بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

الشيخ محمّد سند

بحوث معاصرة في الساحة الدوليّة

المؤلف:

الشيخ محمّد سند


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٧

المحاضرة الثالثة

استناد الأحكام القانونية للقاعدة

الأخلاقية في التشريع الإسلامي

محاور المحاضرة :

أوّلا : الاختلاف بين التعامل القانوني والتعامل الأخلاقي.

ثانياً : فصل النزاعات بالقانون أم بالأخلاق؟

ثالثاً : الصلة بين الموازين الأخلاقية والموازين القانونية.

رابعاً : القانون يهدّد في حالة الحديّة في تطبيق القانون مع استبعاد العنصر الأخلاقي.

خامساً : القرآن يأمر بالأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلين.

سادساً : الرفق في مرحلة نص القانون ، وفي مرحلة تطبيق القانون.

سابعاً : سَنّ القوانين وتفسيرها تبعاً لمصالح شخصية.

ثامناً : الفرق بين العفو والإعراض عن الجاهلين.

تاسعاً : كظم الغيظ ، والسيطرة على القوّة الغضبية.

عاشراً : أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام في الرفق والحلم.

الاختلاف بين التعامل القانوني والتعامل الأخلاقي

وإكمالا لحديثنا السابق نطرح تساؤلا وهو :

كيف تكون الأخلاق أساساً ، وبنية تحتية للقانون ، مع أنّ الأخلاق والقانون

١٠١

أمران مختلفان ، سواء كانا في نطاق الفرد أو الأُسرة أو المجتمع أو بين الدول؟

وكيف يكون ذلك مع أنّ التعامل القانوني تعامل صارم حاد وجاف ، والتعامل الأخلاقي يعتمد على المرونة والدماثة واللّين والرفق والإحسان للمسيء؟

فصل النزاعات بالقانون أم بالأخلاق؟

تارة يتم فصل النزاع بين الأفراد أو الأُسر أو المجتمعات أو الدول عن طريق القانون ، وتارة يتم ذلك عن طريق التعامل الأخلاقي بين الطرفين المتنازعين أو بمبادرة أحد الطرفين المتنازعين.

وفي تفسير قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) (١) ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير « سوء الحساب » ، أي : « الاستقصاء والمداقة ... » (٢).

وأخوف ما يخاف العبد من الله تعالى أن يعامله بالعدل ; لأنّ الإنسان إذا عامله الله بعدله فلن ترجّح كفة حسناته على كفة سيئاته ، وسيكون مصير العبد هو الخسران المبين ، ولذلك فنحن نرجو أن يعاملنا الله بفضله وعفوه ، ولا يعاملنا بعدله ، إذن هناك فرق بين القضاء والحكم بالقانون ، وبين القضاء والحكم بالأخلاق ، ومن المفترض أن يربط البحث القانوني بالعدالة والحقوق لا بالفضل والإحسان والأخلاق ، ومن هنا يطرح الإشكال الذي يثير علامة استفهام على جعل القوانين تستند إلى الأخلاق.

الصلة بين الموازين الأخلاقية والموازين القانونية

وقالوا في إشكالهم : لا صلة بين النصوص القانونية والنصوص الأخلاقية ، ولا

__________________

١ ـ الرعد (١٣) : ٢١.

٢ ـ وسائل الشيعة ١٨ : ٣٥٠ ، الحديث ٢٣٨٢٤.

١٠٢

يصلح أن تستنبط الأحكام القانونية استناداً إلى الموازين الأخلاقية. وكما يقال : أنّ القانون يمهّد إلى الحياة الخلقية ، ولكن هناك اختلاف كما أشرنا بين الأمرين باعتبار أنّ الموازين القانونية تستلزم استيفاء كل حدود القضية.

القانون يُهدّد في حالة الحديّة في تطبيق القانون مع استبعاد العنصر الأخلاقي

وللرد على هذا الإشكال نقول : إذا سلّمنا أنّه إذا كانت الموازين القانونية أقل مرتبة من الموازين الأخلاقية ، وأنّ الموازين القانونية أقل مرتبة من الموازين الأخلاقية ، وأن الموازين القانونية تهدف إلى غرس الفضيلة في المجتمع ، فإنّ المشرّع القانوني الديني أو المشرّع القانوني الوضعي يضع نصب عينيه الوصول إلى الغايات الأخلاقية حينما يسنّ القوانين في المجتمع ، ولو بني النظام القانوني على القصاص الحدّي في جميع النزاعات بدون أي مرونة أو عفو أو تعاطي في هذه القضية ، لكان ذلك منشأ اختلال نفس ذلك القانون ; لأنّ ذلك يمثّل جفافاً ، والجفاف سريع الاشتعال ، وهذا الاشتعال سواءً بين الأطراف المتنازعة على مستوى الأفراد والأُسر والمجتمعات والدول سيؤدي إلى تأزّم القضية ، وإلى القضاء على القانون الذي ابتعد عن الموازين الأخلاقية وألغاها تماماً ، والنفس البشرية لا تتلاءم مع الانصياع والخضوع للموازين القانونية الحدّية التي تستبعد الموازين الأخلاقية وتقضي عليها ، إذن من المستحيل الاستغناء عن العنصر الأخلاقي في الموازين القانونية ، وأنّ هذا العنصر هوالذي يساهم في حفظ استقرار القانون وصونه ، ومع هذا نقول : أنّه ليس من الضروري أن يؤمِّن القانون جميع الدرجات في الموازين الخُلقية ، بل إنّه قد يبتعد بنسبة معيّنة حسب متطلبات القضية ، وهذا الأمر مسلّم به عند علماء المسلمين.

