بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

الفحشاء ظاهرة فردية والمنكر ظاهرة اجتماعية

والفحشاء تكون ظاهرة فردية والمنكر ظاهرة اجتماعية ، والظاهرة الفردية هي التي تؤثّر في الظاهرة الاجتماعية حينما تتكرر من هذا الشخص أو ذاك الشخص ، والظواهر الاجتماعية السلبية إذا فشت في المجتمع تدمّره تدميراً ، ويقول الحديث : « كما تكونوا يولّى عليكم » (١) ، فيكون الحاكم هو مجمع جميع المساوىء والسيّئات في ذلك المجتمع.

البغي نتيجة انتشار المنكر

والبغي الذي تذكره الآية يأتي في مرحلة انتشار المنكر ، وانتشار المنكر هو الذي يهيّىء لظهور البغي ، والظاهرة اليزيدية والأموية الظالمة لا يمكن دراستها مقطوعة عمّا حدث قبلها من أحداث هيّئت لأمثال معاوية ويزيد للظهور والسيطرة على مقدّرات المسلمين ، والآية تطرح نوعاً من المعادلات في العلوم الاجتماعية والسياسية ، حيث تبدأ من الفحشاء ، وهي الجانب الفردي من المعصية ، ثمّ المنكر الذي يمثّل الظاهرة الاجتماعية السلبية ، ثمّ البغي الذي يمثّل الانحراف في النظام الحاكم الباغي ، وفي الأوامر الواردة في الآية فإنّ العدل هو الذي يهيّىء للإحسان.

صفات المجتمع السليم : العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى

وتستطيع أن تحكم على المجتمع من خلال الحلقات الايجابية الثلاث ، وهي : العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، أو من خلال الحلقات السلبية الثلاث ، وهي : الفحشاء والمنكر والبغي حتّى تتعرّف على المسار الذي يسير فيه المجتمع.

__________________

١ ـ كنز العمال ٦ : ٣٦ ، الحديث ١٤٩٦٨.

٣٦١

التمزّق الاجتماعي الغربي أخذ يزحف على المجتمع المسلم

والملاحظ أنّ المجتمعات الحديثة يسودها التمزّق ، وهذا التمزّق أخذ يزحف حتّى على المجتمعات الإسلامية ، ولو سألنا آباءنا وأجدادنا عن الترابط الاجتماعي في السابق لوجدنا أنّه كان متقدّماً على ما هو عليه الآن.

القانون الذي لا يستند إلى العدل يعطي الصبغة القانونية للاضطهاد

بعد أن مرّ بنا أنّ العدالة أمر تكويني ، والحقوق ترسو على الأمر التكويني ، والعدالة هي وصول كلّ ذي قابلية للكمال إلى كماله المنشود ، هنا يأتي بحث النظام ، أين موقع النظام العادل في العدالة الاجتماعية؟ هل هو نظام فردي أم أُسري أم جماعي أم يغطّي المجتمعات البشرية؟

ثمّ تأتي منظومة الحقوق ثمّ يأتي التقنين والقانون ، لا قيمة له إلاّ إذا حقق العدالة ، أما إذا لم يحقق العدالة فلا فائدة منه ، وليس هو المدار بل المدار هي العدالة وهي المحور الذي يجب أن يرتكز عليه القانون ، والقانون الذي لا يرتكز على العدالة يعتبر قانون الاستسباع والضيم والاضطهاد وامتصاص الدماء والتمييز ، ويعطي هذا القانون للاضطهاد صبغة قانونية يكون بها مجازاً في المجتمع ، بحيث لا يمكن لأحد أن يعترض عليه.

عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر لا يتناول مباحث التشريع العامّة

وإذا تجاوزنا بحث التقنين والعدالة ، نأتي الآن إلى النظام ، عهد الإمام علي عليه‌السلام إلى مالك الأشتر يمثّل نظاماً وقانوناً إدارياً ، وهو لا يتناول البحث في عموميات العدالة ، فهو ليس كما ورد في الآية الكريمة : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) (١) ، فالعدل في الآية الكريمة أتى بنحو العموم ، بينما عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى مالك الأشتر لا

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٩٠.

٣٦٢

يتناول مباحث التشريعات العامّة ، فبحث النظام له خصائص معيّنة ، ويختلف عن التشريعات العامّة ، وقبل أن ندخل في فقه النظام وارتباطه بالفقه الدستوري والفقه البرلماني أو الفقه الوزاري في الهياكل العصرية الحديثة نأخذ نبذة عن عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر.

