بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

الوزارات ليست وزارات لها مباني ، وإنّما هي وزارات لها نفوذ اجتماعي ، والحكومات ليست هي الحكومات الرسمية فقط ، وإنّما الحكومات هي القوى التي تمتلك النفوذ الاجتماعي سواءً كانت رسمية أو غير رسمية ، وهناك أجهزة تدير العالم في زماننا هذا في الحقل المالي ، وحقل التسلّح العسكري والمصرف والإعلام ، هذه كلّها أجهزة سرية تدير العالم ، ولا نعرف من يقف وراءها ، فليس معنى النفوذ والنشاط أن يكون هذا النشاط معلناً ومن يقف وراءه معلناً ، ولا يوجد رابط بين القدرة على الحكم وبين إعلان الحاكم ، بل حتّى الحكومات المعلنة تقف وراءها أجهزة سرية.

الإمام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ) حاضر وموجود ونشط في مختلف القضايا ، ولو تأمّلنا في هذه الآية من سورة الكهف ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) (١). لوجدنا أنّ هذه القصّة تشير إلى مجموعة من العباد الذين آتاهم الله رحمة من عنده وعلماً لدنّياً يقومون بأدوار خفيّة على طبق البرنامج والأوامر الإلهية في إدارة المجتمعات.

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام :

« إنّ علياً عليه‌السلام كان محدّثاً ... يحدّثه ملك. قلت : تقول : إنّه نبي؟ ] قال [ فحرّك يده هكذا : أو كصاحب سليمان ، أو كصاحب موسى ... » (٢).

ولولا علم التأويل لم يقتنع موسى عليه‌السلام بما فعله الخضر عليه‌السلام ، ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) (٣) ، عندما عرف التأويل اقتنع ورضي بما فعله الخضر على ضوء أُسس شريعته التي تغطّي هذه المتغيّرات ، والنبي موسى لم يكن عنده هذا

__________________

١ ـ الكهف (١٨) : ٦٥.

٢ ـ تفسير كنز الرقائق ٨ : ١٠٥.

٣ ـ الكهف (١٨) : ٨٢.

٦١

التأويل ، مع أنّه كان من أنبياء أُولي العزم بنص سورة الكهف ، بل كان عند غيره ، والله تعالى لم يصف الخضر بأنّه نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل ، وإنّما وصفه بأنّه عبد من عباد الله ، وقال تعالى آتيناه علماً لدنّياً حينما عبر بـ ( من لدنا ) ، والعلم اللدنّي هو السبب المتصل بين الأرض والسماء.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنا أقاتل على التنزيل ، وعلي يقاتل على التأويل » (١) ، والعلم الذي عند الإمام علي عليه‌السلام هو من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو القائل « علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب يفتح كلّ باب ألف باب » (٢).

إذاً سورة الكهف تثبت بأنّ الإنسان الذي يمتلك العلم اللدنّي يستطيع أن يغطّي كلّ المتغيّرات حتّى ولولم يكن نبياً ، فهو باعتباره يمتلك العلم اللدنّي من عند الله فهو لا يخطىء ، وهو يستطيع أن يربط بين هذه الحلقة في هذا الزمن بحلقات أُخرى في أزمنة قادمة ، وهذا عمل جبّار ، فلا يستطيع أحدنا أن يخطّط لعمل اجتماعي لخمسين سنة قادمة ، مع معرفة كلّ العوائق والسلبيات التي ستعترضه في هذا المجال ، فجميع التخطيط البشري يتبيّن فشله أو فشل أجزاء منه بنسب مختلفة بسبب قصور الفكر البشري عن استيعاب كلّ الجوانب ، فبعد إتمام المشروع تتبيّن النواقص التي فيه.

والإمام هو صاحب العلم اللدنّي ، وهذا العلم اللدنّي يؤهّله أن يخبر عن الله ، ولكن ليس بمعنى أن يكون نبياً أو يكون صاحب شريعة جديدة ، وهذا تماماً ما حدث للخضر الذي حاور موسى بنفس الأُسس الشرعية في شريعته هو ، فسورة الكهف تخبرنا عن مقام إلهي تحتاج إليه البشرية ، وهذا المقام يستوجب الاطلاع

__________________

١ ـ الفصول المهمة في أُصول الأئمة ١ : ٥٦٩ ، الحديث ٨٥٩.

