صلاة التراويح

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]

صلاة التراويح

المؤلف:

الدكتور الشيخ جعفر الباقري [ سامي صبيح علي ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-04-8
الصفحات: ٢٧١

( أمّا السُنَّة : فسُنَّةُ رسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ، وأما البِدعةُ : فما خالفها ، وأمّا الفرقةُ ، فأهلُ الباطل وإن كثروا ، وأمّا الجماعةُ ، فأهلُ الحق وإن قلّوا ) (١).

وعنه عليه‌السلام أنَّه قالَ :

( ما أحدٌ ابتدعَ بِدعةً إلاّ تركَ بها سُنَّة ) (٢).

البِدعة : تعني الغشَّ والضَّلال

وردَ عن رسولِ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قالَ :

ـ ( من غشَّ من أُمتي ، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين.

قالَوا :

ـ يارسولَ الله! وما الغشُّ؟ فقالَ :

ـ أنْ يبتدعَ لهم بِدعةً فيعملوا بها ) (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إنَّ أحسنَ الحديث كتابُ الله ، وخيرُ الهَدي هديُّ محمد ، وشرُ الأُمور محدثاتُها ، وكلُّ محدثةٍ بِدعة ، وكلُّ بِدعة ضلالة ) (٤).

البِدعة : أدنى مراتبِ الكفرِ والشرك

وردَ عن ( الحلبي ) أنَّه قالَ :

__________________

(١) الحرّاني ، تحف العقول ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، ص : ٢١١.

(٢) الكليني ، محمد بن يعقوب ، الأصول من الكافي ، ج : ١ ، باب : البدع والرأي والمقائيس ، ح : ١٩ ، ص : ٥٨.

(٣) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ١ ، ح : ١١١٨ ، ص : ٢٢٢.

(٤) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٢ ، كتاب العلم ، باب : ٣٢ ، ح : ١٢ ، ص : ٢٦٣.

١٠١

( قلتُ لأبي عبد اللّه عليه‌السلام :

ـ ما أدنى ما يكونُ به العبدُ كافراً؟ فقالَ :

ـ أنْ يبتدعَ شيئاً فيتولى عليه ، ويبرأَ ممن خالفَه ) (١).

وقالَ أبو جعفر الباقرُ عليه‌السلام :

( أدنى الشرك أنْ يبتدعَ الرجلُ رأياً ، فيحبُّ عليه ويبغض ) (٢).

البِدعة : موارد وتطبيقات

وردَت في النصوص الإسلامية عدةُ تطبيقات للـ ( البِدعة ) على خصوص الحادث المذموم ، والتي كانَت تجسِّدُ بوضوح اختصاصَ ( البِدعة ) بهذا المعنى الاصطلاحي وحسب ، كما وردَ أيضاً نفي ( البِدعة ) عن موارد أُخرى هي من صلب التشريع.

وسوف نستعرضُ أمثلةً تاريخية لكلا القسمين؛ لكي نتمكنَ من خلال ذلك أخذَ صورةٍ واقعية عن طبيعة هذهِ التطبيقات ، والحدودِ التي تمَّت فيها.

فأمّا المواردُ التي وردَ فيها تطبيقُ معنى الابتداع فهي كثيرة ، سوف ننتخبُ للقارئ الكريم بعضَ النماذجَ البارزةَ لها.

أولاً : طبَّقَ رسولُ اللّهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمةَ ( البِدعة ) على عملية إكراه الناس للدخول في الإسلام ، حيثُ إنَّ اللّه تعالى لم يأمر بذلك ، فيكون تطبيقاً لما ليسَ له أصلٌ في الدين ، فقد وردَ عن علي عليه‌السلام أنَّه قالَ :

( إنَّ المسلمينَ قالَوا لرسولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ :

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٢ ، باب : ٣٤ ، ح : ٣٣ ، ص : ٣٠١.

(٢) الصدوق ، أبو جعفر ، ثواب الأعمال وعقابها ، تحقيق : علي أكبر الغفاري ، ص : ٥٨٧ ، ح : ٣.

١٠٢

ـ لو أكرهتَ يا رسولَ اللّهِ مَن قدرتَ عليه من الناس على الإسلام ، لكثُرَ عددُنا ، وقوينا على عدوِّنا ، فقالَ رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ :

ـ ما كنتُ لألقى اللّهَ عزَّ وجلَّ ببِدعةٍ لم يُحدث إليَّ فيها شيئاً ، وما أنا من المتكلفين.

فأنزل اللّهُ عزَّ وجلَّ عليه :

ـ يا محمَّد ، ( وَلَو شاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرضِ كُلُّهم جَميعاً ) (١) على سبيل الإلجاءِ والاضطرار في الدنيا ، كما يؤمنونَ عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة ، ولو فعلتُ ذلك بهم لم يستحقّوا مني ثواباً ولا مدحاً ، لكنّي أُريدُ منهم أن يؤمنوا مختارينَ غيرَ مضطرين ، ليستحقّوا منّي الزلفى والكرامةَ ودوامَ الخلود في جنَّة الخُلد : أَفَأَنتَ تُكرِهُ النّاسَ حَتى يَكُونُوا مُؤمِنيِنَ ) (٢).

ثانياً : طبَّقَ رسولُ اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلمةَ ( البِدعة ) على قيام نافلة شهر رمضان جماعةً في لياليه ، وهي المسماة بصلاة ( التراويح ) ، وطبقها كذلك على صلاة ( الضحى ) ، باعتبار أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشرع ذلك للمسلمين ، بل قد وردَ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النهي عن ذلك ، فقد وردَ عن أبي عبد اللّه الصادق عليه‌السلام أنَّه قالَ :

( صومُ شهرِ رمضانَ فريضةٌ ، والقيامُ في جماعةٍ في ليلته بِدعةٌ ، وما صلاّها رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في لياليه بجماعة ، ولو كانَ خيراً ما تركه ، وقد صلّى في بعض ليالي شهر

__________________

(١) يونس / ٩٩.