نبذة عن رواة عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر

وهو عهد رواه شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسي المدفون في النجف الأشرف ، وقد سُمّي أحد أبواب حرم أمير المؤمنين عليه‌السلام باسمه « باب الشيخ الطوسي » ، وهو الباب الذي يطلّ على مقبرة وادي السلام ، توفّي سنة ٤٦٠ هـ ، وهو من أعلام القرن الخامس ، وكان المرجع الأوّل للطائفة الشيعية ، وكان ثلثا الطائفة الشيعية أو ثلاثة أرباعها يرجعون إليه ، والباقون يرجعون إلى مرجع آخر اسمه « ابن دراج » ، وهو عراقي الأصل ، ولكنّه يقطن الشام ، والشيخ الطوسي هو من الرجال العظماء وهو مؤسس حوزة النجف الأشرف حفظها الله ورعاها ، وحوزة النجف تقضّ مضاجع الكفر العالمي الذي يراها نقطة من نقاط القوّة في الطائفة الشيعية ، وهناك كتاب يعترف بأنّ القوى الكافرة زوّدت النظام الصدامي بأجهزة قمعيّة ، وشجّعته على قمع حوزة النجف الأشرف بصورة خاصة ، والشيعة بصورة عامة ، ولكنّهم لم ينجحوا ، والشيخ الطوسي له مؤلفات كثيرة في الحديث والتفسير ، يذكر الشيخ الطوسي سنداً صحيحاً عند المشهور لعهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر ، وكذلك النجاشي الذي هو أحد رجالات العلم في الطائفة الإمامية أيضاً روى عهد الإمام عليّ عليه‌السلام لمالك الأشتر بطريق آخر صحيح عند المشهور ، ، ورواه الشريف الرضي أخو الشريف المرتضى ، وكانا بدران في سماء الإمامية ، والسيد المرتضى كان أستاذ الشيخ الطوسي ، أمّا السيد الرضي فلم يكن أستاذ

٣٦٣

الشيخ الطوسي ، والسيد الرضي عاش في أواخر القرن الرابع وبدايات القرن الخامس ، وروى هذا العهد في كتاب نهج البلاغة ، ورواه أيضاً ابن أبي شعبة الحرّاني ، الذي كان يعيش في أواسط القرن الرابع المعاصر للشيخ الصدوق من علماء الإمامية في كتابه تحف العقول ، وواقعاً هذا الكتاب اسم على مسمى ، حيث جمع فيه من حكم أهل البيت عليه‌السلام في المجالات المختلفة ، ورواه القاضي النعمان ، وهو من علماء الإمامية ، وكان قاضياً أيام حكم الفاطميين في مصر في القرن الرابع والخامس ، رواه في كتابه دعائم الإسلام ، إذن عهد مالك الأشتر له العديد من المصادر.

كوفي عنان وعهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر

وهذا العهد وصل إلى أذن الأمين العام للأُمم المتحدة ، ولكن لم يكن هذا التوصيل بفعل الإعلام الشيعي إنّما وصل إليه ، كما ينقل بعض الإخوة المتتبّعين عبر زوجته السويدية ، ويقول هذا الأخ : إنّ في السويد يعتمدون في دستورهم في أُمور كثيرة على نهج البلاغة ، فالسويديون لهم صلة ثقافية بنهج البلاغة ، وزوجة كوفي عنان ذكرت له هذه الفقرة من عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر ، وقد ذكرتُ في موضع سابق أنّ هذا العهد لا يتناول مباحث التشريعات عامّة ، وإنّما هو فقه نظمي ، وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة : إنّ هذه العبارة من عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر يجب أن تعلّق على كلّ المؤسسات الحقوقية في العالم ، والعبارة هي : « وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبّة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكوننَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم ، فإنّهم صنفان : إمّا أخٌ لك في الدين ، وإمّا نظير لك في الخلق » (١) ، وهذه العبارة من ضمن المقاطع النظمية القانونية

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، رسائل أمير المؤمنين رقم ٥٣.

٣٦٤

استهوت الأمين العام للأمم المتحدة.

كوفي عنان يدعو لدراسة عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر

وهذه العبارة جعلت كوفي عنان ينادي بأن تدرس الأجهزة الحقوقية والقانونية عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر ، وترشيحه لكي يكون أحد مصادر التشريع للقانون الدولي ، وبعد مداولات استمرّت لمدّة سنتين في الأمم المتحدة صوّتت غالبية دول العالم على كون عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر كأحد مصادر التشريع للقانون الدولي ، وهذا إقرار من البشرية لعملقة أمير المؤمنين عليه‌السلام في القانون بعد مضي أربعة عشر قرناً. وهذا التصويت لم ينجزه العرب ولا المسلمون ولا الشيعة ، بل أنجزه كوفي عنان ، وهو ليس بمسلم ولا عربي ولا شيعي ، وقد تمّ بعد ذلك إضافة فقرات أُخرى من نهج البلاغة غير عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر كمصادر للقانون الدولي. وأحد الأخوة المستبصرين المختص في المحاماة أخبرني بأنّ هناك دراسة في الدكتوراه تنصّ على أنّ عصبة الأمم المتحدة التي شكّلت قبل هيئة الأمم المتحدة ، قد ذكرت أنّ من مصادر التشريع التي تستند إليها هو كتاب نهج البلاغة ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّ هذا أحد معاجز أهل البيت عليهم‌السلام ، وأنّهم بشر متّصلون بالغيب ، وأنّهم مصدر سعادة البشرية ، ولكن للأسف نحن مقصّرون كثيراً في نشر علوم أهل البيت عليهم‌السلام ، كما قال الإمام الرضا عليه‌السلام : « فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا » (١).

