بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، وبعد :

فهذه مجموعة من المحاضرات التي ألقاها سماحة آية الله الشيخ محمّد السند في مأتم السّماكين في المنامة في موسم عاشوراء ١٤٢٦ هـ الموافق لشهر فبراير ٢٠٠٥ م ، وتدور حول العدالة الاجتماعية ، وقد تعرّض فيها سماحته للنظرة الإسلامية للعدالة الاجتماعية ، مع بيان بعض المقدّمات حول الروح والبدن وعلاقتهما بالتاريخ ، وأهمية التاريخ لا سيّما التاريخ الحسيني كعنصر من عناصر القوّة في المذهب الشيعي.

كما بيّن ـ حفظه الله ـ أنّ عملية الإصلاح لابدّ لها من الاستفادة من التاريخ ، ومن دراسة شخصيّاته واتّجاهاته.

كما أكّد على محورية العدل ورفض محورية القانون الذي لا يستند إلى العدل في تشريعاته ، وبيَّن ضوابط العدل ومنطلقاته بالإضافة إلى بيان أنّ رأي الأكثرية لا يحالف الصواب دائماً.

كما بحث في موضوع مفهوم الخليفة في القرآن الكريم ، والمصاديق التي ينطبق عليها هذا اللفظ ، ثمّ ناقش بعض تعريفات العدالة ، وتعرّض إلى مصادقة

٢٨١

الأُمم المتّحدة على عهد الإمام علي عليه‌السلام لمالك الأشتر ، واعتباره مصدراً من مصادر التشريع ، منوّهاً على أهمية نشر ثقافة أهل البيت عليهم‌السلام ، ومشيراً إلى التقصير الكبير في نشر ثقافتهم عليهم‌السلام.

كما تعرّض إلى الدور الكبير الذي يلعبه الإمام الحجّة عجّ الله فرجه الشريف في غيبته ، وتأثيره حتّى في زمن الغيبة في مجريات الأُمور رابطاً هذا الموضوع بتفسير سورة القدر المباركة ، وسيجد القارىء تطبيقات عديدة في البحث على مواقف الإمام الحسين والإمام علي عليهما‌السلام كمصاديق لتطبيق العدالة ، ومواقف بني أُميّة كمصاديق للظلم والانحراف ، كما ضرب بعض الأمثلة من الواقع المعاصر.

وقد كتبت هذه المحاضرات ، وجعلت في بداية كلّ محاضرة تلخيصاً لأهم أفكارها في عشرة محاور أو أقل ، كما أكثرت من العناوين تسهيلا للقارىء العزيز كي يستوعب الفكرة ، وأنوّه أنّ المحاضرة الثانية مبتورة بسبب مشكلة فنيّة في أشرطة التسجيل ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّق سماحة الشيخ للمزيد من العطاء ، وأن يوفّقنا للاستزادة من علوم محمّد وآل محمّد إنّه سميع مجيب والحمد لله ربّ العالمين.

سيد هاشم سيد حسن الموسوي

مملكة البحرين

الثاني من رجب المرجب ١٤٢٦

الموافق ٩ فبراير ٢٠٠٥ م

 

٢٨٢

المحاضرة الأُولى

التاريخ بين الروح والبدن

محاور المحاضرة :

أوّلا : الإحياء العاشورائي.

ثانياً : الفرق بين طبيعة البدن وطبيعة الروح وأحكامهما.

ثالثاً : التاريخ بالنسبة للروح شيء حاضر.

رابعاً : تكاليف الروح تختلف عن تكاليف البدن.

خامساً : للروح شرف خاص يميّزها عن باقي المخلوقات.

سادساً : تعميم أحكام البدن على الروح خطأ جسيم.

سابعاً : جدوى نبش التاريخ.

ثامناً : الحبّ والبغض مسؤولية كبيرة.

تاسعاً : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر البدني والقلبي.

عاشراً : معيارية الثورة الحسينية.

الإحياء العاشورائي

رافدية ذكرى عاشوراء تتمثّل في إحياء حقبة تاريخية عاشها الإمام الحسين عليه‌السلام وما جرى فيها من أحداث ، ومن المثمر أن يهتمّ الإنسان لإحياء التاريخ ، لا سيّما إذا كان يتعلّق بسيّد شباب أهل الجنّة وباقي الأئمّة عليهم‌السلام.

