الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-04-8
الصفحات: ٢٧١
(٤)
نقطةُ الخلافِ بينَ المدرستين
تكمنُ نقطةُ الخلاف حولَ صلاة ( التراويح ) في أنَّ أتباع مدرسة أهل البيت عليهمالسلام يعتقدون بعدم مشروعية الإتيان بها جماعةً ، وأنَّ أداءَها على هذه الهيئة يُعتبرُ بِدعةً دخيلةً على تشريعات الإسلام ، وتعاليمه الثابتةِ بالنصوصِ الشرعيةِ القويمة.
وأما الأغلبيةُ الساحقةُ من أتباعِ ( مدرسةِ الصحابة ) فيعتقدون بأنَّ الإتيانَ بها جماعةً أمرٌ مشروع ، بل هو مستحبٌ ومندوب.
فلا يوجدُ خلافٌ بين المدرستين في أصل نافلة الليل ، ولا خلاف بينهما في أصل التنفل في ليالي شهر رمضان ، وإنَّما يكمنُ الخلافُ في الكيفية التي تُؤدى بها هذه النوافل؛ حيثُ تقولُ مدرسةُ أهل البيت عليهمالسلام بعدم جواز الإتيان بها جماعةً ، وإنَّما يشرعُ الإتيان بها فرادى وحسب ، وأما ( مدرسةُ الصحابة ) فتلتزمُ في الأغلب بالإتيان بها جماعةً ، وتنسبها الى التشريع بهذه الكيفية ، وهذا الأمرُ هو الذي أدخلها في حيِّز ( الابتداع ) من وجهة نظر مدرسةِ أهل البيت عليهمالسلام.
من هنا نعرفُ أنَّ نقطةَ الخلاف بين المدرستين حول ( التراويح ) ليست مسألةً فقهيةً محضة ، تحتملُ وجهات النظر المتعددة وحسب ، كما هو الأمرُ في عدد ركعات نافلة الليل ، إذ بالإمكان الاختلاف حول ذلك بالطريقة التي تدرج رأي الجانبين في المصبِّ الفقهي المتنوع الآراء ، وإنَّما نقطةُ الخلاف هنا مسألةٌ مشوبةٌ بجانب عقائدي ، وتتعلقُ بأصل مشروعية ( التراويح ) بهذه الكيفية الجديدة التي لم تتصل جذورُها بالشريعة المقدَّسة.
وبعبارةٍ أخرى إنَّ الرأي الفقهي قائمٌ على أساس استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، التي من أهمها ( القرآنُ المجيد ) و ( السُنَّة القطعيَّة ) ، فلابدَ من وجود
أساسٍ ومستندٍ قاطعٍ للأحكام المستنبطة فقهياً في ( القرآن المجيد ) و ( السُنَّة القطعيَّة ) ، ولابدَّ من ولادة هذه المسائلِ المتنوعة من رحم الشريعةِ الإسلامية ، وما من شكٍ في جواز ( الاجتهاد ) من قبل العلماء في حدودِ هذه الدائرة المشروعة ، وبالتالي الخلاف في الآراء والنتائج ، ومن أمثلة ذلك الخلاف في عدد ركعات القيام في ليالي شهر رمضان حسب الأدلة الشرعية ، بعد الفراغ من كون أصل القيام منسوباً إلى الشريعة الغراء ، ومنبثقاً عنها.
وأما إذا لم يكن هناك أصلٌ للعمل العبادي في الشريعة الإسلامية ، ولم يولد من رحم القرآن والسُنَّة ، ولا يوجدُ دليلٌ عامٌّ يشملُه ، ولا دليلٌ خاصٌّ ينصُّ عليه ، وإنَّما جاءَ لقيطاً من الخارج ، وأُضفيت عليه صفةُ الشرعية من قبل البشر العاديين ، ونُسبَ إلى الدين الحنيف بكيفيته المنحولة هذه ، فلاشكَ أنَّه سوفَ يخرجُ عن دائرة الخلاف الفقهي المحض ، ويدخلُ في دائرة البحث الممزوج بالعقيدة؛ لأنَّه سوف يحدّدُ مصيرَ العمل من الأساس ، ويبحثُه في الجذور ، ومن أمثلة ذلك البحثُ في أصل مشروعية صلاة ( التراويح ).
وبعبارةٍ أكثر شمولاً أنَّ التشريعات الإلهية الثابتة أُمورٌ توقيفية ، يجبُ امتثالُها وعدمُ الاجتهاد في مقابلها ، فلا يصحُّ إدخالُ ما ليس من الدين فيه كإدخال ( التراويح ) المبتدعة ، كما لا يصحُّ إخراجُ ما هو من صميم الدين عنه كإخراج ( المتعة ) المشروعة ، إذ لا يصحُّ التحليلُ والتحريمُ حسبَ الآراء الشخصية ، والاجتهاداتِ الخاصة ، كما قالَ ( جَلَّ وَعَلا ) :
|
( ولا تَقُولوا لِما تَصفُ ألسنتُكُمُ الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لتَفتروا على اللهِ الكذبَ إنَّ الذينَ يَفترونَ على اللهِ الكذبَ لا يُفلحونَ ) (١). |
ووردَ هذا المعنى في حديث رسولِ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيثُ يقولُ :
__________________
(١) النحل / ١١٦.
