بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

انكار المنكر التاريخي في القرآن الكريم

وهذا الكلام له شاهد من القرآن الكريم ، فالقرآن الكريم يعاتب ويؤنّب ويندّد باليهود المعاصرين للنبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بما فعل أجدادهم قبل قرون عديدة ; لأنّهم متعاطفون مع أجدادهم ، والقرآن الكريم لا يخاطبهم مخاطبة المتعاطف مع الظالم ، وإنّما يخاطبهم مخاطبة الظالم والمرتكب للجريمة ، وله شواهد عديدة ، منها قوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُول حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَان تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (١) ، مع أنّ اليهود المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقتلوا رسل الله ، ولكن الله خاطبهم بهذا الخطاب ; لأنّ هؤلاء رضوا بفعلهم ولم ينكروا عليهم.

وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) (٢) ، مع أنّ اليهود المعاصرين للنبي ليسوا هم الذين عبدوا العجل.

ولعن الله اُمّة رضيت بذلك

ومن هذا المنطلق يحارب الإمام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ) أتباع بني أُمية باعتبار أنّهم رضوا بقتل الحسين عليه‌السلام ، وهذا ما فعله القرآن الكريم مع بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحملهم مسؤولية ما فعله أسلافهم.

وهناك حديث يقول : « بحشر المرء مع من أحب » (٣) ، أمثال قابيل وقارون وفرعون؟!

وهناك دليل عقلي فطري يحسّن الحسن ويقبّح القبيح ، فكيف نحارب فطرتنا ونطمسها؟!

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ١٨٣.

٢ ـ البقرة (٢) : ٥١.

٣ ـ بحار الأنوار ٦٩ : ٨١ ، كتاب الايمان والكفر ، باب أنّ العمل جزء الايمان.

٢٠١

البراءة على صعيد العلاقات الدولية

أمّا على صعيد العلاقات الدولية ، ففي مطلع هذا العام الميلادي زار الرئيس الياباني قبور الجنرالات اليابانيين الذين شاركوا في الحرب العالمية فثارت ثائرة الصين وكوريا الجنوبية ، فلِمَ ثارت ثائرتهم ونبشوا التاريخ؟ ولِمَ ينبش الرئيس الياباني هذا التاريخ؟

الصين تقول : أنّ هؤلاء الجنرالات قد قاموا بجرائم في حق الإنسانية ، ويجب اتخاذ موقف سلبي منهم والبراءة منهم ، ومن غير المناسب زيارة قبورهم ، بل طالب الصينيّون والكوريّون من الرئيس الياباني الاعتذار من هذا الفعل الذي يعدّ مساندة للمجرمين في حق الإنسانية ، وأنّ هذا الفعل يربّي الشعب الياباني على الإجرام ، ويرسّخ التجاوزات التي يقوم بها المجرمون في الأجيال القادمة.

إذن التاريخ يؤثّر في النفوس ، وهو مجموعة من العلوم التي يمكن تطبيقها في الواقع ، والتاريخ أبلغ تأثيراً في صياغة أفكار وعواطف المجتمع البشري من غيره.

وعندما يتساوى عند الإنسان الظلم والعدل ، ولم يتخذ المواقف المناسبة منهما فإنّه يصبح ظالماً بصورة تلقائية ، ولذلك يُرفض النازيّون والفاشيّون ، وتُرفض الإشادة بهتلر وموسيليني ; لأنّ التضامن مع مثل هذه النماذج السيئة يسبّب أزمة في المجتمع البشري ، ولهذا يركّز القرآن على الأحداث والسنن التاريخية والاستفادة منها.

التاريخ وعلم السيرة وتراجم الشخصيّات ليس تاريخاً قد مضى ، وإنّما هي عقيدة وعبرة وعظة وقراءة دينية ، وعدم الاعتبار من التاريخ يسبّب تكرار الخطأ الذي قام به الأوّلون.

٢٠٢

إذن الإنسان الحضاري هوالذي يتمسك بالتاريخ ويستفيد منه في جوّ هاديء ، وفي جوّ الحوار العلمي الموضوعي ، وتكرار الأخطاء قد يُعطي إنطباعاً أنّها ليست أخطاء ; لأنَّ الناس يتفاعلون معها بشكل طبيعي ويعتادون عليها ولا ينظرون إلى الجانب السلبي منها.

