صلاة التراويح

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]

صلاة التراويح

المؤلف:

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-04-8
الصفحات: ٢٧١

(٤)

نقطةُ الخلافِ بينَ المدرستين

تكمنُ نقطةُ الخلاف حولَ صلاة ( التراويح ) في أنَّ أتباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام يعتقدون بعدم مشروعية الإتيان بها جماعةً ، وأنَّ أداءَها على هذه الهيئة يُعتبرُ بِدعةً دخيلةً على تشريعات الإسلام ، وتعاليمه الثابتةِ بالنصوصِ الشرعيةِ القويمة.

وأما الأغلبيةُ الساحقةُ من أتباعِ ( مدرسةِ الصحابة ) فيعتقدون بأنَّ الإتيانَ بها جماعةً أمرٌ مشروع ، بل هو مستحبٌ ومندوب.

فلا يوجدُ خلافٌ بين المدرستين في أصل نافلة الليل ، ولا خلاف بينهما في أصل التنفل في ليالي شهر رمضان ، وإنَّما يكمنُ الخلافُ في الكيفية التي تُؤدى بها هذه النوافل؛ حيثُ تقولُ مدرسةُ أهل البيت عليهم‌السلام بعدم جواز الإتيان بها جماعةً ، وإنَّما يشرعُ الإتيان بها فرادى وحسب ، وأما ( مدرسةُ الصحابة ) فتلتزمُ في الأغلب بالإتيان بها جماعةً ، وتنسبها الى التشريع بهذه الكيفية ، وهذا الأمرُ هو الذي أدخلها في حيِّز ( الابتداع ) من وجهة نظر مدرسةِ أهل البيت عليهم‌السلام.

من هنا نعرفُ أنَّ نقطةَ الخلاف بين المدرستين حول ( التراويح ) ليست مسألةً فقهيةً محضة ، تحتملُ وجهات النظر المتعددة وحسب ، كما هو الأمرُ في عدد ركعات نافلة الليل ، إذ بالإمكان الاختلاف حول ذلك بالطريقة التي تدرج رأي الجانبين في المصبِّ الفقهي المتنوع الآراء ، وإنَّما نقطةُ الخلاف هنا مسألةٌ مشوبةٌ بجانب عقائدي ، وتتعلقُ بأصل مشروعية ( التراويح ) بهذه الكيفية الجديدة التي لم تتصل جذورُها بالشريعة المقدَّسة.

وبعبارةٍ أخرى إنَّ الرأي الفقهي قائمٌ على أساس استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، التي من أهمها ( القرآنُ المجيد ) و ( السُنَّة القطعيَّة ) ، فلابدَ من وجود

٢١

أساسٍ ومستندٍ قاطعٍ للأحكام المستنبطة فقهياً في ( القرآن المجيد ) و ( السُنَّة القطعيَّة ) ، ولابدَّ من ولادة هذه المسائلِ المتنوعة من رحم الشريعةِ الإسلامية ، وما من شكٍ في جواز ( الاجتهاد ) من قبل العلماء في حدودِ هذه الدائرة المشروعة ، وبالتالي الخلاف في الآراء والنتائج ، ومن أمثلة ذلك الخلاف في عدد ركعات القيام في ليالي شهر رمضان حسب الأدلة الشرعية ، بعد الفراغ من كون أصل القيام منسوباً إلى الشريعة الغراء ، ومنبثقاً عنها.

وأما إذا لم يكن هناك أصلٌ للعمل العبادي في الشريعة الإسلامية ، ولم يولد من رحم القرآن والسُنَّة ، ولا يوجدُ دليلٌ عامٌّ يشملُه ، ولا دليلٌ خاصٌّ ينصُّ عليه ، وإنَّما جاءَ لقيطاً من الخارج ، وأُضفيت عليه صفةُ الشرعية من قبل البشر العاديين ، ونُسبَ إلى الدين الحنيف بكيفيته المنحولة هذه ، فلاشكَ أنَّه سوفَ يخرجُ عن دائرة الخلاف الفقهي المحض ، ويدخلُ في دائرة البحث الممزوج بالعقيدة؛ لأنَّه سوف يحدّدُ مصيرَ العمل من الأساس ، ويبحثُه في الجذور ، ومن أمثلة ذلك البحثُ في أصل مشروعية صلاة ( التراويح ).

وبعبارةٍ أكثر شمولاً أنَّ التشريعات الإلهية الثابتة أُمورٌ توقيفية ، يجبُ امتثالُها وعدمُ الاجتهاد في مقابلها ، فلا يصحُّ إدخالُ ما ليس من الدين فيه كإدخال ( التراويح ) المبتدعة ، كما لا يصحُّ إخراجُ ما هو من صميم الدين عنه كإخراج ( المتعة ) المشروعة ، إذ لا يصحُّ التحليلُ والتحريمُ حسبَ الآراء الشخصية ، والاجتهاداتِ الخاصة ، كما قالَ ( جَلَّ وَعَلا ) :

( ولا تَقُولوا لِما تَصفُ ألسنتُكُمُ الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتَفتروا على اللهِ الكذبَ إنَّ الذينَ يَفترونَ على اللهِ الكذبَ لا يُفلحونَ ) (١).