|
( اتقوا تكذيب الله! قيل : يارسول الله وكيف ذاك؟ قال : يقول أحدكم : قال الله ، فيقول الله : كذبت لم أقله ، ويقول : لم يقلِ الله ، فيقول عز وجل : كذبت قد قلته ) (١). |
وقد عَدَّت الشريعةُ الإسلاميةُ ظهورَ ( البدع ) في حياة المسلمينَ من أكبر ما يهدّدُ حياةَ الإسلام ، ويطعنُها في الصميم ، وجعلت محاربةَ البدع والمحدثات من أوضح مصاديق الذود عن الشريعة الإسلامية.
قالَ رسولُ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
|
( إياكم والبدعَ ، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ، وكلَّ ضلالةٍ تسيرُ الى النار ) (٢). |
وقالَ صلىاللهعليهوآلهوسلم :
|
( إذا ظهرت البدعُ في أمتي فليظهرِ العالمُ علمَه ، فمن لم يفعلْ فعليهِ لعنةُ الله ) (٣). |
وقد جهدَ علماءُ مدرسةِ أهل البيت عليهمالسلام من تقريب وجهات النظر مع ( مدرسة الصحابة ) في خصوص هذه المسألة ، والتقليص من حدَّةِ الخلافات حولها؛ فعمدوا إلى إدراجها ضمنَ السياقات الفقهية المحضة ، لتسكينِ ألمِ الفرقة ، وتخفيفِ حدَّتِها ، ولنِعمَ ما فَعلوا.
فنرى العلاّمةَ ( جعفرَ السبحاني ) يقول من هذا المنطلق في كتابه ( صلاة التراويح بين السُنَّة والبدعة ) :
|
( فالخلافُ في صلاة التراويح ليسَ خلافاً في جوهرِ الدين وأُصوله حتّى يستوجبَ العداءَ والبغضاء ، وإنَّما هو خلافٌ فيما رُويَ عنه |
__________________
(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٢ ، باب : ١٦ ، ح : ١٦ ، ص : ١١٧.
(٢) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ١ ، ح : ١١١٣ ، ص : ٢٢١.
(٣) الكليني ، محمد بن يعقوب ، الأصول من الكافي ، ج : ١ ، باب : البدع والرأي والمقاييس ، ح : ٢ ، ص : ٥٤.
|
ـ صلّى اللهُ عَليهِ وآله وسَلَّمَ ـ وهو أمرٌ يسيرٌ في مقابل المسائل الكثيرة المتّفق عليها بين المذاهب الإسلامية ) (١). |
وقالَ العلاّمةُ ( نجمُ الدين الطبسي ) في كتابه الذي يحملُ نفسَ العنوان السابق :
|
( قد يُتصَّورُ لأوّل وهلةٍ أنَّها من مختصاتِ أهل السُنَّة ، ولكنَّ التتبّعَ والتحقيقَ ومراجعةَ كلمات الفريقين وآرائهم ، يكشفُ عن خطأ هذا التصور ، وأنَّ أصل المسألة وهو قيام شهر رمضان ونوافل لياليها والصلوات فيها من الأمور والمسائل المشتركة بين الفريقين ، بل الاشتراك في عددها أيضاً كادَ أنْ يكونَ حاصلاً ـ في الجملة ـ وإنَّما الخلافُ هو في إقامة هذهِ النوافل جماعةً أم فرادى ) (٢). |
__________________
(١) السبحاني ، جعفر ، صلاة التراويح بين السنة والبدعة ، ص : ٤.
(٢) الطبسي ، نجم الدين ، صلاة التراويح بين السنة والبدعة ، ص : ٦.
الفصل الثاني
صلاةُ التراويح .. موقف النبي وأهلِ بيتِهِ منها
١ ـ موقف النبي من صلاةِ التراويح
أ ـ النبيُّ يحثُّ على إخفاءِ النوافلِ في البيوت
ب ـ النبيُّ يصلّي نوافلَ شهرِِ رمضانَ منفرداً
ج ـ النبيُّ يغضبُ لالتحاقِ البعضِ به في النافلة خلسةً
د ـ النبيُّ لم يصلِّ التراويحَ عندَ كثيرٍ من أئمةِ مدرسةِ الصحابة
٢ ـ أمير المؤمنينَ عليٌّ ينهى عن صلاةِ التراويح
٣ ـ أهل البيتِ يؤكدونَ عدمَ مشروعيةِ صلاةِ التراويح
٤ ـ التراويح بدعة بإجماعِ علماءِ مدرسةِ أهلِ البيت
نظرة
على الفصل الثاني
نتعرفُ من خلال هذا الفصل على موقفِ النبي (ص) وأهلِ بيته (ع) وعلماء مدرسة أهل البيت (ع) من صلاةِ ( التراويح ).
