كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-11-6
الصفحات: ٢١٦
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

عليه وآله على عهده ، ثمّ كُذِبَ عليه من بعده » ، ثمّ ذكر كلاماً حاصله : إنّه لا يعلم تأويل القرآن وتفسيره ، وتفسير أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وناسخها ومنسوخها إلاّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ولا يخفى على الخبير أنّ ما ورد في حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام يُعدّ من أوّليات أدوات الاجتهاد ، وقواعد الاستنباط ، ويكفي دليلاً على اهتمام الأئمّة عليهم‌السلام منذ الصدر الأوّل للإسلام على تربية جيلٍ من المجتهدين المستنبطين للأحكام الشرعيّة من أدلّتها التفصيليّة ، وهلمّ جرّاً ، كما أنّ الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق عليهم‌السلام بلغا في بيان القواعد الفقهية والاُصوليّة أقصى غايته وأعلى مراتبه ، حيث تجاوزا في بيان قواعد الاجتهاد حدود الأُصول اللغوية وصولاً إلى الأُصول والقواعد العمليّة كالتخيير والبراءة والاحتياط والاستصحاب ، وألقوها إلى أصحابهم ، ثمّ علّموهم كيفيّة التعامل معها في استنباط الأحكام الشرعية ، حتّى اطمأنّا إلى ضبط تلك القواعد ، ثمّ أمرا أصحابهما المجتهدين بالاعتماد عليها في اجتهاداتهم ، كما أمرا شيعتهم في البلاد البعيدة بالرجوع إلى هؤلاء المجتهدين الرواة ، ولهذا قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام لهشام بن سالم : « إنّما علينا أن نُلقي إليكم

٢١

الاُصول ، وعليكم أن تفرّعوا » (١).

وفي الأثر المروي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّه قال لأحمد بن نصر : « علينا إلقاء الأصل ، وعليكم التفريع » (٢) ، وممّا يدلّ بجلاء على وقوع السيرة وتحقّقها في الاجتهاد ، ورجوع عامّة الناس إلى المجتهدين في معرفة تكاليفهم وأحكامهم ، ما ورد في الخبر عن جماعة من الشيعة الإمامية ، حيث أنّهم كتبوا إلى الإمام عليه‌السلام : يونس بن عبد الرحمن ثقة ، نأخذ منه معالم ديننا ؟ فقال عليه‌السلام : « لابأس » أو قال عليه‌السلام : « نعم » (٣).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١٣٣ : ١. مستطرفات السرائر ـ ابن إدريس : ٥٧٥. الفصول المهمّة ٥٤٤ : ١. الاُصول الأصليّة ـ الفيض الكاشاني : ٦٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١٣٤ : ١. جواهر الفقه ـ ابن البرّاج : ١٣. المهذّب ـ ابن البرّاج : ٢٥. السرائر ـ ابن إدريس ٥٧٥ : ٣. وسائل الشيعة ١٨ : ٤١. بحار الأنوار ٢ : ٢٤٥. الوافية ـ الفاضل التوني : ٢٩٤. الفصول المهمّة ١ : ٥٥٤.

(٣) الكنى والألقاب ٣٨ : ١. مصباح الاُصول ١٩٢ : ٢ و ١٩٤.

٢٢



الدّرس الثّالث

الاجتهاد والتقليد

بِسمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

س : هل الاجتهاد مختصّ بزمن الغيبة الكبرى أم أنّه جائز حتّى مع حضور الإمام عليه‌السلام ؟

وبعبارة اُخرى : أليس الاجتهاد مختصّاً بزمن الغَيبة ؟ فكيف نجمع بين هذا الأمر وبين ما ذكرتموه في هذا الدرس من تربية الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام للمجتهدين ، ووضع قواعد للاجتهاد ، وأمر الشيعة بالرجوع إليهم ، ممّا يدلّ بالضرورة على فتح باب الاجتهاد منذ العصور الاُولى لظهور الإسلام ، ويدلّ على جواز الاجتهاد والتقليد حتّى في عهد الإمام عليه‌السلام ؟!

