كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-11-6
الصفحات: ٢١٦
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وفي سبيل إبقائه ، وتبرير جرائمه وانحرافه عن الشريعة الغراء ، وقد وصفتهم الأحاديث بـ وعّاظ السلاطين تارة ، وبعلماء السُّوء تارة اُخرى ، كما وصفهم عامّة الناس والغيارى على الدين بفقهاء البلاط وعلماء النظام ، وعمل تارة لدنياه لأنّه نصب نفسه خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وحاكماً شرعياً على المسلمين ، وكان من أبجديات الحاكم الإسلامي النائب عن المعصوم عليه‌السلام أن يكون فقيهاً عادلاً ، فاضطرّ لكيلا يقع موضع السخرية والاستهزاء بين مواليه ، فضلاً عن مخالفيه ومعاديه ، إلى تقمّص هذه المرتبة وارتقاء منبر الافتاء ، ومن هنا برزت ظاهرة خطيرة للغاية هي ظاهرة الحكّام المجتهدين الذين اتخّذوا دين الله حِوَلاً ، وعباده خِوَلاً ، بتسييس الدين والتلاعب السافر بمصير المؤمنين ، وإذا بالخليفة والحاكم الذي لم يُوصف بالأمس إلاّ بالجهل ، أو لم يُنعت إلاّ بوصمة من العار ، ولا يفقه أيُّ طرفيه أطول ، وإذا به أصبح في عشيّةٍ وضحاها ، وبقدرة قادر ، فقيهاً وحاكماً على المسلمين ينوب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، له من الصلاحيّات وبسط اليد ما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يجل مجلسه ، ويحكم بالنيابة عنه ، بينما يتخبّط تخبّط السقيم في ما يصدره من الفتاوى المخالفة لضرورة الفقه والمذهب. والتأريخ

٤١

وكتب السير والحديث مليئة بمثالبهم ومطاعنهم.

فقد كان من المفروض في شخص الخليفة والحاكم الذي نصّب نفسه منصب المعصوم عليه‌السلام وقام مقامه أن يكون أعلم الناس ، وأحقّهم بمعرفة الأحكام وحقائق الشريعة وبواطن الكتاب وأسراره ، باعتباره خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأميناً على تراثه ودينه ، فكان يرى في ذاته ونفسه الأهليّة والجدارة والأحقّيّة بالاجتهاد ، رغم علمه بجهله ، وأحياناً جهله بجهله ـ وهو الجهل المركّب ـ ، وعدم توفّر الرصيد الكافي ، والمؤهَّل اللازم للاجتهاد والاستنباط ، فكانت ولا تزال تطلّعاته الدنيوية ، وميوله الخفيّة ، وأغراضه الدنيئة هي الحاكمة في نوعيّة الفتاوى الصادرة من فمه والخارجة من تحت جُبّته ، بل هي مبانيه في استنباط أحكام الله تبارك وتعالى واُصوله التي يبني عليها آراءه. وتكمن الخطورة في أنّه لم يكن ليصدر أوامره وأحكامه من منطق الحاكم السياسي ، وإنّما بدعوى كونه حاكماً تتحدّد مسؤوليّته في نقل إرادة السماء ، والرادّ عليه رادّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما على الناس سوى السمع والطاعة ، وليس لأحد ـ وإن كان صحابيّاً جليلاً ، أو فقيهاً محنّكاً ـ أن يناقشه في آرائه ، أو حتّى يبدي رأياً يخالف رأيه ، ولو في مجلس

٤٢

درس ، أو مركز علمي ، كائناً مَنْ كان.