(٢) الصدوق ، أبو جعفر ، التوحيد ، باب : ٥٥ ، ح : ١١ ، ص : ٣٤٢.

١٠٣

رمضان وحدَه ، فقامَ قومٌ خلفه ، فلما أحسَّ بهم دَخَلَ بيتَه ، فَعَلَ ذلكَ ثلاثَ ليالٍ ، فلما أصبحَ بعد ثلاث صعدَ المنبرَ ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمَّ قالَ :

ـ أيُّها الناسُ ، لا تصلّوا النافلةَ ليلاً في شهرِ رمضان ، ولا في غيرِه ، فإنَّها بِدعةٌ ، ولا تصلّوا الضحى ، فإنَّها بِدعةٌ ، وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالةٍ سبيلها إلى النار ، ثمَّ نزلَ وهو يقولُ : قليلٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من كثيرٍ في بِدعةٍ ) (١).

ثالثاً : طُبقت كلمةُ ( البِدعة ) على قول المؤذِّن ( الصلاةُ خيرٌ من النوم ) ، وعدِّهِ جزءاً من الأذان الشرعي ، وذلك باعتبار أنَّ هذا القول ليس له أصلٌ في الدين ، فقد وردَ عن أبي الحسن عليه‌السلام أنَّه قالَ :

( الصلاةُ خيرٌ من النوم بِدعةُ بني أُمية ، وليسَ ذلكَ من أصل الأذان ، ولا بأسَ إذا أرادَ الرجلُ أنْ ينبِّه الناسَ للصلاة أنْ يناديَ بذلك ، ولا يجعله من أصلِ الأذان ، فإنّا لا نراه أذاناً ) (٢).

رابعاً : طُبقت كلمةُ ( البِدعة ) على ( الأذان الثالث يوم الجمعة ) الذي أحدثه ( عثمانُ بن عفان ) ، ولم يكن له أيةُ صلة بالتشريع ، فقد وردَ عن أبي جعفرٍٍ عليه‌السلام أنَّه قالَ :

( الأذان الثالث يومَ الجمعةِ بِدعة ) (٣).

__________________

(١) الصدوق ، أبو جعفر ، التوحيد ، باب : ٥٥ ، ح : ١١ ، ص : ٣٤٢.

(٢) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ج : ٨١ ، باب : ١٣ ، ح : ٧٦ ، ص : ١٧٢.

(٣) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٨٠ ، باب : ١٠ ، ح : ٢٦ ، ص : ١١٤ ، عن الكافي ٣ / ٤٢١ والتهذيب ١ / ٢٥٠.

١٠٤

هذا بالنسبة إلى تطبيق ( البِدعة ) على بعض الموارد البارزة لها في لسان الروايات ، كما جاءَ أيضاً نفي الابتداع عن موارد أُخرى لعدم انطباق حدود المفهوم عليها ، ولما تمتلكه من أُصولٍ دينية مشروعة ، فمن تلكَ الموارد :

أولاً : نُفي الابتداع عن ( سجدة الشكر ) بعد الفريضة باعتبار ارتباط هذا العمل بالدين ، ووجود أصلٍ له فيه ، فقد سألَ ( محمدُ بن عبد اللّه الحميري ) من محمد المهدي صاحب الزمان عليه‌السلام عن ( سجدةِ الشكر ) بعد الفريضة : هل يجوزُ أن يسجدَها الرجلُ بعد الفريضة ، فإنَّ بعضَ أصحابنا ذكرَ أنَّها ( بِدعة )؟ فأجابَ عليه‌السلام :

( سجدةُ الشكر من ألزمَ السُّننِ وأوجبها ، ولم يقل إن هذهِ السجدة بِدعةٌ إلاّ مَن أرادَ أنْ يُحدثَ في دين اللّهِ بِدعةً ) (١).

ثانياً : نُفي الابتداع عن إظهار ( البسملة ) ، باعتبار وجودِ أصلٍ لها في التشريع ، فعن ( خالد بن المختار ) قالَ : سمعتُ جعفرَ بنَ محمد عليه‌السلام يقولُ :

( ما لهم قاتلهم اللّهُ عَمَدوا إلى أعظمِ آيةٍ في كتابِ اللّهِ فزَعموا أنَّها بِدعةٌ إذا أظهروها ، وهيَ بسمِ اللّهِ الرحمنِ الرحيمِ ) (٢).

والمهم في الأمر أنَّ الاستقراءَ والتتبع لهذه الأحاديث ، يوقفُنا على النتيجة على التي انتهينا إليها ، وهي أنَّ ( البِدعة ) لم تُستعمل في اصطلاح الشارع إلاّ مذمومةً.

__________________

(١) الطبرسي ، أحمد بن علي ، الاحتجاج ، ج : ٢ ، ص : ٥٧٦.

(٢) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٨٢ ، كتاب الصلاة ، باب : ٢٣ ، ح : ١٠ ، ص : ٢١ ، عن تفسير العياشي ١ / ٢١.

١٠٥

مناقشتانِ حولَ النصوصِ الدالةِ على عدمِ التقسيم

من المناسب في المقام أنْ نتعرضَ لذكر مناقشتين ذكرَهما أنصارُ القول بتقسيم ( البِدعة ) حول ما قررناه من النصوص الشرعية بهذا البيان ، لكي يستوفيَ المطلبُ حقَّه من البحث والتحليل.

