صلاة التراويح

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]

صلاة التراويح

المؤلف:

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-04-8
الصفحات: ٢٧١

القرينة الثالثة :

قالَ ( عمرُ ) : ( إني أرى لو جمعتُ هؤلاءِ على قارئ واحدٍ لكانَ أمثل ) ، فهذا القولُ صريح بوجود عملية تشريع شخصي جديد في مقابل السُنَّة النبوية الثابتة ، مما لا يجعلُ مجالاً للشك في إرادة المعنى الشرعي المألوف.

وخلاصةُ القول أنَّ العودةَ بالكلمة المنقولة شرعاً الى المعنى اللغوي العام لها عند الاستعمال يحتاجُ إلى قرينة تصرفُ اللفظَ عن معناه المنقول إلى المعنى المهجور.

ولتوضيح الفكرة نوردُ لها مثالاً ، فلو قالَ شخصٌ لآخر : ( لقد صليتُ اليومَ في المسجد ) ، فلاشك أنَّ السامعَ سوف يفهمُ من كلامه أنَّه أدَّى الصلاةَ المألوفة من قيام ، وركوع ، وسجود ، وهذا هو المعنى المتبادرُ من لفظ ( الصلاة ) في ذهنية المسلمين ، أمّا لو قالَ : إني أردتُ من قولي ذاك المعنى اللغوي للصلاة ، أي انِّي دعوتُ الله ( جَلَّ وعَلا ) وحسب ، ولم أكن أقصدُ الصلاةَ المألوفة ، فإنَّ كلامَه لا يكونُ مقبولاً ، ويقالُ له كانَ الأحرى بك أنْ تنصبَ قرينةً تشيرُ إلى المعنى اللغوي.

ويزدادُ الأمرُ أهميةً فيما لو ترتبَ على المعنى أثرٌ معين ، فلو طلبَ شخصٌ من آخر أن يصليَ عن والده المتوَفَّى مقابلَ أجرٍٍ معين ( بناءً على القول بصحة الإجارة في العبادات عن الأموات ) ، وقالَ له : ( خذ هذا المالَ وادخل المسجدَ وصلِّ عن روح والدي ما تستطيع ) ، فأخذَ الأجيرُ المالَ ، ودخلَ المسجدَ ، وجلسَ برهةً ثمَّ خرج منه ، فعاتبه صاحبُ المال بأنَّه لم يره يقومُ ويقعدُ ويركعُ ويسجدُ ، فأجابه الأجيرُ قائلاً : ( إني فهمتُ المعنى اللغوي للصلاة وهو الدعاء ، ولم أفهم المعنى الشرعي لها ) ، فلا شك في أنَّ هذا التبرير أمرٌ غيرُ مقبول ، لأنَّ المعنى اللغوي للصلاة وهو ( الدعاء ) أصبحَ مهجوراً ، ولا بدَّ من إقامة القرائن في حال قصده وإرادته.

١٤١

كما يزدادُ الأمرُ حساسيةً وخطورةً عندما يتعلقُ بمصير الإنسان الأُخروي ، ويمسُّ دينه ومعتقداته ، كما في حال تشريع ( التراويح ) التي توقعُ الإنسانَ في مواجهة السُنَّة الشريفة الثابتة ، وتجعلُه مورداً لانطباق جميعِ مواصفات المبتدعين عليه.

ولنقرب الفكرةَ أكثر من خلال مثالٍٍ حسيٍّ تقريبي يحاكي ما فعلَه ( عمرُ ) بشأن ( التراويح ) ؛ لكي تستبينَ الأُمورُ أكثر ، ويسفرَ الصبحُ لذي عينين ، والمثالُ هو :

( كانَ هناكَ شخصٌ مهيب ، مسموعُ الكلمة ، مطاعُ الأمر ، يقفُ على مفترقِ طريقين بجانب صاحبٍ له ، وكانَ كلٌّ من الطريقين يؤدي إلى مدينةٍ معينة ، ولكنَّ أحدَ الطريقين كانَ آمناً وخالياً من المتاعبِ والمخاطر ، والآخرَ كانَ محفوفاً بالمخاطر ومملوءاً بالوحوش.

فجاءَ قومٌ يقصدونَ السيرَ إلى تلك المدينة في الليل البهيم ، فقالَ الشخصُ المهيبُ لصاحبه : إني أرى لو جعلتُ هؤلاءِ الناس يسيرونَ في طريق الوحوشِ المفترسة لكانَ أمثل؛ لأنَّ في ذلك قوةً لقلوبهم ، وتقويةً لعزائمهم ، فقالَ له صاحبُه : إنَّها كذبةٌ مهلكةٌ أيُّها الشخصُ المهيب ، فقالَ : لا بأسَ بذلك!!

ثمَّ أمرَهم بالسير في طريق المخاطر.

ولما أسفرَ الصبحُ سارَ إليهم لينظرَ حالهم ، فإذا هم جرحى ، مقطعي الأوصال ، تعتصرُهم الآلام ، ويتصاعدُ منهم الأنين ، وقد فاتَهم الوصولُ إلى مقصدهم وغايتهم التي كانَوا يرجون.

