النظريّة المهدويّة في فلسفة التاريخ

الأسعد بن علي قيدارة

النظريّة المهدويّة في فلسفة التاريخ

المؤلف:

الأسعد بن علي قيدارة


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-93-5
الصفحات: ٢٢١

مع تشعبّ المجتمع الأوّل وتكاثر أفراده وتعمّق الفروقات وبروز التنوّعات وتعدّد الميولات والأذواق بدأت الخلافات تشبّ بين أفراد المجتمع الإنساني وتهدّد وحدته ومساره الصحيح ، واحتاج الناس لأجل تصحيح المسيرة إلى عامل خارجي فكانت النبوات التشريعية التي جاءت لحلّ الخلافات ، وكانت إيذاناً ببدء مرحلة جديدة : مرحلة التشتّت.

المرحلة الثالثة : مرحلة الاختلاف والتشتت

يقول الله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ البقرة ].

الإنسان اجتماعي بالفطرة ، فالفطرة تدعوه للتعاون والاجتماع ، وهذه الفطرة كما تدعوه للاجتماع تدعوه لتقديم حاجاته ومصالحه الفردية ، فكما أنّ الفطرة دعته للاجتماع والائتلاف كانت هي السبب في الخلافات.

يقول صاحب الميزان في تفسير الآية : ـ إنّ الإنسان ـ وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون ـ كان في أوّل اجتماعه أُمّة واحدة ثمّ ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية ، فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة ، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين ، وشفّعت بالتبشير والإنذار : بالثواب والعقاب ، وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين ، وإرسال المرسلين ، ثمّ اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدأ والمعاد ، فاختلّ بذلك أمر الوحدة الدينية وظهرت الشعوب والأحزاب ، وتبع ذلك الاختلاف في غيره ، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغياً من الذين أوتوا الكتاب ، وظلموا عتواً منهم بعدما تبيّن لهم أصوله ومعارفه وتمّت عليهم الحجّة ، فالاختلاف اختلافان : اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم ، واختلاف في أمر الدين ، وهو فطري وسبب لتشريع الدين ـ (١).

__________________

١ ـ محمّد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، ج ٢ ، ص ١١٣.

١٠١

وسنفصّل الحديث عن هذه المرحلة في الفصل التالي حيث نشرح تطوّر المجتمع الإنساني في هذه المرحلة عبر استعراض تكامل النبوات وختمها وبلوغ حقبة الوصاية الإلهية.

المرحلة الرابعة : مجتمع الصالحين أو المتقين

ذكرنا سابقاً أنّ النظرية الإسلامية في فلسفة التاريخ يحكمها التفاؤل ، فهي تنظر إلى المستقبل البشري بإيجابية وتلتقي مع المدارس التي تؤمن بغدٍ سعيد ومزدهر تسود فيه قيم العدل والرخاء والرفاه.

وهي ترى : أنّ نهاية المسار التاريخي تكون السيادة فيه للمتقين والصالحين ويرث الأرض المستضعفون.

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء ].

( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [ الأعراف ].

هذا التوريث الإلهي هو تنفيذ للوعد الإلهي بأن يمكّن المؤمنين ويستخلفهم في مجتمع لا شرك فيه.

( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَ ئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ النور ].

هذا المجتمع الصالح ضرورة تاريخية لابدّ منها مهما طال الزمن ، وهو ما عبّرت عنه الروايات الواردة من طرق العامّة والخاصّة ومن هذه الروايات : ـ لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله تعالى رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ـ (١).

__________________

١ ـ مهدي الفقيه الأيماني ، الإمام المهدي عند أهل السنّة ، ص ٢٠٧ ، نقلاً عن كنز العمّال.

١٠٢

لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّله الله تعالى حتّى يملك رجل من أهل بيتي جبل الديلم والقسطنطينية ـ (١).

ـ لا تقوم الساعة حتّى يملك الأرض رجل من أهل بيتي أجلى أقنى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً ، يكون سبع سنين ـ (٢).

الأساس الخامس : المستقبل البشري

تحديد هوية المستقبل ومشخّصاته ركن أساسي في فلسفة التاريخ ، فكلّ نظرية تمتلك رؤية محدّدة لمستقبل الناس وغدهم الآتي.

وكما رأينا سابقاً تؤمن النظرية الإسلامية بنهاية سعيدة للمسيرة البشرية ، وهي نهاية حتمية لابدّ أن يصل إليها الناس حسب ما تمليه العوامل المؤثّرة في حركة التاريخ ، يصلون إليها بإرادتهم واختيارهم أيضاً.

نهاية التاريخ في النظرية الإسلامية ليست إلغاء للآخر واستغراقاً في النمط الحضاري الذي ينتمي إليه صاحب النظرية ، إنّه ليس استغراقاً في فلسفة ذاتية لا تمنح صاحبها فرصة النظر إلى الواقع بكلّ تجرّد ، فما تثيره فلسفة التاريخ في الغرب من رؤى وأفكار حول سيادة الديمقراطية الغربية وصراع الحضارات وحتمية انتصار الحضارة الغربية ليس سوى مظهر من مظاهر هذا الانحياز والمركزية الغربية التي تعمي وتصم.

