بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

صفين ، حيث كان يقول : « أنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم » (١) ، وهذه لا تعني : الكراهة بمعنى أنّ هذا الفعل مكروه شرعاً ، بل هو محرّم ، أي : أُحرّم على نفسي أن أبدأهم بقتال.

أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحواره مع حزب الخوارج

وفي تعامل أمير المؤمنين عليه‌السلام مع الخوارج نموذج رائع ، مع أنّهم كانوا تحت سلطته حيث كان الكثير من المحيطين بالإمام علي عليه‌السلام يحثّونه على قتال الخوارج وإبادتهم قبل معركة النهروان ، ولكنّه رفض مقاتلتهم إلاّ بعد أن أتمّ الحجة عليهم بالحوار (٢).

وما فعله الإمام عليه‌السلام مع الخوارج يصلح لأن يكون أنموذجاً في التعامل مع المعارضة حيث كان الإمام عليه‌السلام يعطيهم كل الحقوق المتعلّقة بإبداء الرأي وطرح الفكر ، وهناك دراسات في جامعة الأزهر تحاول أن تغوص غمار هذه التجربة العلوية المباركة مع الحزب المعارض المتمثّل بالخوارج ، ومن المعروف أنّ الخوارج لم يكونوا أفراداً ، بل حزباً سياسياً وأيدلوجياً ، وحتّى هؤلاء الخوارج لم يبدأهم الإمام علي عليه‌السلام بالقتال ، ولم يقصِهم أو يقم عليهم الإقامة الجبريّة ، بل فتح لهم باب الحوار على مصراعيه ، ممّا جعل الخوارج يفتحون الجبهة الإعلامية بشكل قوي ، مع ذلك لم يحاربهم ، واقتصر على رد الرأي بالرأي ، وطرح بيّناته وحججه ، وتحمّل الإمام علي عليه‌السلام الطرف المعارض إلى أقصى حدّ ، مادام الطرف الآخر قد اعتمد لغة الحوار ، والأكثر من ذلك أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقبل المقاضاة ، وهو حاكم الدولة وخليفة المسلمين وأمير المؤمنين في قضية مالية ،

__________________

١ ـ جواهر التاريخ ١ : ٢٨٧.

٢ ـ كتاب الجمل وصفين والنهروان : ٤٢٦.

١٢١

فيقبل أن يقف أمام شريح القاضي هو والطرف الذي رفع الشكوى عليه (١) ، وهذه النماذج لا نجدها إلاّ عند أهل البيت عليهم‌السلام.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقدّم الحوار على القتال

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو معلّم الإمام علي عليه‌السلام كان كذلك ، وتقسيم الدعوة إلى مرحلتين : المرحلة المكّية والمرحلة المدنيّة دليل على ما نقول ، حيث كان في مكّة يطرح البراهين والحجج والدلائل على صدقه لمدة ثلاثة عشر سنة ، وهي مدّة ليست بالقليلة ، وفي المدينة بعد أن أسس الدولة والنظام الإسلامي ، وتشكّلت القوّة الإسلامية العسكرية ، ومع هذا نرى في غزوة بدر لم يبدأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقتال (٢) ; لأنّ هذه هي سنَّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام ، فقد كانوا يرفضون البدء بالقتال ، ولا يقاتلون إلاّ بعد أن يبدأ الطرف الآخر بالقتال.

الإمام الحسين عليه‌السلام ، والحوار مع الأعداء

ولو تتبّعنا حركة الإمام الحسين عليه‌السلام لرأينا الحوار حاضرٌ في كل محطّة من محطّاته ، كحواره مع أهل الكوفة ، ومع عمر بن سعد ، ومع جيش بني أمية ، ولم يبدأ الإمام الحسين عليه‌السلام جيش بني أمية بالقتال (٣).

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٦٥ ، الحديث ٣٣٧٣٧.

٢ ـ الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٥ : ٤١.

٣ ـ الارشاد ٢ : ٨٤ ، قوله عليه‌السلام : « ما كنت لأبدأهم بالقتال ».

أبعاد النهضة الحسينية : ١٤٤.

١٢٢

المحاضرة الخامسة

الجهاد الابتدائي والحروب العدوانية

محاور المحاضرة :

أوّلا : المعترضون على الإسلام.

ثانياً : هل الإسلام دين القوّة والعنف والإرهاب؟

ثالثاً : طمع الجيوش الفاتحة في الأموال والنساء.

رابعاً : لماذا دخلت أوروبا في الدين المسيحي في القرن الثاني الهجري؟

خامساً : هل الجهاد الابتدائي هو الحرب العدوانيّة؟

سادساً : بعض الكتَّاب المصريين تنكّروا لوجود الجهاد الابتدائي.

سابعاً : حروب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّها دفاعيّة.

ثامناً : الجواب الصحيح عن إشكال الجهاد الابتدائي.

تاسعاً : القرآن الكريم ينهى عن إهلاك الحرث والنسل.