٢٨٣

تأثير إحياء التاريخ في شخصية الإنسان وهويّته

عموماً إحياء التاريخ وتعايش الإنسان معه له أبعاده في شخصية الإنسان وهويّته ، حيث إنّه لابدّ أن نفرّق بين حياة الإنسان كروح وعقل وذات حيويّة مدركة من جهة وبين حياة البدن من جهة أُخرى.

الفرق بين طبيعة البدن وطبيعة الروح وأحكامهما

الكثير من الناس يخلط بين أحكام البدن وأحكام الروح ، البارىء قدّر للروح أن تعيش في نشأة تتجاوز أُفق البدن سواء من جهة البدء أو من جهة الانتهاء ; لأنّ طبيعة الروح هي أنّها موجود غريب جدّاً عن البدن ; لأنّها مخلوق ذو أفق كبير واسع ، والبدن في تواجده ونموّه واستوائه وتطوّره يعيش هذه الحقبة من العمر ربّما ستّين أو سبعين أو مائة سنة ، فهو موجود محدود بوقت معيّن ، بينما الروح تبقى ومداها يكون واسعاً جدّاً. والأجيال السابقة مؤثّرة في البدن من ناحية الجينات الوراثية.

علاقة التاريخ بالبدن والروح

ومن ثمّ فإنّ التاريخ إنّما يكون بلحاظ البدن ، أمّا من ناحية الروح فإنّها لا تتعلّق بالسابق واللاحق ، ولو ضربنا مثلا ببعض الصفات الإلهية كأوّليّة الله وآخريّته ، لا يمكن التعبير عن أوّليّة الله بأنّها شيءٌ في الماضي فقط ـ والعياذ بالله ـ وإنّما أوّليّة الله كما هي في الماضي هي في الحاضر والمستقبل ، وكذلك آخريّة الله لا تعني أنّها شيء في المستقبل ، ولا علاقة له بالحاضر والماضي ، بل آخريّة الله هي في الماضي والحاضر والمستقبل.

ولو افترضنا أنّ أوّليّة الله وآخرويّته مرتبطة بالماضي فقط أو المستقبل فقط ، للزم أن يحصل التبعيض في ذات الله عزّ وجلّ ، فلا يصح أن نقول إنّ الله تعالى قد

٢٨٤

تصرّم منه شيء أو أنّه سيتحقق منه شيء في المستقبل ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ لأن الله تعالى كلُّه تَحَقُقْ ، وما كان منه تعالى وما سيأتي هو على نحو الكينونة المنجّزة ، وهذا في صفات الله ، ونحن لا نريد أن نقيس المخلوق بالله تعالى.

التاريخ بالنسبة للروح شيء حاضر

الروح شرّفها الله تعالى بشرف خاص وأضافها إلى ذاته ، وقد أطلق لفظ الروح على الذات الإلهية المقدّسة فقال تعالى : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (١) ، إنَّ التاريخ بالنسبة للروح ليس تاريخاً ، بل شيء حاضر ، والمستقبل بالنسبة للروح ليس مستقبلا ، بل شيء حاضر ، والإنسان يتفاعل مع الشيء الحاضر بصورة مرنة ، والروح بالنسبة إلى ما مضى وما سيأتي من خلال إدراكاتها ومواقفها شيء حاضر لديها وليس شيئاً ماضياً.

تكاليف الروح تختلف عن تكاليف البدن

تكاليف الروح تختلف عن تكاليف البدن ; لذلك أهّلت الروح لمسؤوليات تختلف عن البدن ، فالبدن لا يكلّف بنشأة البرزخ أو النشأة الآخرة ، وإنّما يكلّف بمسؤوليات بقدر طاقته وقدرته ، ولا يستطيع البدن التعامل مع ما مضى ، فليس بمقدوره اختراق أعماق التاريخ والتعامل مع الماضي ، إذن البدن لا يستطيع أن يفعل فيما مضى شيئاً ، ولا يستطيع أن يفعل فيما سيأتي شيئاً ، وإنّما يستطيع أن يفعل فيما هو كائن بينهما وهو الحاضر ، ومن خلال هذه المقدّمة يتّضح أنّ التكاليف منها ما يتعلّق بالروح ، ومنها ما يتعلّق بالبدن ، وأنّ البدن لضيق أفقه لا يستطيع أن يؤدّي التكاليف التي تختصّ بالروح ، فمن تكاليف الروح العظيمة

__________________

١ ـ الحجر (١٥) : ٢٩.