أمّا المستقبل في النظرية الإسلامية فهو مستقبل للإنسانية ، ونجاح وفوز وسعادة للمجتمع الإنساني مهما كان دينه وحضارته ، هو انتصار للنموذج الإنساني العالمي الذي ينتصر فيه الحقّ على الباطل ، وتسود فيه قيم العدالة والحرّية والمساواة والرخاء للجميع للبشر والطبيعة والزمان والمكان ، ليلتحم الوجود كلّه في ترنيمة توحيدية جميلة لم يعرف لها مثيلاً في التاريخ.

هذه الرؤية المستقبلية تقدّمها النظرية الإسلامية العامة في خطوطها العريضة انطلاقاً

__________________

١ ـ المصدر نفسه ، ص ٢٠٧.

٢ ـ المصدر نفسه ، ص ٢٠٨.

١٠٣

من الوعود الإلهية في القرآن الكريم والأحاديث الكثيرة حول الملاحم والفتن وظهور الإمام المهدي.

إلا أنّ الرؤية التفصيلية لهذا المستقبل تساعدنا على بلوغها النظرية الخاصّة وفق المنظور الإمامي ، وهذا ما سيأتي الحديث عنه في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

١٠٤

الفصل الرابع

أصول الوعي التاريخي من منظور مهدوي

فكرة المهدي ـ كما حقّقنا ـ ليست بدعة شيعية أو أسطورة خرافية نسجها الخيال الشعبي للمحرومين والمسحوقين في التاريخ تعويضاً عن واقعهم الرديء ، بل هي عقيدة راسخة التقت حولها الأديان وأجمع عليها المسلمون كلّهم وإن اختلفوا في بعض تفاصيلها.

عقيدة تستند إلى نصوص قطعية من القرآن الكريم والحديث ، والذي بلغت بعض مروياته حدّ التواتر.

وما أثير حول هذا المعتقد من شبهات وما يثار كلّ يوم لا يصمد أمام تجذّر هذا المعتقد ورسوخه في الوعي الديني لجميع الفرق والمذاهب.

والاختلافات حول تفاصيل فكرة المهدي ليست سوى تباينات على هامش المسألة دون المساس بجوهر القضية وجذرها العقائدي.

ويتميّز الطرح المهدوي في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، فهذه المدرسة تولي هذا المبدأ عناية خاصّة ، وتتوافر على نصوص وتفاصيل تفوق ما تقدّمه المدارس الأخرى.

في هذا الفصل نحاول استكشاف تفاصيل جديدة يضيفها المعتقد الإمامي للرؤية الإسلامية العامة في فلسفة التاريخ التي عرضناها في الفصل السابق.

أي أنّنا نحاول هنا استكمال بناء النظرية الإسلامية بلحاظ خصوصيات المعتقد الإمامي ، الذي يستوعب النظرية العامة ويضيف إليها عناصر جديدة على قاعدة الإيمان بالإمام الثاني عشر وسلسلة الأئمة عليهم‌السلام عموماً ، وغيبته وانتظاره وتفاصيل ظهوره مما انفردت به هذه المدرسة.

هذه التفاصيل ستكون مدخلاً لشبهات جديدة حول هذه العناصر وإشكالات جديدة حول سنن التاريخ ، وحتمية الظهور وتعظيم دور البطل ( المهدي عجل الله تعالى فرجه ) ، حول تهميش دور الأُمّة والجماهير ، ومفهوم الانتظار وتعطيل الأدوار الحضارية والمسؤوليات الكبرى للأفراد والأُمّة.

١٠٥

كلّ ذلك يجعل من طرح تفاصيل المنظور المهدوي وتأثير عقيدة المهدي في الوعي التاريخي مسألة حيوية لابدّ منها لاستكمال تفاصيل النظرية الإسلامية.

وسنحاول اختزال أصول هذا الوعي التاريخي من منظور خاص في النقاط الخمس التالية :

ـ أوّلاً : هل تتنافى عقيدة المهدي مع فكرة سنن التاريخ؟

ـ ثانياً : هل يلغي دور المهدي في التاريخ مسؤوليات الأُمّة؟

ـ ثالثاً : المسار التاريخي في ضوء عقيدة المهدي : الصورة الكاملة.

ـ رابعاً : المستقبل السعيد وتفاصيله في ضوء عقيدة المهدي.

ـ خامساً : التزامن بين التكامل التشريعي والتكامل التكويني.