البابا يبدي إعجابه بالصحيفة السجادية

السيد مجتبى اللاري ، وهو كبير علماء مدينة « لار » في إيران ، والشخصية

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٥ : ٢٠٧٤ ، الحديث ١٣٧٩٧.

٣٦٥

الأُولى في هذه المدينة ، هذا السيد لديه مؤسسة لنشر مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أُسست منذ أربعين سنة تقريباً ، وأنا على صلة ومعرفة به ، وطريقته في النشر لا تعتمد على نشر الكتب على عامّة أهل البلدان ، بل ينشر كتب أهل البيت عليهم‌السلام للنخب الخاصّة والمختصين ، مثل : الحقوقيين والصحفيين والقضاة والسياسيين وأساتذة الجامعات ، فهو يحاول أن يراسل أمثال هؤلاء ، وفي أحد مراسلاته أرسل رسالة إلى الفاتيكان ، والرسالة موجودة لديه ، أرسل للفاتيكان الصحيفة السجادية مترجمة باللغة الإيطالية ، وقد أتى له الجواب من الفاتيكان مختوم بالختم الرسمي ليس من البابا المعاصر ، وإنّما من أحد الباباوات السابقين ، وأنا قرأت الرسالة عند السيد اللاري ، وعاتبته على عدم نشرها في وسائل الإعلام ، وقد جاء في الرسالة اعتراف أنّ المسيحيين يزعمون أنّهم أئمة الناس في العرفان والروحانيات والأخلاقيات ، ولكن إمامكم السجاد عنده من المعنويات والأخلاقيات ما لا نملك ، وفوق الذي نستوحيه من النبي عيسى عليه‌السلام.

وقس آخر يبدي إعجابه بها أيضاً

وأراني رسالة أُخرى من أحد القضاة الحقوقيين في بريطانيا ، أرسل إليه الصحيفة السجادية باللغة الإنجليزية ، وقد ردّ عليه برسالة ذكر له فيها أنّ القس الذي يشرف على كلّ البرامج الدينية في « بي بي سي » أعجب بها ، وطلب منه نسخة أُخرى ، وقال : إنّه يعتمد عليها في برامجه الدينية.

واجبنا نشر ثقافة أهل البيت عليهم‌السلام

المقصود أنّ كتب أهل البيت عليهم‌السلام لو استطعنا أن نوصلها إلى نخبة الشعوب ومثقّفيها بلغاتهم لينظروا فيها ، لأدّينا جانباً وقسطاً من المسؤولية الملقاة علينا في نشر هذه الأنوار التي بها تتحقق سعادة البشرية.

٣٦٦

ما يوجد في عهد الإمام علي عليه‌السلام ولا يوجد في أدبيات العدالة الدولية

وقبل الخوض في هذا العهد سأبيّن بعض الإمتيازات التي ذكرها أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر ، وحسب استقرائي فإنّ في جملة من البنود يمتاز بها هذا العهد وإلى الآن لا توجد في التنظير الدولي للعدالة ، ولا في أدبيات العدالة الدولية ، وهناك أُمور يرى أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّها مصيريّة وحيويّة ورئيسيّة وإعجازيّة لم يتوصّل لها الغرب إلى الآن ، وهي أُمور تختص بإقامة صرح العدالة في المجتمع البشري سواء في صفات الحاكمين والمسؤولين ، أو في السياسة العامّة لنظام الدولة.

وفي العلاقات الدولية يذكر أمير المؤمنين عليه‌السلام عدّة بنود ، أحدها : يضمن مصير السلم الدولي ، ولا يمكن لغيره أن يحقق السلم الدولي ، ويركّز عليه بصورة شديدة ، ويذكر في موارد أُخرى العلاقات الدولية ، ومشاركة الأُمّة في الحكم ، ونفس هذه النظم نظم إعجازيّة ، انجذبت إليها البشرية.

الفرق بين فقه النظام والتشريعات العامّة

وسنتعرّض إلى البنود الإعجازية في عهد الإمام علي عليه‌السلام إلى مالك الأشتر ، وهنا لا بدّ من ذكر مقدّمة قبل الخوض في عهد مالك الأشتر ، وهذه المقدّمة تدور حول ما معنى فقه النظام؟ وما الفرق بينه وبين التشريعات العامّة؟

والتشريعات العامّة ، تعني : إقمة العدالة أو القصاص أو ما يذكره الفقهاء في الرسائل العملية سواء كانوا فقهاء الإمامية أو فقهاء المذاهب الأُخرى ، وهذه الكتب الفقهية فقه وقانون منتشر ، وكذلك في القانون الوضعي ، فمثلا : كتاب الوسيط الذي يتكوّن من عشرة مجلّدات لمؤلّفه الدكتور عبد الرّزاق السنهورى فقه منتشر ، وكذلك باب المعاملات ، وما يتعلّق بالفقه الجنائي وما شابه ذلك ، سواء