ثمّ إنّ خلفاء بني العبّاس لأغراض سياسية عمدوا إلى حصر الاجتهاد في كلّ زمان برجل واحد تختاره هي وترتضيه تبريراً لإجراءاتهم السلطوية التعسّفية ، وموافقهم الإجرامية ، ومن هنا فقد انحصرت المذاهب الفقهية لدى أهل السنّة والعامّة على التوالي في الأئمّة الأربعة ، وهم : أبو حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وابن حنبل ، وانتفعوا كثيراً من ذلك ، حيث لم يتركوا مجالاً للرواة والفقهاء المخالفين للبلاط الحاكم ليبرزوا رأياً مخالفاً لهم ، أو يفضحوهم في ضَلال من ضلالاتهم ، أضف إلى ذلك سهولة تمرير أغراضهم السياسية ، وفرض مواقفهم المشؤومة على المسلمين عبر الفقيه الواحد ، وإن رأوا فيما بعد سدّ باب الاجتهاد بمصراعيه والتوقّف على المذاهب الأربعة فحسب ، ولكن اختلف الأمر تماماً في المذهب الجعفري ، فقد كان أتباعه في منآى من سلطة الحكّام والخلفاء ، وعلى طرفي نقيضٍ معهم منذ أن قُبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واغتُصبت الخلافة من أهلها ، ولأنّ تربية المجتهدين والرواة كانت من مهامّ الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام والوظائف التي حملوها على عواتقهم ، ونقلوها من جيل إلى جيل ، فتوارثها

٤٣

شيعتهم على أحسن وجهٍ وأكمله ، وكان الاجتهاد عندهم ملازماً للتقليد ، ومن هنا أصبحت عملية الاجتهاد والتقليد في العصور المختلفة ، لا سيّما العصور المتأخّرة عن عصور المعصومين عليهم‌السلام ، سمة من السِّمات المميِّزة للمذهب الجعفري ، وأصلاً ثابتاً من اُصول فقه الإمامية ، فلا يخضع الاجتهاد لرغبات الحكّام والخلفاء ، ولا يرضخ الفقيه المجتهد لرغباته وأهوائه ، فضلاً عن رغبات غيره وأهوائهم ، بل ينظر في مصادر التشريع بنظرة ثاقبة ، وإمعان لا نظير له ، ويصدر فتاويه في الهواء الطلق وبحريّة تامّة رغم قساوة الظروف الملمّة والأجواء السياسية المحيطة به.

والحمد لله ربّ العالمين

٤٤



الدّرس السّادس

الاجتهاد بعد الغيبة الصغرى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عملية الاجتهاد التي ظهرت وبرزت في العقد الثاني من بعثة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الهجرة النبوية الشريفة ، وبعد الانتشار الإسلام واتّساع رقعته ونطاق عمله ونشاطه ، وتجلّت أكثر فأكثر في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسّلام ، وترسّخت دعائمه كأصل فقهي ثابت في عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، واستمرّت دون انقطاع حتّي في زمن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، هذه العملية وإن كانت طبيعية نابعة من عظمة الدين الإسلامي ، وكانت من لوازم شموليّته وعموميّته وعالميّته ، وكانت أيضاً مطلوبة بذاتها ، كما تبدو في الوهلة الاُولى ، ولا خلاف في ذلك ، بَيْد أنّها كانت في الحقيقة مقدّمة في الوقت ذاته

٤٥

وإمداداً غيبيّاً لتهيئة الاُمّة وتوجيهها نحو الطريق الأسلم والسبيل الأوضح في فترة الغَيبة الكبرى ، التي ستدوم طويلاً على ما كان يبدو ، وسيكون الإمام المعصوم عليه‌السلام غائباً عن الأنظار ، ويتعذّر الاتّصال بشخصه الكريم ، ولهذا كان من الطبيعي أن لا يُفاجأ الشيعة بغَيبة إمامهم ، ولا يلاقوا صعوبةً في الرجوع إلى الفقهاء والرواة ممّن تأهّلوا للفتيا واجتمعت فيهم شروط الافتاء ، وبذلك لم يجدوا عُسْراً ولا حرجاً في العثور على أحكام دينهم المبين ، أعانهم على تخلّل فترة زمنية بين عصر الظهور وزمن الغَيبة الكبرى ، هي المنزلة الوسطى التي بين المنزلتين ، كانت عاملاً مساعداً في غاية الأهميّة لنقلة نوعية لا محيص عنها ، دامت هذه الفترة سبعين عاماً ، وسمّيت بالغَيبة الصغرى ، وكانت كافية لأداء الأمانة وإبلاغ الرسالة إلى أهلها.