فنثبتُ أولاً : أنَّ النبي (ص) كانَ يحثُّ على إخفاءِ النوافلِ في البيوت ، وهذا الأمرُ يتنافى مع الإعلان بنافلة الليل في شهر رمضان من خلال أدائها جماعةً.
ونثبتُ ثانياً : أنَّ النبي (ص) كان يؤدي نافلة الليل في شهر رمضانَ وغيره منفرداً طيلةَ حياته.
ونثبتُ ثالثاً : غضبَ النبي (ص) من المصلينَ الذينَ حاولوا الالتحاق بهِ في نافلةِ شهر رمضان ، وكان ينهاهم عن أدائها جماعةً.
ونثبتُ رابعاً : أنَّ الكثير من علماء مدرسة الصحابة قد أقرّوا بأنَّ النبي (ص) لم يصلِّ ( التراويح ) في حياتهِ مطلقاً.
ومن ثمَّ نستعرضُ موقف الإمام علي (ع) الرادعِ عن أداءِ ( التراويح ) ، وتصريحه بعدمِ ارتباط هذهِ الصلاة بالدين.
ومن بعد هذا نستعرضُ أحاديثَ أهل البيت (ع) في تأكيد عدم مشروعية ( التراويح ) ، وعدّها ( بدعةً ) محدثةً في الدين.
وتبعاً لموقف أهل البيت (ع) أفتى علماء مدرستهم بعدم جواز أداء نوافل شهر رمضان جماعةً ، وصرَّحوا بأنها ( بدعةٌ ) محدثة.
صلاةُ التراويح
(١)
موقف النبي (ص) من صلاةِ التراويح
هناك قرائنُ عديدةٌ تشيرُ إلى أنَّ رسولَ الله ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يؤدِ نافلةَ شهرِ رمضانَ المسماة بـ ( التراويح ) جماعةً ، بل إنَّه نهى عن الإتيان بها على هذه الكيفية ، وعدَّها ( بدعةً ) محدَثةً ، ومن هذه القرائن ما يلي :
أ ـ النبي (ص) يحث على إخفاءِ النوافلِ في البيوت
إنَّ من الأُمور التي تؤيِّد منافاةَ صلاة ( التراويح ) لمبادئ الشريعة الإسلامية وتعاليمها ، وأنَّ رسولَ اللّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يسنَّها ، هو الطائفةُ الكبيرةُ من الأحاديث النبوية التي دلَّت على حثِّ المسلمين على صلاة النوافل عموماً في البيوت؛ لأنَّ هذا الأمرَ أقربُ للإخلاص ، وأدعى للقبول. بل قد وردَ النهي من قبل رسول اللّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) عن صلاة النوافل جماعةً ، لمّا رأى بعضَ الأصحاب يصلّون خلفه خِلسةً ، ووجَّههم إلى إخفاءِ النوافل ، وعدمِ تشريع الجماعةِ فيها ، كما سيأتي بيانُه.
وقد وردَت رواياتٌ كثيرةٌ في كتب مدرسةِ الصحابة تدلُّ على استحباب إخفاءِ النوافل ، والإتيانِ بها في البيوت ، وأفتى بهذا الأمر علماءُ هذه المدرسة في مصنفاتهم ، فقد وردَ في ( صحيح مسلم ) أنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قالَ :
|
( إذا قَضى أحدُكم الصلاةَ في مسجدِهِ ، فليَجعلْ لبيتِهِ نصيباً من صَلاتِهِ ، فإنَّ اللهَ جاعلٌ من صَلاتِهِ في بيتِهِ خَيراً ) (١). |
__________________
(١) مسلم ، صحيح مسلم ، ج : ٢ ، ص : ١٨٧ ، باب : استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد.
والذي يتضحُ من ظاهر الحديث أنَّ المقصودَ بالصلاة التي ندبَ رسولُ اللهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) المسلمينَ إلى إخفائها في البيوت هي ( النوافل ) ، باعتبار أنَّ التي يقضونها في المسجد هي الصلاةُ المكتوبة.
وفي سُنن ( أبي داود ) عنه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) :
|
( عَليكُم بالصلاةِ في بيوتِكُم ، فإنَّ خيرَ صلاةِ المرءِ في بيتِهِ إلاّ المكتوبة ) (١). |
ووردَ في ( الترغيب والترهيب ) عن ( عبد اللّه بن مسعود ) أنَّه قالَ :
|
( سألتُ رسولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ : ـ أيُّما أفضلُ : الصلاةُ في بيتي ، أو الصلاةُ في المسجد؟ قالَ : ـ ألا تَرى إلى بيتي ما أقربَهُ منَ المسجدِ ، فَلأنْ أُصلّي في بيتي أحبُّ إليَّ من أنْ اُصلّيَ في المسجد ، إلا أنْ تكونَ صلاةً مكتوبةً ). |
ثمَّ قالَ :
|
( رواه أحمدُ وابنُ ماجة وابنُ خزيمة في صحيحه ) (٢). |
وجاءَ فيه أيضاً :
|
( وعن أبي موسى رضيَ اللّهُ عنهُ قالَ : خرجَ نفرٌ من أهلِ العراقِ إلى عمر ، فلَّما قَدِموا عليهِ يسألونَ عن صلاةِ الرجلِ في بيتِهِ ، فقالَ عمرُ : سألتُ رسولَ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ، فقالَ : أمّا صلاةُ الرجلِ في بيتِهِ فنورٌ ، فنوِّروا بيوتَكُم ). |
ثمَّ قالَ :
|
( رواه ابنُ خزيمةُ في صحيحه ) (٣). |
__________________
(١) أبو داود ، سنن أبي داود ، ج : ٢ ، ص : ٦٩ ، ح : ١٤٤٧.