المناقشة الأولى :

ربما يُعترضُ على ما قررناه من بيان : بأنَّ ( البِدعة ) قد وردَت مقيَّدةً بقيد ( الضلالة ) في بعض الأحاديث ، وهذا يعني وجودَ قسمٍ آخرَ لها لا يتصفُ بالضلالة ، فقد وردَ في الحديث أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالَ لبلال بن الحارث :

ـ ( اعلمْ! قالَ :

ـ ما أعلمُ يا رسولَ اللّهِ؟ ، قالَ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ :

ـ اعلمْ يا بلالُ! قالَ :

ـ وما أعلمُ يا رسولَ اللّهِ؟ ، قالَ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ :

ـ إنَّه مَن أحيى سُنَّةً من سُنَّتي قد أُميتت بعدي ، فإنَّ له من الأجر مثلَ مَن عملَ بها ، من غير أنْ ينقصَ من أُجورهم شيئاً ، ومَن ابتدعَ بِدعةَ ضلالةٍ ، لا تُرضي اللّهَ ورسولَه ، كانَ عليهِ مثلُ آثامِ مَن عملَ بها ، لا ينقصُ ذلك من أوزارِ الناسِ شيئاً ) (١).

فقيدُ ( الضلالة ) كما يدّعي هؤلاءِ المقسِّمون في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ومَن ابتدعَ بِدعةَ ضلالةٍ ) ، يفيدُ في مفهومه أنَّ هناكَ لوناً من البدع لا يتصفُ بالضلالة ، وإلاّ فما هي فائدةُ ذكرِ القيد في الحديث؟

__________________

(١) الدارمي ، سنن الدارمي ، ج : ٥ ، كتاب العلم ، باب : ١٦ ، ح : ٢٦٧٧ ، ص : ٤٤.

١٠٦

والجوابُ على ذلك أنّا لو سلَّمنا صحةَ هذا الحديث ، فإنَّ منطوقَ قول النبي الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( كلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ ) الدال على الاستيعاب والعموم بالأداة ( كل ) يفسرُ المفهومَ المستفاد من ( بِدعةِ ضلالةٍ ) ويتقدمُ عليه. فمثلاً لو قيلَ : ( كلُّ نميمةٍ سوءٌ ) ، ثمَّ قيلَ ( مَن نمَّ نميمة سوءٍ ) ، فهذا يعني ملازمةَ صفة ( السوء ) للنميمة ، بعد استيعابها بالأداة ( كل ) ، وليسَ فيه أي إيحاء بأنَّ هناك نميمة حسنة في المقابل ، هذا أولاً.

وثانياً : إنَّ مثل هذا مثل المفهوم غيرُ ثابت عند أهل التحقيق والنظر من علماء الفريقين ، ولو سلَّمنا ثبوتَه فإنَّه لا ينفعُنا في المقام شيئاً؛ لأنَّ الأدلةَ الصريحة والمستفيضة قد دلَّت بصراحةٍ وبشكلٍ مطلق على لزوم الضلالة للبِدعة من دون انفكاك ، فيكون القيدُ في هذا الحديث ، من قبيل القيدِ في قوله تعالى :

( يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأكُلُوا الرِّبا أَضعافاً مُّضاعَفَةً ) (١).

فأكلُ الربا يبقى حراماً وإن وُصفَ بكونه ( أضعافاً مضاعفةً ) ، ولا يعني أنَّه إذا لم يكن ( أضعافاً مضاعفةً ) فإنَّه جائزٌ أوممدوح.

المناقشة الثانية :

كما قد يُعترض على ما تقررَ من أنَّ ( البِدعة ) في الاصطلاح الشرعي لم تُستعمل إلاّ مذمومةً ، ولم تُطلق إلاّ على خصوص الحادث المذموم ، بورود الاستثناءِ المستفادِ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الشريف :

( عملٌ قليلٌ في سُنَّةٍ ، خيرٌ من عملٍ كثيرٍ في بِدعة ) (٢).

__________________

(١) آل عمران : ١٣٠.

(٢) المتقي الهندي ، علاء الدين ، كنز العمال ، ج : ١ ، ح : ١٠٩٦ ، ص : ٢١٩.

١٠٧

فيدلُّ الحديثُ كما يُدَّعى على المفاضلة بينَ قليل ( السُنَّة ) وكثيرِ ( البِدعة ) ، وهذا يعني أنَّ لكثير ( البِدعة ) نحواً من القبول والصحة ، وإلاّ لما وقعت هذه المفاضلةُ المذكورة.

وفي الحقيقة أنَّ مَن له أدنى اطلاع على طبيعة الخطابات الشرعية ، ومَن يمتلكُ ولو مقداراً يسيراً من التعامل والتماسِّ مع النصوص الإسلامية ، يدركُ بأنَّ المقصودَ من الحديث هنا مجاراةَ الخصم ومسايرته ، أي : ( لو كانَ في البِدعة خيرٌ ، فقليلُ السُنَّة خيرٌ من كثير البِدعة ) فالبِدعةُ لا خيرَ فيها مطلقاً ، وبعبارةٍ أُخرى : ( إنَّ الإنسانَ لو كانَ ملتزماً بسننٍ قليلةٍ محدودةٍ تقعُ مورداً للقبول ، فهو خيرٌ له من المواظبة على بدعٍ كثيرةٍ متعددة لأنَّها باطلة ).

ويمكنُ إيضاحُ الخطاب بالمثال التالي : ( عملٌ قليلٌ مع الإخلاص ، خيرٌ من عملٍٍ كثيرٍ مع الرياء ) ، فلا يمكنُ الادِّعاءُ في هذا المثال بأنَّ لـ ( الرياء ) نحواً من القبول ، باعتبار وقوع المفاضلة بين كثير ( الرياء ) وقليل ( الإخلاص ) ، بل المقولةُ واضحةُ الدلالةِ في توضيح خطورة ( الرياء ).

