بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

هل يخضع النظام لرأي الأكثرية؟

أمّا المدرسة الإنسانية فتقول : إنّ مجموع المجتمع البشري له استحقاقات معيّنة ، والمدرسة الإنسانية تنقسم إلى المذاهب ، وهي تنطلق من إنسانية الإنسان لا من قدرته وإمكانيّاته ، وهي تنطلق من إدراكات الإنسان وشهواته وغرائزه ، فإذا كانت الأكثرية قد أرادت الإباحيّة الجنسية فحينئذ تصحّ وتشرع الإباحيّة الجنسية ، وإذا كانت الأكثرية تريد نظاماً مالياً معيّناً أو نظاماً خلقيّاً معيّناً أو نظاماً قانونياً معيّناً فيجب إقرار هذا النظام ، وهي تعتمد على نفوذ رأي الأغلبية ، والليبرالية مدرسة تربّت في أحضان المدرسة الإنسانية.

لابدّ من مراجعة الرؤية الكونية للمدارس الحقوقية والسياسية

يجب علينا حينما نريد أن نفهم المدارس الحقوقية والسياسية والقانونية أن نراجع أُسسها الفلسفية ، أو أُسسها في الرؤية الكونية أو الرؤية الأخلاقية ، وإلاّ فسيكون الحوار والتجاذب العلمي معها عقيماً ; لأنّك إذا فهمت الأُسس استطعت أن تفهم الاستحقاقات التي تطرحها هذه المدرسة أو تلك ، فلابدّ من الرجوع إلى الأُسس.

هل يجب إخضاع القانون للأخلاق؟

هناك جدل قديم وحديث يدور حول : « هل هناك مبادىء أخلاقية يجب أن تحكم القانون أو لا؟ وما هي الأخلاق ، هل الأخلاق لها ثوابت ، ولها مبادىء ، ولها محاور مقدّسة؟ ».

المدارس السماويّة تنظر إلى الأخلاق على أنّ لها قدسيّة خاصّة ، بينما المدارس الأُخرى الوضعيّة لا تنظر إلى الأخلاق على أنّ لها قدسيّة خاصّة ، وعندها فهي لا تقبل أن تحكّم الأخلاق على القوانين والمبادىء الحقوقية وتعتبر

٣٤١

أن ليس في الأخلاق مبدأ مقدّس ، وتعتبر الأخلاق وسيلة آليّة تعامليّة ، وتعتبرها عناصر إدارية.

هل العدالة أمر حقيقي أم اعتباري؟

وهذا يبتني على نفي وجود الحسن والقبح أو المدح والذم ، وأنّ هذه الأُمور مصطنعة في المجتمعات تتبدّل عندما تتبدّل الثقافة في المجتمع.

وقول سيد الشهداء عليه‌السلام : « إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً » (١) ، يعتبر أنّ الحياة مع الظالمين تمثّل برماً ثابتاً ، وأنّ هذا مبدأ مقدّس لا يتغيّر ، وأخلاقية ثابتة لا تتغيّر بتغيّر المجتمع ، فالظلم هو الظلم.

لا محوريّة للعدالة في المبادىء الغربية

الغربيون ليس لديهم مبادىء أخلاقية ثابتة ، وإنّما الغاية عندهم هي الوصول إلى المصلحة ، وهذا كلّه ناتج من عدم محوريّة العدالة عندهم ، فإذا وجد الإنتاج الاقتصادي والرفاهية المادية ، فلن يكون السقوط والانحدار الأخلاقي مشكلة في المجتمع كما يعتقدون.

فإذا اختارت البشرية هذا المسار فلن يكتب العدل ، ولن يتحقق لها ، بل سيولد العديد من الفراعنة الجدد ، إذن لكي نناقش هذه المدارس لابدّ من إثبات مقدّمة علمية ، وهي أنّ العدالة أمر حقيقي واقعي ، وليس وجودها وجوداً اعتبارياً أدبياً كما يزعمون ، ولن تستقر العدالة إلاّ بهدم الأصنام البشرية من أمثال هتلر وصدام وموسيليني الذين لا يمكن لأحد أن ينكر واقعية ظلمهم ، وأنّ البشرية قد لاقت الويلات على أيديهم ، والمعاناة التي يعيشها الفقراء والمحرومون أيضاً لا يمكن

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٤ : ١٥١٥ ، الحديث ٩٧٨٥.

٣٤٢

أن ينكر أحد واقعيتها ، والجرائم الأخلاقية لا يمكن لأحد أن ينكر واقعيتها ، وتأثيرها السلبي على المجتمع.