ووردَ هذا المعنى في حديث رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيثُ يقولُ :

__________________

(١) النحل / ١١٦.

٢٢

( اتقوا تكذيب الله! قيل : يارسول الله وكيف ذاك؟ قال : يقول أحدكم : قال الله ، فيقول الله : كذبت لم أقله ، ويقول : لم يقلِ الله ، فيقول عز وجل : كذبت قد قلته ) (١).

وقد عَدَّت الشريعةُ الإسلاميةُ ظهورَ ( البدع ) في حياة المسلمينَ من أكبر ما يهدّدُ حياةَ الإسلام ، ويطعنُها في الصميم ، وجعلت محاربةَ البدع والمحدثات من أوضح مصاديق الذود عن الشريعة الإسلامية.

قالَ رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إياكم والبدعَ ، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ تسيرُ الى النار ) (٢).

وقالَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إذا ظهرت البدعُ في أمتي فليظهرِ العالمُ علمَه ، فمن لم يفعلْ فعليهِ لعنةُ الله ) (٣).

وقد جهدَ علماءُ مدرسةِ أهل البيت عليهم‌السلام من تقريب وجهات النظر مع ( مدرسة الصحابة ) في خصوص هذه المسألة ، والتقليص من حدَّةِ الخلافات حولها؛ فعمدوا إلى إدراجها ضمنَ السياقات الفقهية المحضة ، لتسكينِ ألمِ الفرقة ، وتخفيفِ حدَّتِها ، ولنِعمَ ما فَعلوا.

فنرى العلاّمةَ ( جعفرَ السبحاني ) يقول من هذا المنطلق في كتابه ( صلاة التراويح بين السُنَّة والبدعة ) :

( فالخلافُ في صلاة التراويح ليسَ خلافاً في جوهرِ الدين وأُصوله حتّى يستوجبَ العداءَ والبغضاء ، وإنَّما هو خلافٌ فيما رُويَ عنه

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٢ ، باب : ١٦ ، ح : ١٦ ، ص : ١١٧.

(٢) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ١ ، ح : ١١١٣ ، ص : ٢٢١.

(٣) الكليني ، محمد بن يعقوب ، الأصول من الكافي ، ج : ١ ، باب : البدع والرأي والمقاييس ، ح : ٢ ، ص : ٥٤.

٢٣

ـ صلّى اللهُ عَليهِ وآله وسَلَّمَ ـ وهو أمرٌ يسيرٌ في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية ) (١).

وقالَ العلاّمةُ ( نجمُ الدين الطبسي ) في كتابه الذي يحملُ نفسَ العنوان السابق :

( قد يُتصَّورُ لأوّل وهلةٍ أنَّها من مختصاتِ أهل السُنَّة ، ولكنَّ التتبّعَ والتحقيقَ ومراجعةَ كلمات الفريقين وآرائهم ، يكشفُ عن خطأ هذا التصور ، وأنَّ أصل المسألة وهو قيام شهر رمضان ونوافل لياليها والصلوات فيها من الأمور والمسائل المشتركة بين الفريقين ، بل الاشتراك في عددها أيضاً كادَ أنْ يكونَ حاصلاً ـ في الجملة ـ وإنَّما الخلافُ هو في إقامة هذهِ النوافل جماعةً أم فرادى ) (٢).

__________________

(١) السبحاني ، جعفر ، صلاة التراويح بين السنة والبدعة ، ص : ٤.

(٢) الطبسي ، نجم الدين ، صلاة التراويح بين السنة والبدعة ، ص : ٦.

٢٤

الفصل الثاني

صلاةُ التراويح .. موقف النبي وأهلِ بيتِهِ منها

١ ـ موقف النبي من صلاةِ التراويح

أ ـ النبيُّ يحثُّ على إخفاءِ النوافلِ في البيوت

ب ـ النبيُّ يصلّي نوافلَ شهرِِ رمضانَ منفرداً

ج ـ النبيُّ يغضبُ لالتحاقِ البعضِ به في النافلة خلسةً

د ـ النبيُّ لم يصلِّ التراويحَ عندَ كثيرٍ من أئمةِ مدرسةِ الصحابة

٢ ـ أمير المؤمنينَ عليٌّ ينهى عن صلاةِ التراويح

٣ ـ أهل البيتِ يؤكدونَ عدمَ مشروعيةِ صلاةِ التراويح

٤ ـ التراويح بدعة بإجماعِ علماءِ مدرسةِ أهلِ البيت

٢٥
٢٦

نظرة

على الفصل الثاني

نتعرفُ من خلال هذا الفصل على موقفِ النبي (ص) وأهلِ بيته (ع) وعلماء مدرسة أهل البيت (ع) من صلاةِ ( التراويح ).