(٢) المنذري ، الترغيب والترهيب ، تعليق : مصطفى محمد عمارة ، ج : ١ ، ص : ٣٧٩ ، ح : ٤.
(٣) المنذري ، الترغيب والترهيب ، تعليق : مصطفى محمد عمارة ، ج : ١ ، ص : ٣٧٩ ، ح : ٥.
وفي ( كنز العمال ) :
|
( سُئلَ عمرُ عن الصلاةِ في المسجدِ فقالَ : قالَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ : الفريضةُ في المسجد ، والتطوعُ في البيت ) (١). |
وجاءَ في مسند ( أحمد بن حنبل ) :
|
( صلّى رسولُ اللّهِ صلاةَ المغربِ في مسجدِ بني الأشهل ، فلمّـا صلّى قامَ ناس يتنفّلونَ ، فقالَ النبيُّ : عليكم بهذه الصلاة في البيوت ) (٢). |
من هنا رأى بعضُ علماءِ مدرسة الصحابة أفضليةَ قيامِ المرءِ في رمضانَ بيته على صلاةِ ( التراويح ) المدَّعاة ، فقد قالَ مالكُ وأبو يوسفَ وبعضُ الشافعية :
|
( إنَّ فعلَها ( الصلاةَ ليلاً في رمضانَ ) فرادى في البيت أفضلُ ، لحديثِ : خيرُ صلاةِ المرءِ في بيتِهِ إلاّ الصلاةَ المكتوبة ) (٣). |
وقالَ ( ابنُ قدامة ) في ( المغني ) :
|
( والتطوعُ في البيتِ أفضلُ لقولِ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ : عَليكُم بالصلاةِ في بيوتِكُم فانَّ خيرَ صلاةِ المرءِ في بيتِهِ إلا المكتوبة ، رواه مسلم ، وعن زيد بن ثابت أنَّ النبيَّ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ قالَ : صلاةُ المرءِ في بيتِهِ أفضلُ من صلاتِهِ في مسجدي هذا إلاّ المكتوبة ، رواه أبو داود ) (٤). |
__________________
وانظر : كنز العمال ، ج : ٨ ، ح : ٢٣٣٦٠ ، ص : ٣٨٤.
(١) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ٨ ، ح : ٢٣٣٦٣ ، ص : ٣٨٤.
(٢) ابن حنبل ، أحمد ، مسند أحمد بن حنبل ، ج : ٥ ، ص : ٤٢٧.
(٣) راجع : صحيح مسلم بشرح النووي ، ج : ٦ ، ص : ٣٩ ـ ٤٠ ، وفتح الباري للعسقلاني ، ج : ٤ ، ص : ٢٥٢ ، والتاج الجامع للأصول لناصيف ، ج : ٢ ، ص : ٦٧.
(٤) ابن قدامة ، موفق الدين ، المغني ، ج : ١ ، ص : ٧٧٥.
ومن هنا أفتى ( الشافعي ) باستحباب الانفرادِ بنافلةِ شهر رمضانَ ، فقالَ :
|
( صلاةُ المنفردِ أحبُّ إليَّ منهُ ). |
وشنَّعَ ( ابنُ داود ) على ( الشافعي ) في هذه المسألة فقالَ :
|
( خالفَ فيها السُنَّةَ والإجماعَ ) (١). |
وجاءَ في ( فضائل الأوقات ) عن فعل صلاة ( التراويح ) في الجماعة :
|
( فأمّا من كانَ حافظاً ، فقد ذهبَ ابنُ عمر أنَّ فعلَها بالانفراد أولى ) (٢). |
وعن ( الفائق في غريب الحديث ) للـ ( الزمخشري ) :
|
( في حديثِ أنسٍ رضيَ اللهُ تعالى عنه : أنَّه سُئلَ عن التعقيبِ في رمضانَ ، فأمرَهم أنْ يصلّوا في البيوت ) (٣). |
ورُويَ في ( شرح نهج البلاغة ) عن النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) أنَّه قالَ :
|
( فَضلُ صلاةِ المتطوِّعِ في بيتِهِ على صلاةِ المتطوعِ في المسجدِ كفضلِ صلاةِ المكتوبةِ في المسجدِ على صلاتِهِ في البيت ) (٤). |
وفسَّرَ ( المحب الطبري ) هذا الحديثَ بالقول :
|
( فيه دلالةٌ ظاهرة على أنَّ النافلةَ في البيت تُضاعَف تضعيفاً يزيدُ على الألف؛ لأنَّ المصطفى صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ فضَّلها على الصلاةِ في مسجده ، والصلاةُ فيه بألفِ صلاة ) (٥). |
__________________
(١) الطوسي ، أبو جعفر ، الخلاف ، ج : ١ ، ص : ٥٢٧ ، مسألة : ٢٦٧ ، عن : المجموع ، ٤ ، ص : ٥.