فالحديثُ إذنْ ، في موردَ التأكيد على الالتزام بالسُنَّة ، والتهويل من فداحة خطر ( البِدعة ) ، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك تلك النصوصَ الشرعية المصرِّحةَ بذم ( البِدعة ) ، وانتقادها بشكل مطلق ، وإذا ما التفتنا إلى أنَّ هذهِ الصيغة من الخطاب ، أي الصيغة المذكورة في حديث : ( قليلٌ في سُنَّةٍ ، خيرٌ من كثيرٍ في بِدعة ) جاريةٌ في جملةٍ من النصوص الشرعية الأخرى ، وفي المحاورات العرفية العامة.

فقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال :

( ما أحدثَ قومٌ بِدعةً إلا رُفعَ من السُنَّة مثلُها ، فتمسُّكٌ بسُنَّةٍ خيرٌ من إحداثِ بِدعة ) (١).

__________________

(١) العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري ، ج : ١٣ ، ص : ٢٥٤.

١٠٨

فهذه المفاضلة وقعت بين التمسُّك بالسُنَّة وبينَ إحداث ( البدعة ) التي وُصفت في الحديث بأنَّها رافعةٌ للسُنَّة من الأساس ، وكأنَّها جاءت مفسرةً للحديث مورد البحث.

وهناك قرينةٌ متصلة بالحديث تؤيدُ المعنى الذي ذهبنا إليه ، وتمنعُ التبريرَ المدَّعى للتقسيم ، إذ أنَّ صدرَ الحديث يكرِّسُ محاربةَ ( البِدعة ) ، ومواجهتها ، بما لا يدعُ مجالاً للريب في مؤدَّى الحديث ، فقد وردَ عن الإمام جعفرٍ الصادق عليه‌السلام أنَّه قالَ :

( صومُ شهرِ رمضانَ فريضةٌ ، والقيامُ في جماعةٍ في ليلتهِ بِدعةٌ ، وما صلاّها رسولُ اللّهِ صَلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في لياليه بجماعةٍ ، ولو كانَ خيراً ما تركَه ، وقد صلّى في بعض ليالي شهرِ رمضانَ وحده ، فقامَ قومٌ خلفَه ، فلما أحسَّ بهم دَخَلَ بيتَه ، فَعَلَ ذلكَ ثلاثَ ليالٍ ، فلما أصبحَ بعد ثلاثٍ صعدَ المنبرَ ، فحمدَ اللّهَ وأثنى عليهِ ، ثمَّ قالَ :

ـ أيُّها الناسُ ، لا تصلّوا النافلةَ ليلاً في شهر رمضانَ ، ولا في غيره ، فإنَّها بِدعةٌ ، ولا تصلّوا الضحى ، فإنَّها بِدعةٌ ، وكلُّ بِدعةٍ ضلالةٌ ، وكلُّ ضلالةٍ سبيلُها إلى النار ، ثمَّ نزلَ وهو يقولُ : قليلٌ في سُنَّةٍ خيرٌ من كثيرٍ في بِدعةٍ ) (١).

__________________

(١) الصدوق ، أبو جعفر ، التوحيد ، باب : ٥٥ ، ح : ١١ ، ص : ٣٤٢.

١٠٩

الدليل الرابع

استعمال المتشرعةِ للبِدعة ينافي التقسيم

ويمكنُ أنْ يضافَ إلى هذا المقدار من الاستعمال في النصوص الشرعية ، قرائنُ ظنيةٌ قوية ، مستفادةٌ من تتبعِ واستقراء استعمالات المتشرعة الذين رافقوا الزمنَ الأول للتشريع ، ومَن جاءَ بعدَهم بقليل ، والوصولُ من خلال ذلك إلى عين النتيجة السابقة ، وهي : أنَّ المتشرعةَ لم يستعملوا البِدعةَ إلا مذمومةً أيضاً ، فنحنُ نرى من خلال استعراض استعمالات هذهِ الطبقة التي كانَت تتلقى المفاهيمَ الإسلامية من قرب ، أنَّ تطبيقَ هذا المفهوم لم يكن يتجاوزُ الحادثَ المذموم بشكل عام ، وأمّا قصةُ التقسيم فهي قضيةٌ حدثت في فترةٍ متأخرةٍ عن بدايات عصر التشريع ، وكانَت لها خلفياتُها ودواعيها الخاصة ، ومنطلقاتُها التي قد نكونُ ألمحنا للبعض منها فيما مضى من دراستنا هذه.

والآن نحاولُ أنْ نستعرضَ بعضَ التطبيقات التي قد استُعملت ( البِدعةُ ) فيها مذمومةً ، مع اعتقادنا بأنَّ الاستعمال بحدِّ ذاته لا يكشفُ ذاتياً عن حقيقة الوضع الشرعي لهذا المفهوم في معناه الحقيقي ، إلاّ انَّنا حين نضمُّ إلى ذلك الاستعمالات الواردةَ على لسان صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهلِ بيته الطاهرينَ عليهم‌السلام ، مع الأدلة المتقدمة التي قضت ببطلان التقسيم المزعوم ، نجدُ أنَّ هذهِ الاستعمالات تشكِّلُ بمجموعها قرينةً مؤثرة في الحسابات العلمية ، وتؤيدُ بطلانَ القول بالتقسيم.

ونودُّ أن نذكِّرَ بأنّنا لسنا بصدد تقويم هذهِ النصوص المعروضة ، أو بيان صحة أو عدم صحة مواردِها واستعمالاتها ، وإنَّما نحنُ بصدد الاستشهاد بنحو استعمال لفظ ( البِدعة ) الوارد فيها ، ومن خلال النظر إلى هذه الزاويةِ ليسَ غير.

وسوف نذكرُ ما يتيسرُ ممّا وردَ في استعمال لفظ ( البِدعة ) مذمومةً ضمنَ مرحليتن :

١١٠

المرحلةُ الأُولى : ما وردَ من ذلك على ألسنةِ الصحابة ، وبالأخص بعد وفاة الرسول الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والمرحلةُ الثانيةُ : ما وردَ من ذلك على ألسنةِ مَن يلي أُولئك بقليل.

