بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

إذا استهزء المجتمع بقيمة ما ، فإنّه يتخلّص منها ويبعدها

الآية المذكورة في سورة الحجرات التي تتكلّم عن الاستهزاء ، والتي ذكرناها في المحاضرة السابقة يمكن الاستفادة منها ، أنّه إذا استهزء مجتمع ما بقيمة معيّنة ، فإنّ هذه القيمة تذبّل وتتلاشى وتبتعد عن هذا المجتمع ، وفي المقابل فإنّ الفخر والتضامن والاحترام والتبجيل والمساندة والمعاضدة والتجميل والتحسين والاستصلاح والتوقير كل هذه الأُمور تبعث على تركيز القيمة في المجتمع ، فإن كانت هذه القيمة قيمة حسنة ، فإنّ تثبيت هذه القيمة من خلال احترامها وتبجيلها ومساندتها أمر حسن وممدوح ويرضي الله تعالي ، أمّا إذا كانت القيمة التي احترمها ذلك المجتمع قيمة هابطة ورذيلة ، فإنّ هذا الأمر يبعث على غضب الله ، وفساد الفرد والمجتمع ، وستتبدل هوية المجتمع من مجتمع صالح إلى مجتمع فاسد

عدم العمل بالحق ، وعدم التناهي عن الباطل هو سبب ثورة الحسين عليه‌السلام

وهذا الأمر نفسه كان سبباً رئيسياً في ثورة سيد الشهداء عليه‌السلام ، حيث يقول : « ألا ترون أنّ الحق لا يعمل به ، وأنّ الباطل لا يتناهى عنه » (١) فهو يشير عليه‌السلام إلى لزوم تأصيل قيم الحق والخير في المجتمع ، وإزالة قيم الباطل والشر عن البيئة الاجتماعية.

وقد قال الله تعالى : ( لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْم عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاء عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) (٢) ، ولكن ما هو معيار الخيريّة ومعيار الشريّة ، ومعيار الحسن ومعيار القبح ، وهل هو الفطرة والعقل الاجتماعي؟

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٨ : ٣٥٩ ، الحديث ٢٢١١٤.

٢ ـ الحجرات (٤٩) : ١١.

٢٤١

لا يمكن أن نطمئن إلى الفطرة الجماعية والعقل الجماعي إذا كانا ملوّثين

المدارس المنطقية المختلفة قد تعتمد في تصويب الأمر المعيّن أو تخطئته في أيّ علم من العلوم حتى في العلوم الإنسانية والاجتماعية ، على الجانب الفكري فقط ، ويستنتجون ويقولون : إنَّ هذا استنتاجٌ عقليٌ لا ريب فيه ، أمّا في مدرسة المنطق التي تنتمي إلى فكر الإسلام وأهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّها تعتمد على أنّ النفس الإنسانية ليست جانباً فكرياً تجريبياً فقط ، بل إنّ النفس الإنسانية تؤثّر فيها مجموعة قواها ، مثلا : إذا أحب أحدكم شيئاً أصمه وأعمى بصره ، كما أنّ بغض الشيء يُعمي ويُصم ، وكذلك تربية الإنسان تؤثّر في تفكيره وإدراكه لما هو حسن وما هو قبيح ، ولا يمكن أن نطمئن لاستنتاجاتنا إذا كانت نفوسنا ليست في حالة الطهارة ; لأنّه حتى البديهيات والفطرة الإنسانية تكون ممسوخة ومقلوبة ، وحتى العقل الجماعي في المجتمع غير المؤمن يكون عقلا مقلوباً منكوساً ، وحينها تتبدل الأعراف والسير الإنسانية ، وحينها يأتي آت ويقول : « هذا عامل متغيّر في المجتمع ، فيجب قراءة النص على وفق العقل الجماعي » ، وكيف نستطيع التعامل مع عقل منكوس ومقلوب وممسوخ ، ونغيّر النص إلى فكر منحرف ، وحيث إنّ المجتمع قد احترم القيم الهابطة أصبح مجتمعاً هابطاً فاسداً فلابدّ أن يكون تقييمه وعقله وقضاؤه وآراؤه فاسدة ، وحينها تكون قراءة النص وفق نظرة المجتمع المنحرف انحرافاً ، ولا يجدي التبرير بأنّ الدين يجب أن يواكب العصر والأعراف المختلفة والتغيّرات الاجتماعية ; لأنّ الدين يواكب المتغيّرات إذا لم تكن تصطدم مع ثوابته ، ولا يمكنه أن يواكب قيم الانحراف والهبوط الفكري والأخلاقي والرذيلة.