الأصل الأوّل : عقيدة المهدي وسنن التاريخ

حينما يطّلع البعض على دور المهدي في الإصلاح العالمي وقيادة المجتمع البشري نحو السعادة والكمال ـ كما تشرح تفاصيله الروايات ـ يتوهّم أنّ حركة التاريخ وصناعة المستقبل تتوقّف على هذا القائد وحده ، وتُسقِط كلّ العوامل الأخرى.

ويتهاوى أي معنى لقوانين التاريخ وسُنَن حركة الحضارات؛ بل الإمام الغائب وحده هو الذي يصنع النصر الكبير.

فهل يصطدم حقّاً الاعتقاد بالمهدي مع سنن التاريخ؟

من المفيد قبل الإجابة عن هذا الإشكال أن نعالج المشكلة على مستوى النظرية العامة؛ لأنّ هذه الشبهة تثار بالأساس حول السنن والاختيار الإنساني ، وهل يمكن الجمع بين سنن وقوانين التاريخ وحرّية الإنسان واختياره ولو في الجملة؟ وكيف يصنع الإنسان مصيره مع أنّ السنن والقوانين لا تختلف ولا تتخلّف؟

ولذلك يتوهّم البعض أنّ الدفاع عن مبدأ الاختيار الإنساني يقتضي رفض فكرة السنن ، فقالوا : باستثناء الساحة التاريخية ، وتمييزها عن الساحة الكونية فيما يرتبط بفكرة القوانين.

وفي الإطار الخاص يقال نفس الكلام : الاعتقاد بالمهدي وبدور القائد الكبير في تغيير مجرى الأحداث يستلزم رفض فكرة قوانين التاريخ.

١٠٦

وفي الواقع لا يصادر الإيمان بسنن التاريخ وقوانينه الصارمة حرّية الإنسان ، ونستدلّ على ذلك بأمرين :

أوّلاً : ما ذكره صاحب المدرسة القرآنية في الردّ على هذه التوهّم وأنّ ـ السنن التاريخية لا تجري من فوق رأس الإنسان؛ بل تجري من تحت يده ، ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) [ الرعد ]. ، ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ) [ الجن ] ، إذن هناك مواقف إيمانية للإنسان تمثّل حرّيته واختياره وتصميمه ، وهذه المواقف تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية تستتبع جزاءاتها المناسبة تستتبع معلولاتها المناسبة ـ (١).

ثانياً : والجواب الثاني الذي نقتبسه منه أيضاً : أنّ سنن التاريخ ـ وكما يشرحها القرآن ـ لها أشكال ثلاثة أساسية :

الشكل الأوّل : سنن ذات قضية شرطية : كالنموذج الذي ذكرناه في الفصل الثالث عن العلاقة بين العدالة والتوزيع ووفرة الثروات.

الشكل الثاني : شكل القضية الناجزة ، والتي تشبه القوانين الطبيعية الكونية.

الشكل الثالث : السنن التاريخية المصاغة على صورة اتجاه عام في حركة التاريخ. والفرق بين هذا الشكل والسابق أنّ هذا الشكل يقبل التحدّي ولو في المدى القريب ، أمّا الثاني فهو صارم حدّي لا يمكن تحدّيه ولا تجاوزه لا في المدى القريب ولا البعيد.

مثال ذلك : الدين سنّة تاريخية لكنّها ليست صارمة؛ بل تقبل التحدّي فيمكن للمجتمع أن يتحدّاه ولكنّه يدفع الثمن أخيراً ، أمّا التركيبة التكوينية للإنسان ( طين وروح ) فهذه سنّة تاريخية صارمة لا يمكن تحدّيها ، الاختيار للإنسان أو أنّه ( أمر بين أمرين ) هذه سنّة تاريخية صارمة.

والإشكال الذي يثيره البعض حول التنافي بين فكرة القانون التاريخي والاختيار يرجع إلى توهّم البعض أنّ القانون التاريخي لا يكون إلا على الشكل الثاني الصارم ، على شاكلة قانون الجاذبية أو غليان الماء ، لا يقبل التحدّي.

__________________

١ ـ محمّد باقر الصدر ، التفسير الموضوعي للقرآن ، ص ٨٤.

١٠٧

ولكن القرآن الكريم يوضّح : أنّ أغلب القوانين والسنن التاريخية هي على نحو القضايا الشرطية.

ثالثاً : الردّ الثالث الذي يمكن أن نسوقه أيضاً أنّ حرّية الإنسان واختياره كما ألمحنا هي سنّة من سنن الله وقوانينه ، وهي سنّة ناجزة لا يملك الإنسان إزاءها تبديلاً أو تحويلاً ، وهي تعبّر عن خصوصيات الأشياء ومقاديرها الوجودية ، فكما أنّ الخاصّية التكوينية للنار هي الإحراق ، والخاصّية التكوينية للماء السيلان ، كذلك من بين الخصائص النفسية التكوينية للإنسان : الاختيار.

فالإنسان شاء أم أبى مختار مريد يتحرّك نحو الأهداف حركة تكاملية اختيارية.

