النظريّة المهدويّة في فلسفة التاريخ

الأسعد بن علي قيدارة

النظريّة المهدويّة في فلسفة التاريخ

المؤلف:

الأسعد بن علي قيدارة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-93-5
الصفحات: ٢٢١

الذي جعل الإنسان خليفة في الأرض ، واصطفاه على ملائكة السماء ، وحمّله أمانة أشفقت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنها.

فمقوّمات الحدث التاريخي إلهية المنشأ والتخطيط : فكيف يصحّ إنكار الدور الإلهي؟! كما تسعى لذلك النظريات الوضعية التي تتهم النظرية الإسلامية خاصّة والنظريات الدينية عموماً باللاهوتية ، والخرافية والأسطورية طوراً آخر.

ولكن إقرار المدرسة الإسلامية بالدور الإلهي في التاريخ هو مظهر من مظاهر واقعية هذه المدرسة ، وليس نكوصاً للوعي البشري إلى مرحلة الأسطورة كما يعبّر أوغست كونت ، وليست تكريساً لحقبة الآلهة ، الحقبة الأولى من مراحل التاريخ من منظور ( فيكو ) المؤرِّخ الإيطالي ، إنّما الإيمان بالغيب والاعتقاد بالدور الإلهي من مسلّمات الإيمان الديني وعقيدة المؤمن أنّ الله هو الخالق والمربِّي للبشر.

والحوار السماوي بين الله والملائكة كما ساقه القرآن الكريم في مواطن عديدة حول استخلاف آدم عليه‌السلام ، والقرار الإلهي بتوطينه في الأرض وتحميله مسؤولية الخلافة الإلهية ، كلّ هذه الأمور حقائق كونية وليست أساطير اكتتبها المسلمون ونسجتها مخيلتهم أو خيالهم الديني؛ بل هي الدَفْعةُ الأولى لعجلة التاريخ التي انطلقت مع خلق آدم وتحميله مسؤولية الخلافة ، ولن تتوقّف هذه العجلة حتّى ترسو على شاطئ الأهداف النهائية.

فالشكل الأوّل : من أشكال التدخّل الإلهي في التاريخ يتمثّل في خلق آدم عليه‌السلام وخلق الطبيعة واستخلاف الإنسان.

ولذلك فإنّ النظريات الوضعية التي تنكر فكرة الخلق ومبدأ الألوهية تضطرّ لتفسير وجود الإنسان والعالم بالصدفة العمياء أو بالتفاعلات المادّية الذاتية!

وكلّ هذه النظريات المنكرة لفكرة الخالق والإرادة الإلهية في خلق الإنسان لا تعطي تفسيراً منطقياً لبداية التاريخ ومنطلقاته وآفاقه وموقع الإنسان من الوجود.

ويشكل عليها : أي معنى للتاريخ ولفلسفته إن كان أصل وجود الناس هو مجرّد صدفة عمياء؟ فهو في نهاية المطاف وفي منظور هذه النظريات المادّية ليس سوى ذرّة تائهة في هذا الوجود العظيم لا تعرف من أين ولا إلى أين؟

٨١

الشكل الثاني : من أشكال التأثير الإلهي في التاريخ تشخيص غاية التاريخ وهدف المسيرة الإنسانية ، فالله وعجل بما يمثّله من صفات الحقّ والعدل والكمال المطلق هو المثل الأعلى لهذه المسيرة ومنتهاها ، فصفات الله الجمالية خاصّة هي الأفق السامي لحركة المجتمع وقبلة المسيرة التاريخية ، وقد شرحنا هذا في النقطة الأولى.

الشكل الثالث : من أشكال التدخّل الإلهي ، وهو إرسال الأنبياء وبعثه الرسل ، فالخالق لم يكتف بما أودعه في البشر من عقل وفطرة ينيران لهم الدرب ويساعدانهم على التمييز بين الخير والشرّ والحقّ والباطل وما يتقدّم بالمسيرة وما يتأخّر :

( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) [ المدثر ].

( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) [ الإنسان ].

( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) [ البلد ].

بل اقتضى اللّطف أن ينصّب حججاً يأخذون بيد الناس إلى سبيل الهداية ويكشفون لهم عن دروب الغواية والانحراف ، فأرسل الرسل مبشِّرين ومنذرين وداعين إلى سبل النجاة ومصحّحين المسيرة الإنسانية لتتحرّك في الاتجاه الصحيح :

( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [ البقرة ].

( إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) [ الرعد ].

وحسب روايات أهل البيت عليهم‌السلام يمثّل خطّ النبوة مائة وأربع وعشرين ألف نبي ، شكّلوا خطّاً موازياً للخلافة الإنسانية العامة ، خطّ يشرف على هذه الخلافة بما يستبطنه من إحاطة بالمعارف الإلهية وبأهداف المسيرة وشروط نجاحها ومقوّمات تصحيحها : إنّه خطّ الشهادة كما يبيّن باقر الصدر رحمه‌الله : ـ وضع الله سبحانه وتعالى إلى جانب خطّ الخلافة ـ خلافة الإنسان على الأرض ـ خطّ الشهادة الذي يمثّل التدخّل الربّاني من أجل صيانة الإنسان

٨٢

الخليفة من الانحراف ، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة ، فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان ، وما تزخر به من إمكانات ومشاعر ، وما يتأثّر به من مغريات وشهوات ، وما يصاب به من ألوان الضعف والانحلال ، وإذا ترك الإنسان ليمارس دوره في الخلافة دون توجيه وهدى كان خلق عبثاً ومجرّد تكريس للنزوات والشهوات وألوان الاستغلال ـ (١).