عاشراً : الإسلام يكرّم بني آدم.

المعترضون على الإسلام

هناك بعض الاعتراضات على الطرح الذي يقول : إنّ الدين الإسلامي ذو طبيعة أوّلية تتسم بالرفق واللّين والتعقّل الهدوء والحوار ، وأنّ طبيعته لا تتسم بالرعونة والإرهاب والعنف والشدّة ، وسنستعرض هذه الاعتراضات ، وسنرى أنّها مردودة على أصحابها.

١٢٣

هل الإسلام دين القوّة والعنف والإرهاب؟

اعترض مجموعة من المستشرقين : أنّ الإسلام هو دين السيف والقوّة والعنف والإرهاب ، ويقولون : أنّ في الفترة التي قضاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة المنوّرة في عشر سنوات ، نشبت ثمانون حرباً ، وهذا العدد يدلّ على أنّ الإسلام يرتكز على السيف والقوّة والخشونة ، ولا يرتكز على الحوار والعرض العلمي والتفاهم.

طمع الجيوش الفاتحة في الأموال والنساء

وفي عصر الفتوحات الذي كان يحتوي على الكثير من المخالفات الإنسانية ، سطّرتها كتب المسلمين ـ فضلا عن غيرهم ـ ففي آذربايجان دخل أهل هذه المنطقة الإسلام ، ولكن ما يسمى بالجيوش الفاتحة لم تعترف بإشهار أهل تلك المنطقة لإسلامهم ، وذلك رغبة في الحصول على السبي والنساء الجميلات والغنائم والأموال ، لأنّهم لو أذعنوا بإسلام أهل تلك المنطقة ، لما حصلوا على شيء من ذلك أبداً.

وحدث مثل هذا في أطراف الهند والصين ، حتى إن ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه لنهج البلاغة ، يذكر : من المصادر التاريخية القديمة ، القصص الطويلة التي تقشعرّ منها الأبدان.

وكذلك الأقباط في مصر ، والبربر في بلدان المغرب العربي ، وكذلك في إسبانيا ، إلى درجة أنّ الإسبانيين عندهم يوم خاص ، يحتفلون به بهزيمة المسلمين في كل عام ، وهناك مؤلف إسلامي ، عنده العديد من الكتب حول الأندلس ، ولعلّه كتاب الغصن الرطيب في تاريخ الأندلس ، يبيّن فيه أنّ الإسبانيين انتقموا من المسلمين بنفس الطريقة التي عوملوا بها ، فسبوا النساء واسترقوهنّ ، وهدموا المساجد ، كما هدم المسلمون الكنائس ، ومازالت آثار تلك المعاملة تستعر في

١٢٤

قلوب الآخرين تجاه الإسلام والمسلمين.

وفي البوسنة والهرسك ، وما فعله الصرب بالمسلمين ، كان نتيجة مخلّفات تاريخيّة ، وأقرأ ما فعلته الدولة العثمانية التركية من ممارسات خاطئة.

لماذا دخلت أوروبا في الدين المسيحي في القرن الثاني الهجري؟

والشيء الملفت أنّ أوروبا إنّما دخلت في المسيحيّة في القرن الثاني الهجري ، وكانت قبل ذلك وثنيّة ، ولازال الإسلام فتيّاً ، ومن المفترض أنّ نور بريقه يسطع في أوروبا ، فكيف نجح المسيحيّون في نشر ديانتهم في أوروبا في وقت كان الإسلام يتمتع بالعنفوان والقوّة والانتشار؟ بينما كان بين تلك الحقبة التاريخية ، وبين بعثة النبي عيسى عليه‌السلام ستة قرون ، وهذا شيء مؤسف وخسارة كبيرة للإسلام والمسلمين ، وقد انطلق المبشّرون المسيحيون بمفاهيم السلام والرحمة والتعامل بالحسنى ، وغزوا كل أوروبا في تلك الفترة ، وقد انتقلت هذه الأفكار إلى الأمريكتين ، والعديد من دول العالم ، ولازال المسيحيون إلى زماننا هذا يتفوّقون عددا على المسلمين في تلك المناطق ، فلابد من دراسة الأسباب التي حوّلت أوروبا للدين المسيحي ، وجعلتها تعرض عن الإسلام.

هل الجهاد الابتدائي هو الحرب العدوانيّة؟

ولو أنّنا قرأنا كتاب الجهاد في الفقه الإسلامي لرأينا مصطلح « الجهاد الابتدائي » ، ولو ترجمنا هذا المصطلح إلى لغة القانون الحديثة لكان « الحرب العدوانيّة » التي تحمل في طيّاتها الحدّة والعنف والشدّة والقتل.