١٠٣

القرآن يأمر بالأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلين

يعتبر الإسلام ، بل حتّى الديانات الأُخرى ، أنّ الرفق واللّين والرويّة والتعقّل والحلم والحوار ، هو الأصل في قوانين الإسلام على المستوى الاجتماعي والفردي ، ففي الآية الكريمة التي يعبّر عنها المفسّرون ، أنّها من التوصيات القانونية التي أوصى بها الله تعالى نبيّه في القرآن الكريم ، وهي قوله تعالى ( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ) (١) ، خذ العفو ، أي : أنّ العفو ركيزة أساسية ، رئيسية في سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، القانونية والسياسية والقضائية والإجرائية والتشريعية ، و ( خُذْ الْعَفْوَ ) إذا كان للعفو سبيل ، وهذا الأمر إلزامي من الله لنبي الرحمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

( وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) البعض قال : أنّ العرف هو ما تعارف عليه الناس (٢) ، وهذا قول مردود ; لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعمل طبقاً لخطة الوحي الإلهي ، وأنّ عرف الناس قد يحمل الكثير من رواسب الجاهلية ، وهذا يتناقض مع دور النبي الذي عبّر عنه القرآن الكريم : ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) (٣) ، والبعض الآخر قال : ( وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ) ، أي : ما تعرفه الفطرة البشرية ، أي : ما يعرفه العقل من الحسن والقبح (٤) ، وهذا المعنى صحيح في نفسه ; لأنّ الدين الإسلامي دين الفطرة ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ

__________________

١ ـ الأعراف (٧) : ١٩٩.

٢ ـ الميزان ٨ : ٣٨٠ ، عند قوله تعالى ( وأمر بالعرف ) ، الأعراف (٧) : ١٩٩.

٣ ـ الأعراف (٧) : ١٥٧.

٤ ـ مجمع البيان ٤ : ٧٨٧ ، عند قوله تعالى ( خذ العفو وأمر بالمعروف ) ، الأعراف (٧) : ١٩٩.

١٠٤

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (١) ، والروايات تشير إلى أنّ النبي هو الرسول الظاهر ، والعقل هو الرسول الباطن (٢) ، وهذا المعنى وإن كان صحيحاً في نفسه ، إلاّ أنّ ظاهر اللفظ لا يساعد عليه ، وينبغي تهيئة الجو الاجتماعي لتقبّل القانون ، وأن لا يتمّ إقحام القانون في أجواء لا تتفاعل معه ، وأنّ أيّ قانون جديد إذا أردنا أن نطبّقه في مجتمع مّا ، لابدّ أن يسبقه وعيّ قانوني ، وثقافة قانونية ناضجة ، لأنّه لا يكفي أن يكون القانون متكاملا ، بل يجب مراعاة استيعاب الناس لهذا القانون ، ولهذا السبب نزول القرآن بشكل مفصّل وتدريجي ، حتى تتهيأ النفوس للتفاعل معه ، ولأنّ الناس لا تستوعب التربية القرآنية على شكل دفعة واحدة بدون تهيئة.

قال السيد الطباطبائي ، في ذيل تفسير هذه الآية الكريمة : ( خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ) (٣) قال : » الأخذ بالشيء هو لزومه أو عدم تركه فأخذ العفو ملازمة الستر على إساءة من أساء إليه ، والإغماض عن حق الانتقام الذي يعطيه العقل الاجتماعي لبعضهم على بعض. هذا بالنسبة إلى إساءة الغير بالنسبة إلى نفسه والتضييع لحق شخصه ، وأمّا ما أُضيع فيه حق الغير بالإساءة اليه فليس مما يسوغ العفو فيه ، لأنّه إغراء بالإثم ، وتضييع لحق الغير بنحو أشد ، وإبطال للنواميس الحافظة للاجتماع ، ويمنع عنه جميع الآيات الناهية عن الظلم والإفساد وإعانة الظالمين والركون إليهم ، بل جميع الآيات المعطية لأُصول الشرائع والقوانين ، وهو ظاهر.