٣٦٧

كان من وضع البشر أم من التشريع الإلهي فهو فقه عام منتشر ، أي : الفقه الذي يتناول أحكام الأُسرة وأحكام الفرد والقوانين العامّة والقانون الجنائي والقصاص ، ولكن هذه الأبواب المختلفة في القانون في التشريعات العامّة كيف تتصل مع بعضها البعض في ظل دائرة منظومة يقام صرحها في المجتمع؟

وبعبارة أُخرى : أحد امتيازات فقه النظام عن فقه التشريعات العامّة أنّه يبيّن آليات وأدوات التطبيق ، وينبغي على الفقيه الدستوري البرلماني ـ سواء كان إسلامياً أو وضعياً ـ أن يعي القوانين العامّة ، ثمّ يعي آليات تطبيق تلك التشريعات ، إذن يوجد الفقه الدستوري وفقه النظم.

يجب أن لا تصطدم القوانين مع بعضها البعض

والفرق الثاني : أنّ الفقه الدستوري يحاول أن يلائم ويوجد الانسجام بين بنود أبواب القانون ، وكيفية الحفاظ عليها ـ مثلا ـ على فقه الأُسرة مع القوانين الأُخرى ، وبين قوانين المعاملات وقوانين المرور ، إذن من المهم أن لا تتصادم القوانين مع بعضها البعض ، وليس فقط أن لا تتصادم أبواب القانون ، بل يدعم هذا الباب ذاك الباب.

إنّ خضوع البشرية لعهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر يعني أنّ الإمام علي لا يعيش عصره فقط ، بل إنّه يلبّي حاجات البشرية جيلا بعد جيل ، وهذا هو فرق المعصوم عن الصحابي والفقيه والمجتهد والسياسي والمحارب والداهية وعن رأي الأكثرية والشورى.

البشرية عاجزة عن تسجيل مؤاخذة في قانون علي عليه‌السلام

المعصوم يذعن له نخبة البشر المختصّين في فقه القانون ، وهو من أصعب العلوم ، ومن المهم الحفاظ على التوازن بحيث لا يكون التقدّم الصناعي على

٣٦٨

حساب تأثّر البيئة الخضراء الزراعية أو البيئة الترابية أو الثروة الحيوانية ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام قبل أربعة عشر قرناً يدوّن بنود الفقه النظمي ، ولا زالت البشرية عاجزة أن تسجّل عليه أيّة مؤاخذة مع تغيّر بيئات البشر وتقاليدهم وطبائع الأرض بعد أربعة عشر قرناً ، أين هؤلاء الذين يكرّرون كلام الحداثيين ـ كما تكرّر الببغاء الكلام ـ عن هذا الفكر الأصيل فليسمعوا ماذا يقول علي بن أبي طالب عليه‌السلام؟! وهذا التصويب في الأمم المتحدة كأنّما هو تجديد لبيعة الغدير.

٣٦٩

المحاضرة التاسعة

الإمام المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف) وفقه التشريعات

محاور المحاضرة :

أوّلا : الفرق بين الفقه النظمي وفقه التشريعات.

ثانياً : مهمّة الفقه النظمي الملائمة بين الثابت والمتغيّر.

ثالثاً : لابدّ من تحديث القوانين.

رابعاً : الكثرة المبالغ فيها لمنظومات النظم سلبية.

خامساً : الإمامة تعني الإدارة والتدبير.

سادساً : ملف ليلة القدر في القرآن الكريم.

سابعاً : معلومات ضخمة تنزل على المهدي من آل محمّد في كلّ سنة.

ثامناً : الإمام المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف) يتصدّى للأمر في غيبته.

تاسعاً : معنى الكتاب المبين في القرآن الكريم.

عاشراً : ليلة القدر برهان على تصدّي المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف).

الفرق بين الفقه النظمي وفقه التشريعات

قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) ، وقال سيد الشهداء عليه‌السلام : « فلعمري ما

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٩٠.

٣٧٠

الإمام إلاّ العامل بالكتاب ، والقائم بالقسط ، والدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذات الله » (١).

مرّ بنا الحديث عن عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر ، وهو كما بيّنا فقه نظام الدولة ، وفقه نظام الدولة يتميّز عن فقه التشريعات العامّة أنّ فقه التشريعات العامّة ترتكز على مبادىء قد تدركها الفطرة ، وتدرك بالنصوص البيّنة المحكمة ، فتكون بيّنة مستبينة ، وأمّا قوانين النظم والأنظمة ، وربّما يعبّر عنها بالفقه الدستوري أو الفقه النظمي والفقه البرلماني أو الفقه الوزاري ، ففيه صعوبة أكثر من فقه التشريعات العامّة ; لأنّ فقه التشريعات العامّة كلّ باب مستقل فيه بنفسه يراعي المصالح المذكورة في ذلك الباب لا غير ، فمثلا : باب الأُسرة يراعي مصالح الأُسرة ، وباب المعاملات يراعي المعاملات ، وباب الجنايات على حدة ، والقضاء على حدة ، والجهاد على حدّة ، والعبادات على حدة ، وباب الاجتهاد والتقليد والمصادر الدينية على حدة ، أمّا التلاحم والتنسيق والملائمة بين هذه الأبواب فهو من اختصاص فقه النظم والفقه الدستوري ، حيث يبحث في كيفية تطبيق الأبواب بحيث لا تتصادم مع بعضها البعض ، ولا تتزاحم مع بعضها البعض.