وهذا الخطّ ـ الشهادة ـ لا يتمثّل في الأنبياء فقط ، فالشهداء الذين يؤدّون دوراً في هذا الإشراف هم في الواقع ثلاثة أصناف ، ويستدلّ الصدر رحمه‌الله على ذلك بالآية من سورة المائدة ، يقول تعالى : (انا انزلنا التورئة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربنيون والاخبار بما استحفظوا من كتب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولاتشتروا بايتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكفرون ).

والأحبار هم علماء الشريعة أمّا الربّانيون فهم درجة وسطى بين الأنبياء والأحبار ، بين النبي والعالم ، وهي درجة الإمام.

فالأنبياء والأئمة والعلماء يمثّلون حلقات هذا الخطّ ، خطّ الشهادة الذي أناط الله بعهدتهم مسؤولية تصحيح المسيرة الإنسانية؛ لأنّ الشهيد ـ مرجع فكري وتشريعي من الناحية الأيديولوجية يشرف على سير الجماعة وانسجامه أيديولوجياً مع الرسالة الربّانية التي يحملها ، وهو مسؤول عن التدخّل لتعديل المسيرة أو إعادتها إلى طريقها الصحيح إذا واجه انحرافاً في مجال التطبيق ـ (٢).

الشكل الرابع : من أشكال التدخّل الإلهي ، هذا الشكل يتمّ من خلال مجموعة النظم والقوانين التي تحكم الطبيعة والتاريخ والمجتمع ، والتي ترجع إلى الإرادة الإلهية المهيمنة على عالم التكوين والتشريع ، ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) [الأعراف] فالله هو خالق الكون وموجد الطبيعة التي تمثّل الإطار المكاني والزماني لحركة الغنسان ومسيرة المجتمع البشري؛ بل هو مدبّر هذا الكون عبر قوانين الطبيعة ومسيّر حركة التاريخ من خلال سنن التاريخ.

__________________

١ ـ محمّد باقر الصدر ، الإسلام يقود الحياة ، ص ١٦١.

٢ ـ م س ، ص ١٦١.

٨٣

ويمكن أن نسمّي منظومة القوانين الطبيعية الكونية التي تنظّم حركة الطبيعة ومنظومة القوانين التاريخية والاجتماعية بالقضاء الإلهي.

وأمّا حركة الطبيعة ومسارها الفعلي وحركة المجتمع ومسارها الفعلي فهي حركة القدر الإلهي ، فالقضاء والقدر الإلهيان يمثّلان الشكل الرابع من أشكال التدخّل الإلهي في التاريخ.

العامل الثاني : الإنسان

من المنطقي أن يكون الإنسان أحد العوامل المؤثّرة في حركة التاريخ ، بل هو محور هذه الحركة ومتعلّق بمختلف التحوّلات الحضارية وآفاق المستقبل البشري ، ولكنّنا نواجه هنا أيضاً نفس التجاذبات بين المدارس المختلفة حول موقع الإنسان وحدود دوره التاريخي ، فبعض الاتجاهات تختزل هذا الدور إلى أبعد حدّ حين تمنح العامل الاقتصادي والصراع الطبقي مثلاً الأثر الأكبر في صناعة التحوّلات والتبدّلات التاريخية والتحكّم في مسيرة الإنسان ، ولا تعطي لهذا الإنسان من وظيفته في هذا المعنى سوى الوعي بالحتمية التاريخية ، أو بالصيرورة التاريخية!

بالمقابل نجد اتجاهات تتطرّف لصالح العامل الإنساني فتمنح البطل الدور المركزي في الأحداث التاريخية وتهمل العوامل الأخرى.

ونعتقد أنّ الرؤية القرآنية للتاريخ وبالتالي المدرسة الإسلامية تقدّم رؤية متوازنة تحفظ للإنسان دوره الواقعي دون مبالغة ولا بخس لموقعه.

والسؤال الذي نترقّب الإجابة عنه : كيف يسهم الإنسان في صنع التاريخ؟

وهو سؤال يستمدّ جذور إجابته من الرؤية الكونية والأصول العقائدية التوحيدية : ففي المنظور الإسلامي العام ليس الإنسان مجبوراً مطلقاً ، ولا مفوّضاً مطلقاً ، ولكن هو بين

__________________

* تلاحظ هنا أنّ هناك شكل آخر من اشكال التدخل الغلهي يمكن أن يكون شكلاً خامساً، ويتمثّل في التدخّل الاستثنائي لله عزّوجلّ كحالات إنقاذ الأنبياء، إنزال العقاب بالأقوام المتمرّدة، إمداد المؤمنين بالملائكة، إنزال السكينة على قلوب المؤمنين ربما يضيف البعض وعلى رأي بعض المباني : المعاجز والكرامات، وقد أعرضنا عن ذكره لما يستوجبه من مقدّمات عقائدية وفلسفية عميقة، فمن أراد الاطلاع على الموضوع أن يراجع المصادر المتخصّصة.