فالمراد بقوله : ( خُذْ الْعَفْوَ ) ، هو الستر بالعفو فيما يرجع إلى شخصه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ذلك كان يسير فقد تقدم في بعض الروايات المتقدمة في أدبه صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّه لم ينتقم من

__________________

١ ـ الروم (٣٠) : ٣٠.

٢ ـ الكافي ١ : ١٦ ، الحديث ١٢ ، كتاب العقل والجهل.

٣ ـ الأعراف (٧) : ١٩٩.

١٠٥

أحد لنفسه قط « (١).

وفي تفسير الأمثل ، في ذيل هذه الآية الكريمة ، قال : » العفو قد يأتي بمعنى الزيادة في الشيء أحياناً ، كما قد يأتي بمعنى الحد الوسط ، كما يأتي بمعنى قبول العذر والصفح عن المخطئين والمسيئين ، ويأتي أحياناً بمعنى استسهال الأُمور ... ، ومن البديهي أنّه لوكان القائد أو المبلغ شخصاً فظّاً صعباً ، فإنّه سيفقد نفوذه في قلوب الناس ، ويتفرقون عنه ، كما قال القرآن الكريم : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٢) ، ثمّ تعقب الآية بذكر الوظيفة الثانية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... ، وهي تشير إلى أنّ ترك الشدّة لا يعني المجاملة ، بل هو أن يقول القائد أو المبلغ الحق ، ويدعو الناس إلى الحق ولا يخفي شيئاً « (٣).

الرفق في مرحلة نص القانون ، وفي مرحلة تطبيق القانون

ونريد أن ننوّه أنّ اللّين والرفق تارةً يكون في النص القانوني والمادة القانونية ، وتارةً يكون في الأداء والإجراء القانوني والقضائي المتخذ مع المتهم ، فقد تكون المادة القانونية خالية من الحدّة والقساوة والظلم ، ولكن الإجراء القانوني وتطبيق المادة القانونية هوالذي يحمل الحدّة والقساوة.

سَنّ القوانين وتفسيرها تبعاً لمصالح شخصية

وهذا الأمر قد يستفاد منه بشكل إيجابي ، وقد يستفاد منه بشكل سلبي وبصور خطيرة ; لأنّ أصحاب المصالح الشخصية قد يتلاعبون في المادة القانونية ، ويفرغونها من محتواها حسب مصالحهم ، أو يفسّرونها بتفسيرات تتناسب مع

__________________

١ ـ الميزان ٨ : ٣٧٩ ، عند قوله تعالى ( خذ العفو وأمر بالعرف ) ، الأعراف (٧) : ١٩٩.

٢ ـ آل عمران (٣) : ١٥٩.

٣ ـ الأمثل ٥ : ٣٣٩ ، عند قوله تعالى ( خُذْ الْعَفْوَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ ) الأعراف (٧) : ١٩٩.

١٠٦

ميولهم ومصالحهم وأطماعهم ، والتلاعب في المواد القانونية أمر في غاية الخطورة ، حتى في النزاعات الدولية بين الدول التي تريد تسخير القوانين وتفسيرها حسب مصالحها ، فعلى سبيل المثال : قد يسمى التحرير إرهاباً ، وهذه مغالطة جليّة وواضحة ، وهناك فرق كبير بين الإرهاب والتحرير ، والغرض من تغيير الإسم ، هو أنّ القوى الكبرى لا تستطيع الاعتراض على شعب يريد تحرير أرضه ; لأنّ هذا حق طبيعي مكفول ، ولكنّها تسمي التحرير إرهاباً من أجل عرقلة التحرير ، ووضع السدود أمامه ، ولكي تكون هذه العرقلة مصبوغة بصبغة شرعية ومقبولة لدى المجتمع الدولي ، وهي صبغة محاربة الإرهاب ، وهم في هذه الحالة يعملون على صناعة رأي عام مزوّر من أجل تطبيق قوانين مزوّرة ومزيّفة وظالمة قائمة على التحايل والغش القانوني ، في المقابل نحن نحتاج إلى أن نعمل على صناعة رأي عام صادق من أجل أن يتقبّل المجتمع القانون القضائي الصادق.

الفرق بين العفو والإعراض عن الجاهلين

( وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ ) (١) وهذا أيضاً نوع من أنواع اللّين والرفق ، وهناك فرق بين الإعراض عن الجاهلين ، وبين العفو عنه ، لأنّك قد تعفو عن إنسان مّا ، ولكن يبقى في نفسك شيء تتذكّر به ذلك الفعل السيّء الذي فعله ذلك الجاهل ، والمقصود من الجاهل هو ذلك الشخص الذي يتعدّى الحدود ويظلم ، والجهل هنا مقابل العقل الذي يعني : التقيّد بالتعاليم الدينية ، وليس الجهل هنا في مقابل العلم ، لأنّ العلم قد يدعوك إلى التعقّل ، وقد يسيء الإنسان الاستفادة من العلم.