(٢) البيهقي ، فضائل الأوقات ، ص : ٢٦٩.
(٣) الزمخشري ، جار الله ، الفايق في غريب الحديث ، ج : ٢ ، ص : ٣٨٧.
(٤) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة للإمام علي عليهالسلام ، ج : ١٢ ، ص : ٢٨٤.
(٥) المناوي ، محمد عبد الرؤوف ، فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير ، تحقيق : أحمد عبد السلام ، ج : ٤ ، ص : ٢٩٦.
وفي ( شرح النهج ) أيضاً عنه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) :
|
( إنَّ أفضلَ النوافلِ ركعتان يُصليهُما المسلمُ في زاويةِ بيتِهِ ، لا يعلمُها إلاّ اللهُ وحدَه ) (١). |
وأضافَ معللاً ذلك بالقول :
|
( قالَوا : ولأنَّها إذا صُليت فرادى ، كانت الصلاةُ أبعدَ من الرياءِ والتصنُّع ) (٢). |
ولا يخفى على من أدركَ سرَّ العبادات المسنونة في الإسلام ، ودورَها في تهذيب النفس الإنسانية ، ما يهدفُ إليه إخفاءُ النوافل عن الأنظار ، والانفرادُ بها مع خالقه ، فهوَ من أبرز مظاهرِ الإخلاصِ بينَ العبد وربه.
يقولُ السيد ( شرف الدين العاملي ) :
|
( إنَّ فائدة إقامتها في البيت فرادى هي أنَّ المصلّي حينَ يؤديها ينفردُ بربِّه عزَّ وعلا ، يشكو إليه بثَّه وحزنه ، ويناجيه بمهماته مهمةً مهمة؛ حتى يأتي على آخرها ملحّاً عليه ، متوسّلاً بسعة رحمته إليه ، راجياً لاجئاً ، راهباً راغباً ، منيباً تائباً ، معترفاً لائذاً عائذاً ، لا يجد ملجأً من اللّه تعالى إلا إليه ، ولا منجي منه إلا به؛ لهذا ترك اللّهُ السننَ حرةً من قيد الجماعة ، ليتزوّدوا فيها من الانَّفرادِ باللّه ما أقبلت قلوبُهم عليه ، ونشطت أعضاؤُهم له ، يستقلُّ منهم مَن يستقل ، ويستكثرُ مَن يستكثر ، فإنَّها خيرُ موضوع ، كما جاءَ في الأثر عن سيّد البشر ، أمّا ربطُها بالجماعة فيَحدُّ من هذا النفع ، ويقلِّلُ من جدواه. |
__________________
(١) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة للإمام علي عليهالسلام ، ج : ١٢ ، ص : ٢٨٥.
(٢) المعتزلي ، ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة للإمام علي عليهالسلام ، ج : ١٢ ، ص : ٢٨٥.
|
أضف إلى هذا أنَّ إعفاءَ النافلة من الجماعة يمسكُ على البيوت حظَّها من البركة والشرف بالصلاة فيها ، ويمسكُ عليها حظَّها من تربية الناشئة على حبِّها والنشاط لها ، ذلك لمكانِ القدوة في عمل الآباء والأُمهات والأجداد والجدّات ، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدّاً يرسّخها في عقولهم وقلوبهم ) (١). |
ولا يمكنُ الإدّعاءُ بأنَّ هذهِ الروايات التي دلَّت على استحباب أداءِ النوافل في البيوت مطلقةٌ ، فتُقيَّدُ بما دلَّ على استحباب صلاة ( التراويح ) المدَّعاة؛ لأنَّه لا يوجدُ أيُّ سندٍ شرعي ، ودليلٍ صحيحٍ على كون النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد صلّى هذهِ النافلةَ في حياته الشريفة ، أو سنَّها للمسلمين من بعده ، غيرَ ما يُدعى بهذا الشأنَّ من النَّزر القليل المفتَعل من الأحاديث التي يتشبثُ بها البعضُ ، إذ الغريقُ يتشبثُ بكل حشيش!! بل سيأتي أنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد نهى أصحابَه عن هذه الصلاة من خلال جملةٍ من المواقفِ والأحاديث.
ب ـ النبي (ص) يصلي نوافلَ شهرِ رمضانَ منفرداً
جاءَ في ( الفقه الإسلامي وأدلته ) للدكتور ( الزحيلي ) عن ( ابن عباس ) أنَّه قالَ متحدثاً عن صلاة رسول اللّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) في شهر رمضانَ وفي غيره من الشهور :
__________________
(١) الموسوي ، شرف الدين ، مجلة رسالة الإسلام ، دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة ، السنة الثامنة ، العدد الثاني ، شهر رمضان : ١٣٧٥ هـ ، ابريل : ١٩٥٦م ، ص : ١٣٨ ـ ١٤٢.
