بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

الأنبياء أولوا العزم ، وهذا ما ورد عن المعصومين حيث وصفوهم بأنّهم أصحاب شرائع ، وليس أصحاب أديان متعددة ، بل بُعثوا بدين واحد (١).

النسخ يقع في الشرائع ، ولا يقع في العقائد

هل يعقل أن يأتي آدم عليه‌السلام بدين وعقائد حقّة ، ثمّ تكون هذه العقائد مؤقّتة بزمن معيّن ، فيأتي نوح عليه‌السلام وينسخ العقائد التي أتى بها آدم ، ثمّ يأتي إبراهيم وينسخ العقائد التي أتى بها نوح عليه‌السلام وهكذا؟!

إنَّ هذا أمر لا يعقل ; لأنّ الدين عبارة عن رؤى كونية ، وإذا كانت هذه الرؤى الكونية صادقة فهي غير قابلة للتبديل والتغيير.

فيستحيل نسخ التوحيد أو المعاد أو النبوة ، وإنّما يقع النسخ في الشرائع.

بل حتّى أركان الفروع هي من الدين ولا يقع عليها النسخ ، فأصل وجوب الصلاة والزكاة ثابتة في شريعة كلّ نبي ، قال تعالى على لسان عيسى :

( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ) (٢).

وكذلك الحجّ فكلّ الأنبياء حجّوا بيت الله الحرام ، وكذلك الجهاد والصوم. نعم ، قد يختلف شكل الصلاة أو الصيام ، ولكن أصل وجوبها ثابت في كلّ الشرائع ، وهذا ينطبق على المحرّمات وتحريم الفواحش كالزنا والخمر ، فأصل تحريم الفواحش ثابت في كلّ الشرائع وإن اختلفت سعة وضيقاً ، حتّى أُصول أحكام الأسرة والزوجية والتعاقد التجاري وتحريم الربا ; ولذلك فإنّ الله تعالى يندّد بالمجتمع اليهودي ; لأنّه يتعامل بالربا.

__________________

١ ـ الفصول المهمة ١ : ٤٢٨ ، الحديث ٥٨٧.

٢ ـ مريم (١٩) : ٣١.

٢١

قال تعالى : ( وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) (١). وتحريم الربا يدخل ضمن أركان أُصول التشريع ، وهذه الأركان تدخل ضمن إطار الدين وليس الشريعة.

قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (٢).

فصاحب الشريعة اللاحقة لا يُكذّب دين صاحب الشريعة السابقة ، بل يُصدّقه في منطقة دائرة الدين من حيث إنّ الدين واحد لا يتعدّد.

قال تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاِْسْلاَمُ ) (٣).

ومفهوم هذه الآية لا يقتصر على أنّ الدين بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو دين الإسلام ، بل مفهومها يشمل كلّ الأزمان من لدن آدم إلى يوم القيامة ، فالدين عند الله الإسلام منذ بدء الخليقة.

قال تعالى : ( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (٤).

فالدين لا يقبل النسخ. نعم ، قد تزداد معارف نبي عن نبي آخر ، وأكملها وأوسعها وأعمقها ما بعث بها النبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله لمنزلته من القرب الإلهي حيث إنّ الإحاطة التي زوّد بها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والرؤى الكونية التي يمتلكها أوسع ممّن سبقه من الأنبياء.

قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) (٥).

__________________

١ ـ النساء (٤) : ١٦١.

٢ ـ المائدة (٥) : ٤٨.

٣ ـ آل عمران (٣) : ١٩.

٤ ـ الروم (٣٠) : ٣٠.

٥ ـ المائدة (٥) : ٤٨.

٢٢

فالقرآن الكريم مهيمن على ما سبقه من كتب ; لأنّ فيه من المعارف الجمّة مالم يتعرّف عليه من خلال الشرائع السابقة. نعم ، الدين في حالة تبلور وتجلّي أكثر من قبل السماء إلى البشرية ، هذا صحيح ومقبول ، أمّا أن نقول بوجود النسخ في الدين فهذا مستحيل ; لأنّه متعلّق بالعقائد كما مرّ ، ولا يقع النسخ إلاّ في الشرائع ، وذلك حسب الظروف والبيئات.

آيات قرآنية تدلّ على أنَّ الدين واحد

قال تعالى : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (١).

وقال تعالى : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) (٢).

وقال تعالى على لسان إبراهيم ويعقوب : ( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِىَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (٣).

وقوله تعالى على لسان السحرة بعد أن تابوا وواجهوا فرعون : ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ) (٤).

وقوله تعالى على لسان يوسف عليه‌السلام : ( تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (٥).

وقوله تعالى : ( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد

__________________

١ ـ الشورى (٤٢) : ١٣.

٢ ـ الأنعام (٦) : ١٦١.

٣ ـ البقرة (٢) : ١٣٢.

