بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

الظروف الصعبة ـ أن يربّوا طائفة من الأُمّة على الوعي العقائدي الثقافي المبني على الأُسس السليمة ، وهذا الأمر بمثابة المعجزة التي تحققت رغم الإمكانيات الضخمة التي تمتلكها الأجهزة الحاكمة آنذاك.

أثر أخلاقيات أهل البيت عليهم‌السلام على شيعتهم بعد عدّة قرون

نلاحظ أنّ بعض البدو والفلاّحين الشيعة ، كما هو واضح في شيعة العراق الطيّبين البسطاء ، لديهم من الأخلاقيات التي اكتسبوها من أهل البيت عليهم‌السلام ما لا يمتلكه الكثير ممّن دخلوا الجامعات وعاشوا الحضارات ، ونلاحظ أنّ الشيعة لا يستحلّون دماء الآخرين وإن اعتدي عليهم ، وهذا ما يحصل في العراق اليوم ، وهذه التربية المثالية هي تربية أهل البيت عليهم‌السلام ، وهذه التربية التي يعيشها الشيعة في العراق ليست تربية المرجعية في النجف فحسب ، وإنّما هي تربية موروثة من الأئمة عليهم‌السلام ، هذا في وقت الذي نرى فيه أنّ لغة القصاص والانتقام هي اللغة السائدة في كلّ مكان ، وفي كلّ يوم يراق الدم الشيعي في العراق ، ولا زال الشيعة ـ هناك ـ يفتحون باب الحوار ، وهذه هي تربية سيد الشهداء عليه‌السلام ، والشعارات التي يطلقها الغرب ، مَن الذي يجسّمها ويجسّدها؟ أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام هم الذين يجسّدون هذه الشعارات الإنسانية ، وهذه ظواهر برهانية وإعجازية ; لأنّ البشرية التي وصلت إلى هذا الأفق من الشعارات والقوانين التي تنادي بها ، من الحريّة والسلم المدني والمحافظة على حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ، يأتي هذا المجتمع البسيط على سجيّته وفطرته يجسّد كلّ هذه المعاني العالية.

العدل له وجود تكويني

الآن سننطلق للمحور الأوّل لبحث العدالة الاجتماعية ، فنقول : إنّ العدل من أصول الدين ، وهل من الممكن أن تكون أصول الدين أموراً اعتبارية؟! والعدل

٣٢١

الذي هو صفة من صفات الله ، هل من الصحيح أن تكون هذه الصفة أمراً اعتبارياً؟! بل صفات الله أُمور تكوينية ، إذا كان في صميم اعتقادنا وبداية رؤيتنا أنّ العدل صفة كعلم الله وكحياة الله وكقدرة الله وغيرها من الصفات الفعلية والذاتية هذه الصفات من صميم التكوين ، إذن العدل له وجود تكويني ، كما في منطق أهل البيت عليهم‌السلام الذي يقول : « بالعدل قامت السماوات والأرض » (١).

المدح الصادق يلازم الكمال ، والذم الصادق يلازم النقص

المدح غير الكمال هذه المغالطة طرحها الأشعري ، وهل يمكن للإنسان أن يمدح النقص؟! وهذا يستلزم أن ننكر الكمال وننكر النقص ، وننكر كلّ هذه الأُمور الخارجية ، وكذلك الأمر بالنسبة للذم فلا يمكن أن نفكّك بين الذم والنقص ، الإنسان يدرك الكمال ، ومن ثمّ ينجذب المدح للكمال ، والمدح يعتبر إخباراً صادقاً عن الكمال ، هذا إذا كان المدح صادقاً ، أمّا إذا كان كاذباً فهو ليس كذلك ، والمدح الصادق يعبّر عن تقرير علمي مطابق للحقيقة ، والمدح معلومة من المعلومات تنبىء عن الكمال ، والذم الحقيقي هو معلومة صادقة تُنبىء عن النقص.

الحقوق الإلهية قبل سن القانون

والذين قالوا : إنّ من دون القانون لا ترسم الحقوق ، ومن دون رسم منظومة الحقوق لا يستتب العدل ، كلامهم هذا ينطوي على مغالطة ناشئة من وجود حقوق اعتبارية بعد رسم منظومة القانون ، يعني : وليدة للقانون ، لكن هناك منظومة للحقوق هي في الواقع قبل القانون ، يعني : حقوق إلهية تكوينية.