المرحلة الاولى :

استعمال الصحابةِ للبِدعة في خصوصِ الموردِ المذموم

* طبَّق أميرُ المؤمنين علي عليه‌السلام كلمةَ ( البِدعة ) على الخوض في أمرِ القَدَر ، والجدال في الأمور الاعتقادية التي تكونُ منشأً للاختلاف ، وسبباً لفرقة المسلمين ، وتمزيق وحدتهم ، وذلك عندما مرَّ على قومٍ من أخلاط المسلمين ، ليسَ فيهم مهاجري ولا أنصاري ، وهم قعودٌ في بعض المساجد في أول يومٍ من شعبان ، وإذا هم يخوضونَ في أمرِ القَدَر مما اختلف الناسُ فيه ، قد ارتفعت أصواتُهم ، واشتدَّ فيه جدالُهم ، فوقفَ عليهم وسلَّم ، فردّوا عليه ، ووسّعوا له ، وقاموا إليه يسألونَه القعودَ إليهم ، فلم يحفل بهم ، ثمَّ قالَ لهم :

( يا معشرَ المتكلمين ، ألم تعلموا أنَّ للّهِ عباداً قد أسكتتهم خشيتُهُ من غير عيٍّ ولا بُكم .. فأينَ أنتُم منهم يا معشر المبتدعين ، ألم تعلموا أنَّ أعلمَ الناس بالضرر أسكتُهم عنه ، وأنَّ أجهلَ الناس بالضرر أنطقُهم فيه ) (١)؟!

* وردَ انَّ رجلاً قد أخبرَ ( عبدَ اللّه بن مسعود ) بأنَّ قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب ، فيهم رجلٌ يقولُ : كبِّروا اللّهَ كذا وكذا ، وسبِّحوا اللّهَ كذا وكذا ، واحمدوا اللّهَ كذا وكذا ، فقالَ ( عبدُ اللّه بن مسعود ) للرجل : فإذا رأيتَهم فعلوا ذلك فاتِني فأخبرني

__________________

(١) الطبرسي ، أحمد بن علي ، الإحتجاج ، ج : ١ ، ص : ٦١٧ ، وقالَ في هامش الاحتجاج : ونحوه في التبيان ٩ / ٣٧٨ ، والعياشي ٢ / ٢٨٣ ، والمجلسي ١٠ / ١٢١.

١١١

بمجلسهم ، فأتاهم الرجلُ فجلسَ ، فلمّا سمعَ ما يقولُون ، قامَ فأتى ( ابنَ مسعود ) ، فأخبره ، فجاءَ ( ابنُ مسعود ) ، وكانَ رجلاً حديداً ، فقالَ :

( أنا عبدُ اللّه بنُ مسعود ، واللّهِ الذي لا الهَ غيرُه لقد جئتُم ببِدعةٍ ظُلماً ، ولقد فضلتم أصحابَ محمّد صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ علماً. فقالَ ( عمرو بنُ عتبة ) : أستغفرُ اللّهَ ، فقالَ عبدُ اللّه : عليكم الطريقَ فالزموه ، ولئن أخذتُم يميناً وشمالاً لتضلُّنَّ ضلالاً بعيداً ) (١).

فبغض النظر عن طبيعة الأُسلوب الذي عالجَ به الصحابي ( عبدُ اللّه بنُ مسعود ) هذهِ الحادثة التي لم يكن لها سابقُ مثالٍ في حياة الرسول الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، نجدُ أنَّه قد استعملَ لفظَ ( البِدعة ) في مورد الذم ، وعدَّ انحرافَ الإنسان عن طريق الحق نحوَ اليمين أو الشمال بِدعةً وضلالاً بعيداً ، والظاهرُ من الحديث أنَّ هذا المعنى للـ ( البِدعة ) هو المرتكز في أذهان القوم آنذاك.

* رُوي عن ( ابن مسعود ) أيضاً أنَّه قالَ :

( اتبعوا آثارنا ، ولا تبتدعوا ، فقد كُفيتم ) (٢).

* ورُوي أيضاً عن ( ابن مسعود ) أنَّه قالَ :

( إنَّ للّهِ عند كلِّ بِدعةٍ كيدَ بها الاسلامُ وليَّاً من أوليائِهِ ، يذبُّ عنها ، وينطقُ بعلامتها ، فاغتنموا حضورَ تلكَ المواطن ، وتوكلوا على اللّه ) (٣).

__________________

(١) ابن الجوزي ، تلبيس إبليس ، تحقيق د. الجميلي ص : ٢٥.

(٢) القرطبي ، ابن وضاح ، البدع والنهي عنها ، تصحيح وتعليق محمد أحمد دهمان ، ص : ١٠.

(٣) القرطبي ، ابن وضاح ، البدع والنهي عنها ، ص : ٤.

١١٢

فاستعمالُ لفظ ( البِدعة ) مذمومةً واضحٌ في كلامه ، حيثُ عدَّ ( البِدعة ) مما يُكاد به الإسلام ، وانَّ لِلّه تعالى في كل زمن ولياً ، يدافعُ عن الإسلام ، ويذبُّ هذهِ المحدثات عنه ، ولعلَّ كلامَ ( ابن مسعود ) هذا مستفادٌ من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( إنَّ للّهِ عندَ كلِّ بِِدعةٍ تكونُ بعدي يُكاد بها الإيمانُ وليَّاً من أهلِ بيتي موكلاً به ، يذبُّ عنه ، ينطقُ بإلهامٍٍ من اللّه ، ويعلنُ الحقَّ ، وينورُه ، ويردُ كيدَ الكائدينَ ، ويعبِّرُ عن الضعفاء ، فاعتبروا يا أولي الأبصار ، وتوكلوا على اللّه ) (١).