وفي الحديث : « لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم

٢٤٢

شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم » (١) ، وفي الحديث : « ... كل مولود يولد على الفطرة ، فما يزال عليها حتّى يعرب عنها لسانه فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه » (٢) إذن الفطرة قد تتلوّث فتصير فطرة منكوسة ، وهكذا بالنسبة للعقل الجماعي.

من أبعاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إذن من أبعاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن نقبّح القبيح وأن لا نستحسن القبيح أو نحترم القبيح أو نجمّل القبيح ، حيث إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على كلمة نطلقها هنا أو هناك ، بل هو تقبيح القبيح والاستهزاء به ونبذه ورفضه ونكرانه والتهكّم به والسخرية به وطعنه ولمزه وغمزه ، وهذا ضمن الحدود الشرعية ، لأنّنا لسنا في مقام الدعوة إلى إسقاط شخصيات بغير مبرر شرعي.

المجتمع مسؤول عن الحفاظ على قيم المعروف

الأمر بالمعروف يعني أنّه هناك مجموعة من القيم السامية الإلهية يكون المجتمع مسؤول عنها وعن الحفاظ عليها وعن تسليمها للأجيال القادمة بنقائها وصفائها ، وأن نفتخر بالمعروف ونعزّزه في المجتمع وندعوا إليه.

والاستهزاء بالمنكر ورفضه ونبذه يشكّل مصداقاً من مصاديق النهي عن المنكر ، وإذا افتقد المجتمع هذه الحالة فإنّه يمر في حالة خطيرة جدّاً تهدّد علاقته بالله تعالى وبمباديء الدين وقيمه. والآيات « ٩ ـ ١٣ » من سورة الحجرات تعالج

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٥ : ١٩٤٥ ، الحديث ١٢٧٢٨.

٢ ـ ميزان الحكمة ٢ : ٧٨١ ، الحديث ٤٩١٦.

٢٤٣

موضوع العولمة من جهات مختلفة ، وتوازن بين جهات الوفاق وجهات الاختلاف.

القرآن الكريم يأمر بالإصلاح المبني على العدل

ومن الآيات التي تكلّمت حول بحث العولمة ، هي قوله تعالى : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (١).

لِمَ قيّد القرآن الكريم الإصلاح بالعدل؟ وهو يعني : إنهاء القتال والمواجهة العسكرية ، والتراضي لا عن طريق الضغط العسكري أو الضغط الإعلامي ، والقرآن لايدعو إلى الصلح بأيّ طريقة ، وإنّما الصلح القائم على العدل والقسط.

العولمة في مرحلة التطبيق الإسلامي

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة الثالثة من الهجرة دعا المقوقس ملك القبط ، ودعا هرقل ملك الروم ، ودعا كسرى ملك الفرس ، ودعا النجاشي ملك الحبشة إلى الإسلام ، وكان خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم بهذا الشكل : « بسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد رسول الله عبده ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ـ مثلا ـ وسلام على من اتّبع الهدى. أمّآ بعد فإنّي أدعوك برعاية الإسلام أسلم تسلم ... » (٢) ، وذكر النبي في رسالته إلى هرقل والمقوقس ، قوله تعالى ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا

__________________

١ ـ الحجرات (٤) : ٩.

٢ ـ بحار الأنوار ٢٠ : ٣٨٦ ، باب مراسلاته الى الملوك ، وكذا دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الاسلامية ٢ : ٧٠٦ ، فقد ذكر الرسائل جميعاً.

٢٤٤

اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (١).

العولمة الإسلامية قائمة على الحوار والاقتناع الفكري

هذه هي العولمة الإسلامية التي خاطب بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأُمم الأُخرى ، العولمة المنطلقة من مفاهيم القرآن الكريم القائمة على المساواة والحوار المنطقي ( كَلِمَة سَوَاء ) ، وقد رفع القرآن الكريم في زمان كانت البشرية ترزح تحت نير العبودية والتفرقة العنصرية والتخلّف العلمي والحضاري.

إذن الحوار لا على فرض الآراء بالقوّة العسكرية أو الاقتصادية ، بل من العولمة المنطلقة من الاقتناع الفكري والعامل الثقافي ، لا من الترهيب والترغيب.