الفرق بين الإعراض والعفو ، أنّ الإعراض مرتبة أعلى من العفو ، لأنّ العفو وإن كان متضمّناً لمسامحة الجاهل ، إلاّ أنّه يبقى في النفس شيءٌ من ذلك الأمر ، وربما

__________________

١ ـ الأعراف (٧) : ١٩٩.

١٠٧

تحدّثك نفسك بالانتقام منه والنقمة عليه ، ولكن الإعراض لا يبقى في نفس الإنسان بعد أن يعفو عن الجاهل شيءٌ ، وقد يعبّر عن الإعراض بالصفح ، ( فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) (١) ، وذكر علماء الأخلاق والتفسير والفقه والقانون أنّ هذه الآية ( خُذْ الْعَفْوَ ... ) (٢) من أمهات الآيات ، وقد جمعت أُصول علم الأخلاق ، والبحث فيها طويل.

كظم الغيظ ، والسيطرة على القوّة الغضبية

الآية الأُخرى تقول : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (٣) ، وكظم الغيظ يعني : مسك النفس وحبس الغيظ والسيطرة على القوّة الغضبية ، وتعاليم أهل البيت عليهم‌السلام تحثّنا على أن لا نؤدّب أولادنا في حالة الغضب والغيظ (٤) لأنّ الغضب قد يخرج التأديب عن هادفيته ، فكظم الغيظ يعني : إخماد سَوْرَة الغضب ، وهذه توصية اجتماعية ، وليست توصية فردية فقط ، والغضب قد يخرج القاضي حينما يقضي عن إطار تحكيم العقل بصورة صحيحة لما للقوّة الغضبية من أثر سلبي في هذا المجال ، وعندما يهدأ الغضب يبدأ العقل في العمل بصورة طبيعية بعيدة عن أيّ مؤثّرات قد تؤثّر على الحكم الصحيح.

اختلاف المصطلحات

إذن عندنا ثلاثة مصطلحات : الأوّل : هو العفو ، وهو أن تسامح المعتدي عليك ،

__________________

١ ـ الحجر (١٥) : ٨٥.

٢ ـ الأعراف (٧) : ١٩٩.

٣ ـ آل عمران (٣) : ١٣٤.

٤ ـ بحار الأنوار ٧١ : ٤٢٨ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الحلم والعفو وكظم الغيظ ، كقول علي عليه‌السلام : « ولا نسب أوضع من الغضب ».

١٠٨

ولكن يبقى في نفسك شيء. والثاني : كظم الغيظ يبقى في نفسك شيءٌ تجاهه. والثالث : وهو الأفضل منهما ، الصفح والإعراض ، وهو أن تنسى أنّك قد عفوت عنه ، وهناك الصفح (١) وهناك الصفح الجميل (٢) ، وهو مرتبة أعلى.

قال تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ ) (٣) وقال تعالى : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) (٤) ، وتارة يكون التعبير بـ ( الحسنة ) (٥) ، وتارة بـ ( التي هي أحسن ) ، وأمّا تعبير ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم ) (٦) ، فهذه هي أرفع الدرجات على الإطلاق.

أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام في الرفق والحلم

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت بالحنيفية السمحة ، ومن خالف سنّتى فليس منّي » (٧).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو كان الرفق خلقاً يُرى ما كان مما خلق الله شيء أحسن منه » (٨).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو كان الخرق ـ الحدّة ـ خُلقاً يُرى ما كان في شيء من خلق الله أقبح منه » (٩).

__________________

١ ـ البقرة (٢) : ١٠٩.

٢ ـ الحجر (١٥) : ٨٥.

٣ ـ فصّلت (٤١) : ٣٤.

٤ ـ المؤمنون (٢٣) : ٩٦.

٥ ـ الرعد (١٣) : ٢٢.

٦ ـ القلم (٦٨) : ٤.

٧ ـ ميزان الحكمة ٢ : ٩٥٢ ، الحديث ٦٢٧٩.

٨ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٧٠ ، الحديث ٢٠٤٨٢.

٩ ـ وسائل الشيعة ١٦ : ٢٧ ، الحديث ٢٠٨٧٤.

١٠٩

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلاّ زانه ، ولا نزع من شيء إلاّ شانه » (١).

ومن الأحاديث الواردة في هذا المجال : « إنّ لكل شيء قفلا ، وقفل الإيمان الرفق » (٢) ، أي الحافظ للإيمان ، الرفق.

ومنها : « ما اصطحب اثنان إلاّ كان اعظمهما أجراً وأحبهما إلى الله ، أرفقهما بصاحبه » (٣).

ومنها : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الرفق يمن ، والخرق شؤم » (٤).