٤ ـ الأعراف (٧) : ١٢٦.

٥ ـ يوسف (١٢) : ١٠١.

٢٣

مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (١).

الدين عند الله الإسلام بصورة مطلقة عند كلّ الأنبياء ، كما هو واضح في الآيات المتقدّمة.

الشريعة والدين وقضية الغدير

نشير إلى هذه القضية وإن لم تكن من صلب الموضوع إلاّ أنّها ثمرة من ثمار التفريق بين الشريعة والدين ، وجديرٌ بنا أن نجني هذه الثمرة.

قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً ) (٢).

وبناءً على ما ذكرنا من الفرق بين الدين والشريعة يتّضح أنّ هذه الآية النازلة في قضية الغدير وفي ولاية علي عليه‌السلام ، تجعل قضية الإمامة وتنصيب علي عليه‌السلام تحت مظلّة الدين وليس تحت مظلّة الشريعة ، وهذا يدلّل على أنّ الإمامة من أُصول الدين وليس من فروع الدين ، وأنّ إمامة علي عليه‌السلام كانت من صلب الدين الذي بعث به الأنبياء ; لأنّهم جميعاً بعثوا بدين الإسلام ، كما أثبتنا من خلال الآيات السابقة ومن خلال قوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاِْسْلاَمُ ) (٣).

الدين عند الله الإسلام بصورة مطلقة عند كلّ الأنبياء ، كما هو واضح في الآيات المتقدّمة.

والذي هو عند كلّ الأنبياء السابقين وليس عند النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده كما مرّ سابقاً.

__________________

١ ـ البقرة (٢) : ١٣٦.

٢ ـ المائدة (٥) : ٣.

٣ ـ آل عمران (٣) : ١٩.

٢٤

إذاً تكون النتيجة أنّ ولاية علي عليه‌السلام من صلب الدين الذي بعث به كلّ الأنبياء السابقين.

ونستنتج أيضاً أنّ الدين من دون ولاية علي عليه‌السلام غير مرضي عند الله ; لقوله تعالى : ( وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً ) (١). ومن غير المعقول أبداً أن يبعث الأنبياء بدين غير مرضي عند الله.

وقد جاءت الروايات الكثيرة التي تؤكّد أنَّ ولاية علي عليه‌السلام قد بعث بها الأنبياء السابقين (٢).

وولاية علي لم تر الوجود في يوم الغدير ، وإنّما هي موجودة قبل ذلك ، وإنّما أظهرت وأبرزت في ذلك اليوم ، كما أنّ التوحيد موجود قبل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن أظهر وأبرز ببعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكذلك كانت قضية الغدير.

وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (٣).

وهذه الآية أيضاً تدلّ على أنّ الإمامة ركن ركين من الدين وليست قضية ثانوية في الشريعة ; لأنّ عدم التبليغ بإمامة علي عليه‌السلام تساوي عدم تبليغ الرسالة بأكملها كما تنصّ الآية.

آية المودّة وقضية الإمامة

وقال تعالى : ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٤). الضمير « عليه »

__________________

١ ـ المائدة (٥) : ٣.

٢ ـ الاختصاص ١٢ : ٢٥٠.

٣ ـ المائدة (٥) : ٦٧.

٤ ـ الشورى (٤٢) : ٢٣.

٢٥

راجع إلى الإسلام على رأي بعض المفسّرين (١) أو راجع إلى الجهد والمعاناة التي عاناها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الرسالة الإسلامية.

مودّة أهل البيت عليهم‌السلام جعلت أجراً للرسالة ، والأجرُ هو العدل أو المعاوضة ، فيكون عندنا عوض ومعوّض ، وينبغي أن تتوفّر المساواة بينهما ، فليس من الصحيح أن تشتري جوهرةٌ ثمينةٌ بثمن بخس.

فإذا كانت مودّة أهل البيت عليهم‌السلام في كفّة والكفّة الأُخرى فيها الإسلام أو معاناة الرسالة التي قيمتها بلحاظ نفس الدين ، إذاً نستنتج من الآية بأنّ المودّة لأهل البيت عليهم‌السلام ليست من الشريعة ، بل هي ركن ركين من أصول الدين ; لأنّ أجر الرسالة ليس من المناسب إدراجه في الشريعة ، والله هوالذي أعطى هذا المقام لأهل البيت عليهم‌السلام ، وعندئذ لا محلّ لاتهام الشيعة بالغلو في أهل البيت عليهم‌السلام ; لأنّ الله هو الذي وضعهم في هذا الموضع الرفيع ، والله ينهى عن الغلو ، فإذا وضعهم الله في الموضع الرفيع فإنّ هذا الموضع ليس من الغلو في شيء.

وهذه المودّة مخصوصة بالمعصومين الأربعة عشر ، ولا تشمل جميع السادة ـ أبناء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وإن كان يترشّح منها الاحترام لهم والتقدير.