والآية تشير إلى عدّة أُمور ، أوّلا : الكلمة السواء ، ثانياً ، العبودية لله ، ثالثاً : رفض التسلّط من قبل بعض البشر على بعض ، ووجود الحرية للبشر ، وعدم خضوع بعضهم لبعض.

إذن القرآن جعل لغة العولمة هي لغة الحوار ، وهذا منطق متمدّن راق طرحه القرآن في تلك الأزمة المتخلّفة على صعيد النظرية ، وعلى صعيد التطبيق فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يساوي بين بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وبين العرب ، بل إنّه قد فضّل سلمان الفارسي ، وقال : « سلمان منّا أهل البيت » (٢) لا لعنصره ، وإنّما للمستوى الروحي الذي ملكه وتميّز به.

أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسياسته ومبادئه عامل أساسي في العولمة الإسلامية

المستشرقون يعترفون أنّ العامل الأساسي في نشر الإسلام هو أنّ أهالي البلدان المفتوحة كانوا يساعدون المسلمين على فتح بلدانهم ; لأنّهم كانوا يعانون

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ٦٤.

٢ ـ بحار الأنوار ٢٠ : ١٩٨ ، باب غزوة الأحزاب وبني قريظة.

٢٤٥

من أنظمة دكتاتورية ظالمة تضطهدهم وتذيقهم أنواع الذل والظلم ، وأنّ سيرة النبي الأعظم البسيطة وتواضعه ومساواته بين المسلمين كان لها الأثر الأكبر في تقبّل الناس لهذا الدين ، والنبي لم يلغ القبائل ولم يحلها ، بل أبقى النظام القبلي كآليّة للمعيشة ، ولكنه لم يجعل هذا الانتماء لهذه القبيلة أو تلك معياراً للتفاضل والتفاخر والاستعلاء على الآخرين ، وعلى الرغم من أنّ المنهج الإسلامي الذي أسس له النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سرعان ما تعرّض إلى التشويه والانحراف الذي كان يمارسه ملوك بني أمية وبني العباس إلاّ أنّه رغم ذلك استطاع أن يحقق الكثير ، وأن يجذب النفوس ، وأن يستقطب قطاعات واسعة من المجتمعات المختلفة

اختلاف المنهج بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

وهناك مؤاخذات تؤخذ على الخلفاء الثلاثة بعد النبي تخالف سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن نطرح هذه الأُمور من باب البحث العلمي ، لا من باب التعصّب المذهبي ، منها : ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ هو التفرقة في السياسة المالية ، حيث فرّق في العطاء بين الموالي والعرب ، وبين قريش وغير قريش ، ومنع الموالي من دخول المدينة ، وأنّ ولاة الأمصار لايمكن أن يكونوا من الموالي (١) ، حتى أنّ الشعوب الأُخرى غير العربية صار لديها ردود فعل تجاه العرب ، وظهر تيار الشعوبية المعادي للعرب كردّ فعل على تصرفات كانت بعيدة عن منهج النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

حتى أنّ المهاجرين والأنصار طالبوا علياً عليه‌السلام بأن يميّز هم بالعطاء ، ولكنه قال لهم : إنَّ نصرتهم للنبي محمّد لها أجرها الأُخروي ، وليس من حقّهم المطالبة بالتميّز على الآخرين في الدنيا (٢).

__________________

١ ـ من حياة الخليفة عمر بن الخطاب : ١٨٠.

٢ ـ ميزان الحكمة ٧ : ٢٩٩٥ ، الحديث ١٩٤١٦.

٢٤٦

وعندما جاء علي عليه‌السلام لم يشأ أن يتوسّع في رقعة البلاد الإسلامية ، والداخل الإسلامي يعاني من الخواء والفساد ، فتوجّه إلى الإصلاح الداخلي ، وللأسف فقد واجهه أصحاب الجمل ، وواجه العصبيات القبلية ، والعصبيات القرشية ، والأحزاب التي لم يكن يروق لها عدل علي عليه‌السلام. ودوافع حرب الجمل معروفة.