ومنها : « الرفق نصف العيش » (٥).

وعن علي عليه‌السلام : « الحدّة ضرب من الجنون ، لأنّ صاحبها يندم ، فإن لم يندم فجنونه مستحكم » (٦).

ومنها : عن الصادق عليه‌السلام : « الغضب مفتاح كل شرّ » (٧).

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أعقل الناس أشدّهم مداراة للناس » (٨).

ومنها : عن الصادق عليه‌السلام : « الغضب ممحقة لقلب الحكيم » (٩).

ومنها : عن الصادق : « من لم يملك غضبه لم يملك عقله » (١٠).

__________________

١ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٧٠ ، الحديث ٢٠٤٨٥.

٢ ـ الكافي ٢ : ١١٨ ، الحديث ١ : كتاب الايمان والكفر ، باب الرفق.

٣ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٧١ ، الحديث ٢٠٤٩٠.

٤ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٦٩ ، الحديث ٢٠٤٧٧.

٥ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٧٠ ، الحديث ٢٠٤٨٣.

٦ ـ ميزان الحكمة ١ : ٤٤٢ ، الحديث ٢٦٥٩.

٧ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٣٥٨ ، الحديث ٢٠٧٣٣.

٨ ـ ميزان الحكمة ٣ : ١١٠٢ ، الحديث ٧٣٦٣.

٩ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٠ ، الحديث ٢٠٧٤١.

١٠ ـ وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٠ ، الحديث ٢٠٧٤١.

١١٠

ومنها : « العاقل من يملك نفسه إذا غضب ، وإذا رغب ، وإذا رهب » (١).

ومنها : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه رجل فقال له : يا رسول الله علّمني عظة أتعظ بها ، فقال له : انطلق ولا تغضب ، ثمّ عاد إليه فقال له : انطلق ولا تغضب ـ ثلاث مرات » (٢).

ومنها : « ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك ، وأن يعظم حلمك وأن تُباهي الناس بعبادة ربّك » (٣).

ومنها : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « العفو لا يزيد العبد إلاّ عزّاً ، فاعفوا يعزّكم الله » (٤).

ومنها : « ما التقت فئتان قطّ إلاّ نصر أعظمهما عفواً » (٥).

وعن الصادق عليه‌السلام : « أما علمت أنّ إمارة بني أُمية كانت بالسيف والعسف والجور ، وأنّ إمامتنا بالرفق والتألف والوقار والتقيّة وحسن الخلطة والورع والاجتهاد ... » (٦).

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٥ : ٢٠٤٦ ، الحديث ١٣٤٧٧.

٢ ـ ميزان الحكمة ٥ : ٢٢٦٤ ، الحديث ١٤٩٨٥.

٣ ـ ميزان الحكمة ٧ : ٢٩٨٦ ، الحديث ١٩٣٥٤.

٤ ـ ميزان الحكمة ٥ : ٢٠١٣ ، الحديث ١٣١٨٢.

٥ ـ ميزان الحكمة ٥ : ٢٠١٣ ، الحديث ١٣١٨٦.

٦ ـ وسائل الشيعة ١٦ : ١٦٥ ، الحديث ٢١٢٤٨.

١١١
١١٢

المحاضرة الرابعة

الحوار هو الخيار الأوّل في الفكر

الإسلامي وسيرة أهل البيت عليهم‌السلام

محاور المحاضرة :

أوّلا : لماذا كان التعقّل هو الطبيعة الأوّلية في القوانين الشرعية؟

ثانياً : البناء والإعمار ليس من طبيعة القوّة الغضبية.

ثالثاً : الدمار هو نتيجة إطلاق عنان القوّة الشهوية والقوّة الغضبية.

رابعاً : يجب أن نطلق عنان القوى العقلية والفكرية ، ونجعلها حاكمة على بقيّة القوى.

خامساً : التعقّل هو أنسب الخيارات للطبيعة البشرية.

سادساً : الفرق بين العقوبة والردع.

سابعاً : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) (١).

ثامناً : الحوار في النزاعات القضائية.

تاسعاً : ممارسة الحكومات الدكتاتورية ، شوّهت صورة الإسلام.

عاشراً : أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحواره مع حزب الخوارج.

لماذا كان التعقّل هو الطبيعة الأوّلية في القوانين الشرعية؟

وصل بنا البحث إلى أنّ الطبيعة الأوّلية في القوانين الشرعية هي السماحة

__________________

١ ـ الإسراء (١٧) : ١٥.

١١٣

والسهولة واللّين والهدوء ، كما بيّنا في الليلة الماضية.