العبودية لله تؤسس للعدالة

يجب علينا أن نثبت أنّ مالك الملوك ذا الحق المطلق هو الله عزّ وجلّ سواء في النظام الإسلامي أو في تعامل أصحاب الأديان الأُخرى مع الله تعالى ، كما في الآية الكريمة : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (١) ، والتشريع الدولي والعلاقات الدولية ، وكلّ العلاقات الأُخرى لابدّ أن تبنى على هذا الأصل ، أمّا إطلاق الحريات بشكل متحرّر من العبودية لله تعالى فهو يمثّل استعباد البشر لبعضهم البعض ، والعودة إلى أزمنة التخلّف البشري والعصور الوسطى ، ولكن بأشكال جديدة ، أمّا العبودية لله فإنّها تضمن كون البشر سواسية أمام الله تعالى.

مفهوم الفيء

أمّا الثروات فمصرفها للمحرومين ، وتدبيرها هو كما قالت الآية : ( مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٢) ، والفيء في الاصطلاح الإسلامي هو كلّ الثروات الأرضية ، وهذه الآية هي من الآيات المحكمة العظيمة.

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ٦٤.

٢ ـ الحشر (٥٩) : ٧.

٣٤٣

إنّي جاعل في الأرض خليفة

الله خلق الكون ، وجعل خليفة الله على الكون هو الشخص المصطفى ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (١) ، والملائكة موجود علمي ، وأوّل من انطبق عليه وصف الخليفة هو آدم عليه‌السلام ، وتساؤل الملائكة عمّا قالوا عنه أنّه يفسد فيها ويسفك الدماء يطابق المدرسة الذاتية التي تكلّمنا عنها ، والتي يكون من نتائجها الفساد سواء كان فساداً مالياً أو خلقيّاً أو صحيّاً : ( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ، أي : إنّ هذا الخليفة مقدّر له أن يصلح الأرض ، وهذا الخليفة هو آدم ومن بعده من الأنبياء والرسل إلى خاتم الأنبياء ، ومن الإمام علي عليه‌السلام إلى الإمام الحجّة (عجّل اللّه فرجه الشريف) ، ولولا هؤلاء الخلفاء لكتب الدمار للبشرية ، ولعاشت البشرية الدمار على الصعيد البيئي والترابي والهوائي والصحي وغيرها.

الخليفة هو الشخص المصطفى من الله

وذلك لأنّ هؤلاء مدبّرون ، ولو رفعوا أيديهم عن تدبير البشرية في مجالات عديدة لكتب على البشرية ما تنبّأت به الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ، وبالتالي فإنّ الباري تعالى يقول : إنّ هذه الأرض استخلفت فيها الشخص المصطفى من الخلق ، والله هو مالك الملوك ، وهو الذي قال عن نفسه : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٢) ، فالذي يصلح لتدبير البشرية ، والذي يتحلّى بكافّة المواصفات والمؤهّلات إنّما هو الخليفة.

__________________

١ ـ البقرة (٢) : ٣٠.

٢ ـ الملك (٦٧) : ١٤.

٣٤٤

لابدّ من رجوع الفيء إلى مدبّره الصحيح

قال تعالى : ( وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْل وَلاَ رِكَاب وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ) (١) ، الكفّار قد يمتلكون الطاقات ، والمسلمون عندما يمتلكون هذه الطاقات من خلال الفيء ، فإنّ هذه الطاقات إنّما ترجع إلى نصابها الصحيح ، وإلى المدبّر الصحيح الذي يرتضيه الله تعالى.

مفهوم أهل القرى في القرآن الكريم

قال تعالى : ( مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٢) ، والقرى في جملة من الآيات ، تعني : المدن ، فلِمَ يُسمي القرآن أهل المدن بأهل القرى؟ فاليهود المعاصرون للنبي من الناحية المادية متطوّرون على العرب بدرجات كثيرة ، وكانوا متقدّمين من حيث الكتابة والقراءة ، بينما العرب كانوا متخلّفين ، مع ذلك القرآن الكريم يسمي مناطقهم قرى ولا يسمّيها مدن ; لأنّ القرآن يعتبر أنّ المدنية تتمثّل في الإقرار بأنّ مالك الملوك هو الله تعالى ، فالشخص الذي يقر بأنّ مالك الملوك هو الله يعتبر شخصاً متمدّناً ، والعلوم أسلحة وقدرات فإذا لم تهذّب بالالتزام الخلقي فإنّها ستكون أسلحة فتّاكة تورث الجحيم للبشرية ، أمّا إذا هذّبت بالالتزام الخلقي فسوف توفّر النعيم للبشرية.

__________________

١ ـ الحشر (٥٩) : ٦.