مهمّة الفقه النظمي الملائمة بين الثابت والمتغيّر

والفقه النظمي ينطوي على تعقيدات وصعوبات ، وهو يلاحظ الأهداف التي يهدف إليها التشريع العام مع متغيّرات البيئة التي تختلف من مكان إلى مكان ، ومن زمان إلى زمان ، ومهمّته الملائمة بين الثابت والمتغيّر بحيث لا يجرفه المتغيّر بنحو مطلق ، كما لا يعكف بنظره إلى الثابت على نحو مطلق في ضمن مصاديق تقليدية قديمة ، وكيف ترسو العدالة في ضمن متغيّرات مختلفة ، وضمن طبائع مختلفة

__________________

١ ـ الإرشاد ٢ : ٣٩.

٣٧١

بحسب تغيّر البيئات ، إنّما طبيعة العدالة سارية ومنتشرة تتبادل أشكال وهياكل مختلفة على مرّ الأزمان ، وحينئذ يجب أن يكون المقنّن في وعي تام لكي يحيط بالبيئات المختلفة ، فمثلا : هناك العديد من البيئات : بيئة المرور وبيئة المعاملات المالية النقدية وبيئة المصالح وبيئة الأمن والبيئة العسكرية والبيئة السياسية وبيئة رقابة الأُمّة ، وينبغي على القانون النظمي والمقنن النظمي أن لا يقع في الجمود الذي يجعله غير مؤهّل للتعامل مع البيئات المختلفة ، وسيفقد هدفه حينئذ.

لابدّ من تحديث القوانين

قضية التحديث في القوانين وهيكلتها من جديد لابدّ أن تخضع إلى دراسة ومدارسة من خلال مراكز الدراسات والبحوث المتخصّصة ، لماذا؟ لأنّ القانون ربّما صدر في زمن يختلف عن الزمن الحالي أو في بيئة مكانية تختلف عن البيئة المكانية المراد إصدار القانون لها ، وعلوم الإدارة تشعّبت إلى تخصّصات متعدّدة ، وهي من أعقد العلوم.

الكثرة المبالغ فيها لمنظومات النظم سلبية

وكما يقولون : في أمريكا مليون وأربعمائة منظومة نظام إداري بحسب بعض مراكز الدراسات ، وهم يعترفون أنّ هذه الحالة ليست حالة إيجابية ، ويقولون : إنّ الدولة النموذجية ينبغي أن تحتوي على مائة وأربعين منظومة نظام ، وتعني بمنظومة النظام ، مثل : النظام القضائي ونظام الاتصالات ونظام المرور والنظام المصرفي ونظام البلديات ونظام المجالس ، وهذا التعقيد وهذا التضخّم في منظومة الأنظمة ظاهره رونقٌ وتطوّر ، ولكن باطنه لا ينمّ عن ذلك ، وهذه الكثرة تؤدّي إلى قابلية الانكسار والتصادم بصورة أكبر ممّا لو كان عدد المنظومات أقل ، فمثلا : من جهة العلوم الاستراتيجية فإنّ منظومة الأنظمة الأمريكية من أسهل المنظومات

٣٧٢

القابلة للاصطدام والتفكّك ، فلو توقّفت الكهرباء عن العمل لمدّة ساعات معدودة يزيد معدّل الجريمة بصورة مذهلة.

الإرباك الإداري في مواجهة درجات الحرارة المرتفعة

وفي فرنسا عندما تشتدّ درجات الحرارة يكون عندهم نقصاً إدارياً في تجهيز ودفن الموتى ، وفي الصين عندما تشتدّ درجات الحرارة ، تقف الصين عاجزة ، وهي من الدول العظمى في مواجهة هذه الموجة من الحرارة ، فهذه الأنظمة ما إن تعتورها حالة طارئة جديدة حتّى تتعرّض إلى الخلل والنقص في الأداء الإداري لمعالجة الأزمات الطارئة ، وهذه من العقد التي تواجه التشريعات التي ترسم النظم في الدول الحديثة في التشريعات الوزارية والتشريعات البرلمانية.

الإمامة تعني الإدارة والتدبير

البحث إذن معقّد ، وهذا البحث إنّما يصلح بالإمامة كما تطرحها مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، والإمامة تعني الإدارة والتدبير ، واعترف البشرية أنّ نظام الإدارة والتدبير من أعقد النظم ، وتطوّر مدنيّة أيّ شعب رهين بفعالية ونشاط ورقي النظام الإداري ، والشغل الشاغل للدول تطوير الإدارة ، والإدارة تعني القيادة والتدبير ، ولفظ الإدارة كمصطلح جديد يرادف مفهوم الإمامة في المصطلح الديني.