٨٤

أمرين : ـ لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ـ. فما تقدّمه فلسفة التاريخ من خطوط للدور الإنساني في صناعة الحضارة وتحديد المصير يمثّل بشكل ما : تفصيلات هذه القاعدة ـ لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ـ تفصيلات تلتصق بالبعد الاجتماعي والتاريخي.

لقد مكّنت الميزات التكوينية ، التي حازها الإنسان من قوام خاص ، وعقل مفكّر ، وميول فطرية ، وقابليات نفسية ، صاحبها من أداء دور مميّز على الأرض ، وجعلت منه الكائن الحي الوحيد القادر على بناء الحضارات ، وتشييد نمط حياتي يتجاوز أفق المجاميع الحيوانية الأخرى التي قد تعيش في حياة اجتماعية ولكنّها غير قادرة على تخطّي النمط الغرائزي التي طبعت عليه منذ القدم.

هذا التفرّد يعود إلى ما يتميّز به الإنسان من فكر وإرادة حرّة ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين الحقيقتين في مواطن عديدة كما في قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَ ؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) [ البقرة ].

( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) [ الأحزاب ].

هذه القابليات الفكرية التي غرست في الإنسان منذ فجر تاريخه بتعليم آدم الأسماء ، وهذه الإرادة والحرّية والقدرة على الرفض والتمرّد والعصيان التي تحكم جهازه النفسي هما السرّان الكامنان وراء تفرّد هذا الكائن ، وقدرته على صنع التاريخ والحضارة.

ويمكن أن نستنتج المعادلة التالية :

عقل + حرية + الشرائط المادّية الموضوعية = حضارة

ومنهج العقل وأسلوب ممارسة الحرية تحدّدان أساساً نمط الحضارة ، أمّا الإطار المادّي التقني والفنّي والمعيشي ليس سوى القشرة الخارجية لها.

والدين والتجربة عاملان أساسيان لتشكيل العقل ، والإيمان والسمو في الأهداف يفرزان الاختيارات الصائبة ، وفعالية الإنسان في التاريخ تتسع بمقدار ما تتعمّق القاعدة الفكرية والنفسية له؛ لأنّ النظرية القرآنية ترى أنّ حركة البناء تنطلق دوماً من الداخل إلى الخارج ، وأنّ التغيير الاجتماعي والتاريخي لا يمكن أن يحقّق أهدافه كاملة إلا إذا استند على

٨٥

قاعدة التغيير الداخلي ، ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ) [ الرعد ].

هذا المحتوى الداخلي في المنظور القرآني هو القاعدة في بناء الحضارات ، وعلى الرغم من أنّ تجارب الأنبياء تؤكّد أنّ الإطار الجغرافي ، والعوامل العرفية ، والعامل الاقتصادي تؤثّر على حياة الناس وطريقة إدارتهم لقضاياهم العامّة وبالتالي على تاريخهم ، فإنّ ذلك لا يكون على سبيل العلّة التامّة؛ بل هي مقتضيات ويظلّ عمل المجتمع وخياراته الأساسية في الوجود هي المحدّد المحوري لمصير المجتمع.

العامل الثالث : النظام التكويني

هل تؤثّر الطبيعة في التاريخ حقّاً؟ هل لعبت دوراً في تاريخ الحضارات فعلاً؟

حينما نتساءل هنا عن دور الطبيعة والنظم الكونية التي تهيمن على الوجود العام ، وحينما ننسب لها دوراً ما في هذا المجال ، يكون ذلك على نحو الإسناد المجازي العقلي ، فالطبيعة كمظهر من مظاهر القدرة الإلهية وإحدى التجلّيات للفعل الإلهي المهيمن على الوجود والإنسان والتاريخ.

فالطبيعة حضن التاريخ ، وبالتالي فالإنسان مضطرّ أن يكيّف حياته ومسيرته وفق خصائصها التكوينية ونواميسها الحاكمة.

لا يمكن للإنسان أن يتمرّد على القوانين التي تحكم بنيته المادّية ( جسمه مثلاً ) ، ولا أن يتمرّد على قوانين الطبيعة من حوله ، قانون الجاذبية ، خصائص المواد ، الثوابت الفيزيائية ... ، فهو ينظّم حياته ويؤسّس لها على قاعدة هذه النظم والقوانين.

وكلّ تأثير سلبي في هذا النظام الطبيعي سيدفع الإنسان ثمنه باهظاً ، وهذا ما نلاحظه بالنسبة للإنسان المعاصر حيث حدثت تحوّلات كونية وبيئية كثقب طبقة الأوزون وتلوّث المحيطات ، وارتفاع درجات الحرارة ... نتيجة الفساد والاستغلال المدمّر وغير المنظّم لثروات الأرض ، ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) [ الروم ].