الحسين عليه‌السلام يحيي دين النبي ويعيد مبادءه

ومنهج النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نراه عند سبطه الإمام الحسين عليه‌السلام في يوم عاشوراء الذي أخذ على عاتقه إحياء مباديء جدّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تعرّضت للتشويه والانحراف على أيدي بني أمية ، فنرى أنّ الحسين بن علي عليه‌السلام في يوم عاشوراء يضع خدّه على خدّ جون ذلك العبد ، وهذا نوع عظيم من أنواع الاحترام عند العرب ، ويساوي الحسين عليه‌السلام بين جون ـ العبد الأسود ـ وبين علي الأكبر ، السيد القرشي الذي ينتسب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومبدأ العدل متجذّر في مذهب أهل البيت عليهم‌السلام الذي يرفض أن يكون الخروج على ولي الأمر حراماً ، كما هو في المذاهب الأُخرى ، والإمامية تضع شروطاً للإمام أشدّ ممّا تنشده البشرية ، فنحن نعتقد أنّه معصوم ، فيتوصل إلى النظام الحقوقي العدل ، والنظام المالي العادل ، والنظام القضائي العادل ، والنظام السياسي العادل ، والسيرة العادلة بدون أيّ تفرقة بين مؤمن ومؤمن ، وأنّ الحاكم ليس الإمام المعصوم أو الرسول ، بل الحاكم الأوّل هو الله ، وأنّه ليس من حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام التشريع بدون أمر الله ونهيه ، وأنّ الإمام المعصوم لا يشاء إلاّ ما يشاء الله ، ولا يفعل ما لا يرضي الله تعالى ، إذن حاكمية الله تتجلّى في فعل المعصومين الذين هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، وهذا ليس مغالاة ، بل هو التوحيد في الحاكمية الذي يتميّز به مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٧
٢٤٨

المحاضرة السابعة

الحوار الحقيقي يوازن بين نقاط الاختلاف ونقاط الاتفاق

محاور المحاضرة :

أوّلا : الحوار يجب أن يكون متوازناً بين نقاط الاختلاف ونقاط الاتفاق.

ثانياً : يجب أن تكون نقاط الاتفاق حقيقية وواقعية لا مختلقة ولا مصطنعة.

ثالثاً : يجب أن يعالج الحوار أسباب الفتنة.

رابعاً : يجب أن يشمل الحوار جميع الطوائف في مؤتمرات التقريب.

خامساً : جهات الاتفاق بين المجتمعات الإنسانية.

سادساً : الدين واحد بين جميع الأنبياء.

سابعاً : أُصول الدين وأركان فروع الدين وأُصول المحرّمات ثابتة في كل الشرائع.

ثامناً : بعض الآيات التي تدل على أنَّ كل الأنبياء مسلمون.

تاسعاً : جميع الأنبياء أنصار النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الحوار يجب أن يكون متوازناً بين نقاط الخلاف ونقاط الاتفاق

الباحث في الأديان تنتابه وتعتوره نزعة للوحدة ، وكذلك تنتابه نزعة خلافيّة بين هذا الدين وذاك.

وهنا أيضاً نؤكّد على التوازن بين هاتين النزعتين عند الباحث ، فإذا غلبت نزعة الوحدة ، فإنّها ستحاول إلغاء معالم هذا الدين وذاك ، وستتنكّر لنقاط

٢٤٩

الخلاف ، إذن الإفراط في نقاط الاتفاق يعمي عن نقاط الاختلاف ، وإذا غلبت نزعة الفرقة ربما اتهمت الدين الآخر بما ليس فيه من أجل إسقاطه وتوهينه ، ويكون الإفراط في نقاط الاختلاف يعمي عن نقاط الاتفاق أيضاً.

وما قلناه في الخلاف بين الأديان نقوله في التقريب بين المذاهب. ونحن لسنا بصدد رفض حوار الأديان أو تقريب المذاهب ، ولكن يجب أن يكون هذا الحوار وهذا التقريب مبنيّاً على حالة التوازن والموضوعية ، فالتعدّد في الآراء والقناعات والمسائل العقلية والعقائدية ، وفي مقابل هذا التعدّد هناك نقاط مشتركة بين المذاهب والأديان ، وكذلك على الصعيد الإنساني.

وغياب الحوار له آثار سلبية على البشرية ، فعلى سبيل المثال : توتر العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في أكثر من بلد نتيجة وجود خلافات ، وغياب حالة الحوار التي تحافظ على أرواح وأموال الناس من هاتين الديانتين.