بعض الكتَّاب المصريين تنكّروا لوجود الجهاد الابتدائي

وطَرْح هذا الإشكال ، جعل بعض الكتّاب المصريين قبل ما يقارب من خمسة

١٢٥

عقود يتنكّرون لوجود الجهاد الابتدائي في الإسلام ، وأنّ الجهاد المذكور في القرآن الكريم هو جهاد دفاعي ، وليس جهاد ابتدائي ، وقالوا : إنّ هناك فرق بين التشريع الإسلامي ، وممارسة المسلمين ، وقد استدلّوا ما قالوا : بالعديد من الآيات والروايات النبويّة ، وقبل أن نستعرضها نودّ الإشارة إلى أنّ تنصّل هؤلاء مما حصل أثناء الفتوحات ، إقرار بوجود أخطاء ، وتجاوزات قامت بها جيوش الفتح.

ومن الآيات التي استدلّوا بها ، وهي آيات مدنيّة قوله تعالى : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (١) ، واعتبروا هذا النص نصاً مقيّداً لباقي النصوص القرآنية التي تدعوا إلى الجهاد ، واستدلّوا بقوله تعالى : ( لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْء فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ * وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٣) ، عند كثير من المذاهب أنّ هذه الآية ليست منسوخة ; لأنّ هذه الآية تدلّ على تشريع المهادنة مع الكفار ، وعقد العهد والأمان معهم ، وهذا يدلّ على أنّ قتال الكفار في القرآن الكريم ليس بشكل مطلق ، وقوله تعالى : ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ ) (٤) ، وهذه السورة من أواخر السور التي نزلت ،

__________________

١ ـ البقرة (٢) : ١٩٠.

٢ ـ الممتحنة (٦٠) : ٨.

٣ ـ الأنفال (٨) : ٦٠ ـ ٦١.

٤ ـ التوبة (٩) : ٦.

١٢٦

وقيل : آخر سورة نزلت بالمدينة (١) ، وإن كان الأصح بين المفسّرين أنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت.

حروب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّها دفاعيّة

وطَرْحُ مثل هذه الآيات هدفه التأمّل ، ومراجعه الأحكام الواردة في كتب الجهاد عند المسلمين في تشريع الجهاد الابتدائي ، أمّا بالنسبة لسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقولون : إنّنا يجب أن نفرّق بين سيرة النبي ، وسيرة من بعده عموماً ، وأنّ حروب النبي ابتداءً من بدر ، وحتى تبوك لم تكن حروباً تمثّل الجهاد الابتدائي ، بل كلها حروب دفاعيّة ، والشاهد على ذلك أنّ غزوة بدر لم يقم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ بعد أن قامت قريش بالاعتداء على المسلمين ، وعلى أموالهم في مكّة المكرّمة ، بل كانت قريش تعتدي على المسلمين حتّى في المدينة المنوّرة على شكل غارات ليليّة ، فكان هدف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقف العدوان القرشي ، والاقتصاص من قريش فلذلك هجم على قافلة قريش التي كان يقودها أبو سفيان ، وحينها نزل قوله تعالى : ( وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ) (٢) ، ونجت قافلة أبي سفيان من المسلمين الذين كانوا يبنون على المقاصّة المالية ، والمقاصّد المالية منطق دفاعي ، وليس منطقاً عدوانيّاً ، وليس جهاداً ابتدائياً ، كما هو مطروح في فقه المذاهب الإسلامية ، وأنّ أبا سفيان قد أرسل إلى جيش قريش قائلا : إنّ العير قد نجت ، ولا حاجة للحرب ، إلاّ أنّ قريش بخيلائها وكبريائها أبت الرجوع عن الحرب (٣) ، وعتبة قد نصح قريش أن لا تعتدي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن لا تحاربه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إن

__________________

١ ـ القائل : قتادة ومجاهد ، مجمع البيان ٥ : ٣ ، سورة التوبة.

٢ ـ الأنفال (٨) : ٧.

٣ ـ شرح نهج البلاغة ١٤ : ١٠٦.

١٢٧

يكن في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر (١) ، وكان عتبة هو الراكب على الجمل الأحمر ، حيث كان يريد أن يثنيهم عن ذلك ، إلاّ أنّ أبا جهل قال له : « جبنت وانتفخ سحرك » ، فابتدأ القتال (٢) ، ولكن لم يكن الابتداء من طرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هو من طرف قريش ، بدءاً بالعدوان المالي والعرضي والأمني ، وانتهاء بساحة المعركة ، إذن هذه هي معركة دفاعيّة ، وفي غزوة أُحد كان الكفّار قد أتوا للانتقام من المسلمين ، وفي غزوة الخندق كذلك ابتدأ الكفّار بالحرب ، وأمّا غزوة تبوك فهي عبارة عن الاستعداد الرادع لطغيان الروم الذين كانوا يهدّدون المسلمين ، وكذلك غزوة مؤتة التي استشهد فيها زيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وجعفر الطيّار ، والصحيح أنّ جعفر الطيّار هو أوّل من استشهد في هذه المعركة ، وليس زيد بن حارثة ، كما تذكر بعض المصادر (٣) ، وكذلك في غزوة حنين ، وما فعلته قبيلة هوازن من تهديد المسلمين ، وعندما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة فاتحاً أخذ الراية أحد الصحابة قائلا : « اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة » فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً أن يأخذ الراية ، ويقول : « اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ فيه الحرمة » (٤) حتى إنّ النبي عامل البيت الذي طالما ناصبه العداء والحقد ، وهو بيت أبي سفيان برفق ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن » ، وعندما قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما تظنّون وما أنتم قائلون؟ » قال سهيل : « أخٌ كريم وابن عمّ كريم » (٥).