٢٠٣
٢٠٤

المحاضرة الثانية

إشكالات حول الشعائر الحسينية

محاور المحاضرة :

أوّلا : إشكالات حول إحياء الشعائر الحسينية.

ثانياً : هذه الإشكالات لا تختص بالشعائر الحسينية.

ثالثاً : لا يمكن فرض ثقافة على الثقافات الأُخرى وإلغاء خصوصياتها.

رابعاً : خطورة طرح العولمة.

خامساً : من التقليد ما هو إيجابي ، ومنه ما هو سلبي.

سادساً : هل البكاء والحزن ظاهرة سلبية وهدّامة؟

إشكالات حول إحياء الشعائر الحسينية

الإشكال الأوّل :

إذا كانت الشعائر الحسينية عادات وتقاليد ، وتمثّل موروثاً بشريّاً ، فمن المعروف أنّ العادات والتقاليد قد تتغيّر أو تُلغى بحسب ما يمليه التطوّر البشري ; لأنّ العادات والتقاليد تتأثّر بالبيئة وبالحضارات الأُخرى.

والذين يطرحون هذه الإشكالات يطرحون بعض الشعائر الحسينية ، ويربطونها ببعض الطقوس التي كانت تمارسها الأُمم الأُخرى والحضارات الدينية والحضارات التي لا ترتبط بدين معيّن.

٢٠٥

الإشكال الثاني :

البعض يرى أنّ الشعائر الحسينية تعتبر مجموعات أُسطورية ترسمها وتشكّلها وتنتجها وتخلقها المخيّلة الإنسانية المثاليّة أو النزعة في الإنسان التي تنزع لحب البطل المثالي أو الشخصيّة النموذجية المثاليّة التي تجذب الجمهور إليها.

وهم عندما يطرحون هذا الإشكال لا يطرحونه باعتباره أمراً سلبياً محضاً ، وإنّما يطرحونه باعتباره يحمل بعض الإيجابيات التي يتربّى من خلالها الجمهور الذي يستفيد من سلوكيات هذه الشخصية المثاليّة الأُسطورية ، ويتعلّم منها النبل والشجاعة والإيثار ...

الإشكال الثالث :

ومن الإشكالات التي تطرحها مدارس علم النفس الحديث ، هي ظاهرة الحزن والبكاء واللطم ، وبقية المظاهر في الشعائر الحسينية ، حيث تقول : أنّ هذه الشعائر ظاهرة سلبية على المستوى الفكري والنفسي والاجتماعي ; لأنّها تكبت المجتمع وتسبّب العُقَد النفسيّة وتشلّ حيوية ونشاط النفس وتقتل روح الأمل وتشيع حالة اليأس والقنوط والإحباط في المجتمع ، ولها آثار سلبية على مستوى الروح العقل.

الإشكال الرابع :

نحن لدينا رسالة نشر الإسلام ، ونشر مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، ومعارف الإسلام وأهل البيت عليهم‌السلام ، فإذا كانت هذه اللغة لغة غير موصلة لمعارف أهل البيت عليهم‌السلام بل هي لغة مشوّهة وغير مقبولة ، ولا يمكن أن يتفاعل معها الآخرون ، بل إنّهم ينفرون منها ويستوحشون ، فينبغي البحث عن وسائل ناجحة لنشر الإسلام ومعارف أهل البيت عليهم‌السلام ، وإجراء إصلاحات في الخطاب الديني وخطاب مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام.

٢٠٦

الإشكال الخامس :

هذه الطقوس تعتبر نوع من العقوبة التي يوقعها الإنسان على نفسه ـ على نحو التكفير عن الذنب ـ لأنّ أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام يشعرون بالتقصير في نصرة الحسين عليه‌السلام وتخاذلهم في الوقوف معه ، ولذلك فهم يوقعون بأنفسهم العقوبات البدنيّة والنفسيّة المتمثّلة في إحياء الشعائر الحسينية ، ويستشهدون بثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي.

الإشكال السادس :

أنّ الشعائر الحسينية لا تواكب الزمان ولا تناسب العصر ، ولماذا لا يتم تجديد الطقوس ونبذ الأساليب القديمة ودفنها في مقابر التاريخ؟! وقد يطرح بعض أبنائنا هذا الإشكال.