فنثبتُ أولاً : أنَّ النبي (ص) كانَ يحثُّ على إخفاءِ النوافلِ في البيوت ، وهذا الأمرُ يتنافى مع الإعلان بنافلة الليل في شهر رمضان من خلال أدائها جماعةً.

ونثبتُ ثانياً : أنَّ النبي (ص) كان يؤدي نافلة الليل في شهر رمضانَ وغيره منفرداً طيلةَ حياته.

ونثبتُ ثالثاً : غضبَ النبي (ص) من المصلينَ الذينَ حاولوا الالتحاق بهِ في نافلةِ شهر رمضان ، وكان ينهاهم عن أدائها جماعةً.

ونثبتُ رابعاً : أنَّ الكثير من علماء مدرسة الصحابة قد أقرّوا بأنَّ النبي (ص) لم يصلِّ ( التراويح ) في حياتهِ مطلقاً.

ومن ثمَّ نستعرضُ موقف الإمام علي (ع) الرادعِ عن أداءِ ( التراويح ) ، وتصريحه بعدمِ ارتباط هذهِ الصلاة بالدين.

ومن بعد هذا نستعرضُ أحاديثَ أهل البيت (ع) في تأكيد عدم مشروعية ( التراويح ) ، وعدّها ( بدعةً ) محدثةً في الدين.

وتبعاً لموقف أهل البيت (ع) أفتى علماء مدرستهم بعدم جواز أداء نوافل شهر رمضان جماعةً ، وصرَّحوا بأنها ( بدعةٌ ) محدثة.

صلاةُ التراويح

٢٧
٢٨

(١)

موقف النبي (ص) من صلاةِ التراويح

هناك قرائنُ عديدةٌ تشيرُ إلى أنَّ رسولَ الله ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يؤدِ نافلةَ شهرِ رمضانَ المسماة بـ ( التراويح ) جماعةً ، بل إنَّه نهى عن الإتيان بها على هذه الكيفية ، وعدَّها ( بدعةً ) محدَثةً ، ومن هذه القرائن ما يلي :

أ ـ النبي (ص) يحث على إخفاءِ النوافلِ في البيوت

إنَّ من الأُمور التي تؤيِّد منافاةَ صلاة ( التراويح ) لمبادئ الشريعة الإسلامية وتعاليمها ، وأنَّ رسولَ اللّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يسنَّها ، هو الطائفةُ الكبيرةُ من الأحاديث النبوية التي دلَّت على حثِّ المسلمين على صلاة النوافل عموماً في البيوت؛ لأنَّ هذا الأمرَ أقربُ للإخلاص ، وأدعى للقبول. بل قد وردَ النهي من قبل رسول اللّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) عن صلاة النوافل جماعةً ، لمّا رأى بعضَ الأصحاب يصلّون خلفه خِلسةً ، ووجَّههم إلى إخفاءِ النوافل ، وعدمِ تشريع الجماعةِ فيها ، كما سيأتي بيانُه.

وقد وردَت رواياتٌ كثيرةٌ في كتب مدرسةِ الصحابة تدلُّ على استحباب إخفاءِ النوافل ، والإتيانِ بها في البيوت ، وأفتى بهذا الأمر علماءُ هذه المدرسة في مصنفاتهم ، فقد وردَ في ( صحيح مسلم ) أنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قالَ :

( إذا قَضى أحدُكم الصلاةَ في مسجدِهِ ، فليَجعلْ لبيتِهِ نصيباً من صَلاتِهِ ، فإنَّ اللهَ جاعلٌ من صَلاتِهِ في بيتِهِ خَيراً ) (١).

__________________

(١) مسلم ، صحيح مسلم ، ج : ٢ ، ص : ١٨٧ ، باب : استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.

٢٩

والذي يتضحُ من ظاهر الحديث أنَّ المقصودَ بالصلاة التي ندبَ رسولُ اللهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) المسلمينَ إلى إخفائها في البيوت هي ( النوافل ) ، باعتبار أنَّ التي يقضونها في المسجد هي الصلاةُ المكتوبة.

وفي سُنن ( أبي داود ) عنه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) :

( عَليكُم بالصلاةِ في بيوتِكُم ، فإنَّ خيرَ صلاةِ المرءِ في بيتِهِ إلاّ المكتوبة ) (١).

ووردَ في ( الترغيب والترهيب ) عن ( عبد اللّه بن مسعود ) أنَّه قالَ :

( سألتُ رسولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ :

ـ أيُّما أفضلُ : الصلاةُ في بيتي ، أو الصلاةُ في المسجد؟ قالَ :

ـ ألا تَرى إلى بيتي ما أقربَهُ منَ المسجدِ ، فَلأنْ أُصلّي في بيتي أحبُّ إليَّ من أنْ اُصلّيَ في المسجد ، إلا أنْ تكونَ صلاةً مكتوبةً ).

ثمَّ قالَ :

( رواه أحمدُ وابنُ ماجة وابنُ خزيمة في صحيحه ) (٢).