__________________

١ ـ كنز العمال ١٠ : ١٨٠ ، الحديث ٢٩٩٢٧ ، كتاب الغزوات والوفود.

٢ ـ مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٣٩ ، فصل في غزواته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢ ، « غزاة مؤته ». الكامل في التاريخ ٢ : ٢٣٦.

٤ ـ السيرة الحلبية ٣ : ١١٨ ، باب ذكره مغازية صلى‌الله‌عليه‌وآله. المبسوط للسرخسي ١٠ : ٤٥ ، كتاب السير ، باب معاملة الجيش مع الكفار.

٥ ـ تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨ ـ ٣٩ ، فتح مكة.

١٢٨

هذه إجابات هؤلاء الباحثين ، وبين الفينة والأُخرى نرى بعض الدراسات التي تحاول إثبات أنّ الجهاد الابتدائي لا تدلّ عليه النصوص الشرعية القرآنية أو النبويّة.

أمّا رأينا في هذه الإجابات هو أنّها تحمل بعض اللفتات الصحيحة ، والاستدلالات المحقّة إلاّ أنّها لا تصلح أن تكون جواباً للإشكال المطروح.

الجواب الصحيح عن إشكال الجهاد الابتدائي

الجواب الصحيح عن هذا الإشكال : أنّ الجهاد الابتدائي ليس معناه الابتداء بالعدوان ، وإن كانت كلمة « الابتدائي » توحي للسامع هذا المعنى ، والمعنى الصحيح لهذا المصطلح ، هو بدء إظهار القوّة العسكرية ، وإظهار لغة القوّة ، ولكن هذا المصطلح لا يتضمّن البدء بالحرب ، بل يعني : استعمال الأسلوب الضاغط ، وأسلوب القوّة في معالجة عدم خضوع الدولة الأُخرى أو الجهة الأُخرى التي تعادي المسلمين لميزان العدالة في التعامل مع المسلمين.

الجهاد الابتدائي له خلفيّة حقوقية دفاعيّة

وفي الواقع أنّ الجهاد الابتدائي له خلفيّة حقوقية دفاعيّة ، بمعنى إذا تعرّضت حقوق المسلمين للانتهاك ، كما لو نكث الطرف الآخر العهد معهم ، وأقيمت الحجّة على الطرف الآخر ، ولم يستجب للغة الإنصاف والعدل ، فمن الواضح أنّ الإسلام لن يبقى على طبيعته الأوّليّة ، وهي الحوار والتعقّل والرفق واللّين ; لأنّ المفترض أنّ الحجّة قد أُقيمت ، ولم ينفع الخطاب العقلاني مع الطرف الآخر ، ولم يبق مجال إلاّ لمنطق القوّة ، والساحات العسكرية ، واستخدام لغة القوّة يهدف إلى كبح جماح النزوات الغريزيّة الحيوانية في الطرف الآخر المعتدي ، ولا يتضمّن استخدام القوّة في المفهوم الإسلامي ، إهلاك الحرث والنسل ، فالقرآن الكريم يبغض ، وينهى عن

١٢٩

إهلاك الحرث والنسل.

القرآن الكريم ينهى عن إهلاك الحرث والنسل

قال تعالى : ( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ) (١) ، فليس من المنطق الإسلامي أن تحرق مكتبة الإسكندريّة ، وتبقى مدّة طويلة تلتهمها النيران ، هذا ليس منطق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا منطق الإمام علي عليه‌السلام ، وهذه أوراق يجب أن تبحث بصراحة.

أمّا منهج أهل البيت عليهم‌السلام فيعتمد على الانفتاح على العلوم البشرية ، وتهذيبها وترشيدها ، والاستفادة من الخبرات البشرية ، والإنجازات التي حققها الآخرون في تدبير المعيشة ، وخدمة العلوم الدنيوية ـ فضلا عن العلوم الأُخروية ـ.

الإسلام يكرّم بني آدم

الأصل الأوّلي في الإنسان عموماً ، هو أن يكون مكرّماً ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ) (٢) ، وهذا يشمل المسلمين وغير المسلمين ، هذا هو الأصل الأوّلي ، وكما يقول الإمام علي عليه‌السلام : « إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق » (٣) والتي رفعها شعاراً الأمين العام للأُمم المتّحدة كوفي عنان ، وقال : إنّها يجب أن تكون شعاراً لحوار الحضارات.