٨٦

والطبيعة ليست إطاراً مادّياً لحركة الإنسان وفضاءً مكانياً لمسيرته وصيرورة حضاراته فقط ، كما يعتقد بعضهم ، حيث يتعاطى معها كعنصر حيادي تجاه مسيرة الإنسان وطبيعة النظم والرؤى التي يؤمن بها ويتحرّك وفقها ، بل إنّ الطبيعة في المنظور القرآني تتفاعل إيجاباً وسلباً مع صلاح العمل الإنساني وعدم صلاحه واستقامة السلوك الإنساني وعدم استقامته ، فالأرض تفجّر خيراتها والسماء تنزل قطرها إذا أقام المجتمع نظمه وقوانينه على قاعدة العدل والمساواة بمنأى عن الظلم والاستغلال ، ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) [ الجن ].

( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) [ الطلاق ].

وهذا المبدأ يفسّر لنا طبيعة الرفاه الاقتصادي الاستثنائي الذي يعرفه مجتمع الظهور حيث لا يوجد في المجتمع فقير محلّ للزكاة ، والمال يحثوه الإمام حثواً ، ولا يعدّه عداً ، ولا تترك السماء قطراً إلا أنزلته والأرض نبتاً إلا أنبتته كما سنفصّل ذلك في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

العامل الرابع : النظم الاجتماعية السياسية

تهمل دراسات فلسفة التاريخ عادة هذا العامل بسبب الاستغراق في النظرة الفردية للإنسان وحركته في الزمن.

ويُقصد بالنظم الاجتماعية السياسية : الصيغ الحياتية التي تنظّم حياة الناس في علاقات الإنسان بأخيه الإنسان في مختلف المجالات ( الأسرية ، الاقتصادية ، السياسية )

لقد أكّد القرآن على الروح الجماعية والمسؤولية المجتمعية ، ومن هنا كان الحديث عن عذاب الأُمّة وأجل الأُمم ، ومصير الأُمم ، وعقاب الأُمم ، وليس ذلك إلا لأنّ للمجتمع والأُمّة روح واحدة تصحّح هذه المسؤولية وتسوّغ هذه التوصيفات.

والنظم الاجتماعية السياسية هي التي تشكّل هذه السمة الجماعية وتصبغ هذه الروح بطابعها الخاص ، ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [ البقرة ].

٨٧

( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) [ الأنعام ].

( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * هَ ذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [ الجاثية ].

هذه الروح الجماعية هي التي تصحّح العقاب العام ، ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ الأنفال ].

عرفت النظم السياسية وعبر التاريخ الإنساني تطوّرات عميقة جعلت الوعي البشري ككلّ يتمسّك أكثر فأكثر بمطالب الحقّ والعدل الاجتماعي وحقّ الجماهير والمستضعفين في تقرير مصيرهم ، وغدت الثقافة الحقوقية للإنسان والأفراد والمجتمعات ولمختلف الأصناف المهنية والعرقية والطبقات الاجتماعية رافداً مهمّاً من روافد هذا الوعي العميق بضرورة حفظ الحقوق وقيم العدالة كمقصد أساسي لحركة الناس والمجتمعات.

ولكن لم يلتفت الإنسان المعاصر بعد بشكل جيّد إلى تجارب الأنبياء عليهم‌السلام ، والأديان عموماً في تكريس العدالة وحفظ الحقوق وصونها والذود عنها ، فهذه التراكمات في التجارب الإنسانية فيما أبدعه العقل الإنساني إذا استرشدت بتجارب الأنبياء والأوصياء وتراث الأديان قادرة على إفراز نظم تشريعية وأنظمة اجتماعية وبناء كيانات سياسية مؤهّلة لحفظ التوازنات الصعبة :

أوّلاً : حقّ الأفراد وحقّ المجتمع.

ثانياً : حاجات البدن ومتطلّبات الروح.

ثالثاً : مقتضيات التكوين ومقاصد التشريع.

رابعاً : ضغوط الماضي والحاضر وتحدّيات المستقبل.

خامساً : المسؤولية التاريخية والاجتماعية أمام الناس ، والمسؤولية الشرعية أمام الله.

والأزمات الكبرى التي يشهدها عالمنا المعاصر ، الحروب ، واللاتوازن ، تؤكّد حاجتنا الملحّة لمثل هذه النظم الاجتماعية السامية البديلة والناضجة التي تبشّر بها إرهاصات التطوّر

٨٨

الفقهي الإسلامي وخروجه من القصور وملائمته لحاجات الدولة ، ومقتضيات العصر ، وضرورات المستقبل.

العامل الخامس : قوانين التاريخ

وهذا ما نفصّله في الأساس الثالث التالي :

الأساس الثالث : سنن التاريخ وقوانينه

يعدّ بلوغ فكرة ـ القانون التاريخي ـ أو ـ سنن التاريخ ـ فتحاً مبيناً للعقل البشري في مستوى الوعي التاريخي.

ففي ضوء هذا المفهوم القرآني لم يعدّ التاريخ تراكماً عشوائياً للأحداث أو مساراً يخضع للصدف العمياء ، ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) [ الأحزاب ].

( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) [ فاطر ].

( سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) [ غافر ].

والقرآن في نصوص عديدة يحثّ على الاقتداء بهذه السنن ، وكما في قوله تعالى : (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [ النساء ].

( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) [ آل عمران ].

( وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ) [ الإسراء ].

ونلاحظ أنّ استقراء التطوّر المعرفي في التاريخ يعكس مدى التقدّم الذي قطعته الخبرة البشرية في مجال استكشاف قوانين عالم الطبيعة والتكوين وحسن توظيفها في خدمة الإنسان وضمان الحاجات المادّية وتوفير الحياة المرفهة.

وأمّا في المجال الاجتماعي والتاريخي فلا يزال الفكر الإنساني يتلمّس طريقه إلى الكشف عن كلّ أسرار وقوانين هذه الدائرة وطرق الاستفادة منها.

والفكر الإسلامي بما يمتلكه من ينابيع الوحي الإلهي والهداية يتحمّل مسؤولية جسيمة في تقديم القراءة القرآنية للموضوع ، وتعميق الوعي الإنساني في اتجاه ذلك الأفق

٨٩

عبر بلورة رؤى إسلامية ناضجة تقنع العقول المعاصرة وتستجيب لتساؤلات الباحثين.

ولتقريب أدقّ للموضوع نسوق نماذج من هذه السنن التاريخية في القرآن الكريم.

النموذج الأوّل : حتمية الأجل للأمم

فالقرآن الكريم يؤكّد في آيات عديدة أنّ الأجل المحتوم قدر لا فرار منه؛ بل إنّ المجتمعات لها حياة وموت ، وأنّه إن حلّ أجل أُمّة ما لا يمكن أن تلوذ منه فكاكاً فالأجل محتوم ، ويحكمه قانون صارم لا يتغيّر ولا يتبدّل.

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) [ الحجر ].

( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) [ الأعراف ].

( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ نوح ].

( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَ كِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ) [ النحل ].

النموذج الثاني : حتمية انتصار الحقّ وظهوره على الباطل

( وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) [ الأنفال ].

( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ) [ الإسراء ].

( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) [ الأنبياء ].

( وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) [ الشورى ].

النموذج الثالث : قانون الاستبدال

مفاد هذا القانون أنّ الأجيال التي لا تتحمّل مسؤولياتها التاريخية في صون الأمانة وحفظ الأهداف الإلهية في التاريخ لن تقف في النهاية حائلاً دون بلوغ ذلك فإنّ الله يستبدلهم بغيرهم ولا يكون البدلاء مثلهم.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [ المائدة ].

٩٠

فالقرآن لا يرى ديمومة لأي جيل أو أي فئة ، فكلّ هذه المجموعات ليست في النهاية سوى حلقة من حلقات التتالي على مسرح التاريخ ، وكلّ مجموعة لا تؤدّي دورها كما ينبغي لابدّ أن تُستبدل لتأتي مكانها مجموعة أخرى قادرة على إنجاز مهامها ، ودفع عملية المسيرة إلى الأمام.

( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ التوبة ].

( هَا أَنْتُمْ هَ ؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [ محمّد ].

( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ) [ الواقعة ].

( فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ٤٠ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) [ المعارج ].

النموذج الرابع : نصرة الله من ينصره وأنّ النصر بمقدار ثبات المؤمن

( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [ المائدة ].

( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ الحج ].

( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) [ الروم ].

( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [ الصافات ].

( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [ المجادلة ].

النموذج الخامس : حتمية البلاء

فالبلاء والمحن سنن تاريخية مطّردة في كلّ المجتمعات وفي كلّ مراحل التاريخ الإنساني ، والمسلم فرداً كان أو مجتمعاً كلّما زاد إيمانه وصلابته العقائدية ازدادت بلاءاته ومحنه.

( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [ العنكبوت ].

فالفتنة والمحنة قانون مطّرد ويشمل كلّ الذين آمنوا ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.

٩١

( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) [ البقرة ].

( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) [ آل عمران ].

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) [ آل عمران ].

النموذج السادس : الترابط والملازمة بين العدل الاجتماعي والرفاه الاقتصادي

أكّدت النصوص القرآنية في أكثر من مورد على الملازمة بين العدل في التوزيع والتقدّم الاقتصادي ، وأنّ تطبيق نظام العدل والصلاح ينتج عنه الرفاه المعيشي ونزول الخيرات وبركات السماء.

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) [ المائدة ].

( وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [ الأعراف ].

( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) [ الجن ].

( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ) [ نوح ].

النموذج السابع : العاقبة للمتقين ، والأرض يرثها الصالحون والمستضعفون

يجزم القرآن الكريم أنّ في نهاية المطاف ستؤول الأمور والأرض إلى المتقين والصالحين ، فالمؤمنون سيسودون ويسوسون العالم بموازين الحقّ والعدل ويتوجون رحلة الإنسان في الحياة بالمجتمع العالمي العادل الخالي من الظلم والحيف والحرمان والفقر ، ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [ الأعراف ].

٩٢

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء ].

( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) [ القصص ].

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [ التوبة ، الصف الآية ٩ ].