وانظر : جعفر السبحاني ، صلاة التراويح بين السُنَّة والبدعة ، ص : ٦٠ ـ ٦١.
|
( كانَ يصلي في شهر رمضانَ ، في غير جماعة ، عشرينَ ركعةً والوتر ) (١). |
فقيدُ ( في غيرِ جماعةٍ ) في هذا النَّص مؤشرٌ على أنَّ النبيَّ الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يشرِّع صلاةَ ( التراويح ) ، ولم يأتِ بها.
وتتحدثُ ( عائشة ) عن صلاة رسولِ اللّهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) في شهر رمضانَ ، فلا نرى في حديثها أيَّةَ إشارةٍ الى ( التراويح ) من قريب أو من بعيد ، بل على العكسِ من ذلكَ نجدُ أنَّ حديثَها يدلُّ على أنَّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) كانَ يصلّي نافلةَ شهر رمضان وغيره من الشهور من غير جماعةٍ.
ولو كانَ النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد صلّى هذهِ النافلةَ في المسجد ، أو في أيِّ مكانٍ آخر ، لما كانَ يخفى علينا خبرُ هذهِ الصلاة ، ولوردَ نقلُه في كتب الحديث في غاية الوضوح ، ولكنَّ رسولَ اللّهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم يشرِّع هذهِ الصلاة ، بل جاءَ العكسُ على ذلك ، فقد روى ( البخاري ) عن ( عائشة ) في صحيحه قائلاً :
|
( حدثنا إسماعيل ، قالَ : حدّثني مالك عن سعيد المغبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنَّه سألَ عائشةَ رضيَ اللّهُ عنها : ـ كيفَ كانت صلاةُ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ في رمضانَ؟ فقالَت : ـ ما كانَّ يزيدُ في رمضانَ ولا في غيرِهِ على إحدى عشرةَ ركعةً ، يُصلّي أربعاً ، فلا تسأل عن حُسنهِنَّ وطولهِنَّ ، ثمَّ يُصلّي أربعاً ، فلا تسأل عن حُسنهِنَّ وطولهِنَّ ، ثمَّ يُصلّي ثلاثاً ، فقلتُ : يا |
__________________
(١) الزحيلي ، د. وهبة ، الفقه الإسلامي وأدلته ، ج : ٢ ، ص : ٤٤.
وانظر : نيل الأوطار للشوكاني ، ج : ٣ ، ص : ٥٣.
|
رسولَ اللّهِ أتنامُ قبلَ أنَّ توتر؟ قالَ : يا عائشةُ! إنَّ عينيَّ تنامانِ ولا ينامُ قَلبي ) (١). |
ج ـ النبي (ص) يغضب لالتحاقِ البعضِ به في النافلة خلسةً
وردَ في ( صحيح مسلم ) عن ( زيد بن ثابت ) أنَّه قالَ :
|
( احتَجرَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ حجيرةً بخصفةٍ أو حصيرٍ (٢) ، فخرجَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ فيها ، فتتبعَ إليهِ رجالٌ ، وجاؤوا يصلّونَ بصلاتِهِ ، قالَ : ثمَّ جاؤوا ليلةً فحضَروا ، وأبطأَ رسولُ اللّهِ صلّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ عنهم ، فلم يخرج إليهم ، فرفَعوا أصواتَهم ، وحَصبوا (٣) البابَ ، فخرجَ إليهم رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ مُغضِباً فقالَ : ما زالَ بكم صنيعُكم حتى ظننتُ أنَّه سيُكتبُ عليكم ، فعَليكم بالصلاةِ في بيوتِكم ، فإنَّ خيرَ صلاةِ المرءِ في بيتهِ إلاّ الصلاة المكتوبة ) (٤). |
__________________
(١) البخاري ، صحيح البخاري ، ج : ٢ ، ص : ٢٥٢ ـ ٢٥٣.
وانظر : كنز العمال ، ج : ٧ ، ح : ١٧٩٨٩ ، ص : ٦٧.
(٢) أي : أنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد اتخذ لنفسه حجرةً في المسجد ، وقد حوَّطها بحصير ، ليتسنى له الفراغ للعبادة ، والانفراد بربِّه ( جَلَّ وَعَلا ) ، والخلوة معه ، من دون شاغلٍ للنظر.
(٣) أي : إنَّ الصحابة لما رأوا رسول الله ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد أبطأ بالخروج إليهم رفعوا أصواتهم مطالبين بخروجه ، ورموا بابه بالحصى!!
(٤) مسلم ، صحيح مسلم ، ج : ٢ ، ص : ١٨٨ ، باب : استحباب الصلاة في بيته وجوازها في المسجد.