فقالَ الصاحبُ : أيُّها الشخصُ المهيب ، ألا تنظر إلى نتيجة الكذبةِ التي كذبتَها على هؤلاءِ المساكينَ الذين اعتمدوا عليك ، ووثقوا بكلامك ، وإلى الذي أدَّت بهم من عواقبَ سيئة؟

فقالَ الشخصُ المهيب : إنَّ الأنينَ الذي تسمعُهُ من هؤلاء هوَ دويُّ القوةِ والشجاعة! وعلامةُ الإقدامِ والهيبة!!

لقد كانَت كذبةً بيضاء ، كذبةٌ ونعمتِ الكذبةُ هذه ).

١٤٢

إن ارتكابَ البدع المحرّمة ، والسيرَ في طريق الضلالة ، والابتعادَ عن السُنَّة النبوية الشريفة ، والمحجةِ الإسلامية الغراء ، لهو أكثرُ خطراً من تعرضِ الإنسان للوحوش الضارية ، بل لا مقايسةَ بين الحالتين ، إذ أنَّ مثلَ هذا العمل الذي يجتهدُ فيه الإنسانُ في مقابل قول اللهِ ورسولهِ لا يزيدُ صاحبَه إلا بُعداً عن اللهِ ( جَلَّ وعَلا ) ، ولا يؤدي به إلاّ إلى عذاب الله ، وعقوبته ، ونكاله ، وجحيمه.

إنَّ إدراكَ الإنسان لمصلحة معينة في فعلٍ معينٍ لا يمكنُ أن تبيحَ له اختراقَ حصانة التشريع الإسلامي ، وتجاوز خطوطه التوقيفية الحمراء.

ولذلك نرى أنَّ الأثر السيّئَ لصاحب ( البدعة ) لا ينحصرُ في نطاق شخص صاحبه ، وحياتهِ الخاصة ، وإنَّما يتعدى ذلك إلى الحياة الاجتماعية العامة ، فيؤثرُ فيها سلباً ، ويعرقلُ حركتَها ، ويشوِّه معالمَها ، نتيجةَ الدسِّ ، والتحميلِ ، والافتراء ، ووضع العقباتِ أمامَ القانونِ الإلهي من أن يأخذ مساره الطبيعي في توجيه الفرد والمجتمع ، والوصول بالبشرية إلى حيثُ السعادةُ والكمالُ.

وقد تمَّ التاكيدُ من هذا الباب على إغلاق بابِ التوبة في وجهِ المبتدع ، وأنَّ أعمالَ البرِّ لا تُقبل منه ، وأنَّه يحمل وزرَه ووزرَ مِن عمل ببدعته ، كما قال ( جَلَّ وعَلا ) :

( لِيَحمِلوا أوزارَهم كَامِلةً يَومَ القِيامَةِ وَمِن أوزارِ الذِينَ يُضلونَهُم بِغَيرِ عِلمٍ ) (١).

وجاءَ في الحديث عن رسول اللّه ( صَلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّمَ ) أنَّه قالَ :

( ومن ابتدعَ بدعةَ ضلالةٍ لا تُرضي اللّهَ ورسولَهُ كانَ عليهِ مثلُ آثام مَن عملَ بها لا ينقصُ ذلك من أوزارِ الناس شيئاً ) (٢).

وعنه ( صَلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسَلَّمَ ) أنَّه قالَ :

( إنَّ اللهَ احتجرَ التوبةَ على صاحبِ كلِّ بدعة ) (١).

__________________

(١) النحل / ٢٥.

(٢) الشاطبي ، أبو اسحاق ، الاعتصام ، ج : ١ ، ص : ١٢٢.

١٤٣

وأغربُ ما في كلام ( ابن تيمية ) لتصحيح إطلاق ( البِدعة ) على ( التراويح ) من باب كونها وردَت في المعنى اللغوي هو قضيةُ ( الإسراج ) التي أقحمها في كلامه؛ لكي يجعلَ من ( التراويح ) بمعيِّةِ ( الإسراج ) غيرَ مسبوقةٍ بمثال!!

فلو غضضنا النظرَ عن عدم الإشارة إلى أمر ( الإسراج ) من قريبٍ أو بعيد في عمدة الأحاديث التي يُستدلُ بها على ثبوت ( التراويح ) ، بما في ذلك روايتا ( البخاري ) و ( الموطأ ) ، فإنَّنا نتساءلُ مع ( ابن تيمية ) ومَن يسيرُ في ركبه أنَّه هل يرتضي لشخصٍ أن يقولَ بشأن ( صلاة العشاء ) مثلاً التي تُقام جماعةً في مسجد ذي ( سراج ) بأنّها ( بِدعة ) ، ويطلق عليها هذه الكلمةَ بهذه العفوية ، من دون أنْ يقيمَ قرينةً على إثبات ما يقصدُ إليه؟!!

وهل يُلامُ مَن يحملُ كلمةَ ( البِدعة ) في هذا الكلام على معناها الشرعي المنقول عندَ الاستماع إليها بهذه الطريقة المطلقة؟!

__________________

(١) الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ١ ، ح : ١١٠٥ ، ص : ٢٢٠.