__________________

١ ـ الميزان في تفسير القرآن ١٨ : ٤٢.

٢٦

المحاضرة الثانية

المدارس الغربية الحديثة التي واجهت الكنيسة

وتحكّم رجال الدين المسيحيين

محاور المحاضرة :

أوّلا : الأجواء التي نشأت فيها العلمانية.

ثانياً : مدرسة العلمانية « السكولارزم » ـ فصل الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية ـ « مدرسة فلسفية ».

ثالثاً : مدرسة « البلوري ألسم » ـ تعدد الإدراك « مدرسة منطقية ».

رابعاً : مدرسة الهرمونطيقية ـ تعدّد القراءات ـ « مدرسة أدبية ».

الأجواء التي نشأت فيها العلمانية

في البداية نستعرض لمحة تاريخية عن علاقة أوروبا بالمسيحية والعلمانية.

دخلت أوروبا الغربية في الدين المسيحي في القرن الثاني الهجري ، أي : السادس الميلادي.

وهذا أمرٌ مؤسف ، ووجه الأسف ليس الانتقال من الوثنيّة إلى المسيحية ، وإنّما وجه الأسف هو أنَّ الدين الإسلامي وهو في ريعان شبابه فاتته فرصة إدخال هؤلاء القوم في الإسلام ، وكانت النتيجة أن احتضن المسيحيون المبشّرون الذين انطلقوا من الروم أو اليونان إلى أوروبا الغربية لدعوتهم إلى الدين المسيحي.

٢٧

واستمر الدين المسيحي بقوّة في تلك البلدان إلى أن وصل إلى القرن الثامن عشر الميلادي ، وفي هذه الفترة بدأت تعلو الصيحات الثورية على غطرسة الملوك والنظم السياسية الغربية التي كانت تحرق الطبقات الفقيرة بنار الفقر وسطوة الاضطهاد ، وفي هذا الجو ظهرت التيارات المعادية لهذه الأنظمة.

وتحالف الملوك ورجال الكنيسة ، فرجال الكنيسة يعطون الملوك الشرعية فيما يعملون ، والملوك يدعمون رجال الكنيسة بنفوذهم ، وأمام هذا التحالف بدأت قوى إصلاحية تعتمد على مواجهة الملوك وتحطيم شرعية الكنيسة المتحكّمة في المجتمع آنذاك ، فبدأت عمليات تنظير عديدة ، وإن لم تنتج عن انفصال أبدي للدين كما قلنا سابقاً ، إلاّ أنّها كانت تستهدف الحدّ من هيمنة الدين المسيحي على المجتمع.

وعدم حدوث الانفصال الأبدي هو أنّ سرّ الخلقة مرتبطة بالجانب الروحي والغيبي ، وأنّ الدين حتّى وإن حُرّف يكون قابلا للتأثير في المساحة غير المحرّفة منه ، حتّى الديانات الهندية قد يكون بعضها لها أُصول سماوية ; لأنّ الأنبياء كانوا منتشرين في بقاع العالم قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّة إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ) (١).

حتّى بعض أصول البوذية تتوافق مع الديانات السماوية الأُخرى ، وهذا ينطبق على بعض الديانات الموجودة في شرق آسيا.

وفي هذه الأجواء تبلورت ثلاث مدارس فكرية تأثّر بها المتّفقون والجامعيّون المسلمون ، ونتج عن هذه المدارس ما نسمّيه بالعلمانية.

والعلمانيون الغربيون يتنبّؤون بسقوط الدين الإسلامي ، كما سقطت المسيحية.

ونحن نقول لهم إنّ المسيحية لم تسقط ، وإنّما سقط التحالف بين رجال الكنيسة

__________________

١ ـ فاطر (٣٥) : ٢٤.

٢٨

الذين كانوا يبحثون عن مصالحهم الدنيوية والطبقات الإقطاعية متمثّلة في ملوك الظلم والاضطهاد.

المدرسة الأولى : العلمانية « السكولارزم » فصل الدين عن السياسة والمجتمع

وهي مدرسة فلسفية أيديولوجية تبنّاها مجموعة من فلاسفة القانون والحقوق والسياسة ، ولهذه المدرسة عدّة اتجاهات ، ولكنّها تعتمد أساساً على نظرية فصل الدين عن النظام السياسي والاجتماعي ، وأنّ الدين عبارة عن طقوس عبادية ورياضات روحية ، هدفها إشباع الظمأ الروحي عند الإنسان ، فالروح لها برنامجها الخاص ، والدين معترفٌ به بهذا المقدار في هذه المدرسة ، سواءً أكان هذا الدين دينٌ سماويٌ حقيقي أم كان دين خرافي زائف ، وهذه النظرية لا يعنيها حقّانية الدين أو بطلان إلاّ أنّها ترى أنّه ضروري لإشباع حاجات الإنسان الروحية ، وكلمة « سكولار » تعني باللاتينية « الفصل » ; لأنّ هذه النظريّة تفصل الدين عن باقي الأُمور السياسيّة والاجتماعيّة والنظام المالي وغيره.