وأمّا كون هذه الفترة برزخاً بين الظهور الحقيقي والغَيبة الحقيقيّة الحقّة ، فلأنّها تميّزت بالنيابة الخاصّة عن الإمام أرواحنا فداه ، وإمكان الارتباط الخاصّ بساحته المقدّسة الملكوتية ، وعدم انقطاع أخباره عن شيعته ومواليه ، وكان الوسطاء بينه وبين شيعته وأهل خاصّته نوّاباً أربعة ، هم : الشيخ الجليل ، والعالم الثقة ،

٤٦

أبو عمرو عثمان بن سعيد العَمْريّ ، ويقال له : الأسدي ؛ لأنّه من قبيلة بني أسد ، ويلقّب أيضاً بالعسكري ؛ لأنّه كان من عسكر سامرّاء ، وكان من خواصّ أصحاب الإمامين عليّ الهادي والحسن العسكري عليهم‌السلام ، وكان وكيلاً لهما ، مبسوط اليد بين شيعتهما ، وهو الذي تولّى تكفين الإمام العسكريّ ، وتحنيطه ، ودفنه ، وحضر تغسيله ، والصّلاة عليه (١) ، وقد توفّي عام ٢٥٧ ه‍. ق.

ثمّ انتقلت النيابة الخاصّة إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد العَمْريّ ، وقام هو مقام أبيه ( رضوان الله تعالى عليهما ) بنصٍّ من أبيه ، وفيه توقيع الإمام الحجّة المنتظر عجّل الله فرجه الشريف يزكّيه لنيابته وسفارته ، ولمّا توفّي عام ٣٠٥ هجرية استخلف بعده الشيخ الأجلّ أبا القاسم الحسين بن روح بن أبي بختر النوبختي ، الذي نهض بهذه المهمّة ، وتحمّل أعباء النيابة الخاصّة ، وتوفّي رحمه‌الله

__________________

(١) « أنّه لمّا مات الحسن بن عليّ عليه‌السلام حضر غسله عثمان بن سعيد رضى الله عنه وأرضاه ، وتولّى جميع أمره في تكفينه وتحنيطه وتقبيره مأموراً بذلك ؛ للظاهر من الحال التي لا يمكن جحدها ولا دفعها » الغَيبة للطوسي : ٣٥٦ ، ح ٣١٨.

وهكذا في البحار والأنوار البهيّة.

٤٧

عام ٣٢٦ ه‍. ق ، وقد أوصى قبل وفاته إلى العالم الجليل أبي الحسن عليّ بن محمّد السَّيمري ـ أو السُّمَريّ ـ ، وهو آخر النوّاب الأربعة وخاتمهم الذي بوفاته عام ٣٢٩ هجرية انقطعت النيابة الخاصّة وانتهت فترة الغيبة الصغرى لتبدأ صفحة جديدة من حياة المؤمنين هي فترة غياب حجّة الله تعالى عن الأعيان ، وانقطع الاتّصال به بالوسائط الخاصّة مدّة لا يعلم مداها إلاّ الله تبارك وتعالى ، كما ورد في الكتاب الموقّع من الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف إلى نائبه الأخير ، وفيه :

« بسم الله الرحمن الرحيم

يا عليّ بن محمّد السيمري أعْظَمَ الله أجر إخوانك فيك ، فإنّك ميّتٌ ما بينك وبين ستّة أيّام ، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة ( الثانية ) ، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جوراً ... الخ » (١).

__________________

(١) كمال الدين ـ الصدوق : ٥١٦. الغيبة ـ الطوسي : ٣٥٩. الاحتجاج ـ الطبرسي ٢ : ٢٩٦. بحار الأنوار ٥١ : ٣٦١. كشف الغمّة ـ الإربلي ٣ : ٣٣٨.

٤٨

فهؤلاء النوّاب الأربعة رضوان الله عليهم كانوا يقومون بمهمّة إرشاد الرعيّة والشيعة ، ويتولّون التصدّي لشؤونهم الدينية من بيوتهم ومساكنهم في مدينة بغداد ، ممّا جعل من هذه المدينة مركزاً روحيّاً للشيعة وعلمائهم ، وتجمّعاً علميّاً لتأليف وتكوين النواة الأساسية للمرحلة القادمة التي انطلقت منها فكرة إنشاء مركز علمي ، وانبثقت فيها تطلّعات وآمال زعماء الطائفة بتأسيس حوزة علميّة تتكفّل بتربية العلماء والمجتهدين ، ورعاية الشيعة في البلاد المجاورة والمناطق النائية ، كما تتصدّي للذبّ عن معالم المذهب بالردّ على عبث العابقين ، ومن تسوّل له نفسه للنيل من حقائق هذا الدين ، بالمضيّ على سيرة المعصومين عليهم‌السلام.