ووردَ عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنَّه قالَ : ( كان رجل في الزمن الأول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها ، وطلبها من حرام فلم يقدر عليها ، فأتاه الشيطان فقال له : يا هذا إنكَ قد طلبتَ الدنيا من حلال فلم تقدر عليها ، وطلبتها من حرام فلم تقدر عليها ، أفلا أدّلكَ على شيءٍ تكثر به دنياك ، ويكثر به تبعك؟ قال : بلى ، قال : تبتدع ديناً وتدعو إليه الناس. ففعل ، فاستجاب له الناس وأطاعوه ، وأصاب من الدنيا ، ثمَّ أنَّه فكّر فقال : ما صنعت؟ ابتدعت ديناً ودعوت الناس ، وما أرى لي توبة ، إلا أن آتي مَن دعوته إليه فأردّه عنه ، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه ، فيقول لهم : إنَّ الذي دعوتكم إليه باطل وانما ابتدعته ، فجعلوا يقولون : كذبت وهو الحق ، ولكنَّك شككت في دينك فرجعتَ عنه ، فلما رأى ذلكَ عمد إلى سلسلة فوتد لها وتداً ثم جعلها في عنقه ، وقال : لا أحلّها حتى يتوب اللّه عزَّ وجلَّ عليَّ ، فأوحى اللّه عزَّ وجلَّ إلى نبي من الأنبياء : قل لفلان : وعزتي ، لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك ، ما استجبت لك ، حتى تردَّ مَن مات إلى ما دعوته إليه ، فيرجع عنه ) : البرقي ، أبو جعفر ، المحاسن ، ج : ١ ، ص : ٣٢٨ ، ح : ٧.

١٤٤

فكيفَ إذا حُفَّ الأمرُ بقرائن توحي بالعكس ، وكيفَ إذا صدرت هذه الكلمةُ بهذا التسامح من إنسانٍ جلسَ في الموقع الذي يُحاسبُ فيه على الصغيرة والكبيرة من أطراف كلامه؟

وعلى أيّة حال فإنَّ ما تكلَّفه ( ابنُ تيمية ) أمرٌ مرفوضٌ من الناحية العلمية بالدرجة الأُولى ، ومن ناحية كونه التفافاً معلناً على الحقائق ، وتزويراً صريحاً للمفاهيم الإسلامية ، بما يصبُّ في صالح الأحقاد المذهبية ، والتعصب الذميم.

التبريرُ الثاني : لأبي إسحاق الشاطبي

ومن النافين لتقسيم ( البِدعة ) الذين حاولوا توجيهَ صلاة ( التراويح ) ( أبو إسحاق الشاطبي ) ، حيثُ أقامَ استدلالَه على ركيزتين :

الركيزة الاولى :

إنَّه اعتبرَ الفترةَ الزمنيةَ التي تركَ فيها رسولُ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أداءَ التراويح حسب زعمه ، مضافاً إلى الفترة التي لم يصلِّ فيها ( أبو بكر ) هذه الصلاة .. اعتبرها كافيةً لتطبيق التعريف اللغوي على ( البِدعة ) ، وأنَّها ليست مسبوقةً بمثالٍ سابق ، فلم تُستعمل في المعنى الشرعي ، لكي نلجأ للقول بالتقسيم.

١٤٥

الركيزة الثانية :

إنَّه عدَّ تسميتَها بالبِدعة أمراً هيِّناً ومبنياً على قاعدة أنْ ( لا مشاحةَ في الأسامي ) ، ولا حاجة للعناء في توجيه ذلك ما دامَ الأمرُ مجردَ تسميةٍ عابرة؛ فنراه يوردُ الإشكالَ الواردَ على تقسيم ( البِدعة ) ، ثمَّ يجيبُ عليه حيثُ يقولُ :

( فانْ قيلَ : فقد سمّاها عمرُ رضيَ اللهُ عنه بِدعةً ، وحسَّنها بقوله : نعمتِ البدعةُ هذهِ ، وإذا ثبت بِدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلقُ الاستحسان في البدع ، فالجوابُ : إنَّما سماّها بِدعةً باعتبار ظاهرِ الحال من حيثُ تركها رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ، واتفقَ أنْ لم تقع في زمان أبي بكر ، لا أنَّها بِدعةٌ في المعنى ، فمن سمّاها بِدعةً بهذا الاعتبار فلا مشاحةَ في الأسامي ) (١).

فـ ( الشاطبي ) هنا يجعلُ ( التراويح ) من حيثُ أصلها ذاتَ وجهين :

الوجه ألأول :

هي عنده ذاتُ أصلٍ في الدين ، باعتبار أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صلاّها لياليَ ثمَّ انقطعَ عنها كما يُدَّعى ، وبهذا تخرجُ عن كونها ( بِدعةً ) في الاصطلاح الشرعي؛ لأنَّ المعنى المصطلح والمذموم هو ما لم يكن له أصلٌ شرعي يستندُ إليه.

__________________

(١) الشاطبي ، أبو إسحاق ، الاعتصام ، ج : ١ ، ص : ١٩٥.