وهناك اشكالات أُخرى ، ولكنّنا نقتصر على هذا المقدار.

هذه الإشكالات لا تختص بالشعائر الحسينية

هذه الإشكالات والتساؤلات ليست مطروحة على الشعائر الحسينية فحسب ، بل هي مطروحة على عموم الشعائر الدينية ، والآن يناقشها المفكّرون في إطار حوار الحضارات ، وفي قضايا العولمة ، ولذلك اخترت هذه الإشكالات لتوطئة بحث العولمة ، والكلام ليس في العادات والتقاليد ; لأنّ العادات والتقاليد آليات ، ولكن المهم هو الفكرة التي تتضمننها العادات والتقاليد.

لا يمكن فرض ثقافة على الثقافات الأُخرى وإلغاء خصوصياتها

ومن أهم ما يعترض مسألة العولمة هي قضية اختلاف العادات والتقاليد والهويات القومية واختلاف اللغة اللسانية واللغة غير اللسانية المتمثلة بأفعال معيّنة تحمل معان معيّنة ; لأنّ الإنسان يحمل العديد من اللغات ، وكل تصرف يعمله

٢٠٧

يعتبر لغة توصل مفهوماً معيّناً ، فمثلا : القيام للشخص الآخر يدل على الاحترام ، مع أنّ القيام فعل وليس كلاماً ، واختلاف الأعراف في المجتمعات المختلفة قد يصل إلى مرحلة النقيض ، فيكون الفعل حسناً عند أُمّة ويكون هذا الفعل نفسه قبيحاً عند أمّة أُخرى ، ولا يمكن تذويب اللغات المختلفة في لغة واحدة ، وتذويب الآداب المختلفة في أدب واحد ، وحمل الهويات المختلفة على هوية واحدة ، وقد واجه هذا الطرح العديد من الاعتراضات من قبل العديد من الأُمم التي تخاف على هويتها وعلى عاداتها وتقاليدها.

خطورة طرح العولمة

وطرح العولمة يهدّد هويتنا الوطنية والقومية والدينية والمذهبية والفكرية والروحية ; لأنّ لكل أُمّة عاداتها وتقاليدها بغض النظر عن إيجابية هذه العادات والتقاليد أو سلبيتها ، إلاّ أنّها موجودة عند كل أُمّة من الأُمم ، وتعتبر جزءاً من هوية هذه الأُمّة ، ومن المستحيل أن تعيش أُمّة من دون عادات وتقاليد ، ولا توجد أُمّة من الأُمم لم تتأثّر بأُمم أُخرى.

من التقليد ما هو إيجابي ، ومنه ما هو سلبي

إذن الأُمّة لابدّ لها من التقليد ، والتقليد لا يعتبر سلبياً في كل الأحوال ، بل هو إيجابي في بعض الأحوال ، بل هو ضروري ولازم في أحوال أُخرى ، كما في تقليد أهل التخصّص ، حيث لابدّ من توزيع التخصّصات والمهمّات وفق رؤية علمية صحيحة يستطيع الإنسان أن يركن إليها ، وذلك لأنّ الكائن البشري لا يستطيع أن يكون خبيراً في كل شيء.

وكلامنا هذا لا يقتصر على التقليد الفقهي ، وإنّما يعم جميع التخصّصات ; لأنّ التقليد منهج علمي شريطة أن يخضع لرؤية علمية سليمة ، وموازين صحيحة تعتمد

٢٠٨

على كفاءة المقلَّد في تخصّصه ، وأن لا تدخل المحسوبيات في تقييم الشخصيّات المقلَّدة.

والذي يرفض التقليد بشكل تام يؤدّي رفضه إلى سدّ الطريق أمام العلم لكي لا يأخذ مجراه بشكل صحيح ، والقرآن إنّما ذمّ التقليد غير المبني على العلم ، قال تعالى ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (١).

والنزوع إلى التقليد أمر فطري ، والإنسان يقلّد مئات المرّات يومياً.

وإذا أخذ الشيعة بعض الآليات من الأُمم الأُخرى للتعبير عن حزنهم على سيد الشهداء وأهل البيت عليهم‌السلام ، فإنّ ذلك ليس عيباً مادامت تلك الآلية صحيحة وسليمة ، وهذا يقع في سياق التبادل الثقافي والحضاري بين الأُمم (٢).

