديد الغيظ والحقد عليهم ، وسوء الظن والتهمة لهم ، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره ، يسئ الرأي فيهم ، فحسَّن له القبيح في معاملتهم ، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله . وكان من ذلك أن كَرَبَ قبر الحسين عليه‌السلام وعَفَّى آثاره ، ووضع على سائر الطرق مسالح له ، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به ، فقتله ، أو أنهكه عقوبة !

فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء وقد شاهد ذلك ، قال : كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب ، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة ، وكانت قد زارت قبر الحسين عليه‌السلام وبلغها خبره ، فأسرعت الرجوع ، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها : أين كنتم ؟

قالت : خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان ، فقال : إلى أين حججتم في شعبان ؟ قالت : إلى قبر الحسين . فاستطير غضباً وأمر بمولاتها فحبست ، واستصفى أملاكها .

١١٩

وبعث برجل من أصحابه يقال له : الديزج وكان يهودياً فأسلم ، إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه ، وإخراب كل ما حوله ، فمضى ذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله ، نحو مائتي جريب ، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد ، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه ! وأجرى الماء حوله ، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل ، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه .

فحدثني محمد بن الحسين الأشناني ، قال : بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً ، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها ، وساعدني رجل من العطارين على ذلك ، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل ، حتى أتينا نواحي الغاضرية ، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا ، حتى أتينا القبر فخفي علينا ، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق ، وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق ، فزرناه وأكببنا عليه ، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط شيئاً من الطيب !

فقلت للعطار الذي كان معي : أي رائحة هذه ؟ فقال : لا والله ما شممت مثلها كشئ من العطر ، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع .

فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة ، حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات ، وأعدناه إلى ما كان عليه » .

أقول : الأشناني المذكور من أعلام العامة ، فهو يدل على التأثير الواسع لهدم قبر الحسين عليه‌السلام على السنة أيضاً ، وقد كان عمر الأشناني يومها خمس عشرة سنة .

١٢٠