ج : أظنّ أنّ هذا السؤال نابع من المقارنة الطبيعية ، والاقتران التلقائي الذي ارتكز في أذهان الشيعة الإمامية بين الاجتهاد

٢٣

وعصر الغَيبة ، حيث عُدّ المجتهد بديلاً للإمام عليه‌السلام ، أي قائماً مقامه الشريف على نحو الجزئية وفي حدود بيان الأحكام فقط ، أو على نحو الإطلاق كما هو عند القائلين بولاية الفقيه المطلقة ، أو على نحو الولاية المتوسطة ، وهو كونها أمراً بين الأمرين السابقين ، كما عُدّ الاجتهاد ـ وهو استنباط الحكم الشرعي الظاهري ـ بديلاً عن الحكم الواقعي ، وحجّةً على المجتهد ومقلّديه قائماً مقام حكم المعصوم عليه‌السلام في كونه منجّزاً ومعذِّراً ، وقد أصبح المألوف في أذهاننا ، والمرتكز في نفوسنا ، ارتباط هذه الحقيقة بزمن الغَيبة ارتباطاً وثيقاً كاد أن ينفي وجود أيّ وجهٍ لجواز الاجتهاد في زمن حضور الإمام عليه‌السلام ، وهو أمر ليس بصحيح ؛ ذلك أنّ الإسلام حاله حال سائر الأديان السماوية لا ينمو إلاّ في ظروف طبيعية بعيداً عن المعجزات وخوارق الطبيعة إلاّ في النادر من الحالات ، حيث تكون المعجزة إثباتاً للحقّ ، وإتماماً للحجّة ، أو إبقاء لصلب الدين ، وحفظاً لبيضة الإسلام ، إذا توقّف الإبقاء والحفظ للبيضة والأساس على عملية الإعجاز ولم يتحقّقا بالأسباب الطبيعة.

بعد هذه المقدّمة أقول : ومن الطبيعي المسلّم أنّ الإسلام حتّى في

٢٤

عهد المعصومين عليهم‌السلام لم يقتصر على مكّة والمدينة ، ولم ينحصر وجود المسلمين في المنطقة أو المدينة التي كان يقيم فيها الإمام عليه‌السلام ويقطنها ، بل كانوا ينتشرون في البلاد القريبة والبعيدة ، وفي أقصى البلاد وأدناها ، وكانوا يعلمون إجمالاً بوجود أحكام إلٰهيّة مطلوبة منهم في كلّ واقعة كلّية أو جزئية ، وصغيرة أو كبيرة ، فلا يخلو فعل من أفعالهم من حكم من الأحكام الخمسة ، إمّا يكون واجباً أو حراماً أو مستحبّاً أو مكروهاً أو مباحاً ، علاوة على علمهم بوجود عبادات وأفعال وموضوعات لها أحكام خاصّة بها لا تخلوا من أحد الأحكام الخمسة.

إذن فبُعد المسافة التي كانت بين المسلمين وبين إمامهم ، وصعوبة الاتّصال بينهم وبينه ، ولبدائية طرق وأساليب المواصلات ، بالإضافة إلى علم المسلمين إجمالاً بوجود أحكام شرعية وأعمال عبادية خاصّة ، وحتّى معاملاتية ، لها أحكامها وموازينها الشرعية ، حتّمت على المسلمين التماس وتحديد الطرق والوسائل الكفيلة ببيان هذه الأحكام وسهولة التوصّل إليها من قِبل الشارع الحكيم ، وحتّمت على إمام المسلمين أن يبادر إلى تلبية هذه الحاجة وسدّها تارة ، وإلى الاستجابة لالتماسهم