ولازالت هذه النظرية لها تأثيرات فكرية إلى يومنا هذا بالرغم من مرور قرنين من الزمان عليها ، والنظام الغربي الحالي ينتمي إلى هذه المدرسة.

المدرسة الثانية : نظرية التعددية « البلوري ألسم »

وهي مدرسة منطقية وليست مدرسة فلسفية ، وتعتمد على منهج الإدراك وكيفية استقاء المعلومات ، والمناهج المنطقية القديمة والحديثة ، والغربية والشرقية ، والمادية وغير المادية ، جميعها تهتمّ بكيفية الإدراك ونظم المعلومات والاستنتاج من تلك المعلومات.

٢٩

تعتمد هذه النظرية على أساسين :

١ ـ إنَّ الإنسان لا يستطيع أن يحيط بالحقيقة بمفرده.

٢ ـ إنّ الإنسان وإن قدر على إدراك بعض الحقيقة ، ولكن لا يستطيع إدراكها كلّها.

العلماء جميعاً يبحثون عن الحقيقة ، سواءً كانوا من العلماء الذين يؤمنون بالغيب أو كانوا من العلماء الماديين ; لأنّهم يؤمنون بالعلوم التجريبية بحثاً عن الحقيقة.

القائلون بهذه النظرية يقولون بما أنّك لا تستطيع أن تدرك الحقيقة بمفردك ، وأنّك إذا أدركت بعضها لا تدركها كلّها ، إذاً فالآخرين أيضاً يمتلكون سهماً من الحقيقة ، فالحقيقة أشبه ما تكون بالشركة المساهمة بعض أسهمها عندك والأسهم الأُخرى عند الآخرين ، ومن هنا لا يحق لك أن تخطّىء الآخرين ، وتفنّد آراءهم من منطلق تعدّد الإدراك ونسبية إدراك الحق أو الحقيقة ، فكل رأي من الآراء ـ في نظرهم ـ يجب أن يكون في دائرة الاحتمال ، وهناك من تأثّر بهذه النظرية ، فقال : إنّ كلّ الأديان حق ، وكلّها توصل إلى الله تعالى ، بحجّة أنّ الإسلام أو نبي الإسلام لا يملك كلّ الحقيقة ، ومن هنا قبلوا بتعدّد الأديان ، وأنّها كلّها حق.

وهذه النظرية تكون مفيدة إذا وضعت لها شروط ، وقيّدت بقيود معيّنة ، أمّا تركها على إطلاقها فذو نتائج سلبية مهلكة ، وعلى سبيل المثال فسح المجال أمام الشذوذ الجنسي بعنوان الحرية ، وتعدّد الآراء ، فتكون النتيجة أنّك لا تستطيع أن تمنع هذه الحالة ; لأنّك لا تملك الحقيقة ، وإذا عرفت شيئاً منها فإنّك لن تحيط بها كلّها وهذه النظرية تجتاح الكثير من المباحث ، فهناك من يؤمن بالاستنساخ للفرد البشري رغم مضارّه الجمّة بالحجّة نفسها ، والجدير بالذكر أنَّ لكلّ نظرية عدّة اتجاهات ولها منظورها وآراؤها وفرقها ، ولكن نحن نركّز على الفكرة الرئيسية

٣٠

لكلّ مدرسة من هذه المدارس.

المدرسة الثالثة : المدرسة الهرمونطيقية

وهي مدرسة أدبية تختلف عن مدرسة العلمانية « السكولارزم » الفلسفية والتعددية « البلوري ألسم » المنطقية ، وهذه المدرسة تعني بالعلوم النقلية وكيفية قراءة وفهم النص ، سواءً كانت نصوص سماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن ، أو كان نصاً بشرياً.

وكان روّاد هذه المدرسة فلاسفة من آلمان متخصّصون في الألسنيات وعلوم اللغة.

وعلى المستوى السياسي هناك تأثير كبير في مجريات الأحداث جرّاء التأثّر بهذه النظرية ، فمثلا : لو أصدرت منظمة الأمم المتحدة بياناً تدعم فيه العرب والمسلمين ، ثمّ أتى بعض المتخصّصين اليهود ، وحاولوا قراءة النص قراءةً تدعم مصالحهم معتمدين على تعدّد القراءات.

والفرق بين هذه المدرسة ومدرسة التعددية « البلوري ألسم » هو أنَّ المدرسة الهرمونطيقية تعتمد على تعدّد القراءات للنص ، بينما التعددية « البلوري ألسم » تعتمد على تعدّد الإدراك.