الآيات تلخّص الوعد الإلهي بتمكين المستضعفين واستخلافهم وسيادتهم على الأرض.

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَ ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ النور ].

الأساس الرابع : مراحل التاريخ

للتاريخ بداية ونهاية ، بداية التاريخ كما تؤمن النظرية الإسلامية وكما بيّنا في الأساس الأوّل تجسّدت في خلق آدم وحواء عليهما‌السلام كممثّلين للجنس الإنساني محور الحركة التاريخية.

أمّا الغاية والنهاية كما بيّنا في الأساس الأوّل فهي قيام مجتمع الصالحين الذي ينجح نجاحاً كاملاً في تحقيق العبودية الكاملة وتجسيد القيم الإلهية الخالدة. وبين البداية والنهاية مسار تاريخي طويل ومعاناة عميقة وكدح متصاعد ، ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ) [ الانشقاق ].

هذا المسار التاريخي يمكن أن نختزله في أربع مراحل أساسية :

ـ المرحلة الأولى : مرحلة خلق آدم عليه‌السلام وحضانته في الجنّة.

ـ المرحلة الثانية : مرحلة الفطرة والوحدة.

ـ المرحلة الثالثة : مرحلة الاختلاف والتشتّت.

ـ المرحلة الرابعة : مجتمع الصالحين.

__________________

* لقد تحدّث الشهيد محمد باقر الصدر عن مراحل الأولى كتقييم عام للتاريخ البشري في كتاب الإسلام يقود الحياة، كرّاس : خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء.

٩٣

ولنتحدّث بتفصيل مناسب عن كلّ واحدة من هذه المراحل.

أوّلاً : مرحلة خلق آدم عليه‌السلام وحضانته

في القرآن آيات ومقاطع كثيرة تحدّثنا عن هذه المرحلة وتفاصيلها وهي مبثوثة في عدّة سور : البقرة الآيات من ٢٩ إلى ٢٣٨ ، في سورة الأعراف من الآية ١٠ إلى الآية ٢٥ ، في سورة طه من الآية ١١٥ إلى الآية ١٢٦ ، وفي سورة الحجر من الآية ٢٨ إلى الآية ٤٣ ، وفي سورة الإسراء من الآية ٦٢ إلى الآية ٦٥ ، وسورة ص من الآية ٧١ إلى الآية ٨٥.

وبقراءة موضوعية لهذه الآيات نكتشف أنّ هذه المرحلة ـ التي فصّل القرآن الكريم الكثير من جوانبها ـ تعدّ الأساس لتاريخ الإنسان وأنّها ستتحكّم في تاريخ الإنسان ومستقبله ، معالم تفصح عنها الآيات ، ومن الضروري الوقوف عند دلالاتها. هذه المعالم الأساسية هي :

أ. التركيبة التكوينية المزدوجة للإنسان.

ب. تفضيل آدم عليه‌السلام والنوع الإنساني على الملائكة.

ج. نشوء العداوة بين الإنسان والشيطان.

د. هبوط آدم عليه‌السلام إلى الأرض وبدء حركة التاريخ.

عن المعلم الأوّل تحدثنا الآيات عن هذه الطبيعة التكوينية لهذا الإنسان على لسان الخالق سبحانه وتعالى :

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ) [ الحجر ].

( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) [ ص ].

( خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ) [ الرحمن ].

٩٤

هذا الإخبار القرآني عن التركيبة التكوينية المزدوجة مهمّ جدّاً؛ لأنّ هذه التركيبة ستوجّه حركة هذا الإنسان في المراحل القريبة ( زمن الحضانة ) ، كما ستوجّه وتتحكّم في مستقبله وفي تاريخه البعيد أيضاً.

لقد تجلّى ذلك بوضوح في المدى القريب حينما انساق آدم ، وتحت تأثير نزوعه الأرضي الطيني إلى الخلود وحبّ البقاء ، إلى تصديق الشيطان الرجيم فيما أوعده من مُلك لا يبلى وخُلد لا فناء بعده.

ويتجلّى ذلك أيضاً في كلّ تاريخ الإنسان وسائر المراحل الممتدّة إلى يومنا الحاضر في الصراع الذي يعيشه هذا الإنسان بين نوازع الخير ونوازع الشرّ ، وبين السمّو والتعالي إلى القيم الروحية التي تشدّه إليها نفحة الروح الإلهية فيه ، وبين الركون إلى الأنوية والشهوة ، كما تفرض عليه قبضة الطين.

والتاريخ يكشف لنا أنّ هناك أناساً ينحازون إلى هذا الجانب ، وهناك آخرون ينحازون إلى الطرف الآخر ، والصراع حتمي بين الفريقين ، وهذا الصراع لابدّ منه لحفظ القيم والوصول إلى النهاية السعيدة. وعن الاستعداد المزدوج توجد عدّة آيات ، ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) [ البلد ] ، ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) [ الإنسان ] ، ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [ الشمس ] ، ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَ كِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [ البقرة ] ، ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [ الحج ].

تفضيل آدم على الملائكة

المَعْلَم الثاني المهمّ في هذه المرحلة ، تفضيل آدم ـ بما هو رمز للنوع الإنساني ـ على الملائكة؛ هذه المخلوقات النورانية التي جبلّت على الطاعة المطلقة لله تعالى.