٢٨٥

والشريفة التي كلّفها بها الله عزّ وجل أن تحدّد هذه الروح بما أتيت من درجات وقوى حقيقة الحقائق وهي الله عزّ وجلّ ، والروح هي المسؤولية عن تحديد الموقف من وجود الله عزّ وجلّ ، ووجود الجنّة والنّار ، وكيفية بدء خلق الكون قبل خلقه ، فالروح مؤهّلة لأن تكتشف وجود الخالق ، بل إنّ الله يخاطب الروح بمفاهيم مثل الكرسي والعرش وغيرهما ، وهذا دليل على أنّ الروح لها سعة كبيرة وقابليّة عظيمة ، وليس من الإنصاف مساواة الروح بالبدن.

للروح شرف خاص يميّزها عن باقي المخلوقات

وهوية الإنسان ليست ببدنه وإنّما بروحه ، وقد ثبت أنَّ للروح مثل هذا الشرف العظيم ، والقرآن الكريم قد أشار إلى أنّ عوالم الخلقة مختلفة ، فقد أشار إلى خلق السماوات والأرض ، وخلق الملائكة ، وخلق الجن ، وخلق الروح ، ولكنّه يجعل للروح شرفاً خاصّاً ; لأنّها مجهّزة بشرائط وجودية خاصّة ، ولا نستطيع أن نقيّد الروح بالدار الدنيا ، فضلا عن تقييدها بعمر الإنسان المحدود.

الروح تصاحب البدن

والروح تصاحب البدن ، وهي شيء غير البدن ، وليس من الصحيح أن نقول أنّها استحالت من روح إلى بدن.

ولازالت الروح متعلّقة بعالم نشأتها ، وتكليف الله للإنسان بتكاليف متعلّقة بالروح دليل على أنّ الإنسان مزوّد بهذه الإمكانيات الروحية القادرة على تنفيذ هذه التكاليف ، وإلاّ لما كان للتكليف معنى.

تعميم أحكام البدن على الروح خطأ جسيم

ورد لفظ الروح عدّة مرّات في القرآن الكريم ، ومن الروح ما هو أفضل من الملائكة ، وأفضل من الجن ، وأفضل من السماوات والأرض ، مع الإشارة إلى أنّ

٢٨٦

الروح على درجات ، والروح تمثّل أساسياً من أركان الدراسات الإنسانية والنفسية والروحية والاجتماعية ، ومن الخطأ الجسيم تعميم أحكام وعناصر البدن على الروح ، ولو فعلنا ذلك سيكتب لنا الإخفاق في تفسير كثير من التكاليف ، ولن نفهم كثيراً من فلسفات التكاليف الإلهية والروح تخاطب بعوالم سابقة على خلق السماوات ، وعوالم ما بعد الدنيا كالبرزخ أو الجنّة أو النّار ، والروح على درجات بحسب العلم وحسب المعرفة ، ولم تخاطب الروح بالجنّة فحسب ، وإنّما خوطبت بما وراء الجنّة ، كما قال تعالى : ( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن وَرِضْوَانٌ مِنْ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) ، فرضوان الله أكبر من الجنّة وقد خوطبت الروح به.

جدوى نبش التاريخ

هناك من يطرح إشكالية تتعلّق بجدوى نبش صفحات التاريخ ، وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ التاريخ يتعلّق بالبدن وليس بالروح ، والروح تعايش كلّ شيء معاصر لها الآن ، ولذلك فأنت ترى أنّنا شيئاً فشيئاً نرى أنّ مكوّنات الروح ليست الأشياء الحاضرة ، ولو كانت الروح كذلك لأصبح الإنسان بدائيّاً كما عاش الإنسان الأوّل في الغابة ـ كما يدّعى ـ ولو تعايش الإنسان مع عناصر زمنه البدنية لكان إنساناً وحشيّاً ; لأنّ الروح هي مخزون من التجارب البشرية ، وتتضمّن الميول والمواقف الإنسانية تجاه مختلف القضايا.