٢٥

وطلبهم في ذلك تارة اُخرى ، وكانت الوسيلة الفضلى لسدّ هذه الحاجة وتلبية هذه الرغبة هي التمسّك بالسيرة العقلائية من لزوم رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والعلماء ، وهذا الأمر لا يختصّ بزمن دون زمن ـ أعني لا يختصّ بزمن الغَيبة الكبرى ـ ؛ لأنّ الحاجة إلى معرفة الأحكام الشرعية موجودة ومورد للإبتلاء في كلّ زمان وكلّ مكان ؛ إذ وجود الإمام عليه‌السلام في المدينة المنوّرة أو في الكوفة مثلاً ، لا يمنع من وجود أحكام لأهل المدن والبلاد الاُخرى ، ولا يُسقط الأحكام عنهم ، وأمّا عجزهم عن الوصول إلى المعصوم عليه‌السلام لتلقّي الأحكام منه مباشرة ، أو ممّن سمعها منه ؛ للظروف الطبيعية أو الظروف غير الطبيعية المصطنعة ، بل قد تفوت المصلحة من الحكم في حال التأخير للوصول إلى المعصوم عليه‌السلام ، كلّ ذلك لم يُسقط التكليف عن المؤمنين ودفعهم إلى التماس طرق للخروج من هذا المأزق ، كما حمل المعصوم عليه‌السلام على تربية جيل من المجتهدين يقومون بحمل أعباء استنباط الحكم الشرعي وبيانه للناس ، وسدّ هذه الحاجة لهم ، فلا اختصاص للاجتهاد بزمن الغيبة الكبرى ، وإن كان فيه أوسع دائرة وأشدّ ابتلاءً.

ولهذا رُوي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : « مجاري الاُمور

٢٦

والأحكام على أيدي العلماء بالله ، الاُمناء على حلاله وحرامه » (١).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « اُنظروا إلى مَنْ كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حاكماً ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمٍ فلم يُقبلْ به فإنّه بحكم الله استخفّ ، وعلينا ردَّ ، والرادّ علينا كافرٌ ، رادٌ على الله ، وهو على حدّ مَنْ أشرك بالله » (٢). وفي رواية اُخرى : « الرادّ عليهم كالرادّ علينا ، والرادّ علينا كافر » (٣).

وقال عليه الصّلاة والسّلام أيضاً : « ولاية أهل العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها ، والعمل لهم فرضٌ من الله ، وطاعتهم واجبة ، ولا يحلّ لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلّف عن أمرهم » (٤).

وكما قال الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في الخبر المروي عنه : « أمّا من كان الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ،

__________________

(١) مستدرك الشيعة ١٧ : ٢٠. تحف العقول : ٢٣٨. مستدرك الوسائل ١٧ : ٣١٦ ، ب ١١. بلغة الفقيه ٣ : ٢٣٠. بحار الأنوار ٩٧ : ٨٠.

(٢) السرائر ٣ : ٥٤٠. مختلف الشيعة ٤ : ٤٦٤.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٣. الاحتجاج ٢ : ١٠٦. بحار الأنوار ٢ : ٢٢١.

(٤) كشف اللثام ٢ : ٣٢١. مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٤٠ و ٣١٢.

٢٧

مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه » (١).

وهكذا جاء في الخبر المروي عن الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة الله » (٢).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا ولم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ ، وعلينا ردّ ، وهو رادٌّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله ، فإذا اختلفا فالحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » (٣).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) عوائد الأيام ـ النراقي : ١٩١. حصر الاجتهاد ـ الطهراني : ٥١.

(٢) عوائد الأيام : ١٨٧. مستند الشيعة ١٠ : ٤١٩. وسائل الشيعة ١٢ : ٨٧.

(٣) رسائل الكركي ١ : ١٤٣. جامع المدارك ٥ : ٤١٢. تحرير الأحكام ٢ : ١٨١ و ٢٠٨. مجمع الفائدة والبرهان ١٢ : ٩. الكافي ١ : ٦٨. تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١. الوسائل ٢٧ : ١٠٦ و ١٢٣.

٢٨



الدّرس الرّابع

بحث في الاجتهاد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

نعم ربّما قيل لم يكن الاجتهاد في عصر المعصومين عليهم‌السلام على النحو المألوف في عصر الشيخ الطوسي قدس‌سره وإلى يومنا هذا مستدلّين بما جاء في مقدّمة كتاب المبسوط التي كتبها بيده الشريفة ، حيث يقول رحمه‌الله :

« وصلّى الله على خاتم أنبيائه ، وسيّد أصفيائه محمّد النبيّ صلّى الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين ، النجوم الزاهرة ، والحجج اللاّمعة ، الذين جعلهم الله أعلاماً لدينه ، واُمناء لتوحيده ، وخزنةً لوحيه ، وتراجمةً لكتابه ، وأودعهم علم جميع ما يحتاج إليه خلقه ليلجأوا إليهم في الملمّات ، ويفزعوا إليهم في المشكلات ، ولم يكلهم في حال من الأحوال إلى الآراء المضلّة ، والمقاييس