وهذا السرّ المستودع في فطرة الإنسان لم تستوعب الملائكة أبعاده ، فاعترضت على استخلافه لخطورة هذا الاختيار وهذه الحرّية ، فكونه غير مضطر تكوينياً للانصياع والطاعة المطلقة لله كما هو حالهم ، فكان الجواب الإلهي : ( اني اعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة ]. فالحرّية والاختيار كما يمكن أن تسوق الإنسان للقتل والظلم وسفك الدماء ، يمكن أيضاً أن يرجح هذا لاختيار الخير والحقّ والعدل ، وسبق في علم الله أنّ هذه الإرادة الخيّرة هي التي ستنتصر في نهاية التاريخ.

أمّا الحديث عن التنافي بين مقولة سنن التاريخ والإيمان بالقائد العالمي المخلص الذي يتحقّق النصر على يديه ، فهو اشتباه آخر؛ لأنّ الإيمان بهذا القائد لا يلغي العناصر الأخرى المتحكّمة في حركة التاريخ كما حلّلناها في الفصل الثالث ، فمنظومة الفواعل المحرّكة للتاريخ متنوّعة تشمل الإنسان البطل والسنن والقوانين والغيب و ....

وبتعبير آخر : المهدي جزء من منظومة شرائط قيام هذا المجتمع العالمي ، وهذا يرجع إلى التخطيط الإلهي لنهاية التاريخ وقيام المجتمع العادل بإمامة الإمام المعصوم ، التخطيط الذي تدخّل على مسار الحركة الإنسانية لحفظ هذا القائد وإطالة عمره ، كما سيأتي توضيحه في الفصل الخامس : فلسفة الغيبة.

__________________

* راجع النماذج في الفصل السابق.

١٠٨

والإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه نفسه يخضع لسنن التاريخ ، وليست إطالة عمره مثلاً إلا حاجة اقتضتها القوانين والضرورات التاريخية ، كما أنّ انتظاره الطويل في غيبته مما تستوجبه هذه السنن التي تستدعي استكمال العناصر المقوّمة للظهور.

الأصل الثاني : الإمام والأُمّة

الأمر الثاني في الأطروحة الإسلامية الخاصّة والذي يحتاج إلى توضيح دور الأُمّة ، وهل يلغي الاعتقاد بالقائد والإمام المخلّص مسؤوليات الأُمّة؟ كما تروّج لذلك بعض التصوّرات الخاطئة للانتظار.

فهل يتسبّب الاعتقاد بالإمام القائد المخلِّص دخول الأُمّة في سبات تاريخي طويل انتظاراً للإمام؟

والواقع أنّ الأُمّة لها رسالة ثابتة دائمة تجري مجرى الشمس والقمر ، لا تنتهي ولا تنقضي ، وهذا ما تدلّل عليه نصوص كثيرة :

( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ آل عمران ].

( وَكَذَ لِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [ البقرة ].

( إِنَّ هَ ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [ الأنبياء ].

هذه الأُمّة لا يمكن لرسالتها أن تموت أو تتجمّد ، فهي مجتمع متحرّك دوماً نحو تطلّعاته وأهدافه. وهذه الحركة مستمرّة لا تتوقّف مهما كانت الظروف والأسباب ، فرسالة هذه الأُمّة مرتبطة بالله تعالى الذي لا يموت ، والشهيد الربّاني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام ، وإن كان حضوره يساعد على أداء الأُمّة دورها إلا أن غيابه لا يعفي الأُمّة البتة من تكاليفها الشرعية ومسؤولياتها التاريخية.

__________________

* سنفصّل هذه التصوّرات الخاطئة في الفصل السادس : فلسفة الانتظار.

١٠٩

بل غياب الإمام يحمّل الأُمّة مسؤوليات جديدة يتيح لها هامشاً أكبر لتحقيق التطلّعات.

ومن جهة أخرى لا يعني غياب الإمام الفراغ القيادي ، حتّى تغدو الأُمّة كالغنم الهمل بلا راع ولا موجِّه ، بل هناك قيادة نائبة تنبثق من بين أفرادها ، تتصدّى لمسؤوليات التوجيه والإشراف على رسالة الاستخلاف ، وهذا أيضاً وجه آخر من أوجه مسؤوليات الأُمّة : الحفاظ على مؤسّسة الاجتهاد ودعمها وإفراز القيادات الفقهية القادرة على القيادة والتوجيه.

وبالنتيجة الأُمّة والإمام جناحان ينهض بهما التاريخ ، ولا يمكن للمسيرة أن تحلّق نحو الآفاق النهائية إلا بهما معاً. وهذا ما يوحي به الجذر اللغوي المشترك ( الأُمّة ) و ( الإمام ) فالإمام يؤم الأُمّة ، والأُمّة لابدّ لها من إمام يقودها إلى الأمام.