موقف القرآن من الحوادث التاريخية

القرآن الكريم كتاب تاريخ ومواقف ، ومن المعروف أنّه يستعرض الملفّات

__________________

١ ـ التوبة (٩) : ٧٢.

٢٨٧

التاريخية ، وتمثّل هذه الملفّات قائمة كبيرة من القصص التاريخية ، ابتداء من النشأة البشرية حيث يبيّن فيها العناصر الظالمة والعناصر المظلومة ، ويربّي الإنسان على استخلاص الدروس والعبر ، ويطالب القرآن الكريم قارئه على التضامن مع المظلومين في مثل قصص هابيل وقابيل ، وقصّة أصحاب الأخدود ، وقصّة النبيّ يوسف إلى أن يصل إلى زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويندّد القرآن الكريم بالظالمين ، ويحدّد موقفه بالتصحيح والتخطئة.

كما يوازن الأفكار ، ويحدّد صوابية المدارس الفكرية وانحرافاتها ، ويطالب قارئه أن يقف حيّاً ومتحرّكاً تجاه ما يحدّده القرآن الكريم من مواقف من هؤلاء الأقوام.

القرآن الكريم يخاطب الروح

والقرآن الكريم لا يخاطب البدن ، وإنّما يخاطب الروح ، والروح حاضرة في كلّ هذه الخطابات ، وترتبط الروح بالأحداث الخارجية عن طريق قناة الإدراك ، وهذه القناة كما هي موجودة بين الروح وبين الأحداث الراهنة ، هي موجودة أيضاً بين الروح وبين ما مضى على البدن وما سيأتي عليه ، فالروح على استواء في التفاعل والإدراك والتعايش والتأثير والتأثّر مع كلّ أحداث العالم الجسماني فيما مضى وفيما سيأتي ، وهذا ما يفسّر لنا القاعدة الاعتقادية الفكريّة الشريفة التي تقول : إنَّ الإنسان ملزم بأن يحبّ الصالحين ، ويكره وينفر ويتبرّأ ويشجب ويستنكر الظالمين ، وأنّ من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حبّ المعروف قلباً ، كما أنّ من مراتب النهي عن المنكر كراهة المنكر قلباً ، فإن كان المعروف واجباً كان حبّه واجباً وإن كان المنكر حراماً فكرهه يكون واجباً أيضاً ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال في حديث : « يا عطيّة ، سمعت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : من أحبّ قوماً حشر معهم ، ومن

٢٨٨

أحبّ عمل قوم أشرك في عملهم » (١).

الحبّ والبغض مسؤولية كبيرة

وهذا يفسّر لنا لماذا يتعلّق الحبّ بهذه المرتبة الكبيرة؟ وقد تميّزت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام بهذه القضية ، فلا تجد مذهباً من المذاهب التي تنتمي إلى الديانات السماوية أو من غيرها من الملل والنحل يتحسّس من موضوع الحبّ والبغض كما هو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فهو مذهب يحثّ على التضامن والمساندة ووحدة الموقف كما هو في المصطلحات الحديثة ، أو التولّي كما هو في المصطلح الديني ، وفي مقابل ذلك الاستنكار والشجب والإدانة ، وبالمصطلح الديني التبرّي ، وسواء استخدمنا المصطلح الحديث أم المصطلح الديني فالموقف المطلوب الذي يطلبه أهل البيت عليهم‌السلام من أتباعهم هو موقف واحد يتمثّل في التضامن مع المظلوم والبراءة من الظالم انطلاقاً من مسؤولية الموقف تجاه الظالم والمظلوم.

الروح هي المسؤولة عن الحبّ والبغض

والروح هي المسؤولة عن الحبّ والبغض ، وما حدث في التاريخ وما سيحدث له أثره الكبير على الروح وتلوين الروح وتشخيص هويّة الروح ، فالحوادث التاريخية ليست شيئاً أكل الدهر عليها وشرب ، وإنّما هي حوادث حاضرة ومؤثّرة على الروح ، وقد يعبّر عن الروح بأنّها حصيلة معلومات ، ولا يمكننا أن نتصوّر الروح من غير معلومات.

تشدّد القرآن الكريم وأهل البيت عليهم‌السلام في مسألة الحبّ والبغض

وتشدّد أهل البيت عليهم‌السلام في هذه المسألة يتوافق مع التشدّد القرآني في المسألة

__________________

١ ـ مستدرك الوسائل ١٢ : ١٠٨ ، الحديث ١٣٦٤٨.