١٤٦

الوجه الثاني :

هي في نفس الوقت لا تمتلكُ أصلاً ، وليس لها سابقُ مثال ، باعتبار أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد انقطع عنها ، ولم يصلِّها أبو بكر ، فيصحُ إطلاقُ لفظِ ( البِدعة ) عليها بهذا الاعتبار ، أي باعتبار أنَّها لم تُصلَّ في برهةٍ زمنية معينة.

ومن الواضح انَّ كلامَ ( الشاطبي ) هنا لا يسلمُ من المعارضة السابقة لكلام ( ابن تيمية ) المتقدم ، وإن كانَ ( الشاطبي ) لم يصرّح هنا بأنَّ ( البِدعةَ ) قد استُعملت في معناها اللغوي كما فعلَ ( ابنُ تيمية ) ، وإنَّما تركَ الكلامَ غائماً ، ومشوباً بالغموض والإبهام.

وعلى أيةِ حال فإنَّ ذكرَ ( الشاطبي ) لهذهِ الفترة الوسطية التي لم تُصلَّ فيها ( التراويح ) على ما قالَ كانَت سبباً يسوِّغُ الاستعمالَ اللفظي للـ ( البِدعة ) في الحادث الذي ليس له مثالٌ سابق ، وهو ما لا يصحُ هنا ، لأنَّ تركَ العمل لمدة معينة غير كافٍ في انطباق عنوان ( ما ليسَ له مثالٌ سابق ) عليه.

فلو أنَّ رسولَ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانَ قد صلّى ( صلاةَ الاستسقاء ) مثلاً لقحطٍ أصابَ المسلمين ، وندرةٍ في الأمطار ، ثمَّ تركَ الصلاةَ إلى أن ارتحلَ إلى الرفيق الأعلى ، ثمَّ صُلّيت هذهِ الصلاةُ بعد عشرينَ عاماً لنفس السبب السابق ، فهل يسوِّغُ لنا أن نقولَ هنا بأنَّ ( صلاةَ الاستسقاء ) ( بِدعةٌ ) ، ونطبقَ اللفظَ لغوياً على هذا المعنى المتأخر زماناً؟ وهل لنا أنْ نبررَ هذا الاستعمالَ اللغوي باعتبار الفترة الوسطية التي تخللت الفعلين؟!

هذا كلُّه بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقاً من حاجة مثلِ هذا الاستعمالِ في المعنى اللغوي إلى قرينةٍ صارفةٍ تعيِّنُ المقصودَ ، وتصحّحُ الاستعمال.

وإذا كانَ مرادُ ( الشاطبي ) من ذكر الفترة الوسطية بين الفعلين هو أنَّ إطلاقَ لفظ ( البِدعة ) هنا إطلاقٌ تسامحي ، وأنَّه من بابِ ما يُعبِّرُُ عنه بالقول : ( فلا مشاحةَ في الاصطلاح ) ، فهو مرفوضٌ أيضاً لسببين :

١٤٧

السبب الاول :

إنَّ هذا المعنى إن تمَّ واستقامَ في شيءٍ ، فهو لا يتمُّ في التعامل مع مصطلحات الشريعة الإسلامية ، وخصوصاً مثل مفهوم ( البِدعة ) الذي يُعدُّ من المفاهيم الإسلاميةِ الدقيقةِ والحسّاسة ، التي لا يمكنُ التسامحُ في أمر تناولها ، وتطبيقُها على الموارد المختلفة ، من دون تثبُّتٍ ، ودقةٍ ، واستقصاءٍ ، وخصوصاً من قبل الأشخاص الذين يعتلون المواقعَ الحساسةَ التي تطمحُ إليها الأبصار ، إذ أنَّ أيةَ مسامحة من هذا القبيل ، سوف تعرِّضُ مفاهيمَ الشريعةِ الاصطلاحيةِ إلى التذبذب والارتباك.

السبب الثاني :

إنَّ هذا الأمر الذي ذكره ( الشاطبي ) يمكنُ أنْ يجريَ في إطلاق لفظ ( البِدعة ) على غير موارد الذم والحرمة أيضاً مما لم يكن له وجودٌ في عهد رسولِ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل الاعتبار المذكور ، أي أنْ يقالَ بأنَّه ( بِدعة ) باعتبار أنَّه لم يكن موجوداً في عهد رسولِ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما لو تمَّ إطلاقُ لفظ ( البدعة ) على استعمال ( الهاتف ) أو ( المذياع ) أو ( مكبّرة الصوت ) ، فيقال بأنَّها بدعٌ ، بلحاظ عدم وجودها في زمن النبي الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ادَّعى ( الشاطبي ) ، ويُعتذرُ لذلك بالقول بأنَّه ( لا مشاحةَ في الأسامي ) ، فيرجعُ الأمرُ في النتيجة إلى تقسيم ( البِدعة ) إلى مذمومة وممدوحة ، إذ يمكنُ أن نوجدَ لحاظاً واعتباراً لكل الأُمور الحادثة الممدوحة ، ونبررَ تطبيقَ لفظ ( البِدعة ) عليها على هذا الأساس؛ وهذا ما رفضه ( الشاطبي ) أشدَّ الرفض ، حين أكَّدَ بطلانَ القول بالتقسيم بشكلٍ مطلق.