__________________

١ ـ تفسير كنز الدقائق ١٢ : ٥٥٣ ، ذيل آية ( وَالَّسمَاءَ رَفَعَهَا ).

٣٢٢

لابدّ من نظرة شاملة لحقوق الإنسان

نحن لسنا ماديين حتّى نحصر الحقوق في حقوق الطبيعة ، ولسنا غرائزيين وجنسيين حتّى نحصر الحقوق في الحقوق الغرائزية ، بل نسلّم برؤية تكوينية بأنّ الإنسان ذو طبقات متعدّدة ، فيه الغرائز الجنسية ، وفيه العقل ، وفيه الوهم ، وفيه الخيال ، وفيه القلب ، وفيه الضمير ، وفيه الوجدان ، وهو شبيه بمنبنى ذي طبقات ، وكلّ قوّة من قوى الإنسان لها حقوق ، وليس من الصحيح أن ننظر إلى طبقة من طبقات الإنسان ونهمل باقي الطبقات ، وهذه الرؤية تؤثّر في أُسس الحقوق وأُسس القانون بين المدرسة الإسلامية والمدرسة الغربية ، وبين المدرسة الإمامية والمدارس الأُخرى ، هذه كلّها أُسس للانطلاق.

العدل في تنمية قوى الإنسان

فمثلا : من العدل أن ينمّي الإنسان كلّ قواه ، ولا ينمّي قوّة على حساب القوى الأُخرى ، فليس من الصحيح أن ينمّي الجانب الغريزي ويهمل الجوانب الأُخرى كالجانب العقلي ـ مثلا ـ أو إذا اهتمّ بالجانب العقلي فيجب أن يعطي الجانب الغريزي حقّه أيضاً.

هل الإنسان مركز التقنين أم الله؟

إمّا أن نجعل الإنسان مركزاً للتقنين والحقوق ، أو نجعل المنطلق في تقنين الحقوق هو الله عزّ وجل ، والصحيح ـ طبعاً ـ في النظر الإسلامي أن يكون المنطلق هو الله عزّ وجلّ وليس الإنسان ، وهذا فرق بين الرؤية الحقوقية الإسلامية وبين الرؤية الحقوقية غير الإسلامية ، أو بتعبير أدق هناك فرق بين الرؤية الحقوقية الإديانية التي تشمل اليهود والنصارى الذين من المفترض أن يجعلوا محور

٣٢٣

الحقوق هو الله تعالى ، وبين المدارس الوضعية التي جعل الإنسان هو مدار الحقوق.

إهمال الماديين لروح الإنسان

ويا ليتهم يضعون الإنسان بكلّ طبقاته نصب أعينهم ، بل هم يهتمّون بالطبقة البدنية من الإنسان ويهملون باقي الطبقات الروحية والعقلية ، وإن كانت هناك مدارس روحية غربية قد خطت خطوات كبيرة في هذا الجانب ، إلاّ أنّ هؤلاء الماديين لا يعترفون بالروح ، فهم في صراع دائم مع الحالة الروحية والوجدانية ، وفي سنة ٢٠٠١ أعلنت الأمم المتحدة أنّ شعارها هو مقاومة الأمراض الروحية والعقلية ; لأنّ أكبر نسبة من الأمراض الروحية والعقلية وقعت في الغرب بشكل مذهل وحدّث ولا حرج ، والأرقام تقرأ في كلّ يوم عن الأزمات الروحية التي يمرّ بها العالم الغربي ، مثل : تفشّي الجريمة ، وتفكّك الأُسرة ، وتقطّع الأوصال الروحية ، وما شابه ذلك أرقام كبيرة.

النظرة غير المتوازنة للإنسان كارثة

ومنشأ هذه الأزمة أنّهم جعلوا مدار الحقوق هو الإنسان ، مع إغفالهم لبعض طبقات الإنسان ، وتركيزهم على طبقات أُخرى ، إذن هناك حقوق اعتبارية ، وهناك حقوق تكوينية لا تحتاج إلى تقنين.

سلبيات جعل الإنسان هو المدار في التقنين

الغرائز لها نقائص ولها كمالات ، هل كمال كلّ قوّة ينكر؟ لا ، هل نقص كلّ قوّة ينكر؟ لا ، سواء كاف من قوى الطبيعة.