إعجاز علمي في عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر

وفي ظل كلّ هذا التعقيد ، هم يرشّحون عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر لذلك ، وهذا يعني فيما يعنيه إعجاز علمي في عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر ، كما سنبيّن ونقرأ منه فقرات ، وهنا نسأل هل نظرية الإمامة عند أهل البيت عليهم‌السلام تؤمّن هذا الأمر ، وهل بيّنت هذا الأمر؟ نعم ، بيّنته من خلال ترسانة من

٣٧٣

المعلومات ، ولكن بلغة قد لا نلتفت إليها ، ولو ترجمناها إلى اللغة الحديثة لتبيّن لنا هذا الأمر.

السقوط الخلقي يكلّف الدولة كثيراً من الطاقات والأموال

وفي أمريكا أربعة ملايين مدمن على المخدّرات يشغلون ثمانية ملايين فرد من موظفي الدولة يلزمهم مراعاة أولئك المدمنين ، انظر إلى هذا التضخّم الإداري بسبب عدم الالتزام الخلقي ، ولو كان الالتزام الأخلاقي موجوداً لوفّر على الدولة الكثير من الطاقات والنظم الإدارية.

ملف ليلة القدر في القرآن الكريم

وفي القرآن الكريم إشارات تشير إلى النظام الإلهي الذي يطبّقه أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكننا قد غفلنا عمّا يشير إليه القرآن الكريم ، ففي القرآن الكريم هناك ملف ليلة القدر ، والقدر هو التقدير والتدبير ، ومن أسماء ليلة القدر ليلة التدبير ، القدر هو التحديد والتأطير والبرمجة ، وأنّ ليلة القدر حسب روايات الفريقين منذ عهد آدم عليه‌السلام لا بدّ أن تكون مع خليفة الله في الأرض ، وماذا يحدث في ليلة القدر؟ تتنزّل في ليلة القدر إحصائيات وملفّات علمية لا تتخلّف عن الواقع إلى ليلة القدر في العام القادم ، حيث تتحدّد جميع الآجال ، وإحصائيات الأموات ، وأيّ دولة ستكون أكثر من ناحية عدد الموتى؟ والشرائح التي سيصيبها الموت؟ ومقدار الزيادة البشرية في العدد من حيث المواليد بشكل دقيق ، في كلّ بلد ومدينة.

معلومات ضخمة تنزل على المهدي من آل محمّد (عجّل اللّه فرجه الشريف) في كلّ سنة

هذه المعلومات الضخمة تنزل في كلّ عام على المهدي من آل محمّد عجّل الله

٣٧٤

فرجه الشريف الأرزاق ، الرخاء ، الإنعاش الاقتصادي والزراعي والصناعي والحروب والسلم وغير ذلك ، كلّه ينزل بالدّقة على صاحب ليلة القدر لا على أحد آخر ، ولا تنزل في ليلة القدر معلومات عن الظواهر العامّة فقط ، بل حتّى الظواهر الخاصّة ، يعني : ملف كلّ شخص ينزل على صاحب الأمر من ناحية الصحة والمرض وما سيجري عليه بالدّقة ، والدول الحديثة لم تصل إلى هذه المعلومات ، ولا تدري ما الفائدة والثمرة منها؟ فضلا عمّا سيجري على عامّة المجتمع ، وما يجري بين البلدان والهواء والطقس والحيوانات والبيئة وغير ذلك ، وهذه الروايات موجودة في طرق العامّة ، وفي طرق مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (١).

الإدارة هي الشغل الشاغل للبشرية

الآن الشغل الشاغل للبشرية هو الإدارة والتدبير ، والآية تقول : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (٢) ; لأنّ ليلة القدر عظيمة ، حيث تحتوي على برمجة لتقادير البشر ، وتعيين ورسم السياسة ، وتقول : ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر ) (٣) ; لأنّ نجاة البشرية في ليلة القدر.

القوّة الإدارية تكمن في الخفاء والسرّية

والإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف ليس في جزيرة خضراء ـ كما يقال ـ أو جزيرة حمراء أو زرقاء ; لأنّ الغيبة في مقابل الظهور ، وليست الغيبة في مقابل الحضور ، بمعنى أنّ حركة الإمام الحجّة موجودة ، ولكنها تتصف بالخفاء والسرّية ،

__________________

١ ـ القدر (٩٧) : ١ ـ ٢.

٢ ـ القدر (٩٧) : ٢.

٣ ـ القدر (٩٧) : ٣.

٣٧٥

وسنبيّن أنّ في العلوم الاستراتيجية تكون البرامج الإدارية والسياسات والتخطيطات عنصر قوّتها في الخفاء والسرّية.