ويجدر بنا البحث عن فلسفة هذا الأمر وعلّته ، لِمَ كان اللّين والهدوء هو الطبع الأوّلي؟ حتى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنون رسالته بهذا العنوان :

« بعثت بالحنيفية السمحة » (١) ، ولماذا كل هذا التركيز على هذه الطبيعة الأوّلية؟

وعندما نقول أنّ هذه هي الطبيعة الأوّلية ، يُفهم من كلامنا أنّ هناك استثناءات ، ستأتي في ما بعد.

البناء والإعمار ليس من طبيعة القوّة الغضبية

السبب في أنّ اللّين والهدوء والتعقّل هو الطبيعة الأوّلية في القوانين الشرعية ، إنّ الغضب والحدّة مظهر من مظاهر القوّة الغضبية ، والقوّة الغضبية سواءً كانت على نطاق الفرد أو على نطاق الأُسرة أو على نطاق المجتمع أو في النظام السياسي ، ليست بنّاءة ، ولا مشيّدة لبناء ، بل طبيعتها أنّها مانعة رادعة للتجاوزات والظلم الذي يحلّ بالفرد ، ويمثّل الجيش والشرطة القوّة الغضبية في أيّ دولة من الدول ، والجيش والشرطة والقوّة الغضبية ليس من طبيعتها البناء والهندسة والتخطيط والتنمية والإعمار والبحث العلمي والبناء الفكري ، بل الحرب والقتال والمواجهة ، وتمثّل أيضاً درعاً يحفظ باقي قطاعات المجتمع المختلفة من الأخطار الأمنية والعسكرية.

الدمار هو نتيجة إطلاق عنان القوّة الشهوية والقوّة الغضبية

وما قلناه في القوّة الغضبية ينطبق على القوّة الشهوية ، فلا يصح أن يطلق العنان للشهوات والغرائز ، فإذا كانت سياسات الفرد أو الأُسرة أو الدولة منصبّة كلها على

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٢ : ٩٥٢ ، الحديث ٦٢٧٩.

١١٤

إطلاق العنان للقوّة الشهوية فمن الواضح أنّ النتيجة ستكون انهيار الفرد والأُسرة والدولة التي أطلقت عنان الشهوة.

فالسياحة على سبيل المثال : قد تكون سياحة تثقيفيّة تعليمية ، مثل : زيارة الأماكن الأثريّة ، والتعرّف على معالمها التاريخية ، فتكون في مثل هذه الحالة سياحة إيجابية ، وقد تكون السياحة تركّز على توفير أجواء الدعارة والفساد فهي سياحة مدمّرة هدّامة للقيم والمبادئ والشعوب.

يجب أن نطلق عنان القوى العقليّة والفكرية ، ونجعلها حاكمة على بقيّة القوى

الإسلام يرفض إطلاق عنان القوّة الشهوية والغضبية ، بل ينبغي أن توضع حدود تضبط هاتين القوّتين. أمّا ينبغي أن يطلق عنانه فهي القوّة الفكرية المتمثّلة في ميدان البحث العلمي والفكري والاجتماعي والصناعي ونشر الفضيلة وسيطرة القوى العالية على القوى الدانية.

والحال أنّ القانون الغربي جعل الفرد هو محور التقنين ، ومؤخراً جعلوا المجتمع هو المحور ، ولذلك فقد بنوا تشريعاتهم ، ونظام الحقوق عندهم على إطلاق الحريّات ، كما أنّ المشرّع القانوني في الغرب يطلق عنان القوّة الغضبية ، فيتوفر السلاح حتّى بيد الصبيان ، وتكثر عندئذ الجرائم ، وتنتشر ثقافة العنف والإجرام من خلال أفلام الرعب السينمائية التي تشعل القوّة الغضبية ، وأمّا في إطلاق العنان للقوّة الشهوية فحدّث ولا حرج ، مع أنّ القوّتين الشهوية والغضبية يجب أن تكونا محدودتين.

التعقّل هو أنسب الخيارات للطبيعة البشرية

إذن اختيار الإسلام للتعقّل والتريّث والهدوء والحوار والأخلاق كخيار أوّل ;

١١٥

لأنّه أنسب الخيارات للطبيعة البشرية ، ولأنّ القوى الغضبية والشهوية موجودة في الحيوان ، كما هي موجودة في الإنسان ، أمّا القوى العقليّة فهي خاصة بالإنسان.

ولذلك ، فإنّ الإسلام يطرح قاعدة : « لا عقوبة إلاّ بعد قيام الحجّة » وهذه قاعدة أُصولية وكلامية وتقنينية هامّة ، ويقول علماء الأُصول : إنّ تنجيز الأحكام لا يتمّ إلاّ بالعلم (١) في القانون الوضعي ، والقانون الشرعي ، والسرّ في ذلك يرجع إلى نفس النكتة السابقة ، وهي أنّ الإنسان موجود عاقل ذو فكر ، ويجب أن يكون عقله مسيطر على باقي قواه الأُخرى ، ومن الخطأ إقحام العقوبات والردع ، وإطلاق العنان للقوّة الغضبية بدون المرور بمحطة العقل والفكر ، باعتبار أنّ العقل هو الذي يدبّر باقي القوى الأُخرى كما قلنا.