الآن هم يحاولون أن لا يجعلوا الإنسان وحده مداراً للحقوق ، بل يضيفون إليه

٣٢٤

الطبيعة الخضراء والطبيعة الحيوانية والهوائية والنباتية وما يحيط بالإنسان من كائنات أُخرى في هذه المنظومة الحقوقية ، ولو يفتح للإنسان الباب على مصراعيه سيدمّر الطبيعة التي تحيط به ويعيش فيها ، وبالتالي سيدمّر نفسه بيده ، والسبب هو عدم وجود توازن في مدار الحقوق والتقنين.

العدالة الحقوقية تكوينية وليست وليدة التقنين

إذن العدالة الحقوقية ليست وليدة التقنين ، وفي الأساس العدالة الحقوقية تكوينية ; ولذلك هم يلمسونها بأنفسهم بأنّ تشريع حقّ الصناعة بلغ ما بلغ سيدمّر لنا البشرية ، وتشريع الاستئثار بالمال سينحر الطبقات المحرومة في المجتمع ، وسيخلق الإرهابيين والعنف ، وإذا جعلنا التقنين الخاضع للميول والمصالح هو المدار فعلينا أن نتحمّل التبعات والآثار السلبية ، إذن العدالة لها وجود تكويني ، والحقوق لها وجود تكويني.

الله جعل للإنسان المعادلة التي تحقق سعادته

العدالة هي وصول كلّ ذي كمال إلى كماله ، وذو الكمال الذي نعنيه : أنّه غير متوفّر على الكمال الآن.

الله تعالى هو محور العدل ; لأنّه عالم بالخلق : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) ، الله جعل المعادلة التي توفّر السعادة للإنسان وهو أعلم بها ، ومن هنا جاء الحديث الذي يقول : « لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت » (٢) ، وقال أبو

__________________

١ ـ الملك (٦٧) : ١٤.

٢ ـ الكافي ١ : ١٧٩ ، الحديث ١٠ ، كتاب الحجة ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجه.

٣٢٥

الحسن عليه‌السلام : « إنّ الأرض لا تخلو من حجّة » (١) ; لأن البشر لا زالوا يعيشون النقص ، ويكتشفون أنّهم مخطئون ، ولكن المعصوم لا يخطىء ، ولولا وحي الله والعلم اللدنّي عند الأئمة لحفظ الأرض لساخت الأرض بمن عليها.

__________________

١ ـ الكافي ١ : ١٧٩ ، الحديث ٩ ، كتاب الحجة ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجة.

٣٢٦

المحاضرة الخامسة

العدالة والتوازن ورأي الأكثرية

محاور المحاضرة :

أوّلا : الأرحام تتجاوز الأُسرة إلى العشيرة والقبيلة.

ثانياً : العدالة والسعادة.

ثالثاً : الأفعال الإلهية تنطلق من موازين دقيقة جدّاً.

رابعاً : لابدّ من التوازن في كلّ علاقة.

خامساً : لا ينبغي أن تُحَكَّم الأعراف على العدالة.

سادساً : الأكثرية ليست دائماً حليفة الصواب.

سابعاً : متى نحتاج إلى الاعتبار القانوني في إدراك العدالة؟

ثامناً : بنية الحقوق التكوينية قبل مرحلة التقنين.

تاسعاً : ملكية الله وملكية الرسول وذي القربى.

عاشراً : سيطرة الإقطاع الأموي على المناصب الحساسة.

الأرحام تتجاوز الأُسرة إلى العشيرة والقبيلة

قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) ، كما مرّ بنا أنّ هذه الآية تشير إلى أصول

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٩٠.

٣٢٧

النظام الاجتماعي وأصول العدالة الاجتماعية ، وهي ثلاثة أصول ركّزت الآية عليها ، وهي العدل والإحسان وصلة الأرحام ، وصلة الأرحام ليست فقط في نطاق الأُسرة خلافاً لما ينادى به هذه الأيام من أنّ العشيرة لا محلّ لها في الحياة العصرية الحديثة ، وأنّ ديّة العاقلة كانت مناسبة لذلك المجتمع القديم في الجزيرة العربية باعتباره مجتمع عشائر وقبائل ، وليست مناسبة للحياة العصرية الحديثة ، وقد تأثّر بعض من هو في وسطنا التخصصي بمثل هذه الشبهات ، القرآن الكريم يؤكّد أنّ صلة الأرحام مهمّة جدّاً ، وهي تشمل العشيرة والقبيلة ، ولا تقتصر على الأُسرة ، ولقد عفا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن بعض القبائل التي في العراق ، والمنحدرة من الجزيرة العربية ، فيما له الحق في العفو ضمن صلاحياته ، وعلل ذلك بقوله : « لرحم لهم تمسّني » ، مع أنّها شجرة طويلة من الأفخاذ النسبية.