٢٩

المبطلة ، والأهواء المهلكة ، والاجتهادات المخزية ، بل جعل أقوالهم الحجّة ، وأفعالهم القدوة ، وجعلهم معصومين من الخطأ مأمونين عليهم السهو والغلط ليأمن بذلك من يفزع إليهم من التغيير والتبديل والغلط والتحريف ، فيكون بذلك واثقاً بدينه ، قاطعاً على وصوله إلى الحقّ الذي أوجبه الله تعالى عليه وندبه إليه ».

ثمّ قال قدس‌سره : « أمّا بعد فإنّي لاأزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقّهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الإماميّة ، ويستزرونه ، وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل ، ويقولون : إنّهم أهل حشوٍ ومناقضةٍ ، وإنّ من ينفي القياس والاجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل ولا إلى التفريع على الاُصول ؛ لأنّ جلّ ذلك وجمهوره مأخوذ من هذين الطريقين ، وهذا جهل منهم » ، يعني من مخالفينا ، والكلام للشيخ قدس‌سره : « وقلّة تأمّل لاُصولنا ، ولو نظروا في أخبارنا وفقهنا لعلموا أنّ جُلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا ومنصوص عليه تلويحاً عن أئمّتنا الذين قولهم في الحجّة يجري مجرى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، امّا خصوصاً أو عموماً أو تصريحاً أو تلويحاً ، وأمّا ما كثّروا به

٣٠

كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلاّ وله مدخل في اُصولنا ومخرج على مذاهبنا لا على وجه القياس ، بل على طريقة يوجب علماً يجب العمل عليها ، ويسوغ الوصول إليها من البناء على الأصل » إلى أن قال قدس‌سره :

« وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوّق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع ، وتشغلني الشواغل ... الخ ».

فإنّهم استشهدوا بهذه المقدّمة التي أوردها الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه الشريف على أنّ الاجتهاد والاستنباط في الفقه منذ عهد المعصومين عليهم‌السلام إلى ذلك الزمن لم يكن على النحو المألوف في عصرنا هذا ، بل كان عبارة عن مجموعة مسائل منصوصة نُقلت كما هي في قول المعصوم عليه‌السلام من غير إضافة شيء إلى أقوالهم عليهم‌السلام إلاّ ما ذكره بعضهم على نحو البيان والتوضيح ، ولم تكن هناك اُصول وقواعد اُصولية يتمّ إرجاع الفروع إليها واستنباط الفروع منها ، فكان المسلك المتّبع لديهم أخبارياً محضاً ، وهو التوقّف عند ما نصّ عليه المعصوم عليه‌السلام وعدم تجاوزها ، حتّى ظهر شيخ الطائفة قدس‌سره فسلك مسلك الاجتهاد السليم والاستنباط المألوف

٣١

إلى يومنا هذا.

أقول : لا يمكن الالتزام بهذه الدعوى والا التمسّك بها ، بل كلّ ما قيل في هذا المجال واضح البطلان ومردود على أصحابه ، ولا نشكّ ـ كما ذكرنا آنفاً ـ في هذا المختصر الوجيز أنّ عملية الاجتهاد والتقليد على النحو المألوف في عصرنا هذا كانت متداولة مألوفة أيضاً في زمن المعصومين عليهم‌السلام وقبل الشيخ رحمه‌الله ، غاية الأمر أنّه ربّما كانت أكثر شفّافية ، وأقلَّ تكلُّفاً ، وأشدّ بدائية ، وأقلّ ابتلاءً ؛ وذلك لوجود المعصوم عليه‌السلام الذي تكفّل ببيان الأحكام الواقعيّة ، لكنّ هذه العوامل لم تكن مانعة من الاجتهاد والتقليد بعد وجود المقتضي لهما والداعي إليهما ، ودليلنا في ذلك اُمور :

أوّلاً : وجود الأحكام الشرعية والتكاليف الإلٰهيّة في كلّ زمان ومكان.