فالأُمّة تظلّ زمن الغيبة مسؤولة عن المهام الأساسية للمجتمع المسلم : الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة الدين ، وحفظ أركانه ، كما أنّها تظلّ مسؤولة عن توافر شرائط الظهور ـ كما نبيّن لاحقاً ـ وهي مسؤولة عن إفراز القيادات الربّانية المخلّصة التي تصنعها المحن والابتلاءات والنضال والجهاد وسط أجواء الدفاع عن الدين والإخلاص لرسالته ونصرة المحرومين والمستضعفين ، إنّ انبثاق مثل هذه القيادات في أوساط الأُمّة هو الكفيل بتشكيل أنصار الإمام على المدى البعيد ، وتوفّر كوادر قادرة على إدارة شؤون الدولة العالمية وتسيير أمور المجتمع العادل.

الأصل الثالث : المسار التاريخي : الصورة الكاملة

في الفصل الثالث استعرضنا مراحل التاريخ كما تتراءى لنا في المنظور العام ، وهنا نحاول أن نطرح الصورة الكاملة لهذه المراحل وتحقيباتها في ضوء العقيدة المهدوية :

ـ مرحلة الحضانة.

ـ مرحلة الوحدة.

ـ مرحلة التشتّت.

ـ مرحلة النبوة الخاتمة.

ـ مرحلة المجتمع العادل.

١١٠

في الحقيقة أضفنا هنا مرحلة جديدة : مرحلة النبوة الخاتمة أو ختم النبوة ، وهذا العصر الذي يمتدّ من فجر الرسالة الإسلامية ومبعث النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يومنا هذا ، وهذه المرحلة تعتبر تتويجاً لكلّ المراحل التاريخية السابقة وتأسيساً للمرحلة الأخيرة قيام المجتمع العالمي العادل ، وفي هذه المرحلة عدّة حقبات :

ـ حقبة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ـ حقبة الأوصياء عليهم‌السلام.

ـ حقبة الغيبة.

ونحن اليوم في مرحلة النبوة وفي حقبة الغيبة الكبرى التي تمهِّد مباشرةً للمرحلة الخامسة والأخيرة وهي مرحلة الظهور.

والمرحلة الخامسة بدورها تنقسم إلى ثلاثة عصور :

ـ عصر الظهور وتأسيس الدولة العالمية.

ـ عصر المهديين أو الأولياء الصالحين.

ـ عصر الجماهير العادلة أو الأُمّة المعصومة ( الشورى ).

وبلوغ هذا العصر ينبئ باستنفاذ البشر أغراضهم من الوجود والكون من خلقه ، ويُسدَل الستار عن المسيرة البشرية نهائياً لتقوم الساعة وتبدأ النشأة الأخروية كما هو ثابت في عقيدة المعاد.

سنركّز في تحليلنا على مرحلة التشتّت والتحوّلات الكبرى التي عرفتها لتقود في النهاية إلى النبوة الخاتمة ، هذه اللحظة الاستثنائية في التاريخ ، التي توّجت جهود الأنبياء عليهم‌السلام طوال المسيرة الإنسانية الطويلة.

أدّى خطّ الشهادة دوراً مهمّاً في بلوغ البشرية مرحلة النضج والرشد لتضحى مؤهّلة لتقبّل الأطروحة النهائية ، التي تطبّق أصولها في المجتمع العادل.

ولذلك نعتقد أنّ النبوة في تكاملها لعبت دوراً مميّزاً في مرحلة التشتّت ، ودفعت حركة التاريخ إلى الأمام ، وساهمت في النضج المادي والفكري والأخلاقي المعنوي.

١١١

لقد تحرّكت النبوة في هذا الاتجاه عبر خطّ تصاعدي تمحور في أربع حلقات :

ـ نبوة عقائدية مفاهمية.

ـ نبوات تشريعية.

ـ نبوات قبلية.

ـ نبوات عالمية.

رأينا سابقاً أنّ البشرية مرّت بمرحلة الفطرة مجتمع التوحيد ، في هذه المرحلة لم يكن هناك تفاوت ولم تكن هناك انقسامات وكان المجتمع خالياً من التفرقة.

ويفسّر عدم انقسام المجتمع الأوّل واختلافه حول العقائد والتشريعات بعدم وجود المستوى الذهني الكافي لفلسفتها ومناقشتها فهم جميعاً يتسالمون على صحّتها (١) ، وأمّا عدم الاختلاف في المصالح بدرجة تؤدّي إلى النزاع والحروب فلعدم وجود المستوى الكافي للتركيز على هذه الجهات (٢).

في هذه المرحلة كان دور الأنبياء بسيطاً ، فلم يعملوا على طرح قوانين تنظّم الحياة؛ لأنّ المستوى الذهني لم يكن قادراً على استيعاب معنى التشريع وإطاعة الأوامر والارتداع عن النواهي ، فهذا بدوره يحتاج إلى درجة من النضج الفكري والذهني لا يزال الإنسان الأوّل بعيداً عنها.