والمدرسة الهرمونطيقية ترفض القراءة الفردية للنص ، وهي تتعامل مع النص كما تتعامل مع اللغز الذي له العديد من الحلول ، فتسمح بقراءة النص من القراءات المتعددة ، وتقبل كلّ هذه القراءات ، ونقصد من القراءات هنا الدلالات والاستظهارات والاستنباطات والأفهام.

ومن هنا ترفض هذه المدرسة رفضك لأيّ رأي من الآراء ، فربما فهمت أنت شيئاً معيّناً من قراءتك ، وتكون لصاحب الرأي قراءة مختلفة عن قراءتك يستطيع

٣١

من خلافها أن يبرّر ما تنتقده أنت.

ولهذه النظرية ثمارٌ إيجابية ومهمّة جدّاً وإن لم تكن جميع هذه الثمار إيجابية إلاّ أنّ بعضها مفيد ونافع ، وهذه النظرية معترف بها في المحافل الأكاديمية والبحوث الجامعية والعلوم الإنسانية.

وتقول هذه النظرية : إنَّ المعنى هو وليد ذهن القارىء والسامع وليس وليد ذهن المتكلّم والكاتب ، وبناءً على هذا فمن حق الإنسان أن يُعدِّد القراءات للنص الواحد ، فمثلا : قراءة التوراة والإنجيل والقرآن أو قراءة قانون معيّن أو قراءة الدستور نجد في كلّ هذه الأُمور جدلا سياسياً وقانونياً محتدماً في تفسير النص بين الأحزاب والمجموعات في البلد الواحد ـ فضلا عن الدول المختلفة ـ وكلّ منها يدّعي الوصل بليلى ، ويجرّ النار إلى قرصه ، ويدّعي أنّه على حق ، ويفسّر النص ، ويقرأه حسب ما يتطابق مع مصالحه ومشتهياته.

الأثر الإيجابي للمدرسة الهرمونطيقية على النقد الأدبي

وظيفة الناقد الأدبي هي تحليل النص الأدبي بتوسّط علوم اللغة ، وطبعاً لا يقتصر على المفردات ، وإنّما يشمل النحو والصرف والبلاغة والاشتقاق اللغوي وغيرها ، سواءً كان هذا النقد في اللغة العربية أم غيرها.

ويستطيع الناقد الأدبي أن يستخرج من قصيدة شعرية أو نص نثري في زمان غابر ـ العصر الجاهلي على سبيل المثال ـ البيئة الجغرافية التي كان الشاعر يعيش فيها ، والجو النفسي والمحيط الاجتماعي والنظام السياسي والعادات والتقاليد في ذلك المجتمع ، والنظام الأُسري فيه والحقائق التاريخية وغيرها ، ومن هذا العمل يستطيع الناقد الأدبي أن يخدم علوماً عديدة ، ويقدّم لها معلومات مفيدة في هذا المجال ، كلّ هذا يتمّ من خلال التحليل الأدبي الذي يقوم به الناقد ، ووظيفة هذا

٣٢

الناقد شبيهة بعمل عالم الآثار الذي يستطيع من خلال القطعة الأثرية أن يحدّد الزمان الذي تنتمي إليه هذه القطعة من خلال الأدلة والبراهين التاريخية.

هذه بعض إيجابيات هذه النظرية ، ولا يعني كلامنا هذا أنّ هذه النظرية خالية من السلبيات. نعم ، هناك بعض السلبيات التي سنذكرها لاحقاً.

وتعدّد القراءات شبيهٌ بالتأويل الذي يقول به أتباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام وإن كان مرفوضاً من قبل المدارس الإسلامية الأُخرى ، فالتأويل هو نوع من تعدّد القراءات ، وهو أمرٌ إيجابيٌ إذا كان خاضعاً لضوابط وقوانين تحكمه ، أمّا إذا كان بشكل عشوائي وغير مستند إلى البراهين والأدلة ، وكان بشكل سائب ، يكون بلا شك أمراً سلبياً مضرّاً بفهم النص.

فتعدّد القراءات هو تجاوز القشور في النص ، والغوص في أعماق النص كي يستخرج منه المعاني المكنونة في بواطنه.

نعم ، البعض يرمي مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أنّه مذهبٌ باطني وغنوصي ; لأنَّ هؤلاء يرفضون فكرة التأويل جملة وتفصيلا ، وهذا خطأ.

نعم ، لو طالب هؤلاء بإيجاد أُسس وموازين لهذا التأويل لاتّفقنا معهم ، وهؤلاء يقرّون بجدارة المدرسة الهرمونطيقية ، ولكنّهم حين يأتون إلى التأويل يرفضونه مع أنَّ الأمرين يحملان نفس المعنى ; ولهذا فهم يناقضون أنفسهم بأنفسهم.

والتأويل مثبت في القرآن الكريم ، قال تعالى :

( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الاَْلْبَابِ ) (١).

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ٧.