إذن ليست المشكلة أنّ هذه الأساليب الحسينية مأخوذة من أُمم أُخرى أم أنّها مبتكرة من أبناء الطائفة ، وإنّما المناط هو صحة الأُسلوب وعدم صحته ، فكون هذا الطقس مأخوذ من الأتراك أو من الهنود أو من غيرهم لا يطعن في هذا الأُسلوب ، وكل الأُمم تتأثّر بالأُمم الأُخرى في أساليبها ، ولكن المهم هو أن تبقى المعاني والمُثُل والقيم والمباديء وإن اختلفت الأساليب.

__________________

١ ـ الزخرف (٤٣) : ٢٣.

٢ ـ ومن شواهد كلام سماحة الشيخ ( حفظه الله ) ، ما شهدته البحرين في السنوات الأخيرة من تطوير في إحياء الشعائر الحسينية ، لا سيّما حملة الإمام الحسين عليه‌السلام للتبرع بالدم والموسم الحسيني ، حيث إنّ هذه الأساليب مأخوذة من أُمم أُخرى ، وتمّ إدراجها في الشعائر الحسينية بنجاح ، حيث لاقت الكثير من الترحيب والتلقي الإيجابي من مختلف قطاعات المجتمع الذي نظر إليها على أنّها ظاهرة حضارية تعكس وعي المنتمين إلى ثقافة الإمام الحسين عليه‌السلام وخدمتهم لمجتمعهم.

٢٠٩

هل البكاء والحزن ظاهرة سلبية وهدّامة؟

وأمّا الجواب عن الإشكال الذي يقول : إنّ الحزن ظاهرة هدّامة للمجتمع ، وتفتقد للحيوية والنشاط والهمم ، وتسبّب الكبت والتراجع النفسي والفكري والاجتماعي ، وأنّها عُقدة تكفير الذنب.

فالجواب : إذا كان من يطرح هذا الإشكال بعض أبناء المسلمين من المذاهب الأُخرى ، فنقول لهم : ـ كما قلنا في الليلة السابقة ـ أن ظاهرة الحزن والبكاء ظاهرة قرآنية يحث عليها القرآن ـ كما بيّنا ـ في سورة البروج وسورة يوسف وفي قصّة قابيل وهابيل ، بل إنّ القرآن الكريم يحثّ على البكاء ويمتدح النفس اللوّامة في بداية سورة القيامة المباركة ، ويذمّ الفرح حتى اعتقد البعض أنّ الفرح مذموم بصورة مطلقة ، وهذا ليس صحيحاً ; لأنّ القرآن يرفض الفرح في بعض الحالات ، كتلك التي تؤدّي إلى بطر الإنسان ونسيانه للآخرة ، فالفرح مذموم ، ولكن ليس بصورة مطلقة.

هذا ، ووجود المجتمع المتديّن يحدّ من الجريمة نتيجة وجود الحساب الداخلي والرقابة الذاتية وتهذيب شراسة الشهوات والغرائز ، وهذا الأمر يعتمد على التوازن بين الخوف والرجاء في النفس الإنسانية.

إذن من الخطأ رفض ظاهرة الحزن بشكل مطلق ، بل إنّنا في أمسّ الحاجة لظاهرة الحزن والبكاء بالمقدار المطلوب وبشكل متوازن ، ومن المعروف أنّ الطائفة الشيعية ، الاثنا عشرية لديها محطّات أفراح تتمثل في إحياء مواليد الأئمة عليهم‌السلام ، ونحن نفرح في هذه المحطّات ، ويتم تعليق الزينة ونشر مظاهر السرور في مقابل الأحزان المتمثّلة في البكاء والحزن في الأيام التي توفّي فيها الأئمة عليهم‌السلام.

٢١٠

الشعائر الدينية تمثّل الإعلام الديني ، والفرق بين الإعلام الديني والإعلام غير الديني هو أنّ الإعلام الديني إعلام مبدئي.