والحمد لله ربّ العالمين

٤٩
٥٠



الدّرس السّابع

الاجتهاد والتقليد في الغَيبة الكبرى

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبذلك ظهرت أهميّة المنهجين العقلي والعقلائي اللّذين أرشد إليهما الشارع المقدّس منذ أمدٍ بعيد بوضع اُسسه ودعم ركائزه ، وبرز للعيان مدى حاجة الناس إلى الاجتهاد والتقليد بحكم العقل وسيرة العقلاء ، فأرجع المعصوم عليه‌السلام المؤمنين إلى حكم العقل بوجوب الاجتهاد كفايةً ، وحيث لا يتسنّى لكلّ الناس التخصُّص في علوم الشريعة ، ولا يوفّق كلّهم لبلوغ مرتبة الاجتهاد فقد دعى عامّة الناس إلى ما تسالم عليه العقلاء ، وما جرت عليه سيرتهم العمليّة من لزوم رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والعلماء ، ولهذا قال تعالى : ( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) ، أي ليس من المعقول أن يتفرّغ كلّ واحد من الناس لطلب علوم الشريعة

٥١

ويتخصّص فيها ، فليس الوجوب في الاجتهاد عينياً بل هو فرضٌ كفايةٍ بحكم العقل أو بسيرة العقلاء ، ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) ، فالتفقّه في كافّة علوم الشريعة ممدوح لذاته ، وإن كان في العلوم العمليّة كالتّفقّه في الأحكام الشّرعيّة وفروع الدين وعلم الأخلاق مطلوباً لغيره أيضاً ، أي طريقاً للعمل ، ولعلّ هذا القسم من العلوم طريقي مطلقاً لا مطلوبية ذاتية له أصلاً ، ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) ، فإذا وجب الإنذار والتبليغ على المجتهد وجب القبول والتقليد على المكلّف غير المجتهد ، ويؤيّده قوله تعالى أخيراً : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (١).

نعم ، لمّا كان التقليد عند العقلاء ليس مطلوباً بذاته بل مطلوب لغيره فهو طريق للتوصّل إلى حكم الشرع ليس إلاّ ، فغير المجتهد مخيّر بين التقليد والاحتياط ولا ثالث لهما ؛ إذ كما أنّ التقليد طريق إلى امتثال حكم المولى تبارك وتعالى عند العقلاء ، فالاحتياط أيضاً طريق عندهم ، وإذا كان التقليد لا يفيد سوى الحجّية

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٥٢

الظاهرية أو المعذّرية والمنجّزيّة ، فالاحتياط إحراز للواقع وموصّل إلى الحكم الواقعي وتنجيز قطعيّ ، إلاّ أنّ تحقيق الاحتياط والعمل به غير ممكن لكلّ الناس ، فالأفضل ، بل المتعيّن عند عدم تمكّنهم من الاحتياط ، أن يرجعوا إلى فقيهٍ جامعٍ للشرائط وأخذ الأحكام منه بالتقليد.

بيان ذلك : أنّه كان يتعيّن على عامّة الناس بعد انقطاع صلتهم بإمامهم المعصوم عليه‌السلام مباشرة وبالواسطة ، أن يرجعوا إلى الكتاب والسنّة ومصادر التشريع ليستخرجوا أحكام دينهم ويعملوا بما علموه من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف ، لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة ، وليته كان كذلك ؛ لأنّ الإسلام دين الخاتم والشريعة الخالدة ، ليس بعده تشريع ، والحياة متغيّرة ، في كلّ يوم جديد موضوع مستجدّ يبحث المكلّف عن حكمه ، ولهذا كان لا بدّ من وجود شريعة وتشريع يمكن أن يتكيّف مع الظروف ويلائم المتغيّرات رغم ثوابته غير القابلة للتغيّر والتغيير ومحورية اُصوله وقواعده ، ولهذا كان الفقه الإسلامي فقهاً يعالج مشكلات الحياة ويجيب عن تساؤلات المكلّفين ويردّ على إشكالاتهم على مدى القرون والأعصار.