٣٣

الغريب أنّ البعض ينفي التأويل بصورة كلية ، وهذا يتناقض مع الحديث القائل بأنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق.

ورفض التأويل بهذه الطريقة هو تحجيم للنص القرآني ، حيث تكون القراءة مقتصرة على الظاهر والقشور.

قال تعالى :

( فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (١).

فالقرآن يصرّح بأنّ له حقيقة مكنونة ، ولا يمسّه إلاّ المطهّرون ، ولم يقل تعالى : المتطهّرون ، بل قال : المطهّرون ، وهم الذين طهّرهم الله تعالى ، حيث قال :

( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢).

فدرجات القرآن ليست واحدة ، قال تعالى :

( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ ) (٣).

مجيد ، أي : ذو مجد وعظمة ، أي : له درجات غيبية في لوح محفوظ عن أن يناله الإنس والجن.

وقال تعالى متكلّماً عن القرآن الكريم :

( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) (٤).

فهل من المعقول أن تحلّل القصيدة تحليلا عميقاً ، وأن تقف عند قشور القرآن بحجّة رفض التأويل؟!

__________________

١ ـ الواقعة (٦٥) : ٧٥ ـ ٨٠.

٢ ـ الأحزاب (٣٣) : ٣٣.

٣ ـ البروج (٨٥) : ٢١ ـ ٢٢.

٤ ـ العنكبوت (٢٩) : ٤٩.

٣٤

المحاضرة الثالثة

إثارات العلمانيين الغربيين حول الإسلام

محاور المحاضرة :

أوّلا : شبهة أنّ النبوة نوع من النبوغ البشري.

ثانياً : شبهة أنّ النبي لا يملك الحقيقة.

ثالثاً : شبهة أنّ توقف النبوة تعني نضوج البشرية واستغناؤها عن السماء.

في البداية نودّ أن نذكر أنّ الدين الإسلامي أقوى من هذه الإثارات والإشكالات ، وأنّه لا يزداد إلاّ قوّة ونصاعة وثباتاً بعد هذه الرياح التي تهب عليه من هنا أو هناك.

البعض ينظر إلى الدين على أنّه أسطورة ليس إلاّ ، والبعض يرتاح إلى الدين ، ليس إيماناً منه بأنّه منزل من عند الله ، ولكن لأنّ الدين يحارب الجريمة ، وينظّم المجتمع.

ومن خلال النظريات والمدارس التي ذكرناها حاول الغربيون أن يوجّهوا العديد من الإشكالات على الدين الإسلامي ، وعلى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ; لأنّه المذهب الأكثر تمسّكاً بالحجج المنطقية ، وتطابق العلوم الدينية مع العقل والمنطق.

وسنطرح الإثارات ونردّ عليها حسب مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وأمّا حسب باقي المذاهب الإسلامية فالرّد عليها ممتنع ، بل إنّهم يتبنّون نفس المباني التي يثيرها

٣٥

العلمانيون الغربيون ، ويكررها العلمانيون من المسلمين والعرب ; لأنّ هؤلاء يطرحون ما يطرحه الغربيون ، وترجع أساساً إلى المدارس التي ذكرناها.

ومن الإثارات المطروحة هي أنّ الباري سبحانه وتعالى ذاتٌ أزلية غير محدودة في اعتقاد الموحّدين الذين يعتقدون بالألوهية ، فذات الباري غير متتاهية ، ولا يشك أحدٌ في ذلك من أصحاب الديانات السماوية ، بل وحتّى المشركين يعدّون من الملل الإلهية ; لأنّهم يقولون بوجود الإله ، وهم لم يبنوا فكرهم على الوثنية إلاّ لأنّهم يقرّبونهم إلى الله زلفى ، وأمّا الملحدون الذين يؤمنون بالمادة فكلّ البشر يذعنون بفطرتهم أنَّ هناك حقيقة غير متناهية في الوجود وإن اختلفوا في تسميتها ، والإثارة المطروحة هي :

كيف يمكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الإحاطة بكلّ الحقائق ، وهو مخلوق ولا يحيط بالحقائق كلّها ، وأنّنا إذا سلّمنا بكلّ ما قاله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ العقل البشري سيصيبه الجمود وتتعطّل عجلة الفكر الإنساني.

وهم يعبّرون عن النبوة بأنّها نوعٌ من التجربة البشرية شبيهة برياضة المرتاضين والمتصوّفة ، وأنّ النبوة نوعٌ من أنواع النبوغ البشري ، إذاً فمصدر عظمة الأنبياء هو العقل أو الروح.

والمذاهب الإسلامية الأخرى ـ غير مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ـ يقولون بأنّ النبي علومه محدودة في إطار التشريع ، وهذا ما يرويه مسلم بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بقوم يلقّحون. فقال « لولم تفعلوا لصلح » قال فخرج شيصاً فمرّ بهم فقال : « ما لنخلكم »؟ قالوا : قلت كذا وكذا ، قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم (١).