وجاءَ فيه أيضاً :

( وعن أبي موسى رضيَ اللّهُ عنهُ قالَ : خرجَ نفرٌ من أهلِ العراقِ إلى عمر ، فلَّما قَدِموا عليهِ يسألونَ عن صلاةِ الرجلِ في بيتِهِ ، فقالَ عمرُ : سألتُ رسولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ، فقالَ : أمّا صلاةُ الرجلِ في بيتِهِ فنورٌ ، فنوِّروا بيوتَكُم ).

ثمَّ قالَ :

( رواه ابنُ خزيمةُ في صحيحه ) (٣).

__________________

(١) أبو داود ، سنن أبي داود ، ج : ٢ ، ص : ٦٩ ، ح : ١٤٤٧.

(٢) المنذري ، الترغيب والترهيب ، تعليق : مصطفى محمد عمارة ، ج : ١ ، ص : ٣٧٩ ، ح : ٤.

(٣) المنذري ، الترغيب والترهيب ، تعليق : مصطفى محمد عمارة ، ج : ١ ، ص : ٣٧٩ ، ح : ٥.

٣٠

وفي ( كنز العمال ) :

( سُئلَ عمرُ عن الصلاةِ في المسجدِ فقالَ : قالَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ : الفريضةُ في المسجد ، والتطوعُ في البيت ) (١).

وجاءَ في مسند ( أحمد بن حنبل ) :

( صلّى رسولُ اللّهِ صلاةَ المغربِ في مسجدِ بني الأشهل ، فلمّـا صلّى قامَ ناس يتنفّلونَ ، فقالَ النبيُّ : عليكم بهذه الصلاة في البيوت ) (٢).

من هنا رأى بعضُ علماءِ مدرسة الصحابة أفضليةَ قيامِ المرءِ في رمضانَ بيته على صلاةِ ( التراويح ) المدَّعاة ، فقد قالَ مالكُ وأبو يوسفَ وبعضُ الشافعية :

( إنَّ فعلَها ( الصلاةَ ليلاً في رمضانَ ) فرادى في البيت أفضلُ ، لحديثِ : خيرُ صلاةِ المرءِ في بيتِهِ إلاّ الصلاةَ المكتوبة ) (٣).

وقالَ ( ابنُ قدامة ) في ( المغني ) :

( والتطوعُ في البيتِ أفضلُ لقولِ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ : عَليكُم بالصلاةِ في بيوتِكُم فانَّ خيرَ صلاةِ المرءِ في بيتِهِ إلا المكتوبة ، رواه مسلم ، وعن زيد بن ثابت أنَّ النبيَّ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ : صلاةُ المرءِ في بيتِهِ أفضلُ من صلاتِهِ في مسجدي هذا إلاّ المكتوبة ، رواه أبو داود ) (٤).

__________________

وانظر : كنز العمال ، ج : ٨ ، ح : ٢٣٣٦٠ ، ص : ٣٨٤.

(١) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ٨ ، ح : ٢٣٣٦٣ ، ص : ٣٨٤.

(٢) ابن حنبل ، أحمد ، مسند أحمد بن حنبل ، ج : ٥ ، ص : ٤٢٧.

(٣) راجع : صحيح مسلم بشرح النووي ، ج : ٦ ، ص : ٣٩ ـ ٤٠ ، وفتح الباري للعسقلاني ، ج : ٤ ، ص : ٢٥٢ ، والتاج الجامع للأصول لناصيف ، ج : ٢ ، ص : ٦٧.

(٤) ابن قدامة ، موفق الدين ، المغني ، ج : ١ ، ص : ٧٧٥.

٣١

ومن هنا أفتى ( الشافعي ) باستحباب الانفرادِ بنافلةِ شهر رمضانَ ، فقالَ :

( صلاةُ المنفردِ أحبُّ إليَّ منهُ ).

وشنَّعَ ( ابنُ داود ) على ( الشافعي ) في هذه المسألة فقالَ :

( خالفَ فيها السُنَّةَ والإجماعَ ) (١).

وجاءَ في ( فضائل الأوقات ) عن فعل صلاة ( التراويح ) في الجماعة :

( فأمّا من كانَ حافظاً ، فقد ذهبَ ابنُ عمر أنَّ فعلَها بالانفراد أولى ) (٢).

وعن ( الفائق في غريب الحديث ) للـ ( الزمخشري ) :

( في حديثِ أنسٍ رضيَ اللهُ تعالى عنه : أنَّه سُئلَ عن التعقيبِ في رمضانَ ، فأمرَهم أنْ يصلّوا في البيوت ) (٣).

ورُويَ في ( شرح نهج البلاغة ) عن النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) أنَّه قالَ :

( فَضلُ صلاةِ المتطوِّعِ في بيتِهِ على صلاةِ المتطوعِ في المسجدِ كفضلِ صلاةِ المكتوبةِ في المسجدِ على صلاتِهِ في البيت ) (٤).