٢ ـ الفصول المهمة في أصول الأئمة ١ : ٥٦٥ ، الحديث ٨٤٨.

٦٢

على إرادة الله ، كما ورد في الآية ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) (١).

ولو تأمّلنا في الآية لوجدنا أنّ الخضر مطّلع على إرادة الله من خلال قوله ( فأراد ربك ) ، وهذا القول لا يعني أنّ الخضر قد أتى بشريعة جديدة من عند الله ، وإنّما هو تطبيق للشريعة بأُسسها العامّة التي تغطّي كلّ المتغيّرات

المتغيّرات كثيرة ، ولكن الشريعة تغطّيها

إذاً نحن نتّفق مع مدرسة العلمانية « السكولارزم » بأنّ المتغيّرات كثيرة وكبيرة ، ولكن الأُسس الدينية قادرة على التغطية والاستيعاب لكلّ هذه المتغيّرات ، كما أنّ الأُسس العامّة للرياضيات تغطّي جميع المجهولات الرياضية.

لا يمكن الاكتفاء بظاهر اللفظ القرآني

الذي يدّعي أنّ الشريعة مقتصرة على ظواهر القرآن يجني على الشريعة ، والقرآن يقول : إنّه تبيان لكل شيء (٢) ، ويقول : إنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل القرآن (٣) ، والآيات المحكمات والمتشابهات هي في القرآن المنزل وفي ظواهر القرآن ، أمّا الكتاب المبين في لوح محفوظ في كتاب مكنون (٤) في عوالم الغيب ذلك موجود فيه كلّ شيء وهو تبيان لكل شيء ، أمّا ظواهر القرآن فهي ليست تبياناً لكلّ شيء في التشريع ـ فضلا عن العلوم الأُخرى ـ وإلاّ فكيف نجمع

__________________

١ ـ الكهف (١٨) : ٨٢.

٢ ـ النحل (١٦) : ٨٩.

٣ ـ آل عمران (٣) : ٧.

٤ ـ الواقعة (٥٦) : ٧٨.

٦٣

بين وجود المحكمات والمتشابهات وبين قوله تعالى ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (١) ، وهذه الآية تقول : إنّ هذه الآيات البيّنات في صدور الذين أوتوا العلم ، ولم تقل : إنّه في المصحف.

هل يمكن أن يوجد كتاب في الرياضيات يحتوي على حلّ جميع المجهولات الرياضية؟ طبعاً لا يوجد.

العالمون بالتأويل ، وأصحاب العلم اللدنّي موجودون في أُمّة محمّد ، وهم الأئمة عليهم‌السلام

إذا كان القرآن يحدّثنا عن وجود التأويل عند الذين أوتوا العلم اللدنّي في زمن موسى ، فهل هذا الموقع شاغر في أُمّة محمّة صلى‌الله‌عليه‌وآله أم أنّ هناك من لديه العلم اللدنّي في أُمّة محمّة صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

إذا كانت شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سيدة الشرائع ، وهي الشريعة الخالدة ، فلا بدّ من وجود هذا الموقع ، وينبغي الإشارة إلى أنّ المسلمين مجمعون على الخضر ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « ... إنّ الله تعالى لمّا كان في سابق علمه أن يقدِّر من عمر القائم عليه‌السلام في أيّام غيبته ما يقدّره ، وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول ، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك ألا لعلة الاستدلال به على عمر القائم عليه‌السلام ... » (٢).

الله تعالى يقول : إنّ في هذه الأُمّة يوجد راسخون في العلم يعلمون التأويل ، والكتاب كلّه بيّن ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٣) ، الآيات

__________________

١ ـ العنكبوت (٢٩) : ٤٩.

٢ ـ كتاب الغيبة : ١٧٢ ، الحديث ١٢٩.

٣ ـ العنكبوت (٢٩) : ٤٩.

٦٤

عندهم كلّها بيّنة ليس بعضها محكم والآخر متشابه في صدور أولئك الذين أوتوا العلم.