يجب أن تكون نقاط الاتفاق حقيقية وواقعية لا مختلقة ولا مصطنعة

يجب أن لا نفتعل نقاط اشتراك وهي غير موجودة ، وذلك لخلق حالة الحوار ; لأنّها ليست واقعية وحقيقية ، فيكون الحوار قائماً على أساس هش ، ومن الصعب الاستمرار على حوار قائم على أساس غير واقعي ، ومن الأُمور الصحيحة أن نعترف بنقاط الاختلاف بصورة واقعية وجدّية ، وأن نركّز على نقاط الاشتراك الواقعية والصحيحة لا المختلقة والمصطنعة ، ونحن لا ننفي أنّ المجاملة في الحوار لها ثمرة طيّبة ، وتعمل على إزالة أجواء التوتّر وإخماد الفتنة ، وتخلق جوّاً من الود ، ولكننا ندعوا أن يكون الحوار مبنيّاً على أُسس صحيحة.

يجب أن يعالج الحوار أسباب الفتنة

الحوار يجب أن يبحث عن أسباب الفتن وبؤر التوترات ، فمثلا : ما يحدث من

٢٥٠

مجازر في پاكستان ، ومن قبلها أفغانستان ، وما يحدث من تقاتل بين المسلمين والمسيحيين ، والكتب التي تكفّر المسلمين وتبيح دماءهم ، ونحن لا ندعوا إلى الاصطدام بهؤلاء وتصفيتهم ، وإنّما نركّز الجهود لمنعهم من هذه الأعمال وإيقافهم عند حدّهم ، فهؤلاء يغضّون بصرهم عن الفسق والفساد المنتشر في الأسواق والمجمّعات والجامعات التي تعجّ وتضجّ بالسلوكيات الهابطة ، ويثيرون الفتن حتّى في المناهج الدراسية التي تطعن الطائفة ، وتعتبرها طائفة تمارس البدع ، مع أنّ هذه الطائفة هي الأكثرية في هذا البلد ، وهم الذين ساهموا بشكل فعّال ، وبفضلهم حققت البحرين استقلالها من خلال التصويت على الاستقلال عن إيران في بداية السبعينيات من القرن الماضي الذي أقامته الأُمم المتحدة ، فكيف تحتوي المناهج الدراسية في هذا البلد على طعن واضح يعتبر التوسّل بالأولياء بدعة ، ولا يتم الالتفات إلى هذه المشكلة

في أفغانستان بعد سقوط حكومة طالبان ، الدستور يعترف بوجود مذهبين ، المذهب الحنفي والمذهب الجعفري ، مع أنّ الجعفريين يمثّلون الثلث ، والأحناف يمثّلون الثلثين ، ويدرّس المذهب الجعفري هناك إلى جانب المذهب الحنفي ، فكيف بنا ونحن في البحرين ونحن أكثرية تطعننا المناهج الدراسية ولا تراعي مذهبنا ، وحتى لولم نتكلّم باعتبارنا أكثرية ، يجب على وزارة التربية والتعليم أن تحترم مذهبنا كما احترمت باقي المذاهب الإسلامية في البحرين ، وأن لا تسمح للأقلام المدسوسة أن تنخر في الوحدة بين السنة والشيعة في البحرين ، وخصوصاً أنّ البحرين احتضنت مؤخّراً مؤتمراً للتقريب بين المذاهب ، وهذا السلوك في وزارة التربية والتعليم لا يناسب هذا التوجّه.

يجب أن يشمل الحوار جميع الطوائف في مؤتمرات التقريب

نلاحظ أنّ مؤتمرات التقريب تستبعد الإسماعيليين ، مع أنَّ أعدادهم كبيرة

٢٥١

جدّاً ، وكذلك تستبعد طائفة العلويين ، وهم يمثّلون ثلاثاً وعشرين مليوناً في تركيا ، بل بعض المؤتمرات استبعدت حتى الفرقة الزيدية ، والأكثر من ذلك استبعاد قيادات الفرقة الصوفية التي تمثّل عدداً هائلا جدّاً من إخواننا السنّة الذين ينتشرون في مصر وتونس والجزائر والسودان وأندونيسيا وماليزيا والهند ، فلماذا هذا التغييب لطوائف عديدة من المسلمين؟! وهذا يكرّس الفرقة ، ولا يكرّس الوحدة ; لأنّ هؤلاء المغيّبون يشعرون بأنّهم مستبعدون من الصف الإسلامي.

جهات الاتفاق بين المجتمعات الإنسانية

قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ) (١) ، هناك بعض الباحثين في الحوزة العلمية يعتبرون أنّ هذه الآية تمثّل أصلا قانونياً من أُسس التقنين الإسلامي ، وهو أنّ الأصل في الإنسان أن يكون محترماً ، وأن تكون له حرمة إلاّ ما أخرجه الدليل ، أي : أي : الإنسان الذي يرتكب جريمة أو إثماً فيكون له عقاب يحدّده الشرع.