وفسَّرَ ( المحب الطبري ) هذا الحديثَ بالقول :

( فيه دلالةٌ ظاهرة على أنَّ النافلةَ في البيت تُضاعَف تضعيفاً يزيدُ على الألف؛ لأنَّ المصطفى صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ فضَّلها على الصلاةِ في مسجده ، والصلاةُ فيه بألفِ صلاة ) (٥).

__________________

(١) الطوسي ، أبو جعفر ، الخلاف ، ج : ١ ، ص : ٥٢٧ ، مسألة : ٢٦٧ ، عن : المجموع ، ٤ ، ص : ٥.

(٢) البيهقي ، فضائل الأوقات ، ص : ٢٦٩.

(٣) الزمخشري ، جار الله ، الفايق في غريب الحديث ، ج : ٢ ، ص : ٣٨٧.

(٤) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة للإمام علي عليه‌السلام ، ج : ١٢ ، ص : ٢٨٤.

(٥) المناوي ، محمد عبد الرؤوف ، فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير ، تحقيق : أحمد عبد السلام ، ج : ٤ ، ص : ٢٩٦.

٣٢

وفي ( شرح النهج ) أيضاً عنه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) :

( إنَّ أفضلَ النوافلِ ركعتان يُصليهُما المسلمُ في زاويةِ بيتِهِ ، لا يعلمُها إلاّ اللهُ وحدَه ) (١).

وأضافَ معللاً ذلك بالقول :

( قالَوا : ولأنَّها إذا صُليت فرادى ، كانت الصلاةُ أبعدَ من الرياءِ والتصنُّع ) (٢).

ولا يخفى على من أدركَ سرَّ العبادات المسنونة في الإسلام ، ودورَها في تهذيب النفس الإنسانية ، ما يهدفُ إليه إخفاءُ النوافل عن الأنظار ، والانفرادُ بها مع خالقه ، فهوَ من أبرز مظاهرِ الإخلاصِ بينَ العبد وربه.

يقولُ السيد ( شرف الدين العاملي ) :

( إنَّ فائدة إقامتها في البيت فرادى هي أنَّ المصلّي حينَ يؤديها ينفردُ بربِّه عزَّ وعلا ، يشكو إليه بثَّه وحزنه ، ويناجيه بمهماته مهمةً مهمة؛ حتى يأتي على آخرها ملحّاً عليه ، متوسّلاً بسعة رحمته إليه ، راجياً لاجئاً ، راهباً راغباً ، منيباً تائباً ، معترفاً لائذاً عائذاً ، لا يجد ملجأً من اللّه تعالى إلا إليه ، ولا منجي منه إلا به؛ لهذا ترك اللّهُ السننَ حرةً من قيد الجماعة ، ليتزوّدوا فيها من الانَّفرادِ باللّه ما أقبلت قلوبُهم عليه ، ونشطت أعضاؤُهم له ، يستقلُّ منهم مَن يستقل ، ويستكثرُ مَن يستكثر ، فإنَّها خيرُ موضوع ، كما جاءَ في الأثر عن سيّد البشر ، أمّا ربطُها بالجماعة فيَحدُّ من هذا النفع ، ويقلِّلُ من جدواه.

__________________

(١) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة للإمام علي عليه‌السلام ، ج : ١٢ ، ص : ٢٨٥.

(٢) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة للإمام علي عليه‌السلام ، ج : ١٢ ، ص : ٢٨٥.

٣٣

أضف إلى هذا أنَّ إعفاءَ النافلة من الجماعة يمسكُ على البيوت حظَّها من البركة والشرف بالصلاة فيها ، ويمسكُ عليها حظَّها من تربية الناشئة على حبِّها والنشاط لها ، ذلك لمكانِ القدوة في عمل الآباء والأُمهات والأجداد والجدّات ، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدّاً يرسّخها في عقولهم وقلوبهم ) (١).

ولا يمكنُ الإدّعاءُ بأنَّ هذهِ الروايات التي دلَّت على استحباب أداءِ النوافل في البيوت مطلقةٌ ، فتُقيَّدُ بما دلَّ على استحباب صلاة ( التراويح ) المدَّعاة؛ لأنَّه لا يوجدُ أيُّ سندٍ شرعي ، ودليلٍ صحيحٍ على كون النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد صلّى هذهِ النافلةَ في حياته الشريفة ، أو سنَّها للمسلمين من بعده ، غيرَ ما يُدعى بهذا الشأنَّ من النَّزر القليل المفتَعل من الأحاديث التي يتشبثُ بها البعضُ ، إذ الغريقُ يتشبثُ بكل حشيش!! بل سيأتي أنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد نهى أصحابَه عن هذه الصلاة من خلال جملةٍ من المواقفِ والأحاديث.

ب ـ النبي (ص) يصلي نوافلَ شهرِ رمضانَ منفرداً

جاءَ في ( الفقه الإسلامي وأدلته ) للدكتور ( الزحيلي ) عن ( ابن عباس ) أنَّه قالَ متحدثاً عن صلاة رسول اللّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) في شهر رمضانَ وفي غيره من الشهور :

__________________

(١) الموسوي ، شرف الدين ، مجلة رسالة الإسلام ، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة ، السنة الثامنة ، العدد الثاني ، شهر رمضان : ١٣٧٥ هـ ، ابريل : ١٩٥٦م ، ص : ١٣٨ ـ ١٤٢.