هذا التفضيل يؤشر لموقع آدم الوجودي وعظمة هذا الكائن الذي صدر الأمر الإلهي للملائكة أجمعين أن يسجدوا له تكريماً وتبجيلاً وتعظيماً.

٩٥

( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَ ؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) [ البقرة ].

في هذا الحوار تتخوّف الملائكة من استخلاف آدم على الأرض بعدما اطّلعت على تركيبته التكوينية التي تجعله قابلاً للتمرّد والعصيان ، وهي ما لا تجده في ذواتها ـ حيث إنّ الموجود الأرضي بما أنّه مادّي مركّب من القوى الغضبية والشهوية ، والدار دار التزاحم محدودة الجهات ، وافرة المزاحمات ، مركّباتها في معرض الانحلال ، وانتظاماتها وإصلاحاتها في مظنّة الفساد ومصبّ البطلان ، لا تتمّ الحياة فيها إلا بالحياة النوعية ، ولا يكتمل البقاء فيها إلا بالاجتماع والتعاون فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء ، ففهموا من هناك أنّ الخلافة المرادة لا تقع إلا بكثرة الأفراد ونظام اجتماعي يسهم ويفضي بالآخر إلى الفساد والسفك ـ (١).

هذا هو استنتاج الملائكة : هذا الكائن غير جدير بالخلافة؛ لأنّ الخليفة لابدّ أن يكون حاكياً لصفات المستخلِف ، وأين هذه الصفات ( الفساد والسفك ) من الجمال والعظمة الإلهيين!

ولكن المعرفة الخاصّة التي ميّزت هذا الكائن فضّلته ورجّحته على الملائكة ( والمعرفة هو القدر المشترك بين آراء أغلب المفسّرين في تفسير معنى الأسماء ).فالله في ردّه على الملائكة لم ينسف تخوّفهم من الفساد وسفك الدماء وإنّما نبّههم إلى بعد آخر في هذا الكائن وبه استحقّ ما استحق ( اني اعلم ما لا تعلمون ).

لقد توجّست الملائكة من حريّة هذا الكائن ، وخشيت من تمرّده على القوانين الإلهية والقيم الأخلاقية بالظلم وسفك الدماء ، ولكن الله أعلمهم أنّ الإنسان يملك معرفة واستعدادات لمعرفة الحقائق الكونية مما يتيح له الاعتصام بخطّ الهداية وبلوغ مقام الخلافة والحكاية عن الله في صفاته وجماله.

__________________

١ ـ محمّد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ١١٦.

٩٦

العداء بين إبليس والإنسان

في هذه المرحلة أعلن الشيطان عداءه للإنسان ورفض السجود له وتعذّر بالتفوّق العنصري الذي يمتاز به حيث خلق من نار وأمّا آدم فخلق من طين.

( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ الأعراف ].

وفي الواقع حَسَد الشيطان الإنسان على هذا الموقع الذي أولته إيّاه السماء وحجبته أنانيته أن يرى لهذا الكائن أيّة فضيلة؛ بل استغرق في الأنا يعصي أمر الله سبحانه وتعالى ، فطُرد من ساحة الرحمة الإلهية لِيُعْلِنَ حرب غواية على هذا الإنسان ، الذي بسببه أُقصيَ عن هذه الساحة ، وأبعد عن صفوف الملائكة بعد الانتساب إليهم إثر عبادة طويلة امتدّت لستة آلاف سنة حسب ما تقول الروايات.

( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) [ الأعراف ].

وانطلقت حركة الصراع فعلياً منذ فترة الحضانة في الجنّة المؤقّتة التي أسْكِنَ آدم وحواء فيها لأجل مسمّى ، واستنفر إبليس كلّ مواطن الضعف في شخصية آدم من سرعة تصديقه ونزعته الفطرية للخلود ليقنعه بالأكل من الشجرة المنهي عنها ، ويخالف بذلك النهي الإرشادي الصادر من الله.

( وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَ ذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَ ذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) [ الأعراف ].

أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت سوآتهما وكان ظهور السوءة ( العورة ) النتيجة الطبيعية للأكل من الشجرة.

فوسوس له الشيطان قال : ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ

٩٧

الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) [ طه ].

( فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ) [ الأعراف ].

وقد فسّر المفسّرون بدو السوءة وظهورها بالتمايل الجنسي المستلزم للغذاء والنمو ، ومن هنا نفهم الربط بين الأكل من الشجرة وظهور العورة ، ونفهم من سياق الآيات أنّ الأكل من الشجرة وظهور السوءة كان لابدّ منه ، وقد تحقّق فعلياً بسوء اختيار آدم وزوجته نتيجة لغواية الشيطان الذي اتخذ على نفسه عهداً أن يغوي آدم ونسله ويضلّهم.

وهذا يؤكّد أنّ دور الشيطان لا يخرج عن التخطيط الإلهي؛ بل يخدم أهداف هذا التخطيط في النهاية ويعزّز مفهوم الاختيار والامتحان والابتلاء للإنسان.