فمدرسة العلمانية « السكولارزم » تثبت ـ من حيث لا تشعر ـ ضرورة وجود من يحيط بالمتغيّرات في الشريعة ، وهذا ما تجيب عليه المدرسة الإمامية التي تعتقد بوجود الأئمة عليهم‌السلام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعطيهم منصب الإحاطة بالشريعة والمتغيّرات التي توجد حلولها في هذه الشريعة ، وفي عصر الغيبة تعتقد بوجود صاحب الزمان عجّل الله فرجه ، وتعتقد باستحقاقه لهذا المقام.

٦٥
٦٦

المحاضرة السابعة

مناقشة مدرسة الهرمونطيقية

محاور المحاضرة :

أوّلا : تطوّر النقد الأدبي وظهور تعدّد القراءات.

ثانياً : تطوّر علم الفقه.

ثالثاً : تأويل النص الديني يوازي التعمّق في التحليل الأدبي.

رابعاً : أهل البيت عليهم‌السلام هم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) (١).

تمّ بشكل إجمالي مناقشة المدرستين العلمانية والتعددية « السكولارزم والبلوري ألسم » ، واستعراض بعض أفكارهما والردّ عليها بصورة سريعة ، وحيث إنّني قد عرضت بعض الإشكالات التي طرحوها فمن اللازم أن أردّ عليها.

إشكالٌ : إنّ القضاء الإسلامي يعتمد على البيّنة والحلف ، مع أنّ القضاء تجاوز بتطوّر هذه المرحلة

الرد : إنّ القضاء الإسلامي لا يعتمد على البيّنة والحلف كحلّ منحصر ، وإنّما يعتمد الحلف والبيّنة إذا لم يكن هناك طريق لعلم القاضي ، أمّا إذا أمكن القاضي أن يعلم عن طريق البراهين والأدلة والتحقيق القضائي ، فإنّه يحكم به ، فإذا لم يتوفّر

__________________

١ ـ الفاتحة (١) : ٧.

٦٧

أي من هذه الأدلة والبراهين ، فحينئذ يعتمد القاضي على الشهود والحلف ، وهذا لا يقتصر على القضاء الإسلامي ، بل هو العرف القانوني عند غير المسلمين ، فإذا انسدّت الأبواب في التحقيقات القانونية والقضائية تصل النوبة حينئذ للحف ، فكلّ بلد يحلف بالرمز المقدّس الذي يعتقد به سواءً كان هذا الرمز دينياً عند من يؤمنون بالدين أو رمزاً وطنياً مقدّساً عند من يؤمنون به ، ولو راجعنا قضاء أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لوجدناه يبحث ويحقّق عن أسباب النزاع والأدلة والبراهين القضائية التي توصله إلى الحقيقة ، بل إنّ أكثر قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام كان بهذه الطريقة ، وليس بالاعتماد على الحلف والشهود ، والذين أثاروا هذا الإشكال لم يطّلعوا على القضاء الإسلامي بصورة عميقة.

الإشكال الثاني : لماذا تطالب القبيلة والعصبة بدفع الدية؟

الدين الإسلامي يدعو للمحافظة على الأُسرة وعلى وشائج القربى ، بل هو يحافظ على لحمة السبب بالإضافة إلى لحمة النسب ، فنحن نلاحظ أنّ بعض الأشخاص عندما يخرج من بلده إلى بيئة أُخرى بعيدة عن الرقابة الاجتماعية ينحرف سلوكه ، بينما كان محافظاً على سلوكه عندما كان يعيش في البيئة المحافظة ، ولذلك من المفيد الحفاظ على الأعراف التي لا تتعارض مع الدين ، ولذلك لم يقطع النبي أوصال شبكة القبائل الموجودة في ذلك الزمان مع أنّ الإسلام قد عانى من هذه القبائل ، ووجّهت له ضربات قاسية ، كما حدث ذلك في معركة الأحزاب حينما تحزّبت القبائل لمواجهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودين الإسلام ، مع ذلك حافظ النبي على بناء القبيلة لما فيه من إيجابيات ، منها : أنّها نوع من النظام الاجتماعي الذي يحفظ الإنسان ـ من خلال الانتماء إليه ـ عن حالة الانفلات والخروج عن الرقابة الاجتماعية.