ومن هنا حاول الأنبياء في هذه المرحلة الأولى أن يهيّئوا المجتمع الإنساني لتقبّل التشريع واستيعاب فكرة القانون والأمر والنهي من خلال أمرين (٣) :

أوّلاً : تقديم مضمون عقائدي بسيط عن وجود خالق الكون وأفعاله المهمّة وإمكان مخاطبته للبشر عبر الأنبياء والمرسلين.

ثانياً : بثّ الروح الأخلاقية بدرجة تتناسب مع الواقع حيث سعى الأنبياء لرفع

__________________

* هذه أطروحه السيد محمد صادق الصدر، انظر اليوم الموعود.

١ ـ اليوم الموعود ، ص ٤٤٩.

٢ ـ المصدر نفسه ، ص ٤٥٠.

٣ ـ المصدر نفسه ، ص ٤٤٩.

١١٢

الاختلافات البسيطة بواسطة مفاهيم كالأخوة والتعاون وتعويد الناس على طاعة رموز السلطة ، وقد ساهمت هذه المضامين النبوية في تعميق الحوار والجدال حول هذه الموضوعات مما أثّر إيجاباً على مستوى الوعي العام ، ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ البقرة ].

فبغضّ النظر عن الاختلاف الثاني يتصاعد الصراع في حياة الناس ليشمل قضايا النبوة ومضامينها ، وهذا شرط أساسي للنهوض بوعي الناس أيضاً.

من أبرز أنبياء هذه المرحلة إدريس عليه‌السلام ، ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) [ مريم ].

هذا النبي الذي ساهم في تفعيل النضج الذهني بفضل تعليمه الناس الكتابة فقد ورد في الأثر ـ أوّل من خطّ بالقلم إدريس ـ (١).

كما ساهم في تنضيج القدرات التقنية واليدوية فقد نقلت كتب التاريخ أنّه أوّل من خاط الثوب ولبسها ، وكذلك أوّل من نظر في النجوم ، ووضع أسماء البروج والكواكب السيّارة (٢) ، ونتج عن الطور الأوّل أمران مهمّان :

أوّلاً : تعوّد الناس على فكرة النبوة.

ثانياً : استعدادهم للتفاعل مع أفكار الأنبياء وتلقّي الأوامر والنواهي منهم.

ومع النبوات التشريعية استثمر هذا المستوى الذي بلغه الناس لتعميق ذلك أكثر فأكثر.

ويمكن أن نتحدّث عن التطوّر الذي أحدثته النبوات التشريعية من خلال نموذجها الأبرز وهو نوح عليه‌السلام.

__________________

١ ـ محمّد باقر المجلسي ، بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٣٢.

٢ ـ انظر : بحار الأنوار ، ج ٥٥ ، ص ٢٧٤.

١١٣

لقد حقّقت رسالة نوح عليه‌السلام الأهداف التالية :

أ. تعميق المفاهيم الإلهية ، ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَ هٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [ الأعراف ].

ب. إعطاء الأوامر والنواهي ، ( إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ) [ الشعراء ].

ج. بروز فكرة العذاب والعقاب كمفهوم جديد ، ولكن بحكم مستوى الوعي المحدود والسائد تمّ التأكيد على الجزاء الدنيوي أكثر من الجزاء الأخروي ، والجزاء الدنيوي الموعود هنا يشمل بعديه : الثواب والعقاب.

يقول تعالى على لسان نوح عليه‌السلام : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) [ نوح ].

وأيضاً : ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ) [ هود ].

وتحدّث القرآن الكريم في أكثر من موضع عن الطوفان كعذاب دنيوي لقوم نوح عليه‌السلام الذين جحدوا رسالته وكذبوا بها : ( وقوم نوح لما كذبوا الرسل اغرقنهم وجعلنهم للناس ءاية واعتدنا للظلمين عذابا اليما ) [ نوح ].

( قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ) [ الشعراء ].

تعمّق هذا الاتجاه على يد الأنبياء الذين جاؤوا بعد نوح عليه‌السلام والذين تندرج نبوتهم في نفس هذه المرحلة كهود وصالح.

فلقد أُهلكت عادٌ : قَومُ هودٍ ، وثمودُ : قومُ صالحٍ بعذاب دنيوي ، يقول تعالى متحدّثاً عن قوم ثمود : ( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ) [ الأعراف ].

وقال أيضاً متحدّثاً عن هود : ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ) [ الأعراف ].

١١٤

وعن هلاك قوم عاد قال تعالى : ( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَ ذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَ لِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) [ الأحقاف ].

ومن أهمّ الأهداف التي حقّقتها النبوة في هذا الدور : بلورة شريعة تتماشى مع درجة الوعي ، ويمكن أن نلخّص معالم شريعة نوح عليه‌السلام والتي تمثّل الأساس التشريعي للنبوات اللاحقة في العناصر التالية :

أ. توحيد الله ورفض الشركاء والتسليم لربّ العالمين.