صلة الأرحام من أجل التكافل الاجتماعي

القرآن الكريم لا يعزّز النزعة القبائلية والعشائرية ، وإنّما يعزّز التكافل الاجتماعي في هذه العشيرة أو تلك القبيلة ، الحسين عليه‌السلام كان قد نادى بالعدالة الاجتماعية ، والآية المذكورة وثيقة الصلة بالعدالة الاجتماعية ، مضافاً إلى أنّ العدل أصل بنيوي ، فضلا عن أن يكون أصلا اعتقادياً أو أخلاقياً في كلّ الأبواب.

التعصّب الإيجابي والتعصّب السلبي

الآية لم تقتصر على الأُسرة ، وإنّما أطلقت لفظ ذي القربى ، وهي تهدف إلى أن تقوّي الأواصر والصلة بالأرحام ، أمّا العصبيّة الممقوتة فتتبيّن من خلال هذا الحديث ، حيث سئل علي بن الحسين عليهما‌السلام عن العصبيّة ، فقال : « العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ، وليس من

٣٢٨

العصبيّة ، أنّ يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم » (١) ، إذن إذا تعصّبت لقومك حرصاً على خدمتهم أو أداء حقوقهم أو المطالبة بحقوقهم فليست تلك عصبيّة ، بل هي نزعة غرسها الله في الإنسان.

الحسين في مواجهة الظلم

فالآية الكريمة تؤكّد على ثلاثة أصول إيجابية في مقابل ثلاثة أصول مدمّرة للمجتمع المتمثّلة في قوله تعالى ( وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ ) (٢) ، وقال أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام : « عباد الله إنّي عُذت بربّي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب » (٣) ، الحسين عليه‌السلام يطلب العون والمدد من الله في مواجهة الاستكبار والظلم.

العدالة والسعادة

انتهينا إلى أنّ العدل له واقعيّة وحقيقة ، وأنّ بالعدل يقنّن القانون ، ومن الخطأ أن يكون القانون هو المحور بدلا من العدل ، وهناك من يطرح أنّ العدل هو أنشودة وسيمفونية الضعفاء والمحرومين ، أمّا الأقوياء فلا ينشدون العدالة ، وإنّما ينشدون القانون ، وقد قلنا : إنّ العدل له واقعية ; لأنّ العدل هو وصول كلّ ذي قابلية إلى كماله المنشود أو كماله المقرر في التكوين من قبله تعالى ، الله قرر لكلّ موجود مسيراً للوصول إلى كمال معيّن.

وسنرى أنّ هناك نوعاً من التقارب بين السعادة والعدالة ، وهل أنّ السعادة هي العدالة أم أنّ لها تعاريف أُخرى؟ باعتبار أنّ العدالة هي التي تؤمِّن وصول كلّ ذي

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٥ : ١٩٩٢ ، الحديث ١٣٠٣٨.

٢ ـ النحل (١٦) : ٩٠.

٣ ـ الكامل في التاريخ ٤ : ٦٣.

٣٢٩

كمال إلى كماله ، والكمال أمر ملائم للإنسان فيه الراحة وفيه السعادة ، ووصول الإنسان إلى كمال يعتبر حقاً طبيعياً وفرّه الله تعالى للإنسان ، وهذا الأمر لا يحتاج إلى قانون ، والمفروض أن يكون القانون هو فرع للعدالة البشرية ، والعدالة هي وصول كلّ ذي قابلية إلى كماله المنشود ، والعدالة مرتبطة بعناصر تكوينية ، فالعدل لا يتوقف على وجود جمعيّة وطنية أو برلمان أو دستور أو غير ذلك ، ومن ثمّ يكون الإجحاف والحرمان والاضطهاد أُمور ملموسة تكوينياً عند أفراد المجتمع ، وُضِع الدستور أم لم يوضع ، رسم الدستور الطريق الصحيح أو لم يرسم ، إذن العدالة ليست أمراً اعتبارياً فرضياً ، وإنّما العدالة أصل.