٦٨

المدرسة الهرمونطيقية « قراءة النص »

هذه المدرسة تحمل في طيّاتها فكرة التعدّدية التي تحمله البلوري ألسم ، وهي مدرسة الألسنيات التي تهتم بقراءة النص ، فالنقد الأدبي أخذ يتوسّع بصورة كبيرة ، وعلوم اللغة آخذة في التوسّع في كلّ اللغات ، بشكل علوم متعدّدة ، فعلى سبيل المثال : كانت اللغة العربية مقتصرة على علم المفردات اللغوية وعلم النحو والصرف ثم البلاغة ، ومن الجدير بالذكر أنّ مؤسس علم النحو هو أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، كما ذكر السيد حسن الصدر في كتابه الشريف « تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام » (١) ، أمّا الآن فعلوم اللغة قد توسّعت فأصبحت تضمّ فقه اللغة والاشتقاق وهو علم غير علم الصرف والنحو والنقد ، وغيرها.

وعلم البلاغة ليس مقتصراً على علم اللغة العربية وهو موجود في اللغات الأُخرى ، مثل : اللغة الإنجليزية ، مع أنّ الإنجليزية تنتمي إلى أُسرة لغوية تختلف عن الأُسرة اللغوية التي تنتمي إليها اللغة العربية ، والمعاني في اللغات واحدة ، وإنّما الألفاظ مختلفة ، فلفظة « ماء » في العربية و « آب » في الفارسية و « واتر » في الإنجلزية جميعها تدل على حقيقة واحدة لهذا السائل المعروف.

أمّا كيفية التركيب والدلالة فهي مشتركة بين اللغات ، فالجملة الإسمية يمكن أن تكون في كلّ لغة من اللغات ، وهكذا الجملة الفعلية والفعل والفاعل ...

نشأة النقد الأدبي

النقد الأدبي لا يقتصر على لغة معيّنة ، بل هو يشمل كلّ اللغات ، وقد كان في بداياته يعتمد على تفسير المفردات وبعض التراكيب اللغوية ، ثم أخذ النقد الأدبي بدراسة النص دراسة شاملة تحلّل كلّ حيثيات النص الأدبي ، ودراسة البيئات

__________________

١ ـ تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٤٠.

٦٩

المحيطة بقائل النص ، ومن هذا المنطلق استطاع النقد الأدبي أن يخدم العلوم الأُخرى بصورة واسعة ، واستطاع النقد الأدبي أن يكشف بعض جوانب اللاشعور عند كاتب أو قائل النص ، وهذا التحليل الأدبي شبيهٌ بالتحقيقات الجنائية التي تحاول أن تستفيد بكلّ ما يحيط بالجريمة من أجواء ، كذلك المحلّل الادبي يحاول أن يستفيد بكلّ ما يحيط بالنص من أجواء.

التعمّق في النص الأدبي يوازي التأويل في النص الديني

وهذا النقد الأدبي الذي يعتمد على أُسس وأدلة في الاستنتاجات يوازي تأويل النص الديني ، ونرى أنَّ الجميع يحترم النقد الأدبي حتّى أولئك الذين يتّهمون التشيّع بالباطنية والغنوصية والخرافات والأساطير يحترمون هذا النقد الأدبي العميق ، ونحن فتحنا باب التأويل الذي يعتمد على الموازين الصحيحة لا التأويل القائم على التخرّ صات والكذب.

تطوّر علم الفقه

إنّنا نلاحظ أنّ الفقه بدأ بصورة بدائية فبدأ بصورة بسيطة ، ثم ظهرت محاولات في تبويب الفقه ، ثم استخرج العلماء القواعد الشرعية ، ثم أبواب التضارب أو التعارض وعلاجها في النص الديني ، وتوسّعت الأبواب الفقهية والتحليلات الاستدلالية ، فلم يعد الأمر مقتصراً على الفقه ، بل تعدّاه إلى أُصول الفقه والقواعد الفقهية ، فكلّ هذه الأُمور تبحث في قراءة النص الديني ، فكم هو الفارق بين الفقه في عصوره الأُولى وما عليه الفقه في زماننا هذا ، فلو قارنّا بين كتاب فقهي من القرن الرابع وكتاب منهاج الصالحين للسيد الخوئي ( رحمه الله ) أو تحرير الوسيلة للإمام الخميني ( رحمه الله ) نجد أنّ البون واسع حتّى نمط الاستدلال بين العلماء المعاصرين وبين العلماء المتقدّمين يوجد فيه اختلاف كبير ، فسير الفتاوى وآراء الفقهاء في تحليل