وكذلك آية الفطرة ، قوله تعالى ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (٢).

ونشير إلى أنّ الكثير من التشريعات عند الأُمم الأُخرى تراعي الفطرة الإنسانية ، وقد لاتكون في تفاصيلها مطابقة للحكم الإسلامي ، ولكنها تراعي الفطرة.

الدين واحد بين جميع الأنبياء

القرآن الكريم يقرر أنّ الدين دين واحد ، وأنّ جميع الأنبياء قد جاؤوا بدين

__________________

١ ـ الإسراء (١٧) : ٧٠.

٢ ـ الروم (٣٠) : ٣٠.

٢٥٢

واحد ، والشرائع هي المتغيّرة من نبي إلى آخر ، وهذا الدين بعث به أولوا العزم الخمسية ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وقع بعض الباحثين في إشكال ، وهو أنّ النبي آدم لم يبعث بشريعة ، إذن لم يبعث بدين ، إذن لم يكن آدم نبياً ، والمشكلة أنّ هولاء لم يفرّقوا بين الدين والشريعة ، ولذلك وقعوا في هذا الإشكال ، والصحيح أنّ الأنبياء قد بعثوا بالشرائع ، والدين لا يتعدّد.

أُصول الدين وأركان فروع الدين وأُصول المحرّمات ثابتة في كل الشرائع

الدين يمثّل أُصول الاعتقاد وأركان الفروع ، كالصلاة والصوم والحج والزكاة ، فمثلا : آدم عليه‌السلام صلّى وزكّى وحجّ وصام. نعم ، قد تختلف تفاصيل الصلاة أو تفاصيل الحجّ أو الصوم ، ولكنها في نفسها ثابتة لكل الأنبياء ، ولايمكن نسخ الاعتقادات ; لأنّها مرتبطة بتوحيد الله والعدل والآخرة ، ولا يمكن أن يبعث نبي بصلاة ولا يبعث نبي آخر بصلاة ، وهكذا بالنسبة لأُصول المحرّمات والمنكرات ، مثل : الزنا واللواط والسحاق وتحريم الربا ، ولا يمكن أن يحلّها نبي ويحرّمها نبي آخر ، فكلّ هذه الأُمور أُمور فطرية ، والفطرة البشرية ترفض هذه الممارسات التي تحوّل المجتمع الإنساني إلى غابة الإباحة الجنسية التي تهدم الكيان الإنساني ، وكلّما ابتعد الإنسان عن فطرته كلّما انتشرت الرذيلة والفواحش ، وكلّما انتشر الرعب والخوف ، سلب الأمن والاستقرار على صعيد الفرد والمجتمع.

قال تعالى ( شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (١).

وقال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلّ

__________________

١ ـ الشورى (٤٢) : ١٣.

٢٥٣

جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ) (١).

بعض الآيات التي تدل على أنَّ كل الأنبياء مسلمون

إذن ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاْسْلاَمُ ) (٢) ، وهذا الإسلام ليس دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط ، وإنّما هو دين كل الأنبياء ، ومن هذا المنطلق يكون التعبير عن شريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشريعة المحمّدية صلى‌الله‌عليه‌وآله أدق من التعبير عنها بالشريعة الإسلامية ; لأنّ الإسلام هو دين الأنبياء جميعاً ، ولا يختص بالنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الاْخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِىَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (٣).

هذه الآيات من القرآن الكريم تبيّن بوضوح أنّ هؤلاء الأنبياء جميعاً مسلمون ، ودينهم الإسلام ، والأنبياء جميعاً يتحرّكون في خط واحد ، ويعبدون إلهاً واحداً.

وقد رضي الله عن الدين بإمامة علي عليه‌السلام في يوم الغدير ، فقال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً ) (٤) ، ولذلك فإمامة

__________________

١ ـ المائدة (٥) : ٤٨.

٢ ـ آل عمران (٣) : ١٩.

٣ ـ البقرة (٢) : ١٢٧ ـ ١٣٢.

٤ ـ المائدة (٥) : ٣.

٢٥٤

علي عليه‌السلام جزء من الإسلام ، أي : من الدين ، وهذا لا يعني تكفير من لا يقول بإمامته عليه‌السلام ، ونحن نعترف ونقرّ أنّ الذين لا يقولون بإمامته عليه‌السلام جميعاً مسلمون ، وإنّما هذا يقع في بحث الإيمان.