فمن هذا الحديث نفهمُ مجموعةً من المداليل التي تأتي في سياقِ عدمِ مشروعيةِ أداءِ نوافلِ شهر رمضانَ جماعةً ، وهذهِ المداليلُ هي :
١ ـ إنَّ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد اتخذَ إجراءاً احترازياً في أداء نوافل شهر رمضانَ منفرداً ، من خلال اتخاذه زاويةً من زوايا المسجد ، وتحويطها ، وإبعادِها عن الأنظار.
٢ ـ إنَّ المصلين الذين التحقوا بالنبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) كانوا قد تسلَّلوا إليه في أثناء أدائه للصلاة ، وتتبعوا أثرَه فيها ، من دون علمٍ منه ، فهو ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لم ينوِ إمامتَهم في الصلاة ، ولا جمَعهم عليها ، وإنَّما كانَ ذلك فضولاً وتطفُّلاً منهم في ذلك ، أي إنَّ الصلاةَ كانت بمبادرةٍ من طرف واحدٍ فقط ، وهم هؤلاءِ الثلةُ المتطفلون وحسب.
ويؤيدُ ذلك ما ذكره ( الحميدي ) في ( الجمع بين الصحيحين ) في مسند ( أنس بن مالك ) من ( المتفق عليه ) حيثُ يقولُ :
|
( كانَ رسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ يُصلّي في شهرِ رمضانَ ، فجئتُ فقمتُ إلى جنبه ، وجاءَ رجلٌ آخرُ فقامَ أيضاً ، حتى كنّا رهطاً ، فلما أحسَّ النبيُّ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ أنَّا خلفَه جعلَ يتجوَّزُ في الصلاة ، ثمَّ دخلَ رحلَه فصلّى صلاةً لا يصليها عندنا ، فقلنا لهُ حينَ أصبحنا : ـ أفطنتَ لنا الليلةَ؟ فقالَ : ـ نعم ، ذلكَ الذي حمَلني على الذي صنعتُ ) (١). |
__________________
(١) ابن طاووس الحسني ، رضي الدين علي بن موسى ، الطرائف في معرفة المذاهب والطوائف ، ص : ٤٥٦ ـ ٤٥٧ ، والحديث في المسند برقم : ١٠٩ ، ورواه مسلم في صحيحه ، ج : ٢ ، ص : ٧٧٥.
ففي هذه الرواية دلالةٌ صريحةٌ على عملية التسلُّلِ في الخفاء ، التي كانَ يقومُ بها بعضُ الصحابة في ليالي شهر رمضانَ لقطعِ خلوةِ رسولِ اللهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) مع الله ( جَلَّ وَعَلا ) ، ومن أجلِ الاقتداء القسري بهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) على أحسنِ التقادير ، أو الصلاة إلى جانبه كما هو ظاهرِ الحديث ، وأنَّه ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) بمجرد أنْ فطنَ إلى وجودهم خلفه دخلَ رحلَه الخاصَّ به ، ولم يعاود الخروجَ إليهم!!
فماذا يريد المرء أكثرَ دلالةً وبياناً من هذا الفعل الصريح على عدم مشروعيةِ الاقتداءِ في نافلة شهر رمضانَ؟!! بل فهمَ البعضُ أنَّ الإتمام لم يتمَّ أصلاً ، وإنَّما المقصود من قولِ الحديث : ( وجاؤوا يصلّونَ بصلاتِهِ ) أنَّهم يصلّون ( مع صلاته ) ، فهم يصلّونَ فرادى لا جماعةً ، وهذا التفسير مدعومٌ بقولِ ( ابن حجر ) في ( فتح الباري ) :
|
( مقتضاه أنَّهم كانوا يصلّونَ بصلاته وهو داخل الحجرة وهم خارجها ). |
وهو تفسير وجيه ذكره الشيخ ( علي آل محسن ) بقوله :
|
( قوله : يصلّونَ بصلاته ، لا يدلُّ على أنَّهم كانوا يصلّونَ معه جماعةً ، بل كانوا يصلّونَ مع صلاته ، فهم يصلّونَ فرادى ، فالباءُ في صلاتهِ بمعنى ( مع ) ، مثل قولهم : ( بعتُكَ الدارَ بأثاثها ) ، أي : معَ أثاثها؛ لأنَّ صلاة الجماعةِ لا تتمُّ والإمامُ داخلُ الحجرة ، والمأمومونَ خارجها ) (١). |
٣ ـ إنَّ ذلك الإئتمام التطفُّلي ـ على فرضِ حدوثه ـ لم يحصل على ضوء هذه الرواية إلاّ ليلةً واحدةً فقط ، ومن بعدها عالجَ النبيُّ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) الموقفَ في الليلة الثانية من دون فصل ، لخطورةِ الأمرِ وفداحته.
__________________
(١) آل محسن ، علي ، مسائل خلافية حارَ فيها أهلُ السُنَّة ، ص : ١٦٦.