٧٠

القوانين كان بنمط والآن بنمط آخر ، فكان الشهيد الأوّل والشيخ جعفر كاشف الغطاء وغيرهما يحاولون قراءة النص الديني والاستفادة ممّا وراء النص الديني بعد الاستفادة من النص نفسه ، وما ذكرناه في الفقه أيضاً ينطبق على العقائد والمعارف ، ولازالت جهود الاجتهاد متواصلة.

القبول بالتعدّد ليس مطلقاً

المدرسة الهرمونطيقية تقول بتعدّد القراءات فليس لك أن تلغي قراءة من القراءات التي تفهم النص بصورة معيّنة ، وهي تدعو إلى فتح الباب على مصراعية أمام الاجتهاد في فهم النص ، ونحن نقبل بعض ما تطرحه هذه المدرسة ، كما أشرنا في المدرستين السابقتين.

وأمّا إذا كان قبول هذا التعدّد يفرض علينا أن نشكّك بما قد توصّلنا إليه من حقائق على أُسس علمية وعقلية فإنّنا نرفض قبول القراءة الأُخرى ، وهذا ما أثرناه مع مدرسة التعددية « البلوري ألسم » ، وما قلناه من أنّنا نبحث عن الحق المتوزّع عند هذا الطرف أو ذاك في تلك المدرسة ، نقوله أيضاً في الردّ على هذه المدرسة بحيث إنّنا نريد أن نجمع الحقيقة ونحصل عليها كاملة ، وهي في عقيدتنا توجد كاملة عند المعصوم الذي يستطيع قراءة النصوص الدينية بشكل صحيح ، وهو الذي يمتلك الحقيقة عندما وضعه الله في هذا المنصب ، حتّى الفقيه والمرجع مهما وصل إلى درجة عالية فإنّه يبقى دون درجة المعصوم في عقيدتنا ; لأنّ المعصوم له قنواته الخاصة التي لا يمتلكها غيره ولذلك فقد أخطأ من يعتقد أن الشيعة عندما فتحوا باب الاجتهاد فهم تنازلوا عن شرط العصمة والإمامة ، والصحيح أنّ دور الفقيه يأتي بعد وجود المعصوم ، ودور الفقيه ضروري ، وقد نص عليه القرآن الكريم بقوله :

٧١

( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١).

فالفقيه ينهل من الأُسس التي وضعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، وهم الذين عبَّر الله عنهم بأنّهم ( أُوتُوا الْعِلْمَ ) في قوله تعالى ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٢) ، وهذا التعبير لا يشير إلى طلب العلم العادي عند العلماء ، وإنّما يشير إلى العلم اللدنّي الذي عند أهل البيت عليهم‌السلام.

وقوله تعالى :

( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (٣).

فالترتب عند الإمامية يكون هكذا : الأنبياء ثم الأوصياء ثم العلماء ، وهذا ما أشارت إليه هذه الآية من سورة المائدة ، فالنبيّون هم الأنبياء ، والربّانيّون هم الأوصياء ، والأحبار هم العلماء.

فكما أنّ جميع المجهولات الرياضية يمكن حلّها بالأُسس الرياضية الصحيحة ، وعدم حلّ بعض المسائل من قبل بعض الأشخاص لا يعني عدم وجود الحلّ في الأُسس ، فكذا الكلام ينطبق على تغطية الشريعة لكلّ المتغيّرات ، ولذلك عندما يظهر صاحب الزمان ، وهوالذي يمتلك علم تأويل الكتاب وفهم الشريعة بصورة مطلقة ، فهو الذي لديه كنوز العلوم.

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً ) (٤) ،

__________________

١ ـ التوبة (٩) : ١٢٢.

٢ ـ العنكبوت (٢٩) : ٤٩.

٣ ـ المائدة (٥) : ٤٤.

٤ ـ المائدة (٥) : ٣.

٧٢

القران الكريم يثبت أنّ الدين كمل وتمّت النعمة ورضي الرب به ، ولكن من يستطيع فهم النص الديني بأعمق معانية ، ويستخرج منه كلّ الحلول لكلّ القضايا.