* عن ( عبد اللّه بن الحلبي ) عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما‌السلام أنَّهما قالا :

( حجَّ عمرُ أولَ سنةٍ حجَّ وهو خليفةٌ ، فحجَّ تلك السنةِ المهاجرونَ والأنصارُ ، وكانَ علي عَليهِ السلامُ قد حجَّ تلكَ السنة بالحسن والحسين عَليهما السلامُ وبعبد اللّه بن جعفر ، قالَ : فلما أحرمَ عبدُ اللّه ، لبس إزاراً وردَاءً ممشقينِ مصبوغينِ بطين المشق ، ثمَّ أتى ، فنظرَ إليه عمر وهو يلبّي ، وعليهِ الإزارُ والرداءُ ، وهو يسيرُ إلى جنب علي عَليهِ السلامُ ، فقالَ عمر من خلفهم :

ـ ما هذه البِدعةُ التي في الحرم؟ فالتفت إليه علي عَليهِ السلامُ فقالَ له :

ـ يا عمرُ ، لا ينبغي لأحدٍ أنْ يعلّمنا السُنَّةَ ، فقالَ عمرُ :

ـ صدقتَ يا أبا الحسن ، لا واللّهِ ما علمتُ أنَّكم هم ) (٢).

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٢ ، كتاب العلم ، باب : ٣٤ ، ح : ٧٩ ، ص : ٣١٥.

(٢) العياشي ، تفسير العياشي ، ج : ٢ ، ص : ٣٨.

١١٣

فنرى في هذا الحديث أنَّ عمر يستعملُ لفظَ ( البِدعة ) في مورد الذم بنظره ، إلاّ أنَّ أميرَ المؤمنين عليه‌السلام يبيِّنُ له أنَّ هذا العمل ليس ببِدعة كما يتصور ، وإنَّما هو من صميم السُنَّة ، فيعتذرُ لأجل ذلك ، وينسحبُ عمّا تفوه به من كلام.

* روى ( البخاري ) عن ( مجاهد ) أنَّه قالَ :

( دخلتُ أنا وعروةُ بنُ الزبير المسجدَ ، فإذا عبدُ اللّه بن عمر جالسٌ إلى حجرة عائشة ، وإذا أُناسٌ يصلّون في المسجد صلاةَ الضحى ، قالَ : فسألناه عن صلاتهم ، فقالَ :

ـ بِدعة ) (١).

وقالَ ( ابن حجر ) في ( فتح الباري ) بصدد عدد الأقوال الواردة في ( صلاة الضحى ) ، وهي ستة :

( السادس : إنَّها بِدعة ، صحَّ ذلك من رواية عروة عن ابن عمر ، وسئُلَ أنس عن صلاة الضحى ، فقالَ : الصلوات خمس ، وعن أبي بكرة أنَّه رأى ناساً يصلّون الضحى فقالَ :

ـ ما صلاها رسولُ اللّه ، ولا عامةُ أصحابه ) (٢).

وهذا يدلُّ أنَّ الاستعمال كانَ في موردَ الذم ، وأنَّه في خصوص الأمر الذي يُدخل إلى الدين من دون أنْ يستندَ إلى أصلٍ شرعي ، من خلال إطلاق لفظ ( البِدعة ) في كلام ( عبد اللّه بن عمر ).

قالَ ( الشاطبي ) في ( الاعتصام ) : وخرَّج ( أبو داود ) وغيرُه عن ( معاذ بن جبل ) ( رضيَ اللهُ عنه ) أنَّه قالَ يوماً :

__________________

(١) البخاري ، صحيح البخاري ، ج : ٢ ، كتاب الحج ، باب : العمرة ، ح : ٤ ، ص : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، ج : ٣ ، ص : ٥٥.

١١٤

( إنَّ من ورائكم فتناً يكثرُ فيها المال ، ويُفتح فيها القرآن ، حتى يأخذه المؤمنُ والمنافق ، والرجلُ والمرأة ، والصغيرُ والكبير ، والعبدُ والحر ، فيوشك قائلٌ أنْ يقولَ : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأتَ القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدعَ لهم غيره ، وإيّاكم وما ابتُدعَ فإنَّ ما ابتُدع ضلالة ) (١).

فاستعملت ( البِدعةُ ) هنا أيضاً مذمومةً ، وأُطلق القولُ بأنَّ كلَّ ما ابتُدعَ وأُحدث فهو ضلالة.

* نقل ( ابنُ وضاح ) عن ( حذيفة ) :

( أنَّه أخذَ حجرين فوضعَ أحدهما على الآخر ، ثمَّ قالَ لأصحابه :

ـ هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالَوا :

ـ يا أبا عبد اللّه ، ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً ، قالَ :

ـ والذي نفسي بيده لتظهرنَّ البدعُ حتى لا يُرى من الحقِّ إلاّ بقدر ما بين هذين الحجرين من النور ، واللّهِ لتفشونَّ البدعُ حتى إذا تركَ منها شيء قالَوا : تُركت السُنَّة ) (٢).

* وخرَّجَ ( ابنُ وضّاح ) عن ( ابن عباس ) أنَّه قالَ :

( ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بِدعةً ، وأماتوا سُنَّةً ، حتى تحيا البدعُ ، وتموتُ السُّنن ) (٣).

وعنه أيضاً أنَّه قالَ :

( عليكم بالاستفاضة والأثر ، وإيّاكم والبدع ) (٤).

__________________

(١) الشاطبي ، أبو إسحاق ، الاعتصام ، ج : ١ ، ص : ٨٢.

(٢) القرطبي ، ابن وضّاح ، البدع والنهي عنها ، ص : ٥٨.

(٣) القرطبي ، ابن وضاح ، البدع والنهي عنها ، ص : ٣٩.

(٤) الشاطبي ، أبو إسحاق ، الاعتصام ، ج : ١ ، ص : ٨١.