٢ ـ الحشر (٥٩) : ٧.

٣٤٥

الاحتكار ونشر الأمراض الجنسية من مصاديق الإفساد في الأرض

ويصل الإنسان إلى إحراق المواد الغذائية حتّى لا ينزل سعرها في السوق ، فبدل أن يعمل هؤلاء على إخراج كنوز الله من أرضه ، يعملون على إبادة المحاصيل الزراعية ، كلّ ذلك من أجل السيطرة والاحتكار ، وهذا من مصاديق الإفساد في الأرض ، فالقرآن يقول : إنّ الذي لا يؤمن بالله هو إنسان قروي وإن كان في ظاهره متمدّناً ، بينما ذلك الذي يعيش حياة بسيطة مسالماً طيّباً يؤمن أنّ للناس حقوقاً ولله حقوقاً ، ويحافظ على حرمة دماء الناس ، فهذا الإنسان إنسان مدني في منطق القرآن ، حتّى ولو كان يسكن في الصحراء أو في القرى التي لا تعرف التطوّر المدني ، وهذه المدنية التي يعطيها القرآن لهذا الشخص تنطلق من إرادته التي يريد بها للبشرية الخير والاطمئنان والسلام ، أمّا ذلك الذي يعمل على نشر مرض الإيدز والأمراض الأُخرى التي تنشأ من معصية الله تعالى ، فهل هذا يصح عليه لفظ مدني؟! وهل يمكن أن يساهم في تطوّر البشرية ، وهو من المفسدين في الأرض؟!

خليفة الله يد الله ، وعين الله ، ووجه الله في الأرض

إذن منطق الله في القرآن يتّجه إلى أنّ الفيء والثروات هي لله في الأصل وللرسل الذين هم خلفاء الله في الأرض ، وهذا الخليفة يكون يد الله في الأرض ، وعين الله في الأرض ، ووجه الله في الأرض ، فعزرائيل يتوفّى الأنفس ، والله يسند هذا الفعل لنفسه فيقول تعالى : ( اللهُ يَتَوَفَّى الاَْنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُْخْرَى إِلَى أَجَل مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ) (١) ، وقال في آية أُخرى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ

__________________

١ ـ الزمر (٣٩) : ٤٢.

٣٤٦

إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (١) ، لو كانت الثروات الإنسانية عند أهل البيت عليهم‌السلام لوزّعوها بالعدل ، ولما وجدت هذه المجاعات والمآسي ، وعندما كانت عند أولئك الذين لا يؤمنون بالله فإنّهم قرويّون وليسوا متمدّنين ، بل يمثّلون خطراً على البشرية ; لأنّ الذي لا يؤمن بالله فلن يكون له مبدأ يجعله يتورّع عن إثاره الحروب وقتل الشعوب وهدم الأُسر وإفشاء الفساد ، ولن يتوقّف عن نشر المخدّرات والدعوة إلى الإباحية الجنسية مادام ذلك يخدم مصالحه ، والإحصائيات حول بيع الفتيات الصغيرات من أوربا الشرقية إلى أوربا الغربية ، وفي الدول الكبيرة إحصائيات رهيبة ، وهذا لا يكون بمباركة قانون مدوّن ، ولكنّه عرف وواقع يعيشه العالم الغربي اليوم ، أليس هذا هو الاستعباد بعينه؟!

تساؤلات حول العدالة والسعادة والرفاه

هناك جدل قائم الآن حول هل أنّ العدالة هي السعادة والرفاه والتنمية أم أنّ العدالة تعني أُموراً أُخرى؟ وهل التنمية تتمثّل في العلم الذي يجعل الإنسان يكتنز من الأموال أكثر؟ وهل الرفاه يقتصر على دول العالم المتقدّم أم دول العالم الثالث؟ وهل الطاقة النووية حق للعالم المتقدّم وحرام على العالم الثالث؟

المقصود من ( ولذي القربى )

المقصود بذي القربى في الآية الكريمة هو المعصوم الذي لا يجهل ، والذي هو الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف الغائب غيبة في مقابل الظهور ، وليس غيبة في مقابل الحضور ، فلا يصح أن نقول غائب وسيحضر ، وإنّما غائب وسيظهر ، أي : أنّه حاضر ولكنّه ليس مكشوفاً ، وأمّا دعوة السفارة فإنّها دعوات تنطلق من أجهزة المخابرات البريطانية.

__________________

١ ـ السجدة (٣٢) : ١١.