__________________

١ ـ صحيح مسلم ٤ : ١٤٦٤ ، كتاب الفضائل ، باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي ، الحديث ٢٣٦٣.

٣٦

وهم يقولون في مواضع عديدة بأنّ النبي اجتهد فأخطأ (١) ، وفي كتب أصول الفقه عندهم يذكرون موارد اجتهاد النبي ثم تخطئته (٢) ، ويذكرون أنّ القرآن نزل موافقاً لرأي الصحابة ومخطئاً لرأي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

ولو حوّلنا جملة « أنتم أعلم بأمر دنياكم » التي ينسبونها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التعبير اللاتيني لأصبحت « سكولار » فصل الدين عن الحياة العامة ، أو كما يقال : ما لله لله وما لقيصر لقيصر ، إذاً هذا الطرح موجود في المذاهب الإسلامية الأخرى غير مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

ونستطيع أن نقول أنّ المذاهب الإسلامية الأخرى تمثّل العلمانية القديمة في محتواها وفي معناها ، وهذه ليست مجرد روايات مذكورة ، وإنّما هم يتبنّونها ويبنون عليها آثار كثيرة.

وفي ذيل هذه الآية : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٤).

يرون أنّ النبي قد تسلط الشيطان على قلبه وروحه ، ثم حكى آيات ليست من عند الله ، وتسمى هذه القضية قضية الغرانيق ، « أفرأيتم اللاّت والعُزّى ومناة الثالثة الأُخرى وإنهنّ من الغرانيق العلا وإنّ شفاعتهم لترتجى » (٥). وأنّ قريش قد

__________________

١ ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري ١٨ : ٦١ ، كتاب المغاري ، باب ٨١ في حديث كعب ابن مالك.

٢ ـ الإحكام في أصول الأحكام ٤ : ٢٢١ فما بعدها ، الاجتهاد بالرأي في مدرسة الحجاز الفقهية : ١١٢ فما بعدها.

٣ ـ صحيح البخاري ١ : ٣٠٨ ، كتاب الجنائز ، باب الكفن في القميص الذي يكف ، الحديث ١٢٦٩.

٤ ـ الحج (٢٢) : ٥٢.

٥ ـ مجمع الزوائد ٦ : ٢٤ ، الحديث ٩٨٥٠.

٣٧

استبشرت بمداهنة الرسول لها ، فنزل جبرئيل وسدّد النبي ، وقال له : إنّ تلك الآيات آيات شيطانية وليست آيات رحمانية ، القضية ليست مذكورة في كتب الحديث فحسب ، بل توجد في كتب الأصول والتفسير والكلام.

والنص في كتاب البخاري لا يذكر لفظ الغرانيق ، وإنّما يذكر أنّ الشيطان يلقي في قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، وإن اختلف النص إلاّ أنّ المعنى واحد ، والإيمان بهذه الأُمور في حق النبي ، يعني فيما يعني الإيمان بالبلو ري ألسم وتعدّد الإدراك ، وأنّ كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد يصيب وقد يخطىء ، وأنّ النبي لا يدرك كلّ الحقيقة ، وليس له أن يفنّد رأي الآخرين ، وهذا ينتج منه عدم صحة القول بخلود الشريعة الإسلامية ، وكيف تخلد وهي لا تمتلك الحقيقة؟!

ومن ثم يظهر لنا مصطلح عقلنة الخطاب الديني ، وهناك من يطرح نفس الطرح حتّى من وسطنا الداخلي ، ويقولُ : إنّه يحق للعقل أن ينتقد بعض خطوات الأنبياء من باب البلوري السم أو تعدّد الإدراك.

وهم يفسّرون ( خاتم النبيين ) (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا نبي بعدي » (٣) ، أنَّ إرسال الرسل إلى الأُمم السابقة إنّما حدث بسبب عدم تأهّل تلك الأُمم ، وأنّها لم تبلغ سن الرشد ، فلذلك احتاجت إلى نبي يرشدها ، أمّا الأُمم من بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي قد بلغت سن الرشد ، ولا تحتاج إلى قيمومة ووصاية السماء ، وهي قادرة بواسطة الحوار والمجتمع المدني والديمقراطية والتجارب العملية والانفتاح والحرية على الاستغناء عن السماء وشريعتها ، فيكون خاتم الأنبياء.

وهم يقولون : إنَّ الشريعة لا تعالج الأُمور المعاشية والمتعلّقة بالحياة العامة ،

__________________

١ ـ صحيح البخاري ٣ : ٢٣٨ ، كتاب التفسير ، سورة الحج.

٢ ـ الأحزاب (٣٣) : ٤٠.

٣ ـ مسند أحمد ٣ : ١١٤ ، الحديث ١٥٣٢.