الأفعال الإلهية تنطلق من موازين دقيقة جدّاً

وفي الشبهة الثالثة قالوا : إنّ الله يفعل ما يفعل ، كيفما يشاء ، ولا يحكم الله عزّ وجل قانون معيّن ، بل هو يخلق القوانين الكونية ـ فضلا عن القوانين غير الكونية ، وهي القوانين الاعتبارية والفرضية ـ هذا صحيح ، ولكن هذا لا ينفي وجود موازين مخلوقة من الله عزّ وجل ; لأنّ نفس الذات الإلهية هي أعلى ما يمكن أن يكون من نظام في المعرفة بالنظام الربوبي ، وإذا أردنا أن نجد نظاماً متكاملا ضمن موازين لا متناهية في الدقّة فهو نفس الذات الإلهية ، والذات الإلهية لها أسماء وصفات ، وقد ورد في الدعاء « وأيقنت أنّك أنت أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة ، وأعظم المتجبّرين في موضع الكبرياء والعظمة » (١) ، ففي موضع معيّن أيّ الاسمين يحكم ، هل هو اسم الرحمن أم اسم المنتقم؟ القابض أم الباسط المحيي أم المميت؟ وكلّ هذه الأُمور تمثّل نظاماً ، وليس الأمر أمراً اعتباطيّاً.

__________________

١ ـ دعاء الافتتاح.

٣٣٠

لابدّ من التوازن في كلّ علاقة

( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الاِْنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) (١) ، فالتوازن مطلوب في كلّ علاقة ، وفي كلّ تعامل ، وفي كلّ شيء ، وهذا التوازن مطلوب حتّى في علوم الكيمياء والفيزياء في المعادلات الكيميائية والفيزيائية ، فهذا التوازن له صيغة وإطار وقالب ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بالعدل قامت السماوات والأرض » (٢).

إذن كلّ ما طابق العدل ينبغي أن يكون قانوناً ، وليس كلّ قانون يجب أن نعتبره عدلا ، ويجب أن لا تنطلي علينا هذه المغالطة ، والقانون ينبغي أن يرسم السعادة للبشرية ، فكيف تُرسم السعادة للبشرية بغير العدل إذا كان هذا القانون يخالف العدل؟!

لا ينبغي أن تحكم الأعراف على العدالة

أمّا الأعراف فهي قوانين ، وقد لا تكون مكتوبة ، ولكن ثقافة المجتمع مبنيّة عليها ، فمن الأمثلة التي يمكن أن نطرحها هنا هي : مسألة الرئيس في الدول الأوربية ، فلا يوجد قانون مكتوب يمنع وصول الأسوَد إلى سدّة الحكم ، ولكن من المستحيل أن يكون الأسود رئيساً لدولة أوربية ، والسبب هو العرف ، فالعرف له قوّة كبيرة يطبّقها المجتمع ، حتّى لولم يكن هذا العرف مدوّناً ، إذن الأعراف تمثّل قانوناً نافذاً متجدّراً أقوى نفوذاً من القانون المكتوب ، وهذه الأعراف هي كذلك ما دامت هي قانون على النحو التطبيقي الفعلي ، ولكن يجب أن لا تحكم على

__________________

١ ـ الرحمن (٥٥) : ١ ـ ٩.

٢ ـ تفسير كنز الدقائق ١٢ : ٥٥٣ ، ذيل آية ( وَالَّسمَاءَ رَفَعَهَا ).

٣٣١

العدالة ، مع أنّها متجذّرة ويرتبط بها المجتمع بشدّة ، وتحكيم العدالة ينطلق من منطلق أنّها تكوينية ، أمّا الأعراف فإنّها أُمور اعتبارية يتواضع عليها المجتمع ، وتختلف من مجتمع لآخر.

الأكثرية ليست دائماً حليفة الصواب

في النظرية الإسلامية ، لا سيّما في فكر أهل البيت عليهم‌السلام إنّ الأكثرية ليست دائماً حليفة الصواب ; لأنّ هذه الأكثرية قد تبنى على أعراف مريضة ، وقد تشكّل هذه الأعراف أغلالا للمجتمع ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الاُْمِّىَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالاِْنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ) (١) ، فالأعراف المريضة تمثّل إصراً وأغلالا ، وقد خلّص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مجتمعه من هذا الإصر وهذه الأغلال ، وهذا الدور سيمارسه الإمام الحجّة بن الحسن عجّل الله فرجه.