٣٤٧

الإمام المهدي ( عجّل الله فرجه ) يتصدّى لأُمور المسلمين في غيبته ، ولكن في الخفاء

فهو غائب ، وسينكشف دوره في البشرية عند الظهور ، ومن الخطأ أن نعتقد أنّ الغيبة بمعنى الزوال ، أو أنّه يعيش بعيداً في جزيرة خضراء أو حمراء ، فهو غائب بمعنى أنّه متستّر ومتخفّي ، لا أنّه غائب بمعنى أنّه غير متصدّ أو أنّه متفرّج على ما يحصل ، وهناك حتّى في التراث الشيعي بعض المفاهيم المغلوطة ، فهناك من يقول : إنّ عليّاً كان لمدّة خمس وعشرين سنة جليس البيت ، وهذا خطأ ، هم أزاحوه وأبعدوه عن منصبه الذي نصّبه الله فيه ، ولكن كان له دوره.

أهمية الحكم السرّي في مجريات الأُمور

وليس الدور كلّ الدور في الحكم الظاهري ، اليوم مجريات الأُمور الحقيقية وخباياها لا تكشف في الأخبار ، المعادلات التي تدير البشر غير معلنة ، ولا تنشر الأسرار إلاّ بعد خمسين أو مائة سنة على شكل مذكّرات يكتبها ذلك الوزير أو الشخص المعني ، مع ذلك فإنّ هذه المذكّرات ليس من الضروري أن تكشف كلّ الأسرار والمعادلات التي كانت تمثّل دوافع وأسباباً لحركة معيّنة أو لتصرّف معيّن ، ما يكتب في التاريخ من أسرار هو ما يطفح على السطح ، وما يطفح على السطح ليس هو الحقيقة.

إذا لم يكتب للبشرية سيادة دين الله ، وتدبير رسول الله ، وذي القربى فلن يكتب للبشرية عدالة أبداً ، بل سيكون المنطق السائد هو منطق الإفساد في الأرض ، وتارة يكون الإفساد بالاعتقال والسجن ، وتارة بالتمييز الطائفي والتمييز في فرص العمل والتعليم والظلم الذي يدور في هذا المدار.

٣٤٨

المحاضرة السابعة

مناقشة بعض تعريفات العدالة

محاور المحاضرة :

أوّلا : نظرة القرآن الكريم إلى الفوارق في المخلوقات.

ثانياً : لا إفراط ولا تفريط في الإسلام.

ثالثاً : الأصول المحرّمة في الأديان السماوية.

رابعاً : تطبيق العدالة لن يتمّ إلاّ على يد المعصوم.

خامساً : العدالة والمساواة.

سادساً : العدالة الوسطية والرفاه.

سابعاً : تعريف العدالة بسيطرة العقل الجمعي.

ثامناً : خطر طغيان الميول النفسية الجمعية.

تاسعاً : الشعب الصيني والشعب الياباني والميول النفسية.

عاشراً : سيطرة العقل الجمعي تفتقر إلى الضمان.

قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) ، وقال سيد الشهداء عليه‌السلام : « ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٩٠.

٣٤٩

الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ مَن غيّر » (١).

هل الفارق الطبقي الفاحش ظاهرة طبيعية؟

هناك جملة من المدارس المادية والمدارس الذاتية والمدارس الإنسانية ، ترى أنّ ظاهرة الفارق الطبقي الفاحش ليست ظاهرة شاذة ، بل ظاهرة طبيعية في النظام الاجتماعي ، والعدالة هي في نظم النظام الاجتماعي ، وقد تحصل فوارق طبقيّة ولتكن فاحشة مادام هذا ضمن نظام وتنظيم وتدبير ، فلتكن الفرص مفتوحة بهذا المقدار من النظم والإدارة والتدبير في المجتمع ليسعى كلٌّ إلى إكمال عقله وذهنه وكفاءته ، وإلى أن يحصل على القدرة المطلوبة.

نظرة القرآن الكريم إلى الفوارق في المخلوقات

بينما منطق القرآن الكريم ليس على نسج الفارق الطبقي ، ومن المعروف أنّ منطق القرآن الكريم يخالف الفكر الشيوعي الذي يحاول أن تكون في المجتمع طبقة واحدة ، وهذا غير ممكن ، قال تعالى : ( وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ) (٢) ، إذن القرآن الكريم والمنطق الإسلامي لا ينسف الفارق الطبقي ، ويقر بالتفاوت في القدرات الذهنية والروحية والبدنية ، وهذه الحالة موجودة حتّى في الأنبياء ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَات وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (٣) ، وحتّى

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٤ : ٤٨.

٢ ـ النحل (١٦) : ٧١.

٣ ـ البقرة (٢) : ٢٥٣.