وانظر : جعفر السبحاني ، صلاة التراويح بين السُنَّة والبدعة ، ص : ٦٠ ـ ٦١.

٣٤

( كانَ يصلي في شهر رمضانَ ، في غير جماعة ، عشرينَ ركعةً والوتر ) (١).

فقيدُ ( في غيرِ جماعةٍ ) في هذا النَّص مؤشرٌ على أنَّ النبيَّ الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يشرِّع صلاةَ ( التراويح ) ، ولم يأتِ بها.

وتتحدثُ ( عائشة ) عن صلاة رسولِ اللّهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) في شهر رمضانَ ، فلا نرى في حديثها أيَّةَ إشارةٍ الى ( التراويح ) من قريب أو من بعيد ، بل على العكسِ من ذلكَ نجدُ أنَّ حديثَها يدلُّ على أنَّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) كانَ يصلّي نافلةَ شهر رمضان وغيره من الشهور من غير جماعةٍ.

ولو كانَ النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد صلّى هذهِ النافلةَ في المسجد ، أو في أيِّ مكانٍ آخر ، لما كانَ يخفى علينا خبرُ هذهِ الصلاة ، ولوردَ نقلُه في كتب الحديث في غاية الوضوح ، ولكنَّ رسولَ اللّهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يشرِّع هذهِ الصلاة ، بل جاءَ العكسُ على ذلك ، فقد روى ( البخاري ) عن ( عائشة ) في صحيحه قائلاً :

( حدثنا إسماعيل ، قالَ : حدّثني مالك عن سعيد المغبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنَّه سألَ عائشةَ رضيَ اللّهُ عنها :

ـ كيفَ كانت صلاةُ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ في رمضانَ؟

فقالَت :

ـ ما كانَّ يزيدُ في رمضانَ ولا في غيرِهِ على إحدى عشرةَ ركعةً ، يُصلّي أربعاً ، فلا تسأل عن حُسنهِنَّ وطولهِنَّ ، ثمَّ يُصلّي أربعاً ، فلا تسأل عن حُسنهِنَّ وطولهِنَّ ، ثمَّ يُصلّي ثلاثاً ، فقلتُ : يا

__________________

(١) الزحيلي ، د. وهبة ، الفقه الإسلامي وأدلته ، ج : ٢ ، ص : ٤٤.

وانظر : نيل الأوطار للشوكاني ، ج : ٣ ، ص : ٥٣.

٣٥

رسولَ اللّهِ أتنامُ قبلَ أنَّ توتر؟ قالَ : يا عائشةُ! إنَّ عينيَّ تنامانِ ولا ينامُ قَلبي ) (١).

ج ـ النبي (ص) يغضب لالتحاقِ البعضِ به في النافلة خلسةً

وردَ في ( صحيح مسلم ) عن ( زيد بن ثابت ) أنَّه قالَ :

( احتَجرَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ حجيرةً بخصفةٍ أو حصيرٍ (٢) ، فخرجَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ فيها ، فتتبعَ إليهِ رجالٌ ، وجاؤوا يصلّونَ بصلاتِهِ ، قالَ : ثمَّ جاؤوا ليلةً فحضَروا ، وأبطأَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ عنهم ، فلم يخرج إليهم ، فرفَعوا أصواتَهم ، وحَصبوا (٣) البابَ ، فخرجَ إليهم رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ مُغضِباً فقالَ :

ما زالَ بكم صنيعُكم حتى ظننتُ أنَّه سيُكتبُ عليكم ، فعَليكم بالصلاةِ في بيوتِكم ، فإنَّ خيرَ صلاةِ المرءِ في بيتهِ إلاّ الصلاة المكتوبة ) (٤).

__________________

(١) البخاري ، صحيح البخاري ، ج : ٢ ، ص : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

وانظر : كنز العمال ، ج : ٧ ، ح : ١٧٩٨٩ ، ص : ٦٧.

(٢) أي : أنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد اتخذ لنفسه حجرةً في المسجد ، وقد حوَّطها بحصير ، ليتسنى له الفراغ للعبادة ، والانفراد بربِّه ( جَلَّ وَعَلا ) ، والخلوة معه ، من دون شاغلٍ للنظر.

(٣) أي : إنَّ الصحابة لما رأوا رسول الله ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد أبطأ بالخروج إليهم رفعوا أصواتهم مطالبين بخروجه ، ورموا بابه بالحصى!!

(٤) مسلم ، صحيح مسلم ، ج : ٢ ، ص : ١٨٨ ، باب : استحباب الصلاة في بيته وجوازها في المسجد.