وما تذهب إليه مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ليس من الخرافة ، كما يتّهمنا البعض ، بل هو الحقيقة بعينها ، ويظهر الإمام الذي يستطيع أن يسدّ كلّ الثغرات العلمية التي لازالت كثيرة رغم الجهود الجبّارة التي يبذلها العلماء.

والمدارس التي ذكرناها كلّها تشير بصورة أو بأُخرى إلى ضرورة العلم الجمعي والإحاطة بالحقيقة ، وهذا هو هدف البشرية والتي ستصل إليه بواسطة الإمام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ).

حتّى سورة الفاتحة التي نقرأها صباحاً ومساءً فيقول الله تعالى :

( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) (١).

الله تعالى أنعم عليهم بنعمة خاصة وهم أهل البيت عليهم‌السلام الذين طهّرهم دون غيرهم ، قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) ، ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٣).

وهل هناك عائلة أو أُسرة أعطاها الله ما أعطى آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضل والشرف ، وهذا ليس توارث قيصري أو توارث كسروي ، وإنّما هو توارث اصطفائي ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٤).

__________________

١ ـ الفاتحة (١) : ٦ ـ ٧.

٢ ـ الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

٣ ـ الشورى (٤٢) : ٢٣.

٤ ـ آل عمران (٣) : ٣٣ ـ ٣٤.

٧٣

فهذه الذرية مؤهّلة لأن ترتبط بالله ، وهذه الذرية واصطفاؤها ذكرها القرآن ، فلِمَ يستنكر علينا أن نؤمن بأنّ الله اصطفى آل محمّد؟!

إذاً إنّ الذين أنعم الله عليهم دون غيرهم هم أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم عليهم‌السلام الذين ينطبق عليهم قوله تعالى ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) ، فهذا الوصف ينطبق على أهل البيت عليهم‌السلام ، وحتّى بعض الصحابة الكبار من البدريين الذين قاتلوا مع الرسول في بدر نزل فيهم قول الله تعالى ( لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١).

فلولا أنّ الله قد أخذ على نفسه أن لا يعذّب المسلمين ورسول الله فيهم لعذّبهم ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (٢) ، فإذا كان هذا حال البدريين فما حال سائر المسلمين.

والذين كانوا مع رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في معركة أُحد لامهم وغضب عليهم ثمّ عفا عنهم لوجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ، أمّا أهل البيت عليهم‌السلام فلم يغضبوا الله تعالى ، وهذه هي العصمة العملية ، وهذا ما تثبته سورة الفاتحة لأهل البيت عليهم‌السلام ، وليس كما يتّهموننا بأنّ أفكارنا أتى بها عبد الله بن سبأ.

( وَلاَ الضَّالِّينَ ) كيف نهتدي بهداة قد يضلّون عن الحق ، ويخرجون من الإيمان إلى الفسق ولو في بعض الأُمور ، وهؤلاء هم الذين لا تنطبق عليهم العصمة ، وأمّا المعصومون فهم منزّهون عن الخطأ وينطبق عليهم ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ).

__________________

١ ـ الأنفال (٨) : ٦٨.

٢ ـ الأنفال (٨) : ٣٣.

٧٤

فهرس (١)

المقدّمة........................................................................ ١٥

المحاضرة الأولى : الفرق بين الشريعة والدين....................................... ١٧

الدين الإسلامي خالد........................................................... ١٨

المجتمعات العلمانية لم تُطلّق الدين طلاقاً مؤبّداً..................................... ١٨

الدين واحد والشرائع متعدّدة.................................................... ١٩

النسخ يقع في الشرائع ، ولا يقع في العقائد........................................ ٢١

آيات قرآنية تدلّ على أنَّ الدين واحد............................................ ٢٣

الشريعة والدين وقضية الغدير................................................... ٢٤

آية المودّة وقضية الإمامة......................................................... ٢٥

المحاضرة الثانية : المدارس الغربية الحديثة........................................... ٢٧

الأجواء التي نشأت فيها العلمانية................................................. ٢٧

العلمانية « السكولارزم »...................................................... ٢٩

التعددية « البلوري ألسم »..................................................... ٢٩