وإنّني أدعوا أبناءنا للتخصّص في المجال الإعلامي ; لأنّه يشهد إفتقاراً كبيراً في الطاقة البشرية ، في مجال الصحافة والأدب والقصّة والرواية والمسرح وغيرها ، ولا يخفى عليكم أنّ الإعلام هو السلطة الرابعة ، بل قد يكون هو السلطة الأولى الذي يقرر الحرب والسلم في كثير من الأحيان.

وما حدث في العراق في ذكرى الأربعين السابقة (١) بتوفيق من الله وببركات الأئمة عليهم‌السلام في المجتمع المليوني الكبير الذي أقل ما يقال عنه أنّه يضمّ ثلاثة إلى خمسة ملايين شخص لزيارة سيد الشهداء عليه‌السلام ، وكان تنظيمهم عجيب في ظلّ غياب السلطة والدولة والشرطة والكهرباء والخدمات المدنيّة بدون حدوث أيّ حوادث قتل أو سرقة أو تدافع ، وقد تعجبت المحطّات الفضائية من التنظيم العجيب لزّوار سيد الشهداء عليه‌السلام ، ونحن ننشر الإسلام عن طريق نشر مباديء وأهداف سيد الشهداء الحسين بن علي عليه‌السلام.

ونحن أحوج ما نكون إلى التقوِّي بالإعلام ، وأن يكون لنا إعلام قوي نستطيع من خلاله إيصال أفكارنا ، ونردّ على إشكالات المخالفين بصورة ناجحة ومؤثرة.

وأمّا دعوى الأُسطورية ، فيفنّدها حقيقة الوقائع الموثّقة في كتب السير والتاريخ والحديث عن عظائم أحداث كربلاء وما رافقها من وقائع وشدّة الهول والمصائب النفسية المقرحة صبغت منها أعظم حدث يقرح ضمير الفطرة الإنسانية لم ولن تشهد البشرية له مثيل ، والمصادر من الفريقين ، بل ومن غير المسلمين ببابك ، وعليك بالتتبع والتحرّي والفحص المضني.

__________________

١ ـ سنة ٢٠٠٣.

٢١١
٢١٢

المحاضرة الثالثة

الحسين والخطاب العولمي والعولمة في العصور السابقة

محاور المحاضرة :

أوّلا : الشعائر الحسينية في دائرة العولمة.

ثانياً : الشعائر الحسينية تدعو إلى التضحية والفداء لا إلى التقهقر واليأس.

ثالثاً : الحثّ على زيارة الحسين عليه‌السلام في أشدّ الظروف صعوبة.

رابعاً : الإمام الهادي عليه‌السلام يأمر أبا هاشم الجعفري بزيارة الحسين عليه‌السلام في عصر المتوكل.

خامساً : الأنبياء يحملون أرقى نماذج العولمة

سادساً : نزعة البشر للتوحّد ، ونزعتهم للتفرّق.

سابعاً : الأُمم المتحدة مظهر من مظاهر الوحدة.

ثامناً : العولمة في العصور السابقة وحكومة الإمام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ) العالميّة.

تاسعاً : العولمة تصبّ في عدّة مجاري.

عاشراً : تعريف الأُمم المتّحدة للعولمة.

الشعائر الحسينية في دائرة العولمة

إذا أردنا أن ندرس الشعائر الحسينية دراسة شاملة : فلابدّ أن ندرسها في إطار بحث العولمة ، وذلك بسبب وجود حالة الانفتاح والحوار بين الأُمم ، ويمكننا أن ندرس الخطاب الحسيني في إطار العولمة باعتبار أنَّ الإمام الحسين عليه‌السلام إمام

٢١٣

معصوم ، وهو القرآن الناطق.

الشعائر الحسينية وخطاب العولمة

هل نستطيع أن نستخلص خطاباً حسينياً عولمياً يعطي حلولا للبشرية ككل في شتّى المجالات؟ وهل الكلمات الحسينية والخطب الحسينية تتضمّن الصفة العولمية ، وتخاطب العالم خطاباً يضع يده على الداء فيطيب؟

الشعائر الحسينية تدعو إلى التضحية والفداء لا إلى التقهقر واليأس

واستكمالا لحديث الليلة الماضية في الردّ على الإشكال الذي يقول : أنّ الشعائر الحسينية شعائر تتضمّن عُقدة الذنب ، وإيقاع العقوبة على النفس من أجل التكفير عن الذنب ، وأنّها نتيجة الفشل واليأس والتقهقر والانتكاس الذي يعيشه الشيعة ، وقد مرّ علينا أنّه لابدّ أن ندرس الشعائر الحسينية من حيث المضامين التي تنطوي عليها هذه الشعائر ، من الفداء والتضحية والإباء والتغيير الإيجابي ورفض الظلم ، وتحشيد الطاقات من أجل النهوض بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وعدم الركون للدنيا وزخرفها وزبرجها ، والثبات والصمود والاستبسال.