١٤٨

التبرير الثالث : لصالح الفوزان

ويواجه ( الفوزان ) نفسَ المشكلة التي واجهت النافينَ لتقسيم ( البِدعة ) في معالجة ( التراويح ) ، مقرراً أنَّ الأحاديثَ الصحيحةَ صرّحت بأنَّ كلَّ بِدعةٍ ضلالةٌ من دون أي استثناء ، وهذا يعني أنَّ من حقنا أنْ نحملَ كلمةَ ( البِدعة ) الواردة في مقولة : ( نعمتِ البدعةُ هذهِ ) على الضلالة المحرَّمة؛ لأنَّ كلَّ بِدعةٍ ضلالةٌ ، وهذهِ ( بِدعةٌ ) ، فهي إذن ضلالةٌ ، وهذا لونٌ من ألوانِ القياس العقلي الذي لا يقبلُ التشكيك ، فيعودُ ( الفوزان ) إلى خلفيات هذهِ الصلاة المحدثة ، ويحاولُ أنْ يعالجَ الأمرَ من الجذور ، بعد اليأس من درجها ضمنَ دائرة المندوبِ أو المباح ، كما كانَ يفعلُ القائلونَ بالتقسيم.

وقد عمدَ إلي تبرير إطلاق لفظ ( البِدعة ) هنا بانتهاج سبيلين :

السبيل الأول :

إنَّه ادّعى أنَّ لفظَ ( البِدعة ) الواردَ في الحديث المتقدم محمولٌ على معناه اللغوي لا الاصطلاحي ، فيقولُ :

( وقولُ عمر : ( نعمت البِدعةُ ) ، يريدُ البدعةَ اللغويةَ لا الشرعية ) (١).

وقد حاولَ أنْ يضيِّقَ من المدلول اللغوي لهذه الكلمة ، ويتصرفَ في أصل وضعها بما ينسجمُ مع هذهِ المقولة ، فأضافَ :

( فما كانَ له أصلٌ في الشرع يُرجعُ إليه إذا قيلَ إنَّه بِدعةٌ ، فهو بِدعةٌ لغةً لا شرعاً ) (٢).

__________________

(١) الفوزان ، صالح ، البِدعة ـ تعريفها ـ أنواعها ـ أحكامها ، ص : ٩.

(٢) الفوزان ، صالح ، البِدعة ـ تعريفها ـ أنواعها ـ أحكامها ، ص : ٩.

١٤٩

فالملاحظُ أنَّه يجعلُ الفعلَ الذي يكونُ له أصلٌ في الشرع من أفراد المعنى اللغوي للبِدعة ، وهذا ما لم يتفوه به أحدٌ من السابقين أو اللاحقين.

وعلى ضوء رأي ( الفوزان ) سوفَ تكونُ جميعُ السُّنن الثابتةِ في الشريعة الغرّاء بِدَعاً محدثةً في المعنى اللغوي على حدِّ زعم ( الفوزان ) ، فبناءً على هذا الرأي تكونُ ( الصلاةُ ) بِدعةً لغةً ، و ( الصومُ ) بِدعةً لغةً ، و ( الحجُّ ) بِدعةً لغةً لا اصطلاحاً .. وهكذ ، والنتيجةُ أنَّ هذا المبنى لا يقلُّ شناعةً عن القول بتقسيم ( البِدعة ) الذي فرَّ منه ( الفوزان ) ، فهو كالمستجيرِ من الرمضاءِ بالنارِ.

وهذا الاستنتاجُ منه خلافٌ فاضحٌ لما ذكره قبلَ صفحتين من موضوع كلامه هذا ، عندما تعرَّضَ لذكر المعنى اللغوي للبِدعة حيثُ يقولُ :

( البِدعةُ في اللغةِ مأخوذةٌ من البدع وهوَ الاختراعُ على غيرِ مثالٍ سابقٍ ، ومنه قولُه تعالى : بَدِيعُ السَمواتِ والأَرض (١) ، أي مخترعُها على غيرِ مثالٍ سابق ، وقولُه تعالى : قُلْ ما كُنتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسلِ (٢) ، أي ما كنتَ أولَ مَن جاءَ بالرسالة من اللّهِ تعالى إلى العباد ، بل تقدمني كثيرُ من الرسل ، ويُقالُ : ابتدعَ فلانٌ بِدعةً ، يعني ابتدأَ طريقةً لم يُسبق إليها ) (٣).

فمن الواضح أنَّ المعنى اللغوي للـ ( البِدعة ) يأبى التفسيرَ الذي ذكره ( الفوزان ) لها على نحو التحميل ، وذلك حسبَ إقراره هو ، وتصريحه بذلك ، إذ ( البِدعةُ ) لغةً هي : ( ما لم يكن له مثالٌ سابق ) ، حسبَ قولِ أئمةِ اللغة وعلمائها بالاتفاق ، فكيفَ يمكنُ أنْ تُطبَّقَ على ما كانَ له أصلٌ سابقٌ في الشريعة ، وهل أنَّ بامكانِ أحدٍ أنْ يوسِّعَ أو يضيِّقَ المداليلَ اللغويةَ للألفاظ متى شاءَ ، وأنّى أراد؟

__________________

(١) البقرة : ١١٧.