إذن ، الجهاد الابتدائي ، يعني : التلويح بالقوّة لحفظ حقوق المسلمين المسلوبة ، ولا يعني : الاعتداء على دولة أُخرى بدون سبب ، أو ترويع شعب مسالم آمن.

__________________

١ ـ البقرة (٢) : ٢٠٥.

٢ ـ الإسراء (١٧) : ٧٠.

٣ ـ ميزان الحكمة ٨ : ٣٦٩١ ، الحديث ٢٢٧٩٩.

١٣٠

المحاضرة السادسة

الخلفيّات الحقوقية للجهاد الابتدائي

محاور المحاضرة :

أوّلا : الجهاد الابتدائي والإرهاب.

ثانياً : قوى الاستكبار وآيات الجهاد.

ثالثاً : الإسلام ليس مسؤول عن المخالفات الشرعية التي يقوم بها المسلمون.

رابعاً : لا يصح أن نحمل اصطلاحات علم على اصطلاحات علم آخر.

خامساً : الجهاد الابتدائي يستند إلى خلفيّة حقوقية.

سادساً : الجهاد الابتدائي جهاد دفاعي في المصطلح الحقوقي.

سابعاً : لايوجد مصطلح الجهاد الابتدائي في النصوص الشرعية.

ثامناً : مبررات القتال في القرآن الكريم.

تاسعاً : الجهاد الابتدائي له شروط خاصّة ، وله أهداف محدّدة.

عاشراً : الفيتو عند الإمامية الاثني عشرية لايكون إلاّ عند المعصوم.

الجهاد الابتدائي والإرهاب

كان الكلام في ما سبق ، هو الإثارة المطروحة الآن في محافل بشريّة عديدة ، من أنّ الدين الإسلامي يحمل في طيّاته لغة الإرهاب ، وما يتمسك به القائلون بهذه الدعوة المضادّة ، هو وجود مفهوم الجهاد الابتدائي في القرآن الكريم والتشريع الإسلامي.

١٣١

طبعاً أصل هذه الإثارة حول الجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة ، لها منشأ مرتبط بالموروث التاريخي المتعلّق بالفتوحات الإسلامية ، وهذا البحث يتصل بالفتوحات ، كما يتصل بموقف علي عليه‌السلام ، حيث انكفأ في حكومته على الإصلاح الداخلي ، والتركيز على السياسة الداخلية ، وترتيب أوراق الوضع الداخلي.

ذكرنا في الليلة الماضية مجمل الأدلّة التي استند إليها بعض الكتّاب في نفي وجود لغة العنف في الدعوة الإسلامية ، وأنّه ليس هناك ما يدعو للقتال والعنف والقوّة وقهر الآخرين وإجبارهم على الدخول في الدين الإسلامي.

قوى الاستكبار وآيات الجهاد

هذا الأمر جدّيٌ جدّاً ، وملحّ في الوسط الدولي ، ونحن نلاحظ أنّ أمريكا والعالم الغربي يريدون إقناع العالم بأنّ هذا الأمر يعتبر أمراً إرهابيّاً ، ولابد من الضغط على المسلمين من أجل حذف هذه الآيات من القرآن الكريم والشريعة الإسلامية والفقه الشرعي.

فالمسألة من الخطورة بمكان بحيث تتجاوز مرحلة التنظير والبحث النظري ، بدل يراد لها أن ترسوا على خطوات خطيرة جدّاً ، إذ ينبغي على فقهاء الشريعة أن يفهموا هذه الإشكالية بعمق ، وأن تتمّ دراستها دراسة مستفيضة ، والردّ عليها بشكل قوي ، لأنّ هذه المسألة ليست مسألة نظرية ، وليست ثرثرة فكرية ، بل هي مسألة قد أخذت طابعاً عمليّاً إلى درجة أنّ بعض البلدان الآن تمنع قراءة آيات الجهاد في الإذاعة والتلفزيون والمحافل العامّة ، وأنّ هناك توصية غربية مفروضة على بعض البلدان الإسلامية لكي تمنع قراءة آيات الجهاد ، وحذفها من المناهج الدراسية.

الإسلام ليس مسؤول عن المخالفات الشرعية التي يقوم بها المسلمون

في البدء لابد أن نستعرض التنظير العلمي لهذه القضية ، وهناك فرق بين البحث

١٣٢

النظري والتطبيق العملي ، بمعنى أنّ النظرية الإسلامية غير مسؤولة عن الممارسات الخاطئة التي قام بها المسلمون ، وأنّها ليست مسؤولة إلاّ عن ما يستند إلى التشريع الإسلامي الصحيح ، فليس من العدل أن نحمل النظرية ، التطبيقات الخاطئة ، والممارسات غير المسؤولة لمن يعتقد بهذه النظرية.