جميع الأنبياء أنصار النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ ) (١).

ومن الملاحظ أنّ القرآن الكريم قد أخذ على النبيين ميثاقاً لنصرة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجميع الأنبياء أنصار لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد أقرّوا بذلك ، أمّا بالنسبة للنبي فلم يؤخذ عليه الميثاق احتراماً له ، مع أنّ القرآن ينص بصراحة أنّ النبي يؤمن بالسابقين من الأنبياء والمرسلين.

وهنا نذكر ملاحظة ، وهي أنّه لا يصح أن ننكر ونرفض كل ما ورد في التوراة والإنجيل ، صحيحٌ أنّهما قد تعرّضا للتحريف ، ولا يمكن الاعتماد عليهما كمصدر سليم تماماً ; لأنّ هناك بعض ممّا ذكر في التوراة والإنجيل صحيح ، ولا يصح أن نرفضه كله تماماً ولا نقبل بأيّ شيء ، بل ما ورد يجب أن نغربله ونعرضه على الأدلة ، ونرى هل هو صحيح أم لا؟ وهل يتعارض مع القرآن الكريم أم لا؟

على سبيل المثال : هناك الكثير من الأُمور المشتركة بين الدين الإسلامي وشريعة النبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين ما ذكر في التوراة والإنجيل.

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ٨١.

٢٥٥
٢٥٦

المحاضرة الثامنة

الحفاظ على الوحدة الإسلامية

مع وجود الخلاف في الأُصول والفروع

محاور المحاضرة :

أوّلا : آراء في الخلاف بين المذاهب الإسلامية.

ثانياً : الخلاف بين المذاهب واقع في العقائد كما هو واقع في الفقه.

ثالثاً : ضرورة التفريق بين الإسلام والإيمان.

رابعاً : المنافقون يعتبرون من المسلمين ; لأنّهم يظهرون الإسلام.

خامساً : الإيمان مرتبة أرقى من الإسلام.

سادساً : الإمامة والعدل من أُصول الدين عند أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

سابعاً : أُصول الدين في مرتبة الإيمان تختلف عن أُصول الدين في مرتبة الإسلام.

ثامناً : أُصول الدين تتضمّن مفهوم التوحيد.

تاسعاً : الإمامة توصل إلى طاعة الله.

عاشراً : الإيمان النظري والإيمان العملي في سورة الحمد.

آراء في الخلاف بين المذاهب الإسلامية

من الأُمور التي نود الإشارة لها في إطار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، هو أنّ البعض يقول : أنّ المذاهب الإسلامية قائمة على الاجتهادات المحضة المستندة

٢٥٧

إلى الأدلة الظنية التي قد تكون معتبرة عند هذا المجتهد وقد لا تكون معتبرة عند ذاك المجتهد ، والبعض يقول : أنّ الخلاف بين المذاهب خلاف فقهي وليس عقائدي ، والبعض يقول : أنّ أُصول الدين عند كل المسلمين واحدة ولا خلاف بين المذاهب عليها.

نحن نعتقد أنّ هذه الأُمور لا تخدم مسيرة التقريب التي نتمنى لها كل التوفيق ، وذلك لأنّ هذه الأُمور بعيدة عن الواقع والحقيقة ، ونحن تهمّنا الوحدة الإسلامية وكل الأُمة الاسلامية من منطلق أنَّ الإمام الحسين عليه‌السلام قد أعلن أنّ الإصلاح في أُمّة جدّه ، هو هدف الثورة الحسينية ، ولم يقل الإصلاح في شيعة أبيه ، ممّا يدل على اهتمام الحسين عليه‌السلام بعموم الأُمة الإسلامية لا بفئة دون فئة.

إذن يجب أن تكون الصراحة والبحث عن الحقيقة وعدم التنكّر لها هي مدار الحوار. والآراء الحقيقية لا تتنافي مع البحث عن المشتركات ، ويمكن للحوار أن يشق طريقه بصراحة وعلى أُسس واقعية ، والقفز على الحقيقة قد يخلق من الطائفتين طائفة ثالثة تزيد من حدّة الشقاق والخلاف.

الخلاف بين المذاهب واقع في العقائد ، كما هو واقع في الفقه

البعض يعتقد أنّه إذا أقرّ أنّ المذاهب الإسلامية تعيش الخلاف العقائدي فيما بينها ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى تكفير طائفة لأُخرى ، وأنّ أصحاب المذهب المعيّن يرى أنّ أدلته قطعية ويقينية ، وحينها سوف يكفّر أتباع المذاهب الأُخرى بناءً على أدلته.