وهناك رواياتٌ أخرى ذكرت أنَّ ذلك الأمرَ قد حدثَ لأكثر من ليلةٍ واحدةٍ ، ففي ( صحيح البخاري ) عن ( عائشة ) أنَّها قالَت عن صلاةِ النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) لنوافل شهر رمضانَ :
|
( صلّى ذاتَ ليلةٍ في المسجد وصلّى بصلاتِهِ ناسٌ ، ثمَّ صلّى من القابلةِ فكثُرَ الناسُ ، ثمَّ اجتمعوا من الليلةِ الثالثةِ أو الرابعة ، فلم يخرجْ إليهم رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ) (١). |
وهناك رواياتٌ أخرى قريبةٌ من هذا المضمون أيضاً ، وانْ كانت تختلفُ في عدد الليالي ، وتواليها ، ومواضعِها من شهر رمضانَ ، مما يدعو لعدم الوثوق إلاّ بالقدر المتيقَنِ منها على أحسن التقادير ، وهو حسب رأينا عدمُ تجاوزِ الليالي لأصابع اليدِ الواحدة؛ لأنَّها معضَدةٌ برواياتٍ مشابهة وردَت بطرقٍ معتبرة عن أهل البيت عليهمالسلام ، ولأنَّ أكابرَ علماءِ ( مدرسة الصحابة ) يعتبرونها الشاهدَ الأساسيَّ في المقام.
ومن هذه الروايات ما وردَ في ( صحيح البخاري ) عن ( عائشة ) عن رسولِ اللهِ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) أنَّه :
|
( خرجَ ليلةً في جوفِ الليلِ فصلّى في المسجد ، وصلّى رجالٌ بصلاتِهِ ، فأصبحَ الناسُ فتحدّثوا ، فاجتمعَ أكثرَ منهم ، فصلّى وصلّوا معه ، فأصبحَ الناسٌ فتحدّثوا ، فكثُرَ أهلُ المسجدِ من الليلةِ الثالثة ، فخرجَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ ، فصلّى وصلّوا بصلاتِهِ ، فلمّا كانت الليلةُ الرابعةُ عجزَ المسجدُ عن أهلِهِ ، حتّى خرجَ لصلاةِ الصبح ، فلمّا قضى الفجرُ أقبلَ على الناسِ فتشهدَ ، ثمَّ قالَ : أمّا بعدُ ، فإنَّه لم يخفَ عليَّ مكانُكم ، ولكنّي خشيتُ |
__________________
(١) البخاري ، صحيح البخاري ، ج : ٢ ، ص : ٤٩ ، باب : تحريض النبي على صلاة الليل.
|
أنْ تُفرضَ عليكم فتَعجزوا عنها. فتُوفّيَ رسولُ اللّهِ والأمرُ على ذلك ) (١). |
وسواءٌ أكانت ليلةً واحدةً كما في الرواية محل البحث أم أكثر من ذلك بيسير ، فإنَّ النتيجةَ هي أنَّ النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) قد بادرَ إلى معالجة الموقف ، ونهى الناسَ عن أداء النافلة جماعةً بأي نحوٍ من التعليل كان.
وإنْ كانَ لنا تحفُّظٌ على أصل التعليل الوارد في مجموع هذه الروايات ، حيثُ إنَّ هذه الروايات قد أناطت رفعَ التكليف عن أداءِ النافلة جماعةً بمخافة النبي ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) من أنْ تُفرض على الأُمة ، وهذا الأمرُ يتنافى مع فهمنا لواقع التشريع الإلهي المرتبط بالمصالح والمفاسد العامة للبشرية في مختلف الأمكنة والأزمنة ، والذي لا علاقةَ له بميول ثلةٍ من المصلين ، دفعتهم الرغبةُ الآنيةُ للائتمام بالنوافل في ليالي شهر رمضانَ ، إذ لا يُعقل أنَّه كلما تتولد رغبةٌ عند مجموعةٍ من الناس في أداء عبادةٍ معيّنةٍ فأنَّ ذلك يستدعي قربَ فرضِها عليهم ، ولماذا لا ينهى النبيُّ ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) أصحابه عن الإتيان ببقية النوافل الراتبةِ خشيةَ أنَّ تُفرض عليهم ، فتصير واجبةً بمجرّد مواظبتهم عليها ، لو كانَّ هناك صدقيةٌ حقيقيةٌ لهذه الصلاة بالكيفية المذكورة ، إذ انَّ ملاكَ الخشيةِ من الافتراض جارٍ في كلتا الحالتين ، فمجردُ الخشية من الافتراض لا يمكنُ له أنْ يكونَ مبرراً لعدول النبي الخاتَم ( صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ وسلَّمَ ) عن تشريعِ أمرٍ إلهي مستحبٍ ، ومرغوبٍ فيه.
هذا من جانبٍ ، ومن جانبٍ آخر ، فإنَّ الصلواتِ المفروضةَ على المسلمين قد تمَّ الفراغُ منها ، وحُددت عن طريق القرآنِ الكريم ، والأحاديثِ الشريفة ، ومن أبرزِها حديثُ الإسراءِ المشهور ، فعن ( أنس بن مالك ) قالَ :
__________________
(١) البخاري ، صحيح البخاري : ج : ٣ ، ص : ٤٥ ، باب : فضل من قام رمضانَ.