لا يصح أن نحمل اصطلاحات علم على اصطلاحات علم آخر

النقطة الأُخرى التي نريد الإشارة إليها ، هي أنّ جهاد الدعوة أو الجهاد الابتدائي ليس مطروحاً في الفقه الإسلامي ، بمعنى ابتداء العدوان أو الحرب العدوانيّة ، وبعبارة أُخرى : من الخطأ الفادح أن نحمل اصطلاحات في علم معيّن على اصطلاحات أُخرى في علم آخر ، ومن الخطأ أيضاً أن يقرء باحث في بيئة معيّنة ، مفاهيماً معيّنة ، ويطبّقها على بيئة أُخرى ، لأنّ لكل بيئة مفاهيمها وأفكارها الخاصّة بها.

الجهاد الابتدائي يستند إلى خلفيّة حقوقية

وما ذكره الفقهاء من أنّ الجهاد الابتدائي بند من بنود الشريعة الإسلامية ، ليس المراد منه العدوان واستخدام لغة القوّة ، وقد يفهم السامع لكلمة « الابتدائي » معنى العدوان ، بينما هي ليست كذلك في الفقه الإسلامي ، بل إنّ معنى الجهاد الابتدائي هو المبادرة العسكرية التي تحمل في طيّاتها غطاءً حقوقياً ، وهذا باتفاق جميع المذاهب الإسلامية ، وإن كان هناك خلاف في بعض التفاصيل بين مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، والمذاهب الأُخرى إلاّ أنّ جميع المسلمين يعتقدون أنّ الجهاد الابتدائي يتضمّن غطاءً حقوقياً فيكون جهاداً دفاعيّاً في المصطلح الحقوقي ، وليس حرباً عدوانيّة ، كما ترجمة البعض.

١٣٣

الجهاد الابتدائي جهاد دفاعي في المصطلح الحقوقي

إذن ، كل الجهاد يرجع إلى الجهاد الدفاعي ، كما أشار إلى ذلك : الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء والشيخ الكليني ، وقد قسّم الفقهاء الجهاد إلى قسمين : جهاد ابتدائي وجهاد دفاعي ، والمقصود من الجهاد الدفاعي ، هو استخدام لغة القوّة ردّاً على استخدام العدو للغة القوّة ، أمّا الجهاد الابتدائي فهو جهاد دفاعي أيضاً مع فارق أنّ فيه مبادرة باستخدام القوّة العسكرية مع وجود الغطاء الحقوقي ، وبالتالي يكون جهاداً دفاعياً في المصطلح الحقوقي.

وتطبيقاً لما ذكرنا يتّضح أنّ معركة بدر وحنين ومؤتة كانت جهاداً ابتدائياً بالمصطلح الفقهي ، وحروباً دفاعيّة بالمصطلح القانوني.

لايوجد مصطلح الجهاد الابتدائي في النصوص الشرعية

الجهاد الابتدائي مصطلح فقهي ، ولا يوجد هذا اللفظ في النصوص الشرعية ، نعم بعض الروايات عبّرت عنه بجهاد الدعوة (١) وإذا استعرضنا المبررات الشرعية لهذا الجهاد فلن يكون حرباً عدوانيّة ، بل سيكون جهاد إصلاح وإنماء وإرساء للعدالة.

الجهاد الابتدائي بين الفطرة الإنسانية والنظام العالمي

ولو تساءلنا هل للجهاد الابتدائي ـ في المصطلح الفقهي وليس الحقوقي ـ أو جهاد الدعوة منشأ في الفطرة الإنسانية ، وفي البحوث العقليّة باعتبار أنّ الشريعة الإسلامية توافق الفطرة الإنسانية؟

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٤٢ ، باب وجوب الدعاء إلى الإسلام قبل القتال إلاّ لمن قوتل على الدعوة وعرفها.

١٣٤

نعم ، العقل يرجّح نصرة المظلوم ، والوقوف في وجه الظالم ، وعلى الصعيد الدولي نرى أنّ المجتمع الدولي يرفع شعار مكافحة الإرهاب حتّى لولم يكن ذلك الإرهاب في نفس الدولة التي رفعت الشعار.

أمّا في إطار النظام العالمي الموحّد نرى أنّ أمريكا تعطي لنفسها الحق في التدخل في شؤون الدول بعنوان مكافحة الإرهاب أو حقوق الإنسان ، وحتّى البنك الدولي يفرض شروطه ، ويتدخل في الشؤون والسياسات الداخلية للبلد التي تطلب منه قرضاً مالياً ، فلا يدعمها ويقرضها إلاّ إذا أذعنت لشروطه وضغوطه.

إذن ، أصل استخدام لغة القوّة لدفع ظاهرة عدوانيّة وإن كانت في بلد آخر أمر موجود عقلا ومعمول به دوليّاً ومتعارف عليه من قبل المجتمع الدولي

إذن ، الكلام كل الكلام ليس في استخدام القوّة ، وإنّما الكلام في الخلفيّة الحقوقية ، والتبرير الحقوقي لاستخدام القوّة.