٣٨

فأين قوانين النظم العسكرية والمصارف والبنوك والاقتصاد والإدارة وغيرها؟ وهذا الإشكال وقعت فيه المذاهب الإسلامية الأُخرى وإن هم أنكروا على العلمانيين الغربيين والعلمانيين المسلمين ، بل كفّروهم أو حكموا بضلالهم ، ولكنّهم يتبنّون نفس المعنى وإن اختلف اللفظ ، فهم يتخبّطون في فهم قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (١) بعد أن أقرّوا أنّ القرآن ليس تبياناً لكل شيء من أُمور الدنيا ، فبعضهم قال : إنّ القرآن ليس فيه تبيان لكل شيء من الدين والدنيا ، وإنّما فقط من الدين ، مع أنّ بعض المفسّرين كالمفسّر الطنطاوي له تفسير يبيّن فيه المعجزات العلمية العديدة التي ذكرها القرآن ثمّ أثبتها العلم بعد عدّة قرون.

والذين قالوا : إنّ القرآن فيه كل شيء من الدين اصطدموا بأنّ القرآن ليس فيه كل شيء من الدين ، فيقول البعض ـ متوسّلا في الخروج من هذه المشكلة ـ : إنّ السنّة النبوية داخلة في هذا النطاق ; لقوله تعالى : ( مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٢) ، فتكون السنة النبوية داخلة في تبيان لكل شيء المذكور في الآية الكريمة ، وعندما رأوا أنّ السنة ليس فيها تبيان لكل شيء ضمّوا لهما الإجماع باعتبار مصدراً من مصادر التشريع ، وأنّه حجّة ، ولكن هذا لم يحل المشكلة ، ثم ضمّوا القياس والظن والرأي (٣).

ومن هنا فإنّهم وقعوا في مشكلة أنّ القرآن والسنة ليس فيهما تبيان لكل أُمور الدين ـ فضلا عن الدنيا ـ ففتحوا باب العقول والتجارب البشرية ، وهذا عين ما يدعو إليه العلمانيون ، وهم كفّروا نصر حامد أبو زيد ، ونحن لسنا بصدد تصحيح مسلكه ، ولكن نقول : إنّ ما طرحه هو تتبنّونه أنتم وإن اختلف اللفظ ، وحكمت

__________________

١ ـ النحل (١٦) : ٨٩.

٢ ـ الحشر (٥٩) : ٧.

٣ ـ روح المعاني ٧ : ٤٥٢ ، ذيل سورة النحل (١٦) : ٨٩.

٣٩

المحكمة الشرعية ببينونة زوجته منه ، وهو يعيش الآن في الغرب.

وهنا نقاط لابدّ من ذكرها :

النقطة الأُولى : هي وجود الحقيقة ، ولابدّ من وجود الحقيقة سواءً كانت هذه الحقيقة هي حقيقة الحقائق ومحقّق الحقائق وموجد الحقائق ومقرّر الحقائق والمثبت للحقائق ، وهو الله سبحانه وتعالى على مبنى الموحّدين أو حتّى على مبنى الماديين الذين يؤمنون بأنّ المادة لها حقيقة أو الذي ولّد المادة له حقيقة وإلاّ لو لم تكن للمادة حقيقة فلِمَ هذه البحوث العلمية الكثيرة ، هل هي بحث وراء سراب أو بحث وراء حقائق؟ طبعاً بحث وراء الحقائق.

إذاً البحث العلمي يجب أن يبحث عن الحقيقة.

النقطة الثانية : أنّ السير البشري في العلوم التجريبية وإن ازدادت وتيرته بصورة مضاعفة إلاّ أنّه لن يقف عند حدّ من الحدود وعند درجة من الدرجات.

والنتيجة أنّ البشر لن يصلوا إلى الكمال العلمي بحسب الواقع والحقيقة ، بل إنّ البشرية ستظلّ تبحث وتبحث عن الحقيقة ، وهذا دليل على النقص والعجز البشري في بلوغ الكمال ، والحاجة إلى الله جلّ جلاله ; لأنّه هو المحيط بكلّ الحقائق ومطلق الوجودات ، ويعلم بكلّ القوانين والمعادلات.

ومن خلال النقطتين السابقتين نستطيع أن نردّ بأنّ البشرية لم تصل إلى مرحلة النضج البشري ، وعدم الوصول هذا يدلّ على الجهل البشري ، والله يعلم إلى أيّ درجة سيكون الفارق بيننا وبين الأجيال القادمة في التقدّم العلمي وأساليب المعيشة.

إذاً البشر لم يصلوا إلى سنّ الرشد ، ولم يستغنوا عن وصاية السماء ; لأنّهم لا يزالون يعيشون المحدودية في التفكير ، ولا يستغنون عن العالم المطلق الذي يحيط بالأدوار الزمنية والعوالم المختلفة وأُصول الخلقة البشرية والموجودات

٤٠