٣٥٠

في الموجودات النباتية ، قال تعالى : ( وَفِي الاَْرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَان يُسْقَى بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِي الاُْكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ) (١) ، وفي التراب حيث يفضّل تراب على تراب ، وهذه الفوارق توجب نوعاً من الحيوية والنشاط ، قال تعالى : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجَات لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (٢) ، فتستخير فئة لفئة أُخرى لكي يتكامل المجتمع.

لا إفراط ولا تفريط في الإسلام

ولكن الذي يعارضه الإسلام هو الإفراط المتمثّل في النظرية الماركسية والشيوعية أو الاشتراكية ، ويرفض التفريط المتمثّل في نظرية اقتصاد السوق أو النظرية الرأسمالية التي لا تمانع من التفاوت الطبقي الشاسع مهما بلغ هذا التفاوت ، ولو كان هذا التفاوت بسبب زيادة بذل الجهد والطاقة لا يمنعه الإسلام ولا القرآن ولا الفكر الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا ما أوصى به أمير المؤمنين عليه‌السلام مالك الأشتر ولا في كتبه الأُخرى ; لأنّ الفكر الإسلامي يحترم الجهود والكفاءة ، والعاطل لا يساوي المجد ، وإنّما يمنع الإسلام من استئثار المنابع الطبيعية وسدّها ثمّ ضخّها لفئة خاصّة دون باقي مستحقيها من غير أيّ استحقاق ، ويرفض جعل الفرصة للاستثمار لفئة دون باقي مستحقيها ويمنع تطبيق الاحتكار الذي يمثّل سرطان الإقطاع القائم على عدّة أعمدة ، منها : سياسات المافيا الاقتصادية التي لا همّ لها إلاّ تحقيق الربح ، بغضّ النظر عن الآثار الأخلاقية والاجتماعية التي يخلّفها هذا

__________________

١ ـ الرعد (١٣) : ٤.

٢ ـ الزخرف (٤٣) : ٣٢.

٣٥١

الربح ، وكذلك المعاملات الباطلة المحرّمة ، كالربا والقمار.

فالفارق الطبقي الفاحش مرفوض في الفكر الإسلامي إذا كانت موارده غير شرعية.

الأصول المحرّمة في الأديان السماوية

ومن معاجز الدين الإسلامي أنّه وضع يده على سرطانات المال منذ أربعة عشر قرناً إلى يومنا هذا ، بل هي من معاجز الشرائع السماوية كلّها ; لأنّها اتّفقت على دين واحد ، وكلّها تُجمع على تحريم الربا والقمار والفواحش ، هذه الأُمور من الأُمور التي اتّفقت عليها الشرائع السماوية كلّها ، وهي من أُصول المحرّمات ، وهي تعدّ في دائرة الدين الواحد بين الأنبياء ، وليست من الأُمور الشرعية التي تتعرّض للنسخ ، فلم تُحَلّل الفواحش أو الربا أو القمار في أيّ دين من الأديان السماوية ، وأصول المحرّمات وأصول الواجبات تعدّ من الدين الذي تدين به البشرية لتصل إلى السعادة بعد العقائد التي تفلسف وتبرمج نظم الحياة ، والدين الإسلامي يمثّل كلّ الأديان السماوية.

الإسلام وضع يده على الغدد السرطانية التي تهدّد العدالة في النظام الاجتماعي في الجانب الأخلاقي والجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي والجانب المالي والجانب الحقوقي ، والكثير من المعاملات التجارية في البورصات وغيرها معاملات وهميّة تستهدف ضخّ السيولة في الأموال لأصحاب الإقطاع ، وهذه من الابتلاءات التي ابتليت بها البشرية ، والربا لا زال من الابتلاءات البشرية ، ولسنا في مقام الكلام عن العدالة الاجتماعية من الناحية الاقتصادية ، ولكن الحديث جرّنا إلى هذه النقطة.

كذلك نرى في الجانب المالي بحث الاحتكار ، ويدخل في مصاديقه الاحتكار في الدول الشرقية والغربية ، فيصبح الرجل غنيّاً في ساعة واحدة ، عن طريق

٣٥٢

الاحتكار ، والاحتكار قد يكون في الاستيراد أو التصدير أو الأراضي أو غير ذلك ، وكذلك نظام التجارة العالمي.

تطبيق العدالة لن يتمّ إلاّ على يد المعصوم

إذن التفاوت الطبقي الفاحش غير مقبول في منطق القرآن الكريم وأهل البيت عليهم‌السلام ، بل العدالة في المجتمع أمر أساسي يمكن إقامته وتطبيقه ، وهذا التطبيق للعدالة لن يتمّ إلاّ على يد المعصوم ، كما أشارت الآية التي أشرنا إليها في سورة الحشر ، والعدالة في منطق أمير المؤمنين عليه‌السلام المطابق للقرآن الكريم والسنة الشريفة ، هي أمر اختياري.