الأعراف قد تخرج عن نطاق الفطرة

هناك هوّة كبيرة بين الشعارات التي ترفعها الشعوب والحكومات الغربية وبين الأعراف السائدة عندهم. نعم ، هم بشر ولديهم فطرة إنسانية ، ولكن هذا لا ينفي وجود الأعراف الخارجة عن الفطرة بصورة قويّة في ذلك المجتمع.

الإدراك العقلي للعدالة له حدود

العدالة في كلّ مجالاتها السياسية والمالية والاجتماعية وغيرها لها بُعد

__________________

١ ـ الأعراف (٧) : ١٥٧.

٣٣٢

تكويني بحيث يدركها العقل وتدركها الفطرة الإنسانية ، ولكن هذا الإدراك له حدود ، وما وراء تلك الحدود يقصر العقل وتقصر الفطرة عن إدراك العدالة ، وحينئذ تأتي الحاجة إلى الاعتبار القانوني.

متى نحتاج إلى الاعتبار القانوني في إدراك العدالة؟

إذن تأتي الحاجة إلى الاعتبار بعد أوّليّات وبديهيّات الفطرة الإنسانية في إدراك العدالة ، وفي حسن العدل وقبح الظلم ، وحسن الصدق وقبح الكذب ، وحسن الإحسان وقبح الإساءة ، وهي مجموعة من الأُصول السلوكية التي تدركها الفطرة ، بعد ذلك تأتي الحاجة إلى الاعتبار القانوني ; لأنّ هناك أفعالا غير واضحة في النظام الاجتماعي والنظام الفردي والنظام الأسري ، ولابدّ لأهل الخبرة في تنظيم النظام الاجتماعي بأن يتدخّلوا لبيان العدالة في هذه الأُمور ، سواء على صعيد البشرية أو على صعيد الإدارة والتدبير.

التقنين الإلهي والتقنين الوضعي

وهذا التقنين قد يكون بشرياً وضعياً ، وقد يكون إلهيّاً سماوياً ، والشرع يحترم العقل في الوصول إلى العدالة ، ويُسمى بـ « بناء العقلاء » ، ولكن هذا يكون في مساحات معيّنة ، وبعد هذه المساحات يصل العقل إلى مساحات لا يدرك فيها العدالة ، وهنا لابدّ من صوابيّة الرؤية الكونية بحيث يكون الإيمان بوجود خالق للكون والبشر.

بنية الحقوق التكوينية قبل مرحلة التقنين

وهنا البحث حسّاس جدّاً ، فالعدل يرسم لإعطاء الحقوق قبل مرحلة التقنين ، وهنا بنية الحقوق التكوينية ، فهل بنية الحقوق التكوينية منطلقها البارىء سبحانه

٣٣٣

وتعالى أو منطلقها الإنسان هناك عدّة مدارس ، منها : المدرسة الإنسانية أو المدرسة الذاتية ، وهي : مدرسة تنطلق من ذات الإنسان بغض النظر عن النظام الاجتماعي.

الرؤية الإسلامية للعدالة

وهنا يبدأ البحث في كيفية الوصول إلى العدل في النظرية الإسلامية ، عندنا أنّه بدون جعل المالكية والحق الأوّل لله لن تستتب العدالة بتاتاً في البشر ; لأنّ نظام التكوين يبدأ من الله ثمّ إلى خلقه ، فلابدّ أنّ نظام الحقوق ونظام التقنين ونظام التدبير يتطابق مع نظام التكوين ، وإذا تطابق فستكتب العدالة ، وتتحقق السعادة للإنسانية ، وإذا تمّ مخالفة هذا الأصل الأصيل الذي ترتكز عليه العدالة فلن تعيش البشرية السعادة أبداً ، وستخسر البشرية السعادة.

الملكيّة الحقيقية لله

والملكيّة بالذات وقبل كلّ شيء لله سبحانه وتعالى ، ولذلك قال سيد الشهداء عليه‌السلام : « أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب » (١) ، وهنا يشير سيد الشهداء إلى أنّ الظلم السائد في النظام الاجتماعي آنذاك بسبب عدم تحكيم هذا الأصل الأصيل ، وهو مالكيّة الله للكون وما فيه.

الظاهرة اليزيدية والظاهرة الأموية تمثّلان المدرسة الذاتية التي لا تنطلق من أنّ مالك الملوك هو الله ، وإنّما تضع في هذا الموضع شخصاً آخر ، ومنهج أهل البيت عليهم‌السلام يرتكز على أنّ الملك لله والحق لله لا للفرد ، وإذا سلّمنا أنّ الملك للّه والحقّ للّه فإنّ كلّ قانون وكلّ مبدأ لا ينطلق من التشريع الإلهي فهو فاقد

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٤ : ٦٣.