الفرق بين العقوبة والردع

وهناك فرق بين اصطلاح « العقوبة » واصطلاح « الردع » ، فالعقوبة هي نوع من الجزاء للمجرم على ما ارتكب من الإثم والجرم ، بعد ارتكابه لذلك الإثم والجرم ، أمّا الردع ، فقد يطلق على الدفع ، وقد يطلق على الرفع ، ويعني الردع : أنّ المخالف ، والذي اجرم جرماً ، وهو لا يعلم أنّ هذا الأمر جرم ، فهذا الشخص لا يعاقب ، وذلك لأنّه لا يعلم ، ولكن يجب أن يُنهى عن الاستمرار في هذا الأمر الممنوع والمخالف. وقد يكون الردع من باب الدفع ، كما لو أراد أن يُقدم إنسان ما على منكر وفاحشة معيّنة ، وهو لا يعلم ، ولكن يردع بدرجة مناسبة لانتهائه عن ذلك المنكر ، مع أنّ الحجيّة لم تتمّ عليه.

إذن الردع لايحتاج إلى قيام الحجّة ، ويتحقق القيام بالردع وإن كان بالفعل السيء لم تتمّ عليه الحجة ، والسرّ في ذلك أنّ مصلحة المجتمع قد تتطلب هذا

__________________

١ ـ أصول الفقه ٣ : ٣٥ عند قوله : « وغاية ما نقوله في دخالة العلم .. ».

١١٦

الأمر ، لأنّ المسألة لا تحتمل التأخير والمماطلة فينبغي المبادرة بالردع لحفظ تلك المصلحة ، وللردع درجات ، منها : إعلام وتعليم القائم بالمنكر ، أنّ هذا الأمر منكر.

( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا )

وهذا هو منطق الإسلام ، وقد دلّت عليه العديد من النصوص ، قال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) (١) ، فإذا كان الإسلام يقول : « لا عقوبة إلاّ بعد قيام الحجة » ، فهذا يعني : أنّ الحوار والتعقّل هو الأصل ، والحجيّة تتقوّم بالإيصال العلمي ، ولا تتمّ الحجّة إلاّ بعد أن يكون ذلك الشخص على دراية وعلم وإلمام تام بذلك الجرم وبحكمه المحرّم ، وإذا لم يتمّ الإلمام التام بذلك لا تقام الحجّة عليه ، ومن ثَمّ لا يعاقب.

القساوة في المرحلة الثانية

ثمّ تأتي النوبة للعقوبة والخشونة والقساوة بعد تجاوز تلك المرحلة ، ولذلك فإنّ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يذكر الفقهاء : أنّه يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد ، التأكّد من علم الطرف الآخر ، وإحاطته بالحكم (٢) ، لا أن يضرب قبل التأكّد من علمه بذلك ، فلا يجوز المبادرة بعقابه باليد ، وما شابه ذلك ، قبل التأكّد من علمه بالحكم الشرعي لما قد عمله من منكر ، وبعد إعلامه بالمنكر أو بوجوب المعروف ، يتمّ نصحه وإرشاده ووعظه ، وإذا لم ينفع كل ذلك ، يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باليد أو بالمدافعة وما شابه ذلك بإذن الحاكم الشرعي.

__________________

١ ـ الإسراء (١٧) : ١٥.

٢ ـ تذكرة الفقهاء ٩ : ٤٤٣.

١١٧

الحوار في النزاعات القضائية

وفي فصل النزاعات أيضاً الحوار هو المتقدّم على غيره ، ففي القضاء الشرعي الإسلامي يُدلي المتنازعان برأيهما ، ويطرح كل منهما الأدلّة والبراهين على صحة ما قاله ، وقد يكون النزاع بين فردين أو بين دولتين أو أنّ المجتمع يرفع قضية معيّنة ضدّ حكومته ، ومن هذا المنطق وجدت المحكمة الدستورية في الأنظمة الحديثة ، وهذه المحكمة الدستورية تمثّل القضاء الذي يحكم القضايا التي تحدث بين السلطة الحاكمة والمجتمع في تلك الدولة ، ولسنا الآن في مقام الكلام عن تفاصيل هذه المحكمة.

ممارسة الحكومات الدكتاتورية شوّهت صورة الإسلام

إذن الحوار ليس شعاراً جديداً على التشريع الإسلامي ، ولكن ممارسة الحكومات الدكتاتورية التي كانت تحكم باسم الإسلام ، كالدولة الأموية والدولة العباسية ، أعطت الرأي العام صورة سيّئة عن الحوار الإسلامي من خلال ممارساتها القمعيّة مع من يخالفها ويعارضها من قطاعات الشعب الذي تحكمه ، فهذه الحالة مرفوضة ، ويجب أن يكون التحاكم الثقافي والتحاكم العلمي هو السائد ، كما يطرح ذلك الدين الإسلامي.