٢٨٩

ذاتها ، والسبب في ذلك أنّ ما حدث في التاريخ يؤثّر في الروح ، فكلّ الأُمور التي مضت حاضرة لدى الروح ومؤثّرة فيها ، والروح هي حصيلة المعلومات فلا يمكن تصوّر الروح بلا معلومات ، فكلّ ما هو حي متعلّق بالروح ، كما قيل : « فالناس موتى وأهل العلم أحياء » (١) ، والعلم هو حياة الروح ، وتمام هويّة الروح ووجودها هي المعلومات ، والجهل هو موت الروح ، ومن الخطأ أن نتحسّس من إحياء ما مضى من التاريخ ; لأنّ الروح هي بطبيعتها حيّة بما مضى وبما سيأتي ، وأنّ ما مضى ماض بلحاظ البدن ، أمّا بالنسبة للروح فما مضى هو حي حاضر لديها ، فيجب على الإنسان أن يكون له وعي وموقف فيما صاحب ماضي الزمان من الأحداث ، والذي لا يعي ما مضى من الأحداث فهذا لا بدّ أنّه يعاني من نقص في هويّته الإنسانية والروحية ، ويكون بمثابة الميّت الذي لا يتمتع بحياة الروح ، وهو شبيه بأجزاء معطّلة من ذاكرة الحاسب الآلي ، فإذا كانت هذه الذاكرة معطّلة فلا فائدة منها ، وكذلك الروح إذا كانت بدون معلومات فلا فائدة منها.

وكلّما ازدادت دائرة علم الروح المدرك للحقيقة اتّضحت لها الحقيقة ، فلا ترى البياض بصورة السواد ، ولا السواد بصورة البياض ، وحينئذ تكون الروح حيّة وناضجة ، إذن نبش التاريخ وتقليب صفحاته سنّة قرآنية ، والروح تتأقلم مع هذا التقليب لصفحات التاريخ وتتكامل به.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر البدني والقلبي

نستطيع أن نفهم جملة من التكاليف الإلهية التي بعضها مفاهيم عقائدية وبعضها مسائل فقهية ، فمثلا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القلبي يختلف عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر البدني ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هدفه

__________________

١ ـ العلم والحكمة في الكتاب والسنة : ٣٥٢ ، نقلا عن الديوان المنسوب للإمام علي عليه‌السلام.

٢٩٠

تصحيح المسار البشري وتصحيح الفكر البشري وإزالة الفساد الفكري ، وتبديل الأعراف الفاسدة إلى أعراف صحيحة ، والمحافظة على الأعراف الصحيحة ، وكلّ هذه الأُمور من الممكن أن تستفاد من شعائر سيد الشهداء عليه‌السلام.

تساند من؟ تتضامن مع منّ

ومن خلال ما قدّمنا نستطيع أن نستنبط كيف أنيطت بالروح كلّ هذه المسؤولية ، لأنّ الروح تميل للأحداث حتّى ولو كانت هذه الأحداث تاريخية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينطلق من منطلق مسؤولية الموقف تجاه الفرد الإنساني والفرد المؤمن ، فالمسؤولية يعني : أنت مع منّ ومع من تقف؟ ومع من تتضامنّ وتساند من؟ هذه المسؤولية لا تقف عند حدّ الحاضر ، بل هي متعلّقة بأعماق التاريخ ، ونلاحظ أنّ الإنسان بفطرته ينفر من الطغيان والوحشية ، كما هو الحال في النفور الفطري من النازية مع أنّها مضت مع الأيام ، ولكن لابدّ أن يكون الموقف منها موقفاً سلبياً.

الفائدة من الموقف السلبي تجاه الطغيان التاريخي

وموقف المسلمين من الخوارج في التاريخ القديم له فوائد ، ومن فوائده أنّه يفيدهم في أن لا يخرج من بينهم من يتبنّى موقف الخوارج ، ويهدّد حالة السلام التي يعيشها المسلمون ، ونحن هنا لا ننتقد فرقة الخوارج كفرقة فقط ، وإنّما ننتقد فكر الخوارج حتّى ولو كان عند غيرهم ممّن يتسمّون بتسميات أُخرى ، كمن يبيحون دماء المسلمين استناداً إلى فهم خاطىء للدين ، كما هو حال الفرق المتشدّدة والإرهابية التي تحمل نفس فكر الخوارج ، وترفع شعار الحق وتريد به الباطل ، وتنسف مبادىء الدين بشعارات دينية.