(٢) الأحقاف : ٩.

(٣) الفوزان ، صالح ، البِدعة ـ تعريفها ـ أنواعها ـ أحكامها ، ص : ٥.

١٥٠

إنْ هذا إلا عبثٌ سافرٌ بالألفاظ ، وخلطٌ واضحُ التهاترِ والبطلان.

السبيل الثاني :

إنَّه ادَّعى أنّ صلاةَ ( التراويح ) كانَت قائمةً في عهد النبي الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صلاها بأصحابه مدّةً ، ثمَّ انقطعَ عنها ، حيثُ يقولُ :

( والتراويحُ قد صلاّها النبي بأصحابه ليالي ، وتخلَّفَ عنهم في الأخير ، خشيةَ أنْ تُفرضَ عليهم ، واستمرَ الصحابةُ ـ رضيَ اللهُ عنهم ـ يصلّونَها أوزاعاً متفرّقينَ في حياة النبي صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ، وبعد وفاته ، إلى أنْ جمعهم عمرُ بنُ الخطاب رضيَ اللهُ عنه خلفَ إمامٍ واحدٍ كما كانَوا خلفَ النبي ، وليسَ هذا بِدعة في الدين ) (١).

وقد أثبتنا فيما سبقَ أنَّ النبي الخاتَمَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصلِّ هذه الصلاةَ المزعومة ، بل نهى عن الإتيان بنوافل شهرِ رمضانَ جماعةً ، وعنَّفَ بعضَ الصحابة الذين حاولوا ذلك لبضعة ليالٍ ، ووصفَ هذا العملَ بأنَّه بِدعةٌ محدثةٌ.

__________________

(١) الفوزان ، صالح ، البِدعة ـ تعريفها ـ أنواعها ـ أحكامها ، ص : ٩ ـ ١٠.

١٥١
١٥٢

نظرة على الفصل الخامس

تستندُ الكثيرُ من الدعواتِ التي أطلقها المدافعونَ عن صلاة ( التراويح ) على حديثِ ( سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين ) ، الذي يدلُّ حسبَ زعمهم على أنَّ النبي (ص) أمرَ باتباع سُنَّتهِ وسُنةِ الخلفاء الراشدينَ من بعده؛ حيثُ اعتبرَ هؤلاءِ أنَّ هذهِ الصلاةَ مشمولةٌ بهذا الحديثِ الذي يعطي ( عمرَ بنَ الخطابِ ) أهليةَ التشريع ، فتكونُ ( التراويحُ ) سُنَّةً لا بدعةً.

وعندما نضعُ حديثَ ( سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين ) في الميزان ، نكتشفُ أنَّه في غايةِ الضعفِ من جهة السَّند ، فرواتُهُ من الوضّاعينَ والمدلِّسين ، وهو من أخبار الآحاد ، إذ أنَّ أسانيده جميعها تنتهي إلى راوٍ واحدٍ ، وهو يشتركُ في مضمونهِ مع أحاديثَ مقطوعة الوضع.

وعلى فرضِ تقديرنا لصحة الحديثِ فإننا سوفَ نثبتُ أنَّ المقصودَ من ( الخلفاءِ الراشدين ) في الحديث هم أئمةُ أهل البيت (ع) ، فلا يمكنُ أنْ يكونَ المقصودُ من الحديثِ ( الخلفاءَ الأربعة ) المعنيينَ به لدى ( مدرسةِ الصحابة ) ، والذين من ضمنهم ( عمرُ بنُ الخطاب ) ، بدليل أنَّ الإمامَ علياً (ع) رفضَ المبايعةَ على سيرة الشيخينِ ، ووقعت الخلافاتُ في أصلِ السُنَّةِ بينَ هؤلاءِ الأربعة ، كما أنَّ حجمَ الحديثِ لا يتناسبُ معَ موقعِ الخلافةِ وأهميتها في الإسلامِ ، مضافاً إلى أنَّ الإقرارَ بصحة الحديثِ يقودُ إلى القولِ بوجودِ النصِّ الذي ترفضُهُ ( مدرسةُ الصحابةِ ) بضرسٍ قاطعٍ ، وأخيراً نثبتُ أنَّ النبيَ (ص) نصَّ على أنَّ خلفاءَه هم أهلُ البيتِ (ع).