الشورى لا تعني إرادة الأكثريّة ، وإنّما هي الأخذ بأفضل الآراء

قال الله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الاَْمْرِ ) (١) وقال تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (٢) ، والشورى هي الحوار ، وهي جمع العقول ، وجمع المعلومات ، وجمع

__________________

١ ـ آل عمران (٣) : ١٥٩.

٢ ـ الشورى (٤٢) : ٣٨.

١١٨

الخبرات ، وتلاقح الأفكار ، أي : هي ظاهرة ثقافية فكرية ، وليست ظاهرة غضبية ، وليست ظاهرة تحميلية ، أي : تحمل الطرف الآخر على قبول رأيك بالقوّة ، ويخطأ من يقول أنّ الشورى هي إرادة الأكثرية ; لأنّ الشورى ليست إرادة ، وإنّما هي رأي ، والإرادة من القوى العمليّة ، والشورى من القوى العلميّة ، وفرق بين هذا وذاك.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أعلم الناس من جمع علم الناس إلى علمه » (١) ، وقال علي عليه‌السلام : « حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء ويضم إلى علمه علوم الحكماء » (٢).

وأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام تحثّ على المشوَرَة (٣) ، وتعتبر المشورة من أعظم أنواع الخيرة ، وإن كانت الخيرة بالسبحة مستحبّة ، ولكن المشورة متقدّمة عليها ، لأنّ الشورى تُوفّر للإنسان فرصة دراسة الموضوع الذي يريد الإنسان أن يُقدم عليه من جميع الجوانب ، وتتكامل عنده الصورة بشكل أوضح ، وهناك شروط لمن تصح مشاورته.

وليست الشورى بمعنى مجموعة الإرادات أو الإرادة الجمعيّة أو الحاكمية للأكثرية ، بل الشورى تعني : الحاكمية للصواب وإن كان الصواب يمثّل رأي الأقليّة في تلك المجموعة ، والشورى تعني : حاكمية العلم وإن كانت لفرد واحد إذا كان أخبر القوم وأعلمهم ، وهو صاحب الرأي الصحيح في قبال مجموعة كبيرة ، الشورى مداولة الآراء لمعرفة الخطأ من الصواب ، ولا تعني : القهر والفرض والاستبداد.

__________________

١ ـ ميزان الحكمة ٥ : ٢١٠٨ ، الحديث ١٤١٦٤.

٢ ـ ميزان الحكمة ٤ : ١٥٢٥ ، الحديث ٩٨٦٣.

٣ ـ ميزان الحكمة ٤ : ١٥٢٤ ، الشورى المرقمة بـ « ٢٨١ ».

١١٩

يُفتح باب القتال إذا أُغلق باب الحوار

ولو جئنا إلى الآية الكريمة : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاُْخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (١) ، فبعد أن فشل الإصلاح بينهما تأتي مرحلة قتال الفئة الباغية ، ولا يصلح النقاش والحوار الفكري بعد هذه المرحلة ; لأنّ الأمر مرتبط بالنزاع العسكري الذي لا يُحلّ بالنقاش الفكري مع إصرار إحدى الطائفتين على البغي ، وأمّا إذا تخلّت عن إصرارها فيأتي دور الإصلاح مرّة أُخرى.

الإمام علي عليه‌السلام طرق كل أبواب الحوار قبل القتال

والحوار هو أسلوب أهل البيت عليهم‌السلام في التعامل مع الآخرين حتّى لو كانوا أعداءهم ، فهذا الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام رفض البدء بالقتال مع أصحاب الجمل ، وقد أرسل الإمام الحسن عليه‌السلام وعبد الله بن عباس إلى الطرف الآخر قبل بدء الحرب إلى درجة أنّهم قالوا : إنّ بني هاشم لديهم من الحجج والبراهين الكثيرة ، ولا نقوى على حججهم (٢) ، وهذا دليل على أنّ معسكر الإمام علي عليه‌السلام كان يتوسّل إلى القوى العقليّة لفضّ النزاع ، ولم يلجأ إلى القوّة الغضبية إلاّ بعد أن استنفذ كل الوسائل والطرق العقليّة ، وذلك حرصاً على وحدة المسلمين وحقن دمائهم ، ومن يتابع أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في كل موقف من مواقف حياته ، سيجد هذه الصفة متجلّية عنده ، فلا يُقدّم القوّة الغضبية على القوّة العقليّة ، وهذا ما فعله في

__________________

١ ـ الحجرات (٤٩) : ٩.

٢ ـ كتاب الجمل وصفين والنهروان : ١٦٣.

١٢٠