إذن الإعلام الحسيني ، مع أنّه ينطوي على الحزن والجزع إلاّ أنّه يضخّ في وجدان الأُمّة وفكرها وروحها ، ويعمل على تعبئة النفوس بمفاهيم التضحية والفداء ، وهذا ما لا يتناسب مع الكسل والخمول والفشل والتراجع واليأس والتقهقر كما يطرحه ، هذا الإشكال وحالة تعبئة المقاتلين بالحماس ، وبحبّ الوطن حالة متعارفة عند أصحاب القتال والعسكريين.

الحثّ على زيارة الحسين في أشدّ الظروف صعوبة

ونلاحظ أنّ الحسينيين ـ على مرّ التاريخ ـ يتميّزون بالتفاني واسترخاص النفس وبذل الغالي والنفيس ، وهناك العديد من الفقهاء يفتون بجواز زيارة

٢١٤

الحسين عليه‌السلام حتّى مع وجود المخاطر والظروف الأمنية الصعبة.

كما أنّ هناك روايات مستفيضة تحثّ على زيارة الحسين عليه‌السلام حتى في الظروف الصعبة (١) ، وهناك العديد من شواهد التاريخ على ذلك.

وهناك روايات يمكن قراءتها في كتاب الوسائل في نهاية كتاب الحج ، وفيها حثّ أكيد شديد على زيارة سيد الشهداء عليه‌السلام من قبل الأئمة عليهم‌السلام في ظل تشديد الدولة آنذاك على الأئمة عليهم‌السلام ، حتّى أنّ الإمام الهادي والإمام العسكري عليهم‌السلام ، قد سجنا في سجن عسكري ، ومن المعروف أنّ السجن العسكري فيه تشديد أكثر من السجن المدني ; لأنّه يعتبر قاعدة عسكرية للجيش ، ولو دققنا في الأمر لوجدنا أنّ الإمامين العسكريين عليهما‌السلام قد سجنا في سجن عسكري في سامراء ، مع أنّ الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام قد سجن في سجون مدنيّة ، ومع أنّها كانت رديئة ومعاملتهم معه سيئة إلاّ أنّ السجن العسكري للإمامين العسكريين يدلّ على توتر الأجواء الأمنيّة ، واستنفار الدولة العباسية ، وإلاّ لما سجنت هذين الإمامين في أكبر قاعدة عسكرية لأكبر دولة عظمى آنذاك ، وهذا يدل على ترقب الدولة العباسية لظهور الإمام المهدي ( عجل الله فرجه الشريف ) ، ولن نستغرق في الكلام عن هذه النقطة المعترضة للحديث.

الإمام الهادي عليه‌السلام يأمر أبا هاشم الجعفري بزيارة الحسين عليه‌السلام في عصر المتوكل

يحدّثنا التاريخ عن مرض الإمام الهادي عليه‌السلام في سامراء ، ولم تكن سامراء مدينة كما نراها الآن ، بل كانت قاعدة عسكرية مدجّجة بالسلاح والجنود ، وقد

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ١٤ : ٤٥٦ ، باب استحباب زيارة الحسين والأئمة عليهم‌السلام في حال الخوف والأمن.

٢١٥

انتدب الإمام الهادي عليه‌السلام داود أبا هاشم الجعفري ، وهو أحد كبار تلاميذ الإمام ، وهو فقيه من الفقهاء الكبار ، والذي كان من نسل جعفر الطيار ، وكان من تلاميذ الرضا والجواد والهادي عليهم‌السلام ، وهذا الشخص شخص عزيز لا يفرّط به ، مع ذلك انتدبه الإمام الهادي عليه‌السلام للدعاء له تحت قبة الحسين عليه‌السلام ، وكان ذلك في زمن المتوكل المعروف ببغضه للحسين وأهل البيت عليهم‌السلام ، وفتكه بشيعتهم حتّى أنّه كان يقطع أيدي زوّار الحسين عليه‌السلام.