صلاةُ التراويح

١٥٣
١٥٤

الفصل الخامس

صلاةُ التراويح .. هل هيَ مشمولة بحديث سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين؟

١ ـ نص الحديثِ ومضمونُه

٢ ـ الحديثُ ذريعة لنفي الابتداع عن التراويح

٣ ـ حديث سُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ في الميزان

أولاً : ضعف الحديثِ واحتمالُ الوضعِ فيه

ثانياً : الخلفاء الراشدونَ هم أئمةُ أهلِ البيت (ع)

١٥٥
١٥٦

(١)

نص الحديثِ ومضمونه

وردَ في معظم كتب ( مدرسة الصحابة ) ومنها ( السُّنن ) واللفظُ لـ ( الدارمي ) :

( عن عرباض بن سارية قالَ : صلّى لنا رسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ صلاةَ الفجر ، ثمَّ وعظَ موعظةً بليغةً ذرفت منها العيونُ ، ووجلت منها القلوبُ ، فقالَ قائلٌ :

ـ يارسولَ اللهِ كأنَّها موعظة مودِّع فأوصِنا ، فقالَ :

ـ أُوصيكم بتقوى اللهِ ، والسمعِ والطاعةِ ، وإنْ كانَ عبداً حبشياً ، فإنَّه مَن يعشْ منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ ، عضُّوا عليها بالنواجذ ) (١).

إنَّ التفسيرَ العام الذي ذكرَه علماءُ ( مدرسةِ الصحابة ) لهذا الحديثِ هو ضرورةُ السَّمعِ والطاعةِ لكلِ والٍ وحاكمٍ مهما كانَ وضعُه وشكلُهُ ، ثم يأمرُ الحديثُ باتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين ، وضرورة العضَّ عليها بـ ( النواجذ ) (٢) ، مبالغةً للتمسُّكِ بها ،

__________________

(١) الدارمي ، سنن الدارمي ، ج : ١ ، ص : ٥٧ ، ح : ٥٩ ، باب : اتباع السُنَّة. وسنن أبي داود ، ج : ٤ ، ص : ٢٠٠ ، باب : لزوم السُنَّة ، ح : ٤٦٠٧ ، وفيه : ( وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ) ، وسنن الترمذي ، المجلد الخامس ، كتاب : العلم ، ص : ٤٣ ، باب : ١٦ ، ح : ٢٦٧٦. وسنن ابن ماجة ، ج : ١ ، ص : ١٦ ، ح : ٤٣ ، اتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين. ومسند أحمد بن حنبل ، ج : ٥ ، ص : ١٠٩ ، ح : ١٦٦٩٢ ، ح : ١٦٦٩٤ ، ح : ١٦٦٩٥. وكنز العمال ، ج : ٦ ، ص : ٥٥ ، ح : ١٤٨١٨ ، وفيه : ( ولا تنازعوا الأمر أهله ، وإن كان عبداً أسود ، عليكم بما تعرفون من سُنَّة نبيكم والخلفاء الراشدين المهديين ).

(٢) جاءَ في صحلح الجوهري : الناجذ : هو آخرُ الأضراس ، وللأسنان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان بعد الأرحاء ، ويُسمى ضرس الحُلُم لأنَّه ينبتُ بعد البلوغ وكمال العقل ، يُقال : ضحك حتى بدت نواجذُه ، إذا استغرقَ فيه ، الجوهري ، الصحاح ، ج : ٢ ، ص : ٥٧١.

١٥٧

ولم يُصرَّح في الحديث باسم هؤلاءِ الخلفاء ، ولكنّ علماءَ مدرسة الخلفاء فسَّروا الخلفاء بالشخصيات الأربعة التي توالت بعد وفاة الرسول الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حكم الدولة الإسلامية ، وهم : ( أبو بكر بنُ أبي قحافة ) ، و ( عمر بن الخطاب ) ، و ( عثمان بن عفان ) ، والإمام ( علي بن أبي طالب ).

وقد عدَّ أعلامَ مدرسة الخلفاء هذا الحديث من الأُمور المفروغ عنها تماماً ، واعتُبر من المسلَّمات التي لا يجوزُ المناقشةُ فيها ، وخُرِّجت كل الاجتهادات الشخصية في مقابل الوحي المنزل على أساس هذا الحديث الواهن.

جاءَ في كتاب ( البدعة ) للدكتور ( عزت علي عطية ) ما نصه :

( قرنَ الرسولُ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ سُنَّة الخلفاءِ الراشدينَ بسُنَّته .. ففي حديث العرباضِ بن سارية قالَ : قالَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ : عليكُم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ عضّوا عليها بالنواجذ .. وإنَّما أمرَ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ باتباعهم؛ لأنَّه علم أنَّهم لا يخطئون فيما يستخرجونه بالاجتهاد ، ولأنَّه علم أنَّ بعضَ سُنَّته لا يثبت إلاّ في عصرهم.

وعلى ذلك فالقول : ( بأنَّ كلَّ اجتهادٍ وقياسٍ من الخلفاء الراشدين يخالفُ السُنَّة الصحيحةَ لا ينبغي أنْ يُتمسك به ) هو قول بغيرِ علم؛ إذ كيف يأمرُ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ باتباع ما

________________________

وجاءَ في لسان العرب : قيل النواجذ : التي تلي الأنياب ، وقيل : هي الأضراس كلها نواجذ ، وأحسنُ ما قيلَ في النواجذ أنَّها الأنياب ، ابن منظور ، لسان العرب ، ج : ٣ ، ص : ٥١٣.

وورد في مجمع البحرين : وفي حديث للإمام علي (ع) : وعضّوا على النواجذ فإنَّه أنبى للسيوف على الهام ، الطريحي ، مجمع البحرين ، ج : ٤ ، ص : ٢٧١.