الإمامة هي الشغل الشاغل لمدرسة أهل البيت عليهم‌السلام

وهذه هي عقائد أهل البيت عليهم‌السلام وقد عادت البشرية لتطابق هذه العقائد ، أليس هذا من الإعجاز العلمي لهذه المدرسة؟ الشغل الشاغل عند مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام هو الإمامة ، أي : التدبير والإدارة ، وهي سرّ سعادة البشرية.

الإمام هو المدبّر الكفؤ

والإمام هو المدبّر والمدير الكفؤ للبشرية ، قال تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً ) (١) ، أوّل يافطة لوجود البشر ، ولإسعاد البشر في الدارين ، وفي النشآت المختلفة هو وجود الخليفة ; لأنّ محور سعادة البشر هي الإدارة والتدبير : ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) (٢).

البشر الآن يركّزون على مراكز المعلومات وجمع المعلومات ، الآن يبحثون في علم الجينات للوصول إلى النوعيّة الجيّدة من البشرية ، وهذه من ضمن المعلومات التي يحاولون الاستفادة منها ، انظر إلى الروايات الواردة في ليلة القدر حتّى في تفاسير أهل السنة في سورة القدر وسورة الدخان ، قال تعالى : ( تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر ) (٣) لاحظ قوله تعالى : ( كُلِّ أمْر ) ، وماذا يصنع الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف بهذه الملفّات النازلة؟ هل يتفرّج عليها؟ وهل تنزل عبثاً واعتباطاً في كلّ عام؟

__________________

١ ـ البقرة (٢) : ٣٠.

٢ ـ البقرة (٢) : ٣٠.

٣ ـ القدر (٩٧) : ٤.

٣٧٦

الإمام المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف) يتصدّى للأمر في غيبته

وهذه من أبجديات عقائد الشيعة ، ومع هذا تصدر بعض الكتابات للأسف حتّى من الحوزة العلمية ، تقول : « إنّ الإمام الحجّة (عجّل اللّه فرجه الشريف) ليس متصدّياً ، وهذه الإحصائيات الكبيرة المهولة التي لا تمتلكها أيّ دولة من الدول ، وإحصائياتهم تخفق ولا تصيب الواقع ، ولا تستقصي الواقع ، والكثير من المجهولات يسعون للحصول عليها بطرق مختلفة وقنوات مختلفة ولا يحصلون عليها ، وكلّها تنزل على مهدي آل محمّد عجل الله فرجه الشريف ، فماذا يصنع بها؟ قال الله تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِي ) (١) ، والملائكة هي مخلوقات عالمة تنزل بالمعلومات ، وهم رسل المعلومات ، وموجودات حيّة شاعرة تحمل العلم ، والروح الأعظم من عالم الأمر ، أي : الملكوت ، ولم يقل على من يشاء من رسله أو أنبيائه ، وإنّما قال : من عباده للدلالة على أنّ الملائكة تنزل على غير الأنبياء وهم الأئمة ، والملائكة لا ينزلون ليلة القدر إلاّ على منزل له ، ولا ينزلون اعتباطاً ، وقوله تعالى : ( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ، أي : أنّ الملائكة تنزل على من اصطفى الله من عباده ، ومن شاء الله أن يكون مصطفى من بين الخلق ، فهل الملائكة ينزلون اعتباطاً بلا فائدة ليلة القدر؟! والإمام هو مخزن هذه المعلومات التي يتلقاها ليلة القدر ، وهو الذي ترسل إليه المعلومات ، وبإجماع المسلمين أنّ ليلة القدر لن تنقطع إلى قيام الساعة فمن الذي تتنزل عليه الملائكة؟ وهي ليلة المعلومات وليلة النظم وليلة التدبير لكلّ سنة ، فماذا يقال عن ليلة القدر؟ أيقال إنّها نزعة باطنية؟! إنّها ليست نزعة باطنية.

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٢.

٣٧٧

الإمام الحجّة يدير الأُمور في الخفاء

حيث إنّ في عقيدة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ العالم يحتاج في كلّ عام إلى تدبير ، والغيبة من العقائد التي يجب أن نعيها ، فالإمام حاضر ، والغيبة في مقابل الظهور وليست الغيبة في مقابل الحضور ، فهو (عجّل اللّه فرجه الشريف) عندما يظهر يقول كثير من الناس إنّنا كنّا نراه ولكنّنا لم نكن نعرفه ، فهو حاضر في كبد الحدث ، ويدير الشبكات من الأبدال والأركان والأوتاد والنقباء ، لا الدجالين من مدعي السفارة ، بل هؤلاء عملاء الدوائر الغربية ; لأن طبيعة السرّية تخالف ما يدّعيه أهل السفارة ; لأنّ العضو السري يبقى عضواً سرّياً مخفياً لا يكشف نفسه أبداً ، وفي الأجهزة السرّية عندما تشعر بانكشاف سرّ من أسرارها من قبل شخص مّا فإنّها تصفيه وتقتله حتّى لا يكشف أسرارها ، وادّعاء السفارة هو عين الجرأة على الساحة الربوبية ، لذلك فإنّ فقهاء الشيعة الإمامية يكفّرون من يدّعي السفارة ; لأنّه ينتهك أمن البشر.