إذن إرسال الإمام الهادي عليه‌السلام لأبي هاشم الجعفري في هذا الجو الخطر رغم مقامه العلمي الشامخ يدل على اهتمام الإمام البالغ بزيارة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وعندما استغرب أبو هاشم الجعفري من هذا الطلب من الإمام المعصوم المستجاب الدعوة ، قال له الإمام الهادي عليه‌السلام : « ... إنّ لله مواضع يحب أن يعبد فيها ، وحائر الحسين عليه‌السلام من تلك المواضع » (١).

الأنبياء يحملون أرقى نماذج العولمة

العولمة تنطوي على معنى التوحيد في الرؤية والتجارة والقانون والاتصال والسياسة والأمن والحاكمية والثقافة والفكر ، وهي مضادّة للتفرقة والاختلاف والتمييز.

قد مرّت البشرية بأدوار عديدة ، مع وجود الرسل الذين كانوا يتميّزون بوحدة الهدف ، ويحملون نفس المشروع الإصلاحي الإلهي على الأرض ، وقد تكبّدت البشرية التي رفضت هذه الرسالات السماوية خسائر فادحة نتيجة عدم الاستجابة للأنبياء ، فعانت من التفرقة والتمييز والعنصرية.

__________________

١ ـ كامل الزيارات : ٤٥٩ ، الحديث ٦٩٨ ، الباب (٩٠) أنّ الحائر من المواضع التي يحب الله أن يدعى فيها.

٢١٦

إذن الأنبياء يحملون مشروع العولمة الإلهية لجميع البشر وهو يضمن لهم السعادة والنظام والعدل.

نزعة البشر للتوحّد ، ونزعتهم للتفرّق

هناك نزعتان للبشرية : إحداهما للوحدة ، والأُخرى للاختلاف والتكتل والتحزّب والتفرق ، ومن مظاهر النزوع للاختلافِ نظام الحكم الملكي والنظامِ السلطاني ونظام القبائل ونظام التمييز العرقي المنتشر في إفريقيا ، بل في الحضارات الغربية ، فنسمع عن النازية في ألمانيا ـ على سبيل المثال وكذلك النظام القومي الذي برز في تركيا ودور أتاتورك فيها ، وإيران والقومية الفارسية ودور شاه ايران فيها ، والقوميّون العرب ، وهناك النظام الوطني ، هذه أنظمة تضمن التوحّد في الإطار الضيّق المتمثّل في الوطن والعرق والقومية ، ولكنها تمثّل تفرّقاً على مستوى المجموع البشري والعالم ، فهي توحّد من جانب ، وتفرّق من جانب آخر. وكذلك نرى هذه التفرقة على مستوى الطرح الرأسمالي التي تتجلّى فيه التفرقة بين طبقات المجتمع بصورة واضحة.

الأُمم المتحدة مظهر من مظاهر الوحدة

ولو ألقينا نظرة على الأُمم المتحدة التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية ، فكانت من مصاديق الوحدة على عدّة محاور ، منها : المحور الثقافي والتعليم المتمثّل في اليونيسكو ، وعلى محور القضاء محكمة لاهاي الدولية ، وعلى المحور الاقتصادي المتمثّل في البنك الدولي ، وكذلك الوحدة في الأمن المتمثّل في مجلس الأمن ، والوحدة في القانون ، مثل : قانون الفيتو.

وظهرت قبل الأُمم المتحدة تحالفات سياسية وعسكرية كانت تمثّل توحّد نسبي ، أي : توحّد من جهة ضيّقة ، وتفرّق من جهة أُخرى ، وهي الجهة التي

٢١٧

تمثّل التوحّد العالمي.

وقد ترقّت مظاهر الوحدة إلى أن تجسّدت في الأُمم المتحدة ، مع أنّها تعترف بأنّ لكل دولة قانونها الخاص بها.