١١٥

ولسانُ المقولتين واضحٌ في ذم البدع ، وعدِّها في مقابل السُنَّة ، والتحذير منها ، وهذا يعني أنَّها استُعملت في كلام ( ابن عباس ) في مورد الذم أيضاً.

* قالَ ( الكانَدهلوي ) في ( حياة الصحابة ) :

( أخرج الطبراني عن عمرو بن زرارة قالَ : وقفَ عليَّ عبدُ اللّه ـ يعني ابن مسعود رضيَ اللهُ عنه ـ وأنا أقصُّ ، فقالَ :

ـ يا عمرو ، لقد ابتدعتَ بِدعةَ ضلالة ، أو انَّكَ لأهدى من محمدٍ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وأصحابه؟ ولقد رأيتُهم تفرقوا عني ، حتى رأيتُ مكانَي ما فيه أحدٌ ) (١).

والكلامُ في قول ( ابن مسعود ) : ( لقد ابتدعتَ بِدعةَ ضلالة ) كالكلام في قول النبي الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ومَن ابتدعَ بِدعةَ ضلالة ) (٢) ، وقد تقدمَ أنَّ هذا القيد لا يدلُّ على المفهوم ، ولا يُخرج ( البِدعة ) عن أصل وضعها لخصوص الموارد الحادثة المذمومة ، كما هو الحال في معالجة ( ابن مسعود ) هذه وفقاً لوجهة نظره الخاصة.

* روي أنَّه لمّا عاقبَ أميرُ المؤمنين علي عليه‌السلام المغالينَ الذين ادّعوا الوهيّتَهُ ، وأنكروا نبوةَ الرسول الخاتَم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنْ قتلَهم بالدخان ، قدمَ عليه يهودي من أهل ( يثرب ) ، قد أُقرَّ له في ( يثرب ) من اليهود أنَّه أعلمُهم ، وكانَ معه عدةٌ من قومه وأهل بيته ، فبادرَ علياً عليه‌السلام بالقول :

ـ ( يابنَ أبي طالب ما هذهِ البِدعة التي أحدثتَ في دين محمّد؟ فقالَ عَليهِ السلامُ :

ـ وأيةُ بِدعةٍ؟ فقالَ اليهودي :

__________________

(١) الكاندهلوي ، حياة الصحابة ، ج : ٤ ، ص : ٧٧.

(٢) الدارمي ، سنن الدارمي ، ج : ٥ ، كتاب العلم ، باب : ١٦ ، ح : ٢٦٧٧ ، ص : ٤٤.

١١٦

ـ زعمَ قومٌ من أهل الحجاز أنَّكَ عهدتَ إلى قومٍٍ شهدوا أنْ لا إلهَ إلا اللّه ، ولم يقرّوا أنَّ محمداً رسوله ، فقتلتهم بالدخان ، فقالَ أميرُ المؤمنين عَليهِ السلامُ :

ـ فنشدتُكَ بالتسع الآيات التي أُنزلت على موسى بطور سَيناء ، وبحق الكنائس الخمس القدس ، وبحق السمت الديان ، هل تعلم أنَّ يوشعَ بن نون أُتيَ بقومٍٍ بعد وفاة موسى عَليهِ السلامُ شهدوا أنْ لا الهَ إلا اللّه ، ولم يُقرّوا أنَّ موسى عَليهِ السلامُ رسولُ اللّهِ ، فقتلهم بمثل هذهِ القتلة؟ فقالَ اليهودي :

ـ نعم .. إلى آخر الحديث ) (١).

فمن الواضح أيضاً من خلال هذهِ الواقعة أنَّ المرتكز في أذهان هؤلاءِ المحاجّين عن ( البِدعة ) هو أنَّها لا تردُ إلاّ مذمومة ، ولا تُستعمل إلّا في هذا المجال؛ ولذا نراهم يوجهون النقدَ إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام من خلال وصف عمله بالابتداع بادئَ بذي بدء ، إلاّ انَّهم يتراجعون عن ذلك ، بعد أنْ يبيِّنَ لهم علي عليه‌السلام دوافعَ هذا الإجراء ، وبعد أن يعلموا أنَّ عملَه عليه‌السلام إنما كانَ نابعاً من صميم التشريع ، ومتخذاً من أجل صيانته والذبِّ عنه.

المرحلة الثانية :

استعمال مَن يلي الصحابةَ للبِدعة في خصوصِ الموردَ المذموم

طُبقت كلمةُ ( البِدعة ) على الجدال في القرآن بغير علم ، فعن ( اليقطيني ) أنَّه قالَ : كتبَ أبو الحسن الثالث عليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد :

__________________

(١) الكليني ، محمّد بن يعقوب ، الفروع من الكافي ، ج : ٤ ، كتاب الصيام ، باب : النوادر ، ح : ٧.

١١٧

( بسمِ اللّهِ الرحمنِ الرحيمِ ، عَصَمنا اللّهُ وإياك من الفتنة ، فإنْ يفعل فأعظِم بها نعمةً ، وإلاّ يفعل فهي الهلكةُ ، نحنُ نرى أنَّ الجدالَ في القرآن بِدعةٌ ، اشتركَ فيها السائلُ والمجيبُ ، فتعاطى السائلُ ما ليسَ له ، وتكلَّفَ المجيبُ ما ليس عليه ، وليس الخالق إلا اللّهُ ، وما سواه مخلوق ) (١).

* ذكر ( ابنُ وضاح ) عن ( أبي حفص المدني ) انَّه قالَ :

( اجتمع الناسُ في يوم عرفة في مسجد النبي صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ يدعونَ بعد العصر ، فخرجَ نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر ، فقالَ :

ـ أيُّها الناسُ ، إنَّ الذي أنتم عليه بِدعةٌ وليست بسُنَّة ، إنّا أدركنا الناسَ ولا يصنعونَ مثلَ هذا.