٣٣٤

للمصداقية والشرعية ، ولا يمثّل قانوناً عادلا.

لا تتحقق العدالة من خلال المدرسة الذاتية أو الإنسانية

وإذا جعل المحور هو الذاتية أو الإنسانية فلن تكتب العدالة للبشرية ، الآن توجد مافياً المخدّرات ومافيا الجنس ومافيا السلاح التي تنشأ من الإقطاع الدولي الذي يفتح باب الحروب من أجل أن يسوّق سلاحه ، ومن أجل الربح ، ومن خلال ممارسة الجنس غير المشروع يفتح هذا الباب الذي يهدم أخلاقيات الأُسرة والمجتمع ، وتربك السلامة الروحية والصحة البدنية والأمن الاجتماعي ، وليكن كلّ ذلك ، المهم أن يربحوا من هذا الفساد الأخلاقي ، وكذلك المخدّرات التي تشل الطاقات البشرية والعلمية والعقلية عند شرائح كبيرة من المجتمع ولتذهب البشرية للجحيم ، المهم أن يربحوا ، وليكن بعد ذلك ما يكون.

ملكيّة الله وملكيّة الرسول وذي القربى

إذن الأصل الأوّل في كلّ الحقوق يتبيّن من خلال هذه الآية في سورة الحشر ، يقول الله تعالى : ( مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (١) ، الثروات الطبيعية ، بل كلّ الثروات هي ملك لله تعالى ، واللام الواردة في الآية الكريمة هي لام الملكيّة ، وتصرّف وملكيّة ذي القربى ليست ملكيّة قيصرية أو كسروية ، قال تعالى : ( وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ) ، ولم يقل ولليتامى ، ليبيّن أنّ المصرف سيكون للطبقات المحرومة توزيعاً عادلا ، قال تعالى : ( كَىْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) ، أي : كي لا يكون

__________________

١ ـ الحشر (٥٩) : ٧.

٣٣٥

حقّاً مستأثراً عند هؤلاء الأغنياء يتداولونه بينهم.

الحق لله ثمّ للرسول ثمّ لذي القربى

إذا أرادت البشرية أن لا يستأثر أُولي القوّة والنفوذ عليها يجب عليها الرجوع إلى مبدأ : « إنّي عذت بربّي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب » (١) فالحق لله ثمّ للرسول ثمّ لأُولي القربى ، لِمَ؟ لكي تستتب العدالة ; ولكي لا يكون المال دولة بين الأغنياء منكم ; ولكي تتهيّأ فرص للمحرومين حتّى ينالوا حقهم ، والله عندما يعطي شخصاً مّا ثروة يعطيها إيّاه لكي يكون عنصراً فعّالا في المجتمع لا لكي يحتكر هذه الثروة ، ويمنع الحقوق الشرعية التي يستحقّها أهلها.

سيطرة الإقطاع الأموي على المناصب الحسّاسة

والقرآن يتحدّى البشرية أنّ العدالة لن تستتب إلاّ إذا كان أُولوا القربى هم أصحاب التدبير ، وهذا ما شاهدناه في التاريخ ، فلمّا أتى الخليفة الأوّل بدأ التمييز في العطاء بين المسلمين ، وبين زوجات النبي وغيرهن ، وبدأت سياسة التفريق في العطاء (٢) ، وبدأ إدخال الإقطاع الجاهلي الأموي القديم ، حيث ولّي يزيد بن أبي سفيان على الشام ، وهو أخو معاوية بن أبي سفيان ، وهو من الطلقاء ، ويولّى على قطاع كبير من البلاد الإسلامية ، ممّا أسّس للإقطاع بصورة قويّة في المجتمع الإسلامي ، وبعد أن مات يزيد بن أبي سفيان تمّ تولية معاوية بن أبي سفيان إرضاءً لشجرة الإقطاع الأموي في عهد الخليفة الثاني ، وتمّ تولية الطلقاء في مناصب حسّاسة ، وفي قيادة الجيوش الإسلامية فعاد الإقطاع بأشرس ما يمكن ، إلى أن

__________________

١ ـ الكامل في التاريخ ٤ : ٦٣.