١٥٨

يخالف سنته؟ وكيفَ تحدثُ المخالفةُ بينَ ما أمرَ النبي صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ بإتباعه وبينَ سنته ) (١)؟!!

وقال الشيخ ( عبدُ العزيز عيسى ) أيضاً :

( فمن أخذَ بما كانَ متبعاً في عهد رسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأبي بكرٍ وعمر فحسنٌ ، ومَن أخذَ بما كانَ متبعاً في عهد عثمانَ فلا بأسَ به ولا حرجَ عليه في ذلك ) (٢).

وقالَ ( أبو إسحاق الشاطبي ) بهذا الصدد :

( وفي الصحيح قولُه صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأُمور ) فأعطى الحديثُ ـ كما ترى ـ أنَّ ما سنَّه الخلفاءُ الراشدونَ لاحقٌ بسُنَّة رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ ، لأنَّ ما سنُّوه لا يعدو أحدَ أمرَين : إمّا أنْ يكونَ مقصوداً بدليلٍ شرعي ، فذلك سُنَّة لا بدعة ، وإمّا بغيرِ دليل ـ ومعاذَ اللّهِ من ذلك ـ ولكنَّ هذا الحديث دليلٌ على إثباته سُنَّة ، إذ قد أثبته ذلك صاحبُ الشريعة صَلّى عَليِهِ اللهُ وسَلَّمَ ) (٣).

ومن الملاحظ هنا أنَّ هذهِ الطريقةَ لا تكلِّفُ الباحثَ أو المفتي عناءً طويلاً لكي يظفرَ بنتائج الأحكام الشرعية ، كما أنَّها لا تجعله يقفُ عند الزوايا الحرجة التي تُثار حولَ الكثير من الأُمور المنسوبة إلى ( أبي بكر ) و ( عمر ) و ( عثمان ) مما هو خارج عن حياط الشرع المبين.

__________________

(١) عطية ، د. عزت علي ، البدعة : تحديدها وموقف الإسلام منها ، ص : ١٤٩.

(٢) مجلة ( المسلمون ) ، ٢٧ نوفمبر ، ١٩٩٢م ، العدد : ٤٠٨.

(٣) الشاطبي ، أبو إسحق ، الاعتصام ، ج : ١ ، ص : ١٨٧.

١٥٩

ومن الغريب حقاً أنَّ هؤلاءِ القوم يسمحونَ لأنفسهم بركوبِ هذا النمط من الاستدلال على نحو الاستئثار والاستقلال ، في الوقت الذي لا يَدَعونَ فيه أيَّةَ فرصةٍ من هذا القبيل للطرف الآخر ، لكي يمارسَ منهجَه الاستدلالي على ضوء مبانيه ومرتكزاته الخاصة ، فمن الجائز لديهم الأخذُ بسُنَّة ( الخلفاء الراشدين ) ، بل وضرورة العضِّ عليها بالنواجذ في مختلف الرؤى والأحكام ، اعتماداً على حديثٍ هزيلٍ مروي عن رسولِ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ما فيه من الضعفِ والوهن ، بينما ليسَ من الجائز في وجهة نظرهم أنْ يأخذَ أتباعُ مدرسةِ أهلِ البيت عليهم‌السلام بخط أئمتهم ونهجهم ، على الرغم من تواتر الروايات الدالة على وجوب الرجوع إليهم ، وأخذ معالم الدين عنهم.

كما أنَّ من المفترض لديهم أن يؤمنَ الآخرونَ بكلِّ ما وردَ من طرقهم الخاصة ، ويُعدُّونَ الخارجَ عن هذا المنهج الذي سنُّوه خارجاً عن الدين ، وتعاليم شريعةِ سيّد المرسلينَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينما لا يرونَ أنَّ من الواجب عليهم الإيمانَ والإذعانَ لما رواه الآخرون بأي شكلٍ كان ، وليسَ في ذلكَ خروجٌ لهم عن الدين.

فالدين الصحيحُ عندهم هو ما يريدونه وما يكتبونه بطريقتهم الخاصة ، وفي ما يعتقدونَه ( صحاحاً ) معصومةً لا تقبلُ الخطأَ والنقاش ، لا ما يعتقدُه ويكتبُه الآخرون!!

إنَّ هذا لوحده كافٍ لدعوتنا إلى التوقف للنظر في منهجهم في التعامل مَعَ أحكام الشريعة الإسلامية المقدسة ، والتأمُّلِ في أصل الحديث الذي زعموا فيه الإرجاع إلى ( سُنَّة الخلفاء الراشدين ) ، وشيَّدوا على أساسه أُصولَ عقائدهم ، وأُسسَ أحكامهم في مختلفِ الجوانب والمجالات. وقد أفردتُ دراسةً خاصةً تناولتُ خلالها حديثَ ( سُنَّة الخلفاء الراشدين ) بالبحث الشامل والتحليل الموضوعي ، وأُحاولُ هنا أن أبحثَ الحديث بشكلٍ موجز يتناسبُ مع غرض الدراسة الماثلة.

١٦٠