ومن هنا تتبيّن أهميّة إحياء ذكرى عاشوراء ; لكي تربّي الأجيال جيلا بعد

٢٩١

جيل ; ولأنّ البشرية تحتاج دائماً إلى إصلاح ، والوعي البشري يتضمّن برنامجاً إصلاحياً متكاملا ، وإنّ عدم إحياء ما حدث في التأريخ ، وتحديد الموقف تجاهه يسبّب عودة الغدد السرطانية إلى جسم العالم الإسلامي ، وتهدّده من جديد.

خلود الروح الحسينية

والحسين مخلّد ، والخلود هنا هو خلود الروح ، وإلاّ فما فائدة خلود جسد فرعون ، خلود الحسين يعني خلود الروح والأطروحة الحسينية ، فعاشوراء لا زالت حيّة وغضّة وطريّة تربّي الأجيال على قيم الثورة والتحرّر ورفض العبودية.

معياريّة الثورة الحسينية

ونستطيع من خلال الثورة الحسينية أن نكتشف الزلاّت والثغرات في الأطروحات المنحرفة ، ونستطيع أن نجعل الثورة الحسينية معيار الإصلاح الذي نقيس به أيّ حركة إصلاحية ، وعندما يقع الفساد فإنّنا بحاجة إلى رايات الإصلاح ، نحن نمتلك برامج ثريّة وغنيّة لا يمكن أن يدخلها الفساد. ونستطيع من خلال الحسين عليه‌السلام أن نسابق البشرية على صعيد حقوق الإنسان ، وعلى صعيد السلم البشري.

ومدرسة سيد الشهداء عليه‌السلام فيها ما شاء الله من الكنوز والعطايا ، وعندما نتكلّم عن الإحياء العاشورائي فإنّنا لا نقصد بذلك حضور المجالس الحسينية فحسب ، بل قراءة الوقائع التاريخية الحسينية وتحليلها وتطبيقها على الواقع من مصاديق الإحياء أيضاً ، ونشر هذه الثقافة وتداولها يصبّ في مصبّ الإحياء.

الآن الكل يدّعي الإصلاح ويتبجّج به ، ولكن ما إن ينكشف الغطاء قليلا حتّى يتبيّن خطأ ذلك المنهج وثغراته وزلاّته وسلبياته بعد فوات الأوان.

٢٩٢

النموذج الحسيني لن يتكرر بنفس المستوى

نحن على ثقة بأنّ النموذج الحسيني لن يتكرر بنفس المستوى ، ولن تصل أيّ حركة إصلاحية إلى المستوى الذي وصل إليه النموذج الحسيني ، ويمثّل النموذج الحسيني ضمانة للأُمّة في عدم الوقوع فيما وقع فيه بعض المسلمين في الأزمان السابقة ، وما وقع فيه المسلمون في الزمن الحاضر.

٢٩٣
٢٩٤

المحاضرة الثانية

مواجهة عناصر القوّة الشيعية

محاور المحاضرة

أوّلا : عاشوراء النموذج الأمثل للإصلاح.

ثانياً : لابدّ من دراسة التاريخ دراسة موضوعية.

ثالثاً : الأعراف تمثّل خطوط حمراء.

رابعاً : الجذور التاريخية لظاهرة الإرهاب.

خامساً : الحسين عليه‌السلام يواجه الطواغيت في كلّ العصور.

سادساً : كربلاء سرّ قوّة الشيعة.

سابعاً : عنصر المرجعية نقطة قوّة أُخرى.

ثامناً : خطط منظّمة لإضعاف دور المرجعية.

عاشوراء النموذج الأمثل للإصلاح

ما تسالمت عليه البشرية من نبذ العنف والإرهاب ومكافحة الفساد في المجتمع نستطيع أن نستفيده من ثورة سيد الشهداء عليه‌السلام ; لأنّ سيد الشهداء عليه‌السلام لم يبدأهم بقتال ، ولم يغلق باب الحوار مع جيش بني اُميّة.