ب. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ج. أداء الصلاة.

د. المساواة والعدالة.

هـ. اجتناب الفواحش والمنكرات وصدق الحديث والوفاء بالعهد.

ولم تتضمّن هذه الشريعة حدود ولا فروض مواريث.

طور النبوات القبلية

لم يكن الأنبياء إلى حدّ هذا الطور يتحدّثون عن القبلية أو عن العالمية رغم أنّ بعضهم كانت رسالته للناس كافّة ، كنوح عليه‌السلام ، وإبراهيم عليه‌السلام ، الذي يمثّل أهمّ أنبياء هذا الطور.

وربما يعود السبب في عدم إعلان الأنبياء عن طبيعة توجّههم هو أنّ فكرة العالمية لم يكن ممكناً للوعي السائد أن يتفهمّها ويتقبّلها.

ومن جهة ثانية تقوم فكرة القبيلة على أساس باطل لذلك لم يطرحها الأنبياء أيضاً إلا بعدما تهاوى الأساس الباطل لتلك الفكرة بقيام قبيلة مؤمنة تتركّب من أحفاد إبراهيم ، وتستند فيها العلاقات والبناء الاجتماعي على أسس عادلة ، حينذاك أعلنت النبوة عن تبنّيها للقبيلة ثمّ تدرّجت نحو إعلان العالمية في طور لاحق.

ويشرح صاحب اليوم الموعود هذا التبنّي قائلاً : ـ لقد كان الواقع يومئذٍ قائماً على إدراك أنّ القبيلة هي أحسن تنظيم اجتماعي يمكن القيام به لمصلحة المجموع ، من ثَمّ لم يكن

١١٥

في مقدور النبوات تغيير هذا الواقع بين عشية وضحاها؛ بل كانت بحاجة إلى مواكبة هذا الواقع ردحاً من الزمن ـ (١).

ويحدّثنا القرآن الكريم عن هذا التوجّه مشيراً إلى يعقوب : عليه‌السلام ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَ هَكَ وَإِلَ هَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَ هًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [ البقرة ].

( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [ آل عمران ].

وسجّل إبراهيم عليه‌السلام مساهمة متقدّمة في تعميق الوعي التوحيدي ، والاعتقاد بالعدل الإلهي حتّى إنّ رسالته أصبحت أساس كلّ الأديان السماوية وملتقى دعوات التوحيد ، كما تجلّت في سيرته عليه‌السلام روح التضحية في سبيل العقيدة حين تعرّض لمحاولة الإحراق فأنجاه الله ، وحين قدّم ابنه قرباناً لله عزّ وجلّ.

ويعتبر تأسيسه لفريضة الحجّ نقلة نوعية في التربية الحسّية للناس وارتباطهم بالدين ، فالحجّ فكرة جديدة في التاريخ ، توحي للناس بضرورة الاستجابة لله وتلبية نداء الدين ، ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [ الحج ].

ومن التطوّرات التي حقّقتها نبوة إبراهيم عليه‌السلام التقدّم المفاهيمي وما شهده الخطاب من تغيّر حول الجزاء ليركّز أكثر على الجزاء الأخروي ، وإن حافظ على إشارات للجزاء الدنيوي ، يقول سبحانه تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَ ذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [ البقرة ].

__________________

١ ـ محمّد صادق الصدر ، اليوم الموعود ، ص ٤٥٣.

١١٦

طور النبوات العالمية

في هذا الطور تحرّكت النبوات على مستوى البشرية ، ويعتبر الأنبياء موسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من أقطاب هذا الاتجاه ، وتوّج هذا الطور النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي على يده يدخل التاريخ مرحلة جديدة : مرحلة النبوة الخاتمة ، وتبلغ العالمية ذروتها وأوجها. ولا يعني الحديث عن عالمية النبوات إلغاء التحرّك الفعلي في دائرة أضيق ، فالنبي موسى عليه‌السلام ركّز تحرّكه على بني إسرائيل فأنقذهم من فرعون ، ومارس قيادة الدولة بنفسه.

إنّ أهمّ التطوّرات التي عرفتها النبوّة على يد موسى عليه‌السلام تتلخّص فيما يلي :

أوّلاً : مباشرة قيادة الدولة ، وهذا تحوّل هامّ في خطّ الأنبياء الذين كانوا يقودون المجتمعات بطريقة غير مباشرة ، وسنرى فيما بعد أن هذا الاتجاه يتعمّق أكثر فأكثر مع داود وسليمان ، ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) [ ص ].

فبينما كان الأنبياء السابقون محكومين من الناحية العملية لملوك آخرين قد يكونون من أشدّ الناس كفراً وظلماً ، ولم يحاول نبي سابق قبل موسى عليه‌السلام أن يسيطر على الحكم وإن حاول إبراهيم عليه‌السلام أن يدخل حاكم عصره في دائرة الإيمان ، وهذا معنى آخر غير السيطرة على الحكم (١).