٥٣

ومن هذا المنطلق كانت آيات الأحكام وأحاديثها تأسيسات في معظمها لأحكام كلّية تشتمل على العامّ والخاصّ ، والمجمل والمبيِّن ، والمطلق والمقيّد ، والناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والحقيقة والمجاز ، والظاهر والأظهر ، والكناية والتصريح ، والمفهوم الموافق والمفهوم المخالف ، وما شابه ذلك من قواعد اللغة والأدب التي تجعل الكلام قابلاً للحمل على مرادات مختلفة ومعانٍ متعدّدة.

بالإضافة إلى منع كتابة الحديث قرابة مئة عام بأمر من الخليفة أبي بكر وعمر بن الخطّاب (١) حيث ساعد كثيراً على وقوع الخطأ والتصحيف في كتابتها بعد مئة عام ، كما ساعد على إضافة وضياع الكمّ الهائل من الأحاديث والروايات الصحيحة الصريحة ، وكان

__________________

(١) كشف اليقين : ١١. سنن الدارمي ـ باب من رخّص في الكتابة من المقدّمة : ١٢٥. سنن أبي داود ـ باب كفاية العلم : ١٢٦. مسند أحمد ٢ : ١٦ و ٢٠٧ و ٢١٦. مستدرك الحاكم ١ : ١٠٥ و ١٠٦. تذكرة الحفّاظ بترجمة أبي بكر ١ : ٢ و ٣. جامع بيان العلم وفضله ٢ ، باب ذكر من ذمّ الاكثار من الحديث دون التفهّم له : ١٤٧. منتخب الكنز بهامش مسند أحمد ٤ : ٦٤. طبقات ابن سعد : ١٤٠. تذكرة الحفّاظ ١ : ٧. كنز العمّال ٥ : ٢٣٩ ، الطبعة الاُولى.

٥٤

هذا المنع عاملاً رئيسياً في ظهور الكذّابين والوضّاعين الذين برزوا في تلك الفترة وبعدها ، وأكثروا من الكذب والافتراء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووضع الحديث ونسبته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يسلم مذهب الحقّ الجعفريّ من هذه المآسي والابتلاءات ، بل كان من أشدّ الطوائف تضرُّراً.

فلم تكن عملية استخراج وفهم الأحكام الشرعية أمراً سهلاً يمكن أن تناله الأيدي العامّة والأذهان الساذجة ؛ لتوقّف ذلك على معرفة جملة من الاُمور والتخصّص في شطر من المعارف والعلوم والصناعات والفنون ، كعلم معرفة أحوال الرواة المسمّى بعلم الرجال ، المتكفّل بمعرفة أحوال الرواة من أي طبقة هم ، وفي أي مرتبة من مراتب الحسن والضعف ، والمعلومية والمجهولية ، والوثاقة والمقبولية يمكن تصنيفهم ، حيث يتوقّف عليه تصنيف الخبر طبقاً لمستوى رجاله الذين وردت أسماؤهم في طريقة وسنده وصدوره ، هل هي رواية صحيحة أم موثوقة ـ موثّقة ـ أو مقبولة ، أو منكرة أو ضعيفة أو حسنة أو مرسلة أو مسندة ، وما شابه ذلك ، وعلم معرفة الحديث من قبيل فقه الحديث المتكفّل بالبحث في دلالة الحديث ومعرفة مضامينها ومرادات المعصوم عليه‌السلام ، والتمييز

٥٥

بين الرأي الراوي وقول المعصوم عليه‌السلام فيما كان قول المعصوم عليه‌السلام مشوباً بكلام صدر من الراوي على نحو البيان والتفسير ، أو على أيّ نحو من الأنحاء ، فظنّ السامع أو القارئ أنّه من كلام المعصوم عليه‌السلام ، فالتمييز بين القولين ممّا يتوقّف عليه معرفة المراد والمطلوب ، فلا محيص دونه.