وتعتبر ثورة سيد الشهداء عليه‌السلام هي النموذج الأمثل والأكمل للإصلاح ، ومن فوائد الإحياء العاشورائي هو الاستزاده من التجربة الإصلاحية الحسينية لأيّ حركة إصلاح معاصرة.

٢٩٥

لابدّ من دراسة التاريخ دراسة موضوعية

لا يمكن أن تتم عملية إصلاح في الوقت الراهن بدون الرجوع إلى التاريخ ومحاسبة المواقف والشخصيات التاريخية ، ومن يعتقد أنّ نبش التاريخ وتقليب صفحاته يعود علينا بالتشنّج فإنّه لا يسير على جادّة الصواب. نعم ، نحن نقول : يجب أن ندرس التاريخ بصورة موضوعية وعلمية هادئة لا أن ندرسه دراسة متعصّبة أو انفعالية عاطفية.

هناك من يقول : دعونا نبتر أنفسنا عن التاريخ ، ونغضّ بصرنا عنه ، ونركّز على إصلاح أنفسنا استناداً إلى قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (١) ، وهذا الاستشهاد في غير محلّه.

الأعراف تمثّل خطوط حمراء

الروح هي حصيلة معلومات وأعراف اجتماعية مكتسبة من الأسرة والبيئة الاجتماعية ، وهذه الأعراف قد تكون أعرافاً اجتماعية أو قوانين حقوقية ، وهذه الأعراف والقوانين أشدّ نفوذاً من الحكومات السياسية ; لأنّها تشكّل خطوطاً حمراء لا يستطيع الناس تجاوزها ، وهذه الأعراف تشكّل برنامجاً يحرّك أفراد المجتمع بشكل تلقائي ، وقد يكون ذلك في اللاشعور أو على مستوى الوعي الباطني ، ولو حاول إنسان أن يعارض هذه الأعراف فإنّه سيواجه بمعارضة شديدة ، وهذه الأعراف مرتبطة برموز وأشخاص يكنّ لها المجتمع الاحترام والتقدير ، وتستمد منها هذه النواميس والنظم والمراسم والأحكام.

__________________

١ ـ المائدة (٥) : ١٠٥.

٢٩٦

الجذور التاريخية لظاهرة الإرهاب

ظاهرة الإرهاب وظاهرة غياب الحوار هي ظاهرة متولّدة من أعراف معيّنة ، ولا يمكن اجتثاثها إلاّ بالبحث عن المسبّبات التي أدّت إلى ظهورها ، ونحن نحتاج إلى فتح ملفّات الماضي من أجل الوصول إلى بعض النتائج ; لأنّ هذا الإرهاب والعنف وغياب الحوار مرتبط بالماضي من حيث المصدر والمشروعية والتكوّن ، ومن هنا تبرز أهمية الإحياء العاشورائي الذي يتمثّل في محاسبة فكرية لا تقتصر على الماضي فقط أو على الحاضر فقط ، بل هي محاسبة مطلقة ، وهي تمسّ حتّى الأنظمة الفعلية في هذا الزمان.

الحسين عليه‌السلام يواجه الطواغيت في كلّ العصور

وما كان من عرقلة لزيارة الإمام الحسين عليه‌السلام منذ استشهاده إلى زماننا هذا ينطلق من أنّ الحسين عليه‌السلام لا يحاسب عصره فقط ، وإنّما يحاسب الطواغيت في كلّ زمان ومكان ، ويحاسب الأعراف الخاطئة التي تولّدت من تلك المدارس المنحرفة ; ولذلك فإنّ هناك توجّس وتحسّس من قبل الظالمين تجاه مدرسة سيد الشهداء عليه‌السلام ، وهناك محاولات من أجل قطع العلاقة بين الشيعة وبين الإحياء العاشورائي الذي يحرصون عليه.