العدالة والمساواة

والظلم في النظام الاجتماعي أمر بيد النظام الفاسد ، فهو الذي يوجب الاضطهاد والظلم للطبقة المحرومة في مقابل التضخّم المالي أو المتعلّق بالثروات الأُخرى عند فئة ثانية. إذن العدل أمر ممكن يقوم به النظام الاجتماعي إن صلح.

وهناك تعريفات أُخرى للعدالة ، مثل : العدالة هي المساواة وليس المقصود بالمساواة هي أن يكون جميع الأفراد في كلّ الجوانب متساوين ; لأنّ بعض الأُمور التي توجب التفاوت بين الأفراد سببها جهد الأفراد وذكاؤهم ، ووجود تفاوت في هذا الجانب.

المساواة في إتاحة الفرص للجميع

إذن المساواة المطلوبة ليست في نفي الفروق الفردية على مستوى المؤهّلات العقلية والعلمية والبدنية ، وإنّما المقصود من المساواة هي المساواة في إتاحة الفرص أمام الجميع بالتساوي ، أمّا استثمار الفرص فيعتمد على القدرات التي يتمتّع بها هذا الفرد أو ذاك.

٣٥٣

العدالة الوسيطة والرفاه

وقيل : إنّ العدالة هي الوسيطة. وقيل : إنّ العدالة الاجتماعية هي الرفاه والتنمية ، ونحن لا نجد هذا الأمر مذكوراً في القرآن الكريم ، ولا في عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام لمالك الأشتر. نعم ، كانت التنمية الاجتماعية من أهداف الإسلام هذا أمر صحيح ، ولكن إذا كان الرفاه والتنمية يخدم طبقة دون باقي الطبقات فإنّ هذا الأمر مرفوض ، ولن تتحقق بذلك العدالة ، أمّا إذا كان الرفاه مقيّداً بقيد الشمولية والعمومية فإنّه يصبّ في مصبّ العدالة الاجتماعية ، وينبغي أن لا يكون من نتائج هذا الرفاه زعزعه الثوابت الإسلامية والأخلاقية ; لأنّ زعزعة الثوابت الإسلامية تمثّل زعزعة الينبوغ الأصيل للعدالة الاجتماعية ، وهي أنّ الملكية لله ، وأنّ الله هو مالك الملوك ، وأنّ الله هو المالك الحقيقي.

الرسول والولي من بعده يتولّى الملك

ويتولّى هذا الملك الرسول عليه‌السلام ، ومن بعده الولي المعصوم من ذي القربى ; لكي يبعد الملك عن الاستئثار والحرص والفرعنة ، يعني : أنّ الباري إنّما اختارهم ; لأنّهم لن يكونوا إقطاعاً يهضمون حقوق الآخرين ، وأنّهم لن يكونوا مافيا سياسية ، كما كان اليهود الذين هم مافيا سياسية تتستّر بالدين الذي حرّفوه وبدّلوه ، وتحرّكوا وفق مصالح الإقطاع والملوك والسلاطين ، وعندهم أنّ الغاية تبرّر الوسيلة.

الاعتقاد بمالكية الله يستلزم إشاعة الثروات

والاعتقاد بأنّ الله مالك الملوك يستلزم إشاعة الثروات بين خلق الله بدون سيطرة فئة على فئة ، ولن تتحقق إشاعة الملكية كما يريدها الشيوعيّون ، وكما يدّعون ، والتي نتج عنها أن تكون الدولة هي إقطاع آخر ، وتمثّل رأسمالية جديدة

٣٥٤

بصورة أُخرى ، وقد بنوا على الشيوعيّة آمالا ، ولكنّهم لم يصلوا إليها ، والمشكلة كانت من البداية ، وهي أنّ الشيوعيّة لم تكن تؤمن بالله ، فكان الأساس الذي ارتكزت عليه غير صلب ، فتهدّم ما بنته ، ولم تفلح في تحقيق أهدافها في العدالة الاجتماعية.

متى يصح تعريف العدالة بالرفاه والعدالة الاجتماعية؟

إذن هناك شرطان لكي يصح تعريف العدالة بالرفاه والتنمية الاجتماعية.

الشرط الأوّل : أن تشاع الثروات بين خلق الله.

والشرط الثاني : أن يكون هذا الرفاه ، وهذه التنمية الاجتماعية منطلقة من مفهوم أنّ الله هو مالك الملوك.