وكالتخصّص في التفسير ومعرفة الآيات وشأن نزولها ، وإتقان اللغة العربية وعلوم اللغة من النحو والصرف والتصريف والمعاني والبيان والبديع ، ومعرفة بعض الاُصول والقواعد الفلكية والحساب بالإضافة إلى شيء من علمي المنطق والفلسفة والكلام وبعض صناعاتها الدخيلة في معرفة المعاني والمفاهيم الشرعية ومقاصد الفقهاء والاُصوليّين المتقدّمين والمتأخّرين والمعاصرين.

فكان الطريق الأسلم والمنهج الأقوم هو العمل بحكم العقل بالاجتهاد لمن فيه أهليّة الاجتهاد ، والرجوع إلى سيرة العقلاء بالتقليد لمن ليس مؤهّلاً للاجتهاد ، وهم الغالبية العظمى من الناس في كلّ عصر ومصر ، فالاجتهاد والتقليد هو النهج السليم الواضح الذي ارتسمه الشارع المقدّس المتمثّل في أئمّتنا الأطهار عليهم‌السلام ، ليكون صراط نجاةٍ ، ودليلَ حقٍّ ، ومصباح هدايةٍ

٥٦

يسير عليه ، وتحت ضوءه وضياءه وفي كنفه شيعتهم حتّى يأتي الصبح والفرج إن شاء الله تعالى ( أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) (١).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) هود : ٨١.

٥٧
٥٨



الدّرس الثّامن

تاريخ الحوزات الشيعية ـ ١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

بدأت حوزاتنا العلميّة ودروس الاجتهاد بشكل منظّم في العهد العبّاسي ، منذ أن وجدت لها نافذة على الحرية وموطئ قدم في مدينة بغداد عاصمة العبّاسيّين حينئذاك ، بعد ما اطمئنّوا من وفاة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام الذي كانوا قد شدّدوا عليه الرقابة ، وضيّقوا عليه الخناق ، حتّى يقضوا على المهدي المنتظر عليه‌السلام المرتقب أن يولد من صلب أبي محمّد العسكري عليه‌السلام ، لكن توفّي أبو محمّد عليه‌السلام ولم يُخلّف في نظرهم ولداً ، ولا ترك وريثاً ذكراً ، فاطمئنّوا أن لا أساس لوجود المهدي المنتظر عجّل الله فرجه ـ على حدّ زعمهم ـ ، وكيف كان فقد تنفّس المذهب وأهله لا سيّما علماؤه الصعداء ، واستنشقوا الهواء العذب إلى حين ، بعد قرون من الظلم

٥٩

والاضطهاد ، والعمل في الخفاء خوفاً من الملاحقة والسجن والقتل والتشريد.

وكان ذلك في عصر الشيخ المفيد أعلى الله مقامه الشريف ، حيث استقلّ كثير من بلاد المسلمين عن الدولة الإسلامية الكبرى والخلافة الاُمّ المتمثّلة آنذاك في الحكم العبّاسي ، وظهرت الدويلات والإمارات الإسلامية التي حكمها الاُمراء وملوك الطّوائف بعيداً عن السّلطة المركزية يومئذٍ ، فانقسمت الدّولة الإسلاميّة إلى مجموعة بلاد إسلاميّة ، ومن هنا قد تجسّدت بعض آمال الشيعة تحقّقت بعض أمانيهم حيث انعقدت نطفة أوّل دولة شيعيّة وانطلقت للعيان فكرة إنشاء أوّل مدينة إسلاميّة على نهج أهل البيت عليهم‌السلام بعد عصر المعصومين عليهم‌السلام ، وفي زمن الغيبة الكبرى متجسّدة في الدولة البويهيّة التي أنشأها الأمير عضد الدّولة البويهي من ديالمة الفرس ؛ إذ كان له رحمه‌الله قصب السّبق في نصرة التّشيُّع ، واليد الطولى في نشر المذهب ، وبسط معالمه ، وترسيخ دعائمه ، وتثبيت أركانه ؛ وذلك بفضل استعانته بشيخ مشائخ الطائفة وزعيمها على الإطلاق ، أعني مولانا الشيخ المفيد أعلى الله مقامه الشريف ، وتلبية رغباته جميعاً ، وتحقيق أوامره بعد أن

٦٠