ثمَّ رجعَ فلم يجلس ، ثمَّ خرج الثانية ، ففعل مثلها ، ثمَّ رجع ) (٢).

فعلى الرغم من أنَّ فهم ( نافع ) لمفهوم ( البِدعة ) كانَ فهماً مغلوطاً إلاّ أنَّ الذي يخصُّنا ذكره في المقام هو أنَّ لفظ ( البِدعة ) قد استُعمل في موردَ الذم المقابل للسُنَّة ، وطُبقَ على هذا الموردَ بالخصوص في نظر القائل.

* جاءَ في ( المدخل ) لـ ( ابن الحاج ) :

( إنَّ مروان لمّا أحدثَ المنبرَ في صلاة العيد عند المصلّى ، قامَ إليه أبو سعيد الخدري ، فقالَ :

ـ يا مروانُ ، ما هذهِ البِدعةُ؟ فقالَ :

__________________

(١) المجلسي ، محمد باقر ، بحار الأنوار ، ج : ٨٩ ، باب : ١٤ ، ح : ٤ ، ص : ١١٨ ، عن أمالي الصدوق ، ص : ٣٢٦.

(٢) القرطبي ، ابن وضّاح ، البدع والنهي عنها ، ص : ٤٦.

١١٨

ـ إنَّها ليست ببِدعة ، هي خيرٌ مما تعلم ، إنَّ الناس قد كثروا فأردتُ أنْ يبلغهم الصوت ، فقالَ أبو سعيد :

ـ واللّهِ لا تأتون بخير مما أعلمُ أبداً ، واللّهِ لا صليتُ وراءَك اليومَ. فانصرف ولم يصلِّ معه صلاةَ العيد ) (١).

وعلى الرغم أيضاً من أنَّ معالجةَ ( أبي سعيد الخدري ) لهذا الموقف المحدث لم تكن مبنيةً على أساس فهمٍ صحيح لمفهوم ( البِدعة ) ، وبقطع النظرِ عن طبيعة المواقف الصادرة من طرفي هذهِ الواقعة ، نجدُ أنَّ ( البِدعة ) قد استُعملت مذمومةً أيضاً ، وقد فهمَ الطرفُ المقابل خصوصَ هذا المعنى من استعمالها تبادراً.

* وجاءَ في ( المدخل ) أيضاً :

( قالَ أبو معمَّر رأيتُ يساراً أبا الحكم يستاكُ على باب المسجد ، وقاصاً يقصُّ في المسجد ، فقلتُ له :

ـ يا أبا الحكم! الناسُ ينظرونَ إليكَ ، فقالَ :

ـ الذي أنا فيه خيرٌ مما هم فيه ، أنا في سُنَّةٍ وهم في بِدعة ) (٢).

فأُطلقت ( البِدعةُ ) فيما يُقابل السُنَّة في نظر القائل.

* وجاءَ في ( فتح الباري ) :

( وقد أخرج أحمد بسند جيِّد عن غضيف بن الحارث قالَ : بعثَ إلىَّ عبدُ الملك بن مروان فقالَ :

ـ إنَّا جمعنا الناسَ على رفع الأيدي على المنبر يومَ الجمعة ، وعلى القصص بعد الصبح والعصر ، فقالَ :

__________________

(١) ابن الحاج ، المدخل ، ج : ٢ ، ص : ٢٨٦.

(٢) ابن الحاج ، المدخل ، ج : ٢ ، ص ٢٨٦.

١١٩

ـ أما إنَّهما أمثلُ بدعكم عندي ، ولستُ بمجيبكم إلى شيءٍ منهما ، لأنَّ النبي قالَ : ( ما أحدثَ قومٌ بِدعةً إلا رُفعَ من السُنَّة مثلُها ، فتمسُّكٌ بسُنَّةٍ خيرٌ من إحداثِ بِدعة ) (١).

فالاستشهادُ بالحديث النبوي ، وسياقُ المحاورة واضحٌ في إطلاق لفظ ( البِدعة ) في مورد الذم من وجهة نظر المتكلِّم.

* روي عن ( الحسن البصري ) أنَّه قالَ :

( إنَّ أهلَ السُنَّة كانَوا أقلَّ الناس فيما مضى ، وهم أقلُّ الناس فيما بقي ، الذين لم يذهبوا مَعَ أهلِ الترف في أترافهم ، ولا مَعَ أهل البدع في بدعهم ، وصبروا على سُنَّتهم ، حتى لقوا ربَّهم ، فكذلكَ فكونوا ) (٢). ونُقل عنه أنَّه قالَ :

ـ صاحبُ البِدعةِ لا يزدادُ اجتهاداً ، وصياماً ، وصلاةً ، إلاّ ازدادَ من اللّه بُعداً ) (٣).

وقالَ أيضاً :

( لا تجالسْ صاحبَ بِدعةٍ ، فإنَّه يُمرضُ قلبَكَ ) (٤).

* وخرَّج ( ابنُ وهب ) عن ( أبي إدريس الخولاني ) أنَّه قالَ :

( لئن أرى في المسجد ناراً لا أستطيعُ إطفاءَها ، أحبُّ اليَّ من أنْ أرى فيه بِدعةً لا أستطيعُ تغييرَها ) (٥).

__________________

(١) العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري ، ج : ١٣ ، ص : ٢٥٤.

(٢) زينو ، محمد جميل ، منهاج الفرقة الناجية ، ص : ١١٠.

(٣) القرطبي ، ابن وضّاح ، البدع والنهي عنها ، ص : ٢٧.

(٤) القرطبي ، ابن وضاح ، البدع والنهي عنها ، ص : ٤٧.

(٥) القرطبي ، ابن وضّاح ، البدع والنهي عنها ، ص : ٣٦.

١٢٠