ما هو الإرهاب؟

ولذلك ترى جدلا كبيراً في تحديد مفهوم الإرهاب ، وإلى الآن لم يرسُ هذا على مفهوم متفق عليه على طاولة الجدل البشريّة.

الإرهاب بما هو مفهوم يعتبر مفهوماً مذموماً ، لا يساوي المبادرة بالقوّة العسكرية ، فربما يبادر الشعب المظلوم باستخدام القوّة اتجاه الجهات التي تظلمه ، وهذا يتم في غياب أجواء الحوار ، وعندها تعطي تلك الجهة الظالمة لنفسها الحق في استخدام القوّة اتجاه تلك القوّة الضعيفة ، وتعتبر أيّ فعل يشكّل مبادرة عسكرية من قبل تلك الجهة الضعيفة إرهاباً ، ومن الإجحاف اعتبار هذا العمل إرهاباً ، بل هو مقاومة مشروعة لاسترداد الحق ، كما هو حال المقاومة في جنوب لبنان.

١٣٥

مبررات القتال في القرآن الكريم

العنف واستخدام القوّة ليس من طبيعة الإنسان الأوليّة لا في التقنين ولا في التشريع ، ولكنّها تكتسب الشرعية من خلال بعض الظروف المحيطة بها.

نحن نرى أنّ التشريع الإسلامي والآيات الكريمة تحمل شعاراً يتناغم مع الفطرة ، فمن الآيات المحكمة قوله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ) (١) ، والقرآن الكريم بيّن أنّ هدف الجهاد وغرضه وغايته هو تثبيت شرع الله تعالى ، ونصرة المظلومين والمستضعفين.

إذن : جهاد الدعوة يحمل في طيّاته نصرة المظلومين ، وانجاز حقوق اللّه على عباده ، والاستضعاف تارةً يكون استضعافاً مالياً وماديّاً ، وتارةً يكون استضعافاً عقائدياً وفكرياً وهو من أشدّ الاستضعاف ، قال تعالى : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا ) (٢) ، فهنا ( لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ) ، هو الاستضعاف المالي والمادي ، ولا يهتدون سبيلا هو الاستضعاف الفكري والعقائدي.

دور الإعلام في استضعاف الشعوب

الآن الأعراف الدولية والقوانين البشرية تقرّأنّ الشعوب المستضعفة مقهورة ، وتقع تحت التضليل الإعلامي للدول القويّة باعتبار أنّ الإعلام هو السلطة الرابعة ، بل قد يكون أخطر من السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة ; لأنّ الإعلام

__________________

١ ـ النساء (٤) : ٧٥.

٢ ـ النساء (٤) : ٩٨.

١٣٦

هوالذي ينشر الفكر أو يجمّده هنا وهناك.

ويقال : أنّ الشعوب المستضعفة أكثر وعياً في الجانب السياسي من غيرها من الشعوب ، لأنّها تقع تحت الظلم ، وهذا الظلم يجعلها تتابع الأحداث حتى تتوصل إلى نقطة الخلاص ، والإعلام له دور كبير في تضليل الرأي العام ، وقلب الحقائق.

تعاليم القرآن وممارسات بعض المسلمين

ومن آيات الجهاد الابتدائي قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (١).

هذا على سبيل النظرية ، أمّا على سبيل التطبيق فهناك من الممارسات الخاطئة في ما يسمى بالفتوحات الإسلامية ما يقرح القلوب.

صفات المجاهدين في القرآن الكريم

كذلك اشترط الدين الإسلامي في المجاهدين صفاتاً خاصّة فضلا عن القائد لهؤلاء المجاهدين الذي يقوم بالوصاية على جهاد الدعوة ، ولم يرض الإسلام بتأهيل أي شخص لهذه الوصاية.

قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالاِْنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (٢) ، ثم يصف الله تعالى المجاهدين بقوله : ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ

__________________

١ ـ النساء (٤) : ٩٤.

٢ ـ التوبة (٩) : ١١١.

١٣٧

الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ) (١).

وفي رواية لطيفة عن الإمام السجاد عليه‌السلام حينما كان متوجّهاً إلى الحج ، حيث التقى به عبّاد البصري ، فقال له : يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته ، وأقبلت على الحج ولينه ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (٢) الآية ، فقال علي بن الحسين صلوات الله عليه : أتم الآية فقال ( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ) الآية ، فقال علي بن الحسين عليه‌السلام : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج (٣).

الجهاد الابتدائي له شروط خاصّة ، وله أهداف محدّدة

إذن جهاد الدعوة : والجهاد الابتدائي بالمصطلح الفقهي ليس مفتوحاً لكل من هبّ ودبّ ، وإنّما كان مفتوحاً لفئة خاصّة تتميز بصفات معيّنة في التشريع الإسلامي.