الخضر ليس نبياً ولا رسولا

الذي جرى بين الخضر عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام في سورة الكهف كلّها أُمور رمزية ، وذلك يعني وجود عنصر إلهي أمني خفي ، حتّى استغرب موسى عليه‌السلام من التدابير التي قام بها الخضر : ( فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) (١) ، هذا بالنسبة للخضر عليه‌السلام ، فهو ليس نبياً ولا رسولا ، وإنّما عبداً عنده علم لدنّي ، وكلّ فعل من أفعاله مؤثّر في النظام الاجتماعي ، فقتل ذلك الشاب مؤثّر وإلاّ كان سيقضي على سبعين نبياً (٢) ، وكلّنا يمكن أن يتصوّر ماذا يمكن أن يحمله

__________________

١ ـ الكهف (١٨) : ٦٥.

٢ ـ تفسير نور الثقلين ٣ : ٢٨٣ ، الحديث ١٥٨.

٣٧٨

سبعون نبياً من التراث الحضاري للبشرية ، ولو لم يكن الإمام الحجّة ( عجل الله فرجه ) موجوداً لانتشرت الأوبئة والكوارث والأمراض (١).

البشر يقدمون على تجربة معيّنة دون أن يعرفوا عواقبها ، كالطفل الذي يعبث بالمتفجّرات ، ولولا هذا الذي ينزل في ليلة القدر ، ويزوّد به تدبير المهدي ( عجّل الله فرجه ) لكان العالم ليس كما هو الآن ، ونلاحظ كم عانت البشرية من أمراض السارس والإيدز ، ولولم يحفظهم ( عجل الله فرجه ) لما بقوا ، فهو له الفضل على البشر كما أراد الله.

الخلفاء الاثنا عشر

علماؤنا شكر الله سعيهم بحثوا مباحث لطيفة في حديث الخلفاء الاثنا عشر ، قال : جابر بن سمرة : » سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « يكون اثنا عشر أميراً. فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه قال : كلهم من قريش » (٢).

وقد ورد بصيغة أُخرى ، عن عبد الله بن مسعود الصحابي المعروف أنّه قال : « ولقد سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » ، فقال : « إثنا عشر ، كعدّة نقباء بني إسرائيل » (٣). نعم ، علماؤنا درسوا أسانيد هذه الأحاديث عند العامّة ، ولكن قلّما رأيت من توقّف عند الحديث القائل : « لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » (٤).

معنى الكتاب المبين في القرآن الكريم

وقال تعالى : ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ *

__________________

١ ـ كمال الدين وتمام النعمة ١ : باب العلة التي من أجلها يحتاج إلى الإمام عليه‌السلام.

٢ ـ صحيح البخاري ٤ : ٣٩٨ ، الحديث ٧٢٢٢ ، ٧٢٢٣ ، كتاب الاحكام ، باب ٥٢.

٣ ـ مسند أحمد ٦ : ٣٢١ ، الحديث ٣٧٨١ ، مسند عبد الله بن مسعود.

٤ ـ صحيح مسلم ٣ : ١١٥ ، الحديث ٧ و ٨ ، كتاب الامارة ، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش.

٣٧٩

فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (١) ، يفرق ، أي : يبرمج. ويدبّر ، الكتاب المبين ليس وصفاً للمصحف الشريف والقرآن الكريم بل الكتاب المبين وصف لوجود ملكوتي علوي ، وفي آية أُخرى ( وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين ) (٢) ، وهذا ليس المصحف حتّى يقول القائل حسبنا كتاب الله (٣) ، وقال تعالى : ( وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (٤) ، الكتاب المذكور ليس المصحف الشريف والقرآن الكريم ، وإنّما هو الكتاب المبين ، وفي سورة الواقعة : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (٥) ، فلا يصل إليه الفقيه ولا المرجع ولا السياسي وقوله ( كريم ) وصف للقرآن في وجوده الملكوتي ، وهذه الآية من سورة الواقعة تتحدّث عن الثقلين ، وفي سورة البروج : ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ ) (٦) ، ولوح محفوظ نفس وحقيقة كتاب الكريم ، وقال تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين ) (٧).

ليلة القدر برهان على تصدّي المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف)

وليلة القدر نفسها برهان على أنّ المهدي عجل الله فرجه الشريف هو المتصدّي

__________________

١ ـ الدخان (٤٤) : ١ ـ ٦.

٢ ـ النمل (٢٧) : ٧٥.

٣ ـ صحيح البخاري ٤ : ١٠ ، الحديث ٥٦٦٩ ، كتاب المرضى ، باب قول المريض قوموا عنّي.

٤ ـ الأنعام (٦) : ٣٨.

٥ ـ الواقعة (٥٦) : ٧٧ ـ ٧٩.

٦ ـ البروج (٨٥) : ٢١ ـ ٢٢.

٧ ـ الأنعام (٦) : ٥٩.

٣٨٠