تعريف العدالة بسيطرة العقل الجمعي

وهناك تعريف آخر للعدالة وهو : سيطرة العقل الجمعي على الميول النفسية الجمعية ، وهذه ظاهرة حميدة أخذت في الظهور في البشرية ، ومن بعض ملامحها : رأي الأكثرية ، ومن بعض ملامحها : رقابة الشعب على الحكومات ، ومن بعض ملامحها : العلم الجمعي ، والاستشاريات ، ومؤسسات المجتمع المدني ، وهذه ظواهر في النظم الاجتماعية تصبّ في سيطرة العلم الجمعي والعقل الجمعي ، وهذه الظواهر لا يرفضها الدين ، وهي تحكَّم في حالة غياب المعصوم ، بل تحكّم حتّى مع وجود المعصوم فما بالك في غيابه ; لأنّ الإسلام يندب إلى العقل الجمعي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه » (١) ، وقال الإمام علي عليه‌السلام : « حقّ على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ، ويضمّ

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٥ : ٢١٠٨ ، الحديث ١٤١٦٤.

٣٥٥

إلى علمه علوم الحكماء » (١) ، وتفعيل العقل الجمعي والعلم الجمعي ببنوده وهياكله الحديثة أمر مرحّب به ، ويحبّذه القرآن والإسلام وعهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر.

خطر طغيان الميول النفسية الجمعية

أمّا إذا طغت الميول النفسية الجمعية على العقل الجمعي فهنا يكون المؤشّر خطيراً ، وقد حدّثنا التاريخ والقرآن عن حوادث طغت فيها الميول النفسية الجمعية على العقل الجمعي ، كما حدث لقوم نوح عليه‌السلام وقوم لوط عليه‌السلام الذين كانوا يمارسون تلك الفاحشة التي تهدّد استمرار النسل البشري ، وتوجب انتشار الجريمة ، وتهدّد النظام الاجتماعي بأكمله ، وكذلك قوم شعيب عليه‌السلام الذين طغوا في الميزان والمكيال ـ وليس المقصود من المكيال خصوص المكيال الاقتصادي ـ وإذا طغت الميول النفسية الجمعية على العقل الجمعي فسنفقد صمّام الأمان ، وصمّام الأمام يتمثّل فيما ذكرته الآية : ( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢) ; لأنّ العقل الجمعي قد يضعف أمام الميول النفسانية الجمعية ، وفي الحديث النبوي : « لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متمتع » (٣) ، وهذه من الأوسمة البارزة لاستعلام العدالة البشرية في الحديث النبوي.

الشعب الصيني والشعب الياباني والميول النفسية

الشعب الصيني بتوجّس خيفة من اليابانيين ; لأنّ عندهم ميمول نفسية تجعلهم يعتقدون أنّ من المفروض أن يكون أصحاب العرق الياباني لهم السيطرة على

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٤ : ١٥٢٥ ، الحديث ٩٨٦٣.

٢ ـ الحشر (٥٩) : ٧.

٣ ـ نهج البلاغة ، رسائل أمير المؤمنين رقم ٥٣.

٣٥٦

باقي الشعوب ، فنلاحظ هنا أنّ هذه الميول تشكّل مصدر خطر على الآخرين ، لا سيّما وأنّ اليابان تعتبر عملاقاً اقتصادياً ، ولذلك عندما يزور المسؤولون اليابنيون قبور القتلى في الحرب العالمية الثانية تحتج الصين ، ويحدث الكثير من الضجيج والصخب ; لأنّ هؤلاء القتلى من الجنرالات كانوا يدعون لسيطرة اليابانيين على غيرهم من الشعوب.

الشيعة كالعسل

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّما أنتم في الناس كالنحل في الطير ، لو أنّ الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شيء إلاّ أكلته ، ولو أنّ الناس علموا ما في أجوافكم أنّكم تحبّونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ، ولنحلوكم في السرّ والعلانية ، رحم الله عبداً منكم كان على ولايتنا » (١) ، ونحن الشيعة نعيش في نظام يرعاه المعصوم عليه‌السلام ، كما رأينا في الأربعين الأُولى بعد سقوط الطاغية صدام كيف أنّ أربعة ملايين شيعي يزورون كربلاء بصورة منتظمة حيّرت العالم والفضائيات مع غياب الدولة ودعمها دون أن تسجّل حوادث تذكر.