ثانياً : إيجاد شريعة متكاملة وهي أكثر تفصيلاً من شريعة نوح عليه‌السلام ، ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) [ الأنعام ].

( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ) [ الأنبياء ].

ثالثاً : مباشرته للقتال ، وهذه نقلة نوعية أخرى تحولت بموجبها النبوّة من مجرّد الإقناع والجدال إلى السيطرة والهيمنة والتوسّل بالقوّة في سبيل ذلك ، وأصبح من أدوار المؤمنين حملهم رسالة الدين إلى العالم.

__________________

١ ـ المصدر نفسه ، ص ٤٦٢.

١١٧

( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ) [ المائدة ].

( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) [ القصص ].

( قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [ القصص ].

رابعاً : تعميق الإيمان بالآخرة والجزاء الأخروي وإن ظلت الإشارات للعقاب الدنيوي والتخويف بالعقوبات العاجلة التي أخذت مجراها الواقعي في حياة بني إسرائيل ، يقول تعالى : ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَ ذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَ ئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ غافر ].

ويقول أيضاً : ( وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ) [ الأعراف ].

( فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [ الأعراف ].

وتحرّكت دعوات الأنبياء من بعد موسى عليه‌السلام في اتجاه تعميق هذه المكاسب التاريخية ، ويظهر ذلك خاصّة في نبوة سليمان وداود C اللذين وإن لم يكونا نبيين عالميين وكانا تابعين لنبوة موسى إلا أنّهما ساهما في تحقيق أهداف النبوّة الحضارية وتفعيل تكاملها التاريخي وذلك بفضل :

أ. تأسيس دولة قوية متماسكة متكاملة : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ ص ].

١١٨

( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَ ذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [ النمل ].

وتحدّث القرآن الكريم تفصيلياً عن مظاهر القوّة والتقدّم في دولة سليمان عليه‌السلام خاصّة :

( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ ص ].

( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) [ سبأ ].

ب. ممارسة الفتح : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) [ البقرة ].

وأشار القرآن إلى الانتصارات العسكرية التي حقّقها داود : عليه‌السلام ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَ كِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) [ البقرة ].

وهكذا يعلن القرآن صراحة عن موقع الجهاد والقتال في حركة التاريخ وصون أهدافها ، وأنّ قانون التدافع هو سنّة تاريخية تحكم رسالات الأنبياء في مواجهتها لكلّ أنواع الاعتراضات والمصادمات مع خطوط الانحراف في المجتمع.

ج. تطبيق شريعة متكاملة : وقد استند في ذلك إلى شريعة موسى عليه‌السلام وإن كان القرآن يحدّثنا عن كتاب داود عليه‌السلام : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) [ النساء ].

د. بناء سليمان عليه‌السلام هيكلاً ، ويعتبر أهمّ معبد للبشرية بعد بيت الله الحرام الذي أشاده إبراهيم عليه‌السلام ، ويعني ذلك تأكيد وتأصيل علاقة الناس بالدين والاستجابة للنزعات الحسّية للنفس البشرية في ممارسة الطقوس العبادية.

١١٩

هـ. من النقلات النوعية الحاصلة في هذه المرحلة حديث هؤلاء الأنبياء عن المستقبل المشرق للبشرية ، ويتجلّى ذلك بوضوح خاصّة على لسان داود : عليه‌السلام ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) [ الأنبياء ].

في ضوء هذه التحوّلات بدأت البشرية تدرك أكثر فأكثر البعد العالمي لظاهرة النبوّة وأنّ نجاحها الكامل سيتحقّق في المدى البعيد بإرث الصالحين للأرض وتبلغ النبوات العالمية أوجها على يد النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أذِنَت نبوته بتأسيس مرحلة جديدة في التاريخ البشري أسميناها : مرحلة النبوّة الخاتمة.

مرحلة النبوّة الخاتمة

في هذه المرحلة كان إعلان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله رسالة الإسلام تتويجاً لجهود الأنبياء ، ( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَ كِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) [ الأحزاب ].

لقد استفادت رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أساسين اثنين حقّقتهما حركة الأنبياء عليهم‌السلام :

أ. خروج الناس من التخلّف الفكري والقصور الذهني.

ب. بلوغ الوعي الإنساني مرتبة من الرقي تسمح له بتقبّل أطروحة مفصّلة لنظام اجتماعي نموذجي.

واستطاعت تحقيق إنجازات مهمّة أخرى على مستوى التطوّر التاريخي وأهمّها :

أوّلاً : تصوّر توحيدي في درجة عالية من التنزيه لم تبلغها أي رسالة من الرسالات السابقة ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ الشورى ] ،.

( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) [ الأنعام ].

( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَ هَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [ آل عمران ].

ثانياً : شريعة كاملة تستوعب كلّ المجالات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [ النحل ].

١٢٠