٢ ـ من حياة الخليفة عمر بن الخطاب : ١٨٠.

٣٣٦

وصلت النوبة إلى يزيد بن معاوية الذي شرب الخمر واستحلّ الدماء وهدم الكعبة ، وصار لهذه الطبقة الإقطاعية الأولوية حتّى على المهاجرين والأنصار في تولّي المناصب الحسّاسة.

تطبيق العدالة من خلال دور ذوي القربى

وفي المقابل تمّ التضييق على المَوالي غير العرب فمُنعوا من الزواج من العرب في عهد الخليفة الثاني ، ومُنعوا من دخول عاصمة المسلمين وهي المدينة المنوّرة ، وفي عهد الخليفة الثالث زادت مثل هذه الممارسات بصورة كبيرة ممّا أدّى إلى انفجار الأوضاع ، ثمّ جاء دور أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي أعاد العدل إلى نصابه فلم يفرّق بين الأبيض والأسود ، ولا بين العربي والأعجمي ، فأعاد سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو دور أُولي القربى ، وهو التوزيع العادل للطبقات المحرومة حتّى لا يكون دولة بين الأغنياء ، وهنا يمثّل سيد الشهداء عليه‌السلام ضمير العدالة وضمير الإنسانية النابض ، ولمّا سفك دمه بثّ الحياة في العدالة والمطالبة بها.

٣٣٧
٣٣٨

المحاضرة السادسة

العدالة ودور الخليفة في الأرض

محاور المحاضرة :

أوّلا : هدف الحسين عليه‌السلام من الخروج على بني أمية.

ثانياً : هل القدرة هي مصدر الاستحقاق؟

ثالثاً : هل يجب إخضاع القانون للأخلاق؟

رابعاً : العبودية لله تؤسّس للعدالة.

خامساً : إنّي جاعل في الأرض خليفة.

سادساً : الخليفة هو الشخص المصطفى من الله.

سابعاً : مفهوم أهل القرى في القرآن الكريم.

ثامناً : خليفة الله يد الله ، وعين الله ، ووجه الله في الأرض.

تاسعاً : الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف يتصدّى لأُمور المسلمين في غيبته ، ولكن في الخفاء.

عاشراً : أهمية الحكم السرّي في مجريات الأُمور.

هدف الحسين عليه‌السلام من الخروج على بني أمية

قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (١) ، وقال سيد الشهداء عليه‌السلام من ضمن نداءاته

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٩٠.

٣٣٩

العاشورائية : « اللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان ولا التماساً في فضول الحطام ، ولكن لنرى المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ، ويُعملُ بفرائضك وسننك وأحكامك » (١) ، ثمّ وجَّهَ خطابه عليه‌السلام إلى أهل الكوفة والمعسكر الآخر أو جيش الشام : « إن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم ، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم ، وحسبنا الله وعليه توكّلنا وإليه أنبنا وإليه المصير » (٢).

هل القدرة هي مصدر الاستحقاق؟

مرّ علينا الكلام عن أُسس الحقوق والتقنين ، بعد الكلام عن أنّ العدالة هي الأساس والقانون يدور مدارها ، وتكلّمنا عن المدرسة الذاتية ، والتي تعبّر عن الحالة الدكتاتورية والكسروية والقيصرية التي تستعبد الإنسان ، وهنا تظهر فكرة أنّ سيطرة الطبقات بعضها على البعض ظاهرة طبيعية تتمثّل في سيطرة القوي على الضعيف ، فليس من الطبيعي أن تتساوى الشعوب الأوربية مع باقي شعوب العالم ، وهي شعوب أكثر تعلّماً وقدرة وتسلّحاً من غيرها ، فكيف نساويها بغيرها؟!

وفكرة الإنتاج والعمل مطلب آخر ، بل هذه المؤهّلات التي يتّصف بها القوي هي التي تؤهّله إلى أن تكون له استحقاقات معيّنة ، وهذه هي نفس الكسروية والقيصرية القديمة ، ولكنها الآن بصورة حديثة ، وإلاّ فهي نفس الفكرة ، ونفس المدرسة بالضبط ، وترتكز على أنّ القدرة مصدر الاستحقاق ، فكلّما كانت الذات تتمتّع بقدرة أكبر كان لها استحقاق أكثر.

__________________

١ ـ تحف العقول : ١٧٠.

٢ ـ تحف العقول : ١٧١.

٣٤٠