٣٦

فمن هذا الحديث نفهمُ مجموعةً من المداليل التي تأتي في سياقِ عدمِ مشروعيةِ أداءِ نوافلِ شهر رمضانَ جماعةً ، وهذهِ المداليلُ هي :

١ ـ إنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد اتخذَ إجراءاً احترازياً في أداء نوافل شهر رمضانَ منفرداً ، من خلال اتخاذه زاويةً من زوايا المسجد ، وتحويطها ، وإبعادِها عن الأنظار.

٢ ـ إنَّ المصلين الذين التحقوا بالنبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) كانوا قد تسلَّلوا إليه في أثناء أدائه للصلاة ، وتتبعوا أثرَه فيها ، من دون علمٍ منه ، فهو ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم ينوِ إمامتَهم في الصلاة ، ولا جمَعهم عليها ، وإنَّما كانَ ذلك فضولاً وتطفُّلاً منهم في ذلك ، أي إنَّ الصلاةَ كانت بمبادرةٍ من طرف واحدٍ فقط ، وهم هؤلاءِ الثلةُ المتطفلون وحسب.

ويؤيدُ ذلك ما ذكره ( الحميدي ) في ( الجمع بين الصحيحين ) في مسند ( أنس بن مالك ) من ( المتفق عليه ) حيثُ يقولُ :

( كانَ رسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ يُصلّي في شهرِ رمضانَ ، فجئتُ فقمتُ إلى جنبه ، وجاءَ رجلٌ آخرُ فقامَ أيضاً ، حتى كنّا رهطاً ، فلما أحسَّ النبيُّ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ أنَّا خلفَه جعلَ يتجوَّزُ في الصلاة ، ثمَّ دخلَ رحلَه فصلّى صلاةً لا يصليها عندنا ، فقلنا لهُ حينَ أصبحنا :

ـ أفطنتَ لنا الليلةَ؟ فقالَ :

ـ نعم ، ذلكَ الذي حمَلني على الذي صنعتُ ) (١).

__________________

(١) ابن طاووس الحسني ، رضي الدين علي بن موسى ، الطرائف في معرفة المذاهب والطوائف ، ص : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، والحديث في المسند برقم : ١٠٩ ، ورواه مسلم في صحيحه ، ج : ٢ ، ص : ٧٧٥.

٣٧

ففي هذه الرواية دلالةٌ صريحةٌ على عملية التسلُّلِ في الخفاء ، التي كانَ يقومُ بها بعضُ الصحابة في ليالي شهر رمضانَ لقطعِ خلوةِ رسولِ اللهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) مع الله ( جَلَّ وَعَلا ) ، ومن أجلِ الاقتداء القسري بهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) على أحسنِ التقادير ، أو الصلاة إلى جانبه كما هو ظاهرِ الحديث ، وأنَّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) بمجرد أنْ فطنَ إلى وجودهم خلفه دخلَ رحلَه الخاصَّ به ، ولم يعاود الخروجَ إليهم!!

فماذا يريد المرء أكثرَ دلالةً وبياناً من هذا الفعل الصريح على عدم مشروعيةِ الاقتداءِ في نافلة شهر رمضانَ؟!! بل فهمَ البعضُ أنَّ الإتمام لم يتمَّ أصلاً ، وإنَّما المقصود من قولِ الحديث : ( وجاؤوا يصلّونَ بصلاتِهِ ) أنَّهم يصلّون ( مع صلاته ) ، فهم يصلّونَ فرادى لا جماعةً ، وهذا التفسير مدعومٌ بقولِ ( ابن حجر ) في ( فتح الباري ) :

( مقتضاه أنَّهم كانوا يصلّونَ بصلاته وهو داخل الحجرة وهم خارجها ).

وهو تفسير وجيه ذكره الشيخ ( علي آل محسن ) بقوله :

( قوله : يصلّونَ بصلاته ، لا يدلُّ على أنَّهم كانوا يصلّونَ معه جماعةً ، بل كانوا يصلّونَ مع صلاته ، فهم يصلّونَ فرادى ، فالباءُ في صلاتهِ بمعنى ( مع ) ، مثل قولهم : ( بعتُكَ الدارَ بأثاثها ) ، أي : معَ أثاثها؛ لأنَّ صلاة الجماعةِ لا تتمُّ والإمامُ داخلُ الحجرة ، والمأمومونَ خارجها ) (١).

٣ ـ إنَّ ذلك الإئتمام التطفُّلي ـ على فرضِ حدوثه ـ لم يحصل على ضوء هذه الرواية إلاّ ليلةً واحدةً فقط ، ومن بعدها عالجَ النبيُّ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) الموقفَ في الليلة الثانية من دون فصل ، لخطورةِ الأمرِ وفداحته.

__________________

(١) آل محسن ، علي ، مسائل خلافية حارَ فيها أهلُ السُنَّة ، ص : ١٦٦.