بعد تجربة الجنّة وفترة الحضانة ، اكتمل إعداد آدم تكوينياً ونفسياً لمهمّة الاستخلاف فكان الهبوط إلى الأرض وبدء المسيرة الإنسانية.

فالإنسان من جهته يحاول أن يكون في مستوى الخلافة الإلهية ومؤدّياً للأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال حملها.

والشيطان من جهته يسعى لتضليل الإنسان وإبعاده عن سبيل الهدى والفلاح ، ( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) [ الأعراف ].

( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) [ الحجر ].

( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَ ذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) [ الإسراء ].

وأُبهِمَ على كثيرين موضوع الشيطان ودوره ووسوسته ، فظنّوا أنّ الأمر بهذه

٩٨

الطريقة خروج عن ميزان العدل الإلهي ، لما فيه من زيادة في تعقيد الامتحان والتكليف : أفلا يكفي ما سيلاقيه الإنسان من صعوبات وتعقيدات في حياته وصراع داخلي وخارجي بين الحقّ والباطل لنزيد عليه محنة الشيطان؟

والجواب ـ إنّ عمل الشيطان هو الإدراك الإنساني ، ووسيلة عمله العواطف والإحساسات الداخلية ، فهو الذي يلقي هذه الأوهام الكاذبة والأفكار الباطلة في النفس الإنسانية كما يدل عليه قوله تعالى : ( الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) [ الناس ] ، ولكنّ الإنسان مع ذلك لا يشكّ في أنّ هذه الأفكار والأوهام المسمّاة وساوس شيطانية أفكار لنفسه يوجدها هو في نفسه من غير أن يشعر بأحد سواه يلقيها إليه أو يتسبّب إلى ذلك بشيء ـ (١).

هبوط آدم على الأرض وبدء حركة التاريخ

بعد تلك التجربة الفريدة التي عاشها آدم وحواء في مرحلة الحضانة التي استوفت أغراضها ببلوغ آدم وحواء درجة من النضج التكويني والنفسي ، كان الدرس القاسي الذي تلقّاه آدم وزوجته ضرورياً ، ليعرف الإنسان ما ينتظره في مرحلة الاستخلاف ومسؤوليات دار التكليف ، إنّها ليست نزهة ترفيهية سهلة ومرحة ، إنّها رحلة صعبة محفوفة بمخاطر ومزالق عنوانها الكبير الشيطان وجنوده.

كان الدرس الكبير الذي أعلنته السماء لآدم ستنزل إلى الأرض ولكن إذا لم تعتصم بهدى الله وخَضَعْتَ ، وإذا أنصتّ مرّة أخرى لغواية إبليس فلن تكون حياتك إلا انحرافاً وآخرتك إلا خسراناً مبيناً.

( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [ طه ].

وفي سورة البقرة نقرأ آيات في السياق نفسه معلنة القاعدة العامّة لحركة الإنسان في

__________________

١ ـ الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، ج ٩ ، ص ٤٢.

٩٩

الزمن ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَ ئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ البقرة ].

فمرحلة الحضانة تؤسّس لمنهج المسيرة كما يجب أن تتحرّك فيه : عدم الخضوع لغواية الشياطين ودواعي الانحراف.

( يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ) [ الأعراف ].

المرحلة الثانية : مرحلة الفطرة أو الوحدة

في بداية نشوء المجتمع الإنساني كان الناس أُمّة واحدة كما يخبرنا القرآن الكريم.

في تلك المرحلة كانت الفطرة هي السائدة ، وكان التوحيد عقيدة المجتمع ، وخلافاً لبعض النظريات الوضعية التي تحدّثت عن الإنسان الأوّل بمنأى عن الدين ومعرفة الله ، كذات متحيّرة وقعت فريسة الأساطير والسحر والشكّ ، فإنّ النظرية الإسلامية تؤكّد على البداية المسدّدة لحركة الإنسان ، وهذه دلالة مهمّة لنبوة آدم عليه‌السلام ، فالإنسان الأوّل نبي ، وله اتصال خاص بالله ، مما يؤكّد أنّ تاريخ الإنسان لم يبدأ منفصلاً عن الغيب ألبتة كما توحي بذلك هذه القراءات الوضعية.

هذا المجتمع الأوّل كان بسيطاً في حاجاته محدوداً في قابلياته واستعداداته ، ومع تقارب القابليات بين أفراد ذلك المجتمع ووفرة الفرص والثروات الطبيعية وتشابه الاستعدادات التكوينية والنفسية كان يتوقّع أن تتقلّص هوامش النزاعات والخلافات ، ولكن لا يعني هذا خلو المجتمع الأوّل من كلّ أشكال النزاع والصراع ، فقد حدثت مثل هذه الوقائع الجزئية التي لم تخرج المجتمع الأوّل من سمته العامة : مجتمع فطري توحيدي ، فالقرآن يحدّثنا مثلاً عن قصّة هابيل وقابيل ابني آدم ، حيث تحرّكت نوازع الحسد في قابيل فقتل أخاه ، وكانت أولى جرائم القتل على الأرض وفي التاريخ.

١٠٠