كربلاء سرّ قوّة الشيعة

وقد صدر عن مركز الاستخبارات الأمريكية كتاب ، نشرت عنه بعض الصحف في إيران ، للكاتب مونيكال براينز ، يذكر أنّ الشيعة لا زالوا يحتفظون بفاعلية وحركية تقاوم المخططات الغربية دون بقية المسلمين ، ويذكر أمثلة ، منها : الثورة الإسلامية في إيران ، ومنها : حزب الله في لبنان ، وكيف أنّه أخرج الجيش الإسرائيلي من الجنوب ، وأنّ نداءات يا حسين ويا أبا الفضل العباس قد ألهبت

٢٩٧

الشارع الجماهيري الشيعي ، وكذلك في العراق حيث فشل النظام البعثي ـ كما يذكر هو ـ رغم كلّ ما أوتي من قدرة وأنظمة أمنية فتّاكة في اقتلاع وتعطيل حوزة النجف الأشرف ، والشيعة تمثّل القطاع الحي والنابض في العالم الإسلامي ، وهم أتباع أهل البيت عليهم‌السلام وأتباع سيد الشهداء عليه‌السلام ، ومن ثمّ فإنّه يقرّر أنّ عنصر قوّة الشيعة يتمركز في شيئين ، هما : عزاء الإمام الحسين عليه‌السلام والارتباط بالإمام الحسين عليه‌السلام وهو الذي يبعثهم على استرخاص النفس ، ورفض منطق العدوان والظلم ، والتحلّي بالعزّة والإباء والحماس والأنفة ، وفي كلّ سنة تتجدّد الطاقات من خلال الإحياء العاشورائي.

السيد السيستاني وموقفه من الانتخابات

الموقف الصلب للسيستاني الذي أصرّ على الانتخابات ، ورفض مقابلة أيّ مسؤول أمريكي هو موقف جهادي ، كما كان سيد الشهداء عليه‌السلام الذي لم يبدأهم بقتال ، ولكنّه في المقابل ثابت على المبدأ.

ثمّ يذكر هذا الاستخباري الأمريكي أنّ الشيعة يمثّلون مصدر قلق لأمريكا.

عنصر المرجعية نقطة قوّة أُخرى

ثمّ يقول : إنّ العنصر الثاني من عناصر القوّة الشيعية هو عنصر المرجعية الدينية ، ويستشهد بفتوى ثورة التنباك ، وفتوى ثورة العشرين ، والثورة الإسلامية في إيران.

ثمّ يبحث في كيفية مواجهة العنصر الأوّل ، وهو ارتباط الشيعة بسيد الشهداء عليه‌السلام ، وهو التشكيك في مصداقية إحياء مراسم عاشوراء ، والادعاء بأنّها من قبيل الخرافات والأساطير ، وتشجيع كتّاب الشيعة على مثل هذا الاتّهام للشعائر الحسينية.

٢٩٨

خطط منظّمة لإضعاف دور المرجعية

وقد نقل لي أحد الطلاب الذين يحضرون عندي بحث الفقه والأصول ، وهو من العراق أنّ هناك دورات قصيرة ومكثّفة في العراق يحصل من يحضرها على مائتي دولار ، وهذه الدورات تركّز على الفلسفة الغربية ، ونبذ الخرافات والأساطير ، كما تركّز على رفض التقليد ، واعتبار التقليد أنّه من عمل الببغاوات والحيوانات وأنّ الإنسان يجب أن يكون حرّاً.

وقد ذكر هذا الكاتب الاستخباري خطّة زمنية تهدف إلى تشويه صورة المرجعية الدينية بحلول عام ٢٠١٠ ، وكذلك إظهار الشيعة بصورة الإرهابيين من خلال الإحياء العاشورائي ، وهم يستهدفون مراسم الإحياء العاشورائي باعتباره نقطة قوّة عند الشيعة ; لأنّها تنبض بالتضحية والفداء والحماس والتعبئة ، التي أشار إليها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في رواياتهم ، وقد ذكر الحر العاملي ثمانين باباً تحت عنوان المزار ، ويستفاد منها التعبئة والحماس والتضحية والفداء والانشداد لأهل البيت عليهم‌السلام عبر عاطفة البكاء ، وبالتالي الذوبان في مبادىء الحسين وأهل البيت عليهم‌السلام ، ويكونون عليهم‌السلام هم القدوة للشيعي ، وطريق البكاء طريق جذّاب جدّاً ، وهو أقصر الطرق للتفاعل مع القدوة التي يقتدي بها الإنسان ، والنموذج الحسيني الماثل أمام أعين المسلمين جميعاً وليس الشيعة فقط ، هو النموذج الذي يقلق الدوائر الاستكبارية.

٢٩٩
٣٠٠