الإمام المهدي (عجّل اللّه فرجه الشريف) سيقيم حكومة عالمية

والنزوع الى الوحدة في البشرية مطلب بشري يتحقق في حكومة عالمية يقودها الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف الذي سيقيم حكومة عالمية ـ باتفاق المسلمين بغض النظر عن بعض الفروقات الجانبية ـ تكون في توحّدها أرقى من نظام الأُمم المتحدة التي تتعرّض إلى الكثير من الانتقادات من هذه الجهة أو تلك ، وذلك لما تتمتع به حكومة الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف بقيادة معصومة تستمد نهجها من الخط الإلهي والنظرة الإلهية للكون والإنسان.

العولمة تصبّ في عدّة مجاري

النظام العالمي الواحد يتمثّل في النظام السياسي الذي يحكم العالم ، وهناك النظام العالمي العقائدي الذي يوحّد العالم في العقيدة ، والبحث عن القواسم المشتركة بين المذاهب يصبّ في هذا المجال باعتبار أنّ الحوار بين المذاهب مقدّمة للحوار بين الأديان ، وهناك الوحدة التجارية والاقتصادية والمالية ، وهناك عولمة جغرافية ، وعولمة لغوية تجعل لغة واحدة تسود جميع البشر باعتبارها اللغة الأقوى ، بل والعولمة في الإعلام ووحدة مشهد الحدث ، حيث ينظر الجميع إلى مشهد واحد من خلال وسائل الإعلام ، بل وحتّى وحدة الأزياء والملابس والعادات والتقاليد ، والإعلام له دور كبير حتى في الحروب لا يقل أهمية عن الجوانب الأُخرى في كسب الأطراف ، وفي بيان أحقيّة الفئة التي تستخدم هذه

٢١٨

الوسائل الإعلامية في صالحا ; لأنّ الإعلام يعتمد على الفكر والفكر هوالذي يؤثّر في صنع الرأي العام ، بل وفي اتخاذ الموقف العسكري المناسب.

بل هناك سعي لحاكمية النظام العالمي الموحّد ، وتذويب الأنظمة الصغيرة ، وجعلها خاضعة إلى النظام العالمي الكبير.

العولمة نظام سبق له أن طبّق في العصور السابقة

على الصعيد الإسلامي نرى أنّ نهضة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله وتبليغه لرسالة الإسلام ونوع من أنواع العولمة.

وقد عاشت البشرية عدّة نماذج للعولمة ، منها : دولة الإسكندر أو ذي القرنين كما يعبّر عنه القرآن الكريم ، وقد سمّي ذو القرنين ; لأنّه حكم المشرق والمغرب ، وقد اختلف المفسّرون في أنّ الإسكندر هو ذو القرنين أم غيره ، وقد أسس ذو القرنين عولمة.

كما أنّ النبي سليمان عليه‌السلام قد أسس عولمة في العصور السابقة ، حيث وردت روايات عن أهل البيت عليهم‌السلام في أنّه لم يملك الدنيا إلاّ أربعة ، وعدّت منهم النبي سليمان عليه‌السلام (١) الذي ورد في القرآن الكريم : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لاَِحَد مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (٢).

وقال تعالى : ( وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ) (٣).

والأُمم المتحدة أغفلت هذه العولمة التي حدثت في العصور السابقة ; لأنّهم يعتمدون على العلوم الحديثة فقط مما يجعل طرحهم ناقصاً.

__________________

١ ـ البرهان في تفسير القرآن ٧ : ٢٦١ ، الحديث ٧٩٨٤.

٢ ـ ص (٣٨) : ٣٥.

٣ ـ ص (٣٨) : ٢٠.

٢١٩

ونحن نعتقد أنّ الجانب الوحيد من جوانب العولمة القادر على التوحيد هو الوحدة على الصعيد العقائدي

تعريف الأُمم المتحدة للعولمة

تعريف الأُمم المتحدة للعولمة ، وهل نحن نعترف بهذا التعريف الذي أُعدّ عام ١٩٩٥ م؟ وهو :

« مزج الإقتصاد والسياسة ونظم الإجتماع والثقافة والسلوك بإلغاء الحدود الجغرافية والإجراءات الحكومية » ، فهل نحن نوافق على هذا التعريف؟ وما هو رد فعل مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام وكلمات سيد الشهداء عليه‌السلام من هذا التعريف؟ هذا ما سنتعرّض له لاحقاً إن شاء الله.

٢٢٠