وهم من أجل أن يتخلّصوا من هذه العقدة نفوا أنّ هناك خلاف عقائدي بين المذاهب الإسلامية ، ولكننا نرى أنّ الخلاف العقائدي موجود ، مع أنّه لا يستلزم تكفير طائفة لأُخرى.

٢٥٨

ضرورة التفريق بين الإسلام والإيمان

الدين يتضمّن مرتبتين ، المرتبة الأُولى : ظاهر الإسلام الذي يتضمّن الإقرار بالشهادتين بلسانه « الإيمان بالله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله » ، والإيمان بالمعاد وبعض ضرورات الدين ، كمودّة أهل البيت عليهم‌السلام والصلاة وغيرها من ضرورات الدين ، ومن وصل إلى هذه المرتبة ، فله ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين ، ويحرم دمه وماله وعرضه ، وله حقوق المواطنة الإسلامية في الأحوال الشخصية والمعاملات ، وهذا ليس رأي مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، بل هذا هو رأي المسلمين جميعاً إذا استثنينا التكفيريين منهم.

المنافقون يعتبرون من المسلمين ; لأنّهم يظهرون الإسلام

ويندرج تحت اسم المسلمين المنافقون الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، وهذه الفئة التي توعّدها الله تعالى بأشدّ العذاب ، وأنزل فيهم سورة كاملة في القرآن الكريم ، والذين فتحت ملفّاتهم في سورة البراءة التي تتضمّن ثلاثة عشر فرقة تناويء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع ذلك لم يخرجهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من ظاهر الإسلام ومن دائرة المسلمين ، وهذا الطرح يسانده القرآن الكريم ، قال تعالى : ( قَالَتْ الاَْعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الاِْيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (١).

فالقرآن الكريم يفرّق بوضوح بين المسلمين والمؤمنين ، وهذه حقائق قرآنية لا يمكن معارضتها ، كما لا يوجد أيّ كتاب كلامي ينكر التفريق بين المسلمين والمؤمنين ، وهذا ممّا أجمعت عليه الأُمّة الإسلامية.

الإيمان مرتبة أرقى من الإسلام

والمرتبة الثانية : وهي المرتبة الأرقى ، وهي مرتبة الإيمان ، والإيمان هو

__________________

١ ـ الحجرات (٤٩) : ١٤.

٢٥٩

الإسلام الحقيقي الواقعي في الظاهر والباطن ، وهي المرتبة التي تؤهّل الإنسان المؤمن للوصول إلى رضا الله تعالى ، ودخول الجنّة ، والحصول على ثواب الله تعالى.

الإمامة والعدل من أُصول الدين عند أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام

أتباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام يعتقدون أنّ العدل والإمامة من أُصول الدين ، ويستندون إلى أدلة قطعية كما يعتقدون ، منها على سبيل المثال : قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً ) (١).

فالدين الذي يتضمّن التوحيد والعدل والنبوة والمعاد لم يتم إلاّ والمعاد لم يتم إلاّ بعد إثبات إمامة علي عليه‌السلام يوم الغدير ، فكيف لا نجعل الإمامة من أُصول الدين ، والدين لم يكن مرضياً عند الله تعالى إلاّ بالإمامة؟!

وكذلك آية المودة ( قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢).

أي : أنّ الدين في كفّه بما يتضمّنه من توحيد وعدل ونبوة ومعاد ، ومودة أهل البيت عليهم‌السلام في كفّة أُخرى ، فهل من المناسب أن تكون الإمامة ومودّة أهل البيت عليهم‌السلام من ضمن فروع الدين وهي أجر الرسالة وجهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذه حقائق قرآنية وليست من باب المغالاة ، كما يتّهمنا البعض.

أُصول الدين في مرتبة الإيمان تختلف عن أُصول الدين في مرتبة الإسلام

في مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام هناك أُصول الدين في مرتبة الإيمان ، وتتكوّن من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد يوم القيامة ، أمّا أُصول الدين في مرتبة الإسلام ، فتتضمّن التوحيد والنبوة والمعاد ، وهي الأُمور التي إذا أظهرها إنسان

__________________

١ ـ المائدة (٥) : ٣.

٢ ـ الشورى (٤٢) : ٢٣.

٢٦٠