سيطرة العقل الجمعي تفتقر إلى الضمان

إذن سيطرة العقل الجمعي أمر حسن ، ولكن لا ضمان لضعف سيطرة العقل الجمعي أمام الميول العاطفية الجمعية التي تخضع للضعف أمام الشهوة والغضب والطمع وغير ذلك ، وفي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام فإنّ الأكثرية ليس لها الضمانة المطلقة ; لأنّ الأكثرية قد تتعرّض لغسيل مخ من قبل الإقطاع والأنظمة الحاكمة ، وسيد الشهداء عليه‌السلام اتّخذ لغة الحوار حتّى آخر لحظة إلى أن استعملوا العنف معه عليه‌السلام ،

__________________

١ ـ الكافي ٢ : ٢١٨ ، الحديث ٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب التقيّة.

٣٥٧

ولكن عندما استجابت له الأكثرية تجاوب معها ، ولكن هذه الأكثرية التي حكّمت العقل الجمعي خضعت للميول النفسية الجمعية التي خضعت للخوف من النظام الحاكم ، وسيد الشهداء عليه‌السلام يعطينا درساً بأنّ العقل الجمعي لا يمثّل ضمانة ، وأنّه قابل للهزيمة أمام الميول النفسية الجمعية « وكم من عقل أسير تحت هوى أمير » (١).

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٨ : ٣٤٧٩ ، الحديث ٢١٤١٩.

٣٥٨

المحاضرة الثامنة

الأمم المتحدة وعهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر

محاور المحاضرة :

أوّلا : الفحشاء ظاهرة فردية والمنكر ظاهرة اجتماعية.

ثانياً : البغي نتيجة انتشار المنكر.

ثالثاً : القانون الذي لا يستند إلى العدل يعطي الصبغة القانونية للاضطهاد.

رابعاً : عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر لا يتناول مباحث التشريع العامّة.

خامساً : نبذة عن رواة عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر.

سادساً : كوفي عنان يدعو لدراسة عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر.

سابعاً : البابا يبدي إعجابه بالصحيفة السجادية.

ثامناً : واجبنا نشر ثقافة أهل البيت عليهم‌السلام.

تاسعاً : ما يوجد في عهد الإمام علي عليه‌السلام ولا يوجد في أدبيات العدالة الدولية.

عاشراً : الفرق بين فقه النظام والتشريعات العامّة.

الفرق بين العدل والإحسان

قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) ، الآية الشريفة تحتوي على كنوز من

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٩٠.

٣٥٩

المعارف ، حيث أمر الله بالعدل بحيث يكون المجتمع كتلة واحدة تتعاضد فيما بينها ، والعدل أعم نفعاً من الإحسان ، فقد سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أفضلية العدل أو الجود؟ قال : « العدل يضع الأُمور مواضعها ، والجود يخرجها من جهتها ، والعدل سائس عامّ ، والجود عارض خاصّ ، فالعدل أشرفهما » (١) ; لأنّ العدل هو انتظام الأُمور على وجهها ، بينما الإحسان يتضمّن تنازلا عن الحق من قبل طرف من الأطراف ، ثمّ يأمر القرآن الكريم بإيتاء ذي القربى بعد أن يبيّن القرآن الكريم وسيلة لالتحام أفراد المجتمع بعضه مع بعض ، وهي وسيلة العدل.

الترتيب في الآية ليس اعتباطياً

ونلاحظ أنّ الآية قد بدأت بالعدل ثمّ بالإحسان ; لأنّ المجتمع قد يمرّ بمنعطفات يحتاج فيها إلى الإحسان ، مثل : الكوارث والحالات الطارئة ، ثمّ تأمر الآية الكريمة بإيتاء ذي القربى من أجل تقوية وشائج وروابط المجتمع ، والقربى المذكورة في الآية هي عموم القربى ، قرابة الأُسرة والقبيلة والعشيرة ، وهذا الترتيب في الآية ليس اعتباطياً ، وأمّا النواهي فقد بدأت الآية بالنهي عن الفحشاء ، يعني : عن الانحدار الخلقي ، والآية تنذر أنّ هلاك المجتمعات يبدأ بالسقوط الخُلقي ، ثمّ نهت عن المنكر والبغي وكأن الآية تحتوي في الأوامر على عكس النواهي من حيث الترتيب ، ففي الأوامر بدأت الآية بالعدل ، ثمّ بالإحسان ، ثمّ بتقوية شجرة القرابة ، ولكن في جانب النهي ابتدأت بالفحشاء ، باعتباره أمراً يهدّد النظام الاجتماعي ، حيث إذا ساد الانحطاط الخلقي فسوف يهدّد النظام الاجتماعي ، وغيب المُثُل والمبادىء الأخلاقية ، مثل : الأمانة والرحمة ، وهذا سيؤثّر على العدالة والقانون والنظام.

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٤ : ١٨٣٩ ، الحديث ١١٩٨١.

٣٦٠