الهرمونطيقية................................................................... ٣١

الأثر الإيجابي للمدرسة الهرمونطيقية على النقد الأدبي............................... ٣٢

المحاضرة الثالثة : إثارات العلمانيين الغربيين حول الإسلام........................... ٣٥

المحاضرة الرابعة : مناقشة آراء مدرسة التعدّدية « البلوري ألسم »................... ٤٣

٧٥

المحاضرة الخامسة : مناقشة مدرسة العلمانية : « السكولارزم »..................... ٥١

المحاضرة السادسة : الإمام هو الذي يطبّق الشريعة على المتغيّرات..................... ٥٧

مجهولات العلوم وحلولها......................................................... ٥٨

الإمام عنده علم تأويل الكتاب................................................... ٥٨

الغيبة مقابل الظهور ، وليس مقابل الحضور........................................ ٦٠

أهمية الأجهزة السرية........................................................... ٦٠

المتغيّرات كثيرة ، ولكن الشريعة تغطّيها........................................... ٦٣

أهل البيت عليهم‌السلام هم أصحاب العلم اللدنّي....................................... ٦٤

المحاضرة السابعة : مناقشة مدرسة الهرمونطيقية..................................... ٦٧

إشكالات حول القضاء الإسلامي................................................ ٦٧

نشأة النقد الأدبي............................................................... ٦٩

التعمّق في النص الأدبي يوازي التأويل في النص الديني.............................. ٧٠

تطوّر علم الفقه................................................................ ٧٠

القبول بالتعدّد ليس مطلقاً....................................................... ٧١

الفهرس....................................................................... ٧٥

٧٦

(٢)

النهضة الحسينية ومفهوم الإرهاب والسلام

٧٧
٧٨

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

بين يديك عزيزي القارىء مجموعة من المحاضرات المكتوبة ، التي ألقاها سماحة العلاّمة الشيخ محمّد السند في مأتم السمّاكين في المنامة في شهر محرم الحرام عام ١٤٢٣ هـ بعنوان ( النهضة الحسينية ومفهوم الإرهاب والسلام ).

وقد عالج سماحته هذا الملف الساخن ، وبيّن أهداف الذين يرفعون قميص تهمة الأرهاب ضدّ المسلمين ، كما رفع معاوية قميص عثمان ضدّ الإمام علي عليه‌السلام ، واستعرض سماحته الخلفيّات الحقوقية والأخلاقية والعقائدية للقوانين الإلهية والمادية ، ثمّ استعرض العديد من تعريفات الإرهاب التي تتداولها صفحات القانون الدولي وعلّق عليها بالإيجاب والسلب ، وبيَّن بعض النواقص فيها ، وسبب غياب بعض الألفاظ في هذه التعريفات.

كما أنّه بيّن الضابطة الصحيحة في اعتبار الإرهاب جريمة ، وبيّن الفرق بين الإرهاب لردّ العدوان والإرهاب الذي يعتدي على حقوق الآخرين ، مستشهداً بآيات من القرآن الكريم.

كما كان سماحته يطبّق في بحثه تطبيقات على حياة المعصومين عليهم‌السلام ، وتطبيقات أُخرى على الواقع المعاصر وما يدور فيه من ملابسات وإشكاليات حول مفهوم الإرهاب والسلام ، رابطاً ذلك بنهضة سيد الشهداء عليه‌السلام.

٧٩

كما أشار سماحته إلى خطورة التلاعب بالمصطلحات القانونية من أجل خدمة أطماع ومصالح معيّنة.

كما أنّه قارن بين بعض المصطلحات الفقهية والمصطلحات القانونية ، مبيّناً بعض النقاط التي غابت عن فهم المهتمّين بهذا الموضوع.

وفي الختام أشكر الله تعالى أن وفّقني لكتابة هذه المحاضرات ، ثمّ أشكر سماحة الشيخ الذي فتح لي باباً من أبواب العلم التي يحبّها الله ورسوله ، أسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناته ويوفّقه للعلم والعمل الصالح إنّه سميع مجيب.

سيد هاشم سيد حسن الموسوي

١٢ جمادى الأولى ١٤٢٥

٣٠ / ٧ / ٢٠٠٤ م

٨٠