٣٨

وهناك رواياتٌ أخرى ذكرت أنَّ ذلك الأمرَ قد حدثَ لأكثر من ليلةٍ واحدةٍ ، ففي ( صحيح البخاري ) عن ( عائشة ) أنَّها قالَت عن صلاةِ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لنوافل شهر رمضانَ :

( صلّى ذاتَ ليلةٍ في المسجد وصلّى بصلاتِهِ ناسٌ ، ثمَّ صلّى من القابلةِ فكثُرَ الناسُ ، ثمَّ اجتمعوا من الليلةِ الثالثةِ أو الرابعة ، فلم يخرجْ إليهم رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ) (١).

وهناك رواياتٌ أخرى قريبةٌ من هذا المضمون أيضاً ، وانْ كانت تختلفُ في عدد الليالي ، وتواليها ، ومواضعِها من شهر رمضانَ ، مما يدعو لعدم الوثوق إلاّ بالقدر المتيقَنِ منها على أحسن التقادير ، وهو حسب رأينا عدمُ تجاوزِ الليالي لأصابع اليدِ الواحدة؛ لأنَّها معضَدةٌ برواياتٍ مشابهة وردَت بطرقٍ معتبرة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، ولأنَّ أكابرَ علماءِ ( مدرسة الصحابة ) يعتبرونها الشاهدَ الأساسيَّ في المقام.

ومن هذه الروايات ما وردَ في ( صحيح البخاري ) عن ( عائشة ) عن رسولِ اللهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) أنَّه :

( خرجَ ليلةً في جوفِ الليلِ فصلّى في المسجد ، وصلّى رجالٌ بصلاتِهِ ، فأصبحَ الناسُ فتحدّثوا ، فاجتمعَ أكثرَ منهم ، فصلّى وصلّوا معه ، فأصبحَ الناسٌ فتحدّثوا ، فكثُرَ أهلُ المسجدِ من الليلةِ الثالثة ، فخرجَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ، فصلّى وصلّوا بصلاتِهِ ، فلمّا كانت الليلةُ الرابعةُ عجزَ المسجدُ عن أهلِهِ ، حتّى خرجَ لصلاةِ الصبح ، فلمّا قضى الفجرُ أقبلَ على الناسِ فتشهدَ ، ثمَّ قالَ : أمّا بعدُ ، فإنَّه لم يخفَ عليَّ مكانُكم ، ولكنّي خشيتُ

__________________

(١) البخاري ، صحيح البخاري ، ج : ٢ ، ص : ٤٩ ، باب : تحريض النبي على صلاة الليل.

٣٩

أنْ تُفرضَ عليكم فتَعجزوا عنها. فتُوفّيَ رسولُ اللّهِ والأمرُ على ذلك ) (١).

وسواءٌ أكانت ليلةً واحدةً كما في الرواية محل البحث أم أكثر من ذلك بيسير ، فإنَّ النتيجةَ هي أنَّ النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد بادرَ إلى معالجة الموقف ، ونهى الناسَ عن أداء النافلة جماعةً بأي نحوٍ من التعليل كان.

وإنْ كانَ لنا تحفُّظٌ على أصل التعليل الوارد في مجموع هذه الروايات ، حيثُ إنَّ هذه الروايات قد أناطت رفعَ التكليف عن أداءِ النافلة جماعةً بمخافة النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) من أنْ تُفرض على الأُمة ، وهذا الأمرُ يتنافى مع فهمنا لواقع التشريع الإلهي المرتبط بالمصالح والمفاسد العامة للبشرية في مختلف الأمكنة والأزمنة ، والذي لا علاقةَ له بميول ثلةٍ من المصلين ، دفعتهم الرغبةُ الآنيةُ للائتمام بالنوافل في ليالي شهر رمضانَ ، إذ لا يُعقل أنَّه كلما تتولد رغبةٌ عند مجموعةٍ من الناس في أداء عبادةٍ معيّنةٍ فأنَّ ذلك يستدعي قربَ فرضِها عليهم ، ولماذا لا ينهى النبيُّ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) أصحابه عن الإتيان ببقية النوافل الراتبةِ خشيةَ أنَّ تُفرض عليهم ، فتصير واجبةً بمجرّد مواظبتهم عليها ، لو كانَّ هناك صدقيةٌ حقيقيةٌ لهذه الصلاة بالكيفية المذكورة ، إذ انَّ ملاكَ الخشيةِ من الافتراض جارٍ في كلتا الحالتين ، فمجردُ الخشية من الافتراض لا يمكنُ له أنْ يكونَ مبرراً لعدول النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) عن تشريعِ أمرٍ إلهي مستحبٍ ، ومرغوبٍ فيه.

هذا من جانبٍ ، ومن جانبٍ آخر ، فإنَّ الصلواتِ المفروضةَ على المسلمين قد تمَّ الفراغُ منها ، وحُددت عن طريق القرآنِ الكريم ، والأحاديثِ الشريفة ، ومن أبرزِها حديثُ الإسراءِ المشهور ، فعن ( أنس بن مالك ) قالَ :

__________________

(١) البخاري ، صحيح البخاري : ج : ٣ ، ص : ٤٥ ، باب : فضل من قام رمضانَ.

٤٠