إذن غرض جهاد الدعوة هو نصرة المظلومين ، وانجاز حقوق اللّه على الناس ، وقد يتسائل البعض هل لله حقوق على البشر؟ وهذه جدليّة كتبت فيها الكتب ، وأنّ أيّ مصدر من مصادر الحقوق لله ، فيها حق كحق الحاكميّة الذي تقرّ حتى المسيحيّة به ، ولكنّهم يقولون : أنّ الله قد أعفى عباده من هذا الحق.

الجهاد الابتدائي من حقوق الإمام المعصوم الخاصّة

المبرر الحقوقي لجهاد الدعوة هو إنجاز حقوق الله على الناس ، والنقطة الثانية التي نريد الإشارة إليها هو أنّ الذي جعله الله وصيّاً على البشرية هو ليس أيّ فرد

__________________

١ ـ التوبة (٩) : ١١٢.

٢ ـ التوبة (٩) : ١١١.

٣ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٤٦ ، الحديث ١٩٩٥٦.

١٣٨

من الأفراد ، وإنّما هناك أشخاص معيّنون للجهاد ، ليس كل من ربّى لحيته أو وضع على رأسه عمامة فهو مؤهّل لهذا الجهاد ، وأنّ جهاد الدعوة حق للمعصوم ، وهذا ما عليه إجماع الإمامية إلاّ من شذّ.

وأنّ جهاد الدعوة هو صلاحية خاصّة للمعصوم علماً وعملا ، وهو الإنسان الكامل ، حتى أنّ الإمام الخميني ( رحمه الله ) رغم أنّه يرى صلاحيات أوسع للفقيه ، أي : ولاية الفقيه المطلقة ، استفتى عدّة استفتاءات ، وإلى آخر أيام حياته كان يرى أنّ الجهاد الابتدائي هو حق للمعصوم لا غيره ، وهذا ما تظافرت عليه الروايات.

وفي رواية عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ) (١) ، إنّ الله هو أوّل داع لنفسه ، ثم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال تعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (٢) ، ثم يستعرض الإمام الصادق عليه‌السلام صلاحية الدعوة بعد ذلك ، فيبيّن أنّ الذي يصلح للدعوة والجهاد هو من يكون ملتزماً بشرع الله عزّ وجلّ في الجهاد ، ومن لم يكن ملتزماً بشرع الله في الجهاد فليس بمأذون له في الجهاد والدعوة إلى الله حتّى يحكم في نفسه ما أخذه الله من شرائط الجهاد (٣).

أمريكا والتناقض بين الشعار والواقع

في زماننا أمريكا أو الأُمم المتحدة ترفع شعار مكافحة الإرهاب ، وكل ما يعكّر صفو الأمن البشري أو ما يتناقض مع حقوق الإنسان ، ولكن هل تحقق أمريكا أو الأُمم المتحدة العدالة ، ففي أمريكا هناك امتيازات للجنس الأبيض على

__________________

١ ـ يونس (١٠) : ٢٥.

٢ ـ النحل (١٦) : ١٢٥.

٣ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٣٤ ، الحديث ١٩٩٤٩.

١٣٩

الجنس الأسود ، وهذا هو الواقع وإن كانت القوانين المدوّنة لا تعترف بهذه الحقيقة.

الإسلام يدعو إلى العدالة ويطبّقها

ولكن عند المسلمين دالأمر يختلف فالكل سواسية كأسنان المشط ، بينما عند المسيحيين لا يمكن للأسود أن يكون باباً للكنيسة هذا هو الواقع ، وهذا هو المتعارف عندهم وإن لم يكن مدوّناً ، ولكنّهم أشدّ التزاماً بالأعراف من القوانين ، بينما نرى الإسلام يفتح المجال أمام الأبيض والأسود لكي يصل إلى أعلى المناصب ما عدا الإمامة المعصومة التي تعتمد على الاصطفاء الإلهي ، وهي « ارستقراطية إلهية » لا يستطيع أحد أن يعارضها.

إذن ، الإسلام عندما يدعو إلى العدالة فإنّه يطبّق هذه العدالة ، والتشريع الإسلامي يمتاز بهذه الميزة التي تفتقر إليها الديانات المحرّفة ، والمدارس الوضعية الأُخرى ، نحن نتكلم عن النظرية ، وليس عن التطبيق.

الفيتو عند الإمامية الاثنى عشرية لا يكون إلاّ عند المعصوم

قانون الفيتو يجب أن يكون له مبرر حقوقي ، وهو سيطرة الأعقل على العاقل ، ووصاية الأخبر على من هو أقل خبرة منه.

في مذهب الإمامية لا يسمح للفقيه والمرجع أن يكون له حق النقض « الفيتو » ، ولا يمتلك هذا الحق إلاّ الإمام المعصوم المتصل علمه بعلم الله تعالى ، وهو صاحب العلم اللدني ، بينما نرى ـ في القانون الغربي ـ أنّ حق النقض « الفيتو » متاح للقوي الذي يخضع بدوره إلى مصالحه الخاصّة ونزواته وغرائزه وشهواته فيكون هذا الفيتو باب من أبواب تكريس الظلم في المجتمع البشري.

١٤٠