ثانياً : وجود المكلَّفين في كلّ زمان ومكان.

ثالثاً : وجود الجاهلين بالأحكام الشرعية في كلّ زمان ومكان.

رابعاً : وجود العلماء بالأحكام في كلّ زمان ومكان.

٣٢

خامساً : بُعد المسافة ، وصعوبة التوصّل إلى المعصوم عليه‌السلام لمعرفة الأحكام.

سادساً : عدم إمكان تعلّم المسائل الجزئية والفرعية وحفظها جميعاً ، سواء للعلماء والأصحاب أو عامّة الناس ؛ لكثرتها ولكثرة موضوعاتها وحدوث المستجدّات منها ممّا قد لا يبتلي بها الصحابي وهو في حضرة المعصوم عليه‌السلام ولا يسمعها منه.

سابعاً : لزوم تربية العالم ـ أعني المعصوم عليه‌السلام ـ لمجموعة من طلبة العلم ، وتعليمهم طرق الاجتهاد ، وقواعد الاستنباط لسدّ حاجة العامّة من الناس في رجوعهم إلى أهل الخبرة والعلماء ؛ وذلك لأغراض وأسباب :

١ ـ وجوب نشر العلم وبسطه ، وعدم جواز كتمان العالم علمه ؛ ولقولهم عليه‌السلام : « زكاة العلم نشره ».

٢ ـ إقامة الحجّة وإتمامها على العامّة من الناس.

٣ ـ عملاً بالتكليف ، وهو وجوب التعليم كفايةً. بيان ذلك : أنّ طلب العلم لمّا كان واجباً كفايةً على العامّة من الناس ، فإنّ وجوب التعليم على المعصوم عليه‌السلام واجب عيناً لحصره فيه عليه‌السلام وتوقّفه عليه.

٣٣

ثامناً : وجوب التعلُّم كفايةً على العامّة من الناس ، حتّى أنّهم يُؤثمون جميعاً إن لم يتفرّغ جماعة منهم لطلب علم الشريعة ؛ إذ وجوب التعلّم حينئذٍ يكون واجباً عينيّاً عليهم جميعاً بتركهم لهذه الفريضة العظيمة التي بها يكون قوام الدين وحفظه وبقاؤه.

تاسعاً : وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والعلماء فيما يبتلي به من الأحكام والتكاليف.

والحاصل أنّ وجود الأحكام والمكلّفين ووجوب التعليم والتعلّم ووجوب رجوع الجاهل إلى العالم لا يختصّ بزمان دون زمان ، فالاجتهاد والتقليد على النحو المألوف الآن ـ أعني استنباط الأحكام من مصادر التشريع ، وإخراج الفروع من الاُصول ـ كان في عصر المعصومين عليهم‌السلام وإن كان أكثر شفّافية ، وأشدّ بدائية ممّا هو عليه اليوم ؛ لأنّ عملية الاجتهاد شهدت تطوّراً ملحوظاً بعد عصر المعصومين عليهم‌السلام ـ منذ الغيبة الكبرى ـ ، وأصبحت أشدّ تعقيداً شُبِّه الاجتهاد بمحاولة حفر جبلٍ صُلْبٍ بإبرة الخياطة للتوصّل إلى عين الماء في بطن ذلك الجبل ، وشبّهوا المجتهد بمن يحمل بيده إبرةً يحفر بها جبلاً

٣٤

صُلْباً ، بحثاً عن عين ماء صافية (١).

هذا ، فضلاً عن أدلّة نقليّة اُخرى وروايات دالّة وصريحة في دلالتها على تربية الأئمّة عليهم‌السلام لأجيال ومجموعات من المجتهدين وتعليمهم إيّاهم طرق الاستنباط وعملية الاجتهاد في الفقه من مصادر التشريع ، وحثّهم إيّاهم على مباشرة استخراج الفروع والأحكام الجزئية من الاُصول والقواعد الكلّية كقولهم عليهم‌السلام : « علينا إلقاء الاُصول وعليكم التفريع » ، وكثير من الأخبار والأحاديث التي أسردنا شيئاً يسيراً منها في الدرس الأوّل والثاني من هذه الحلقة.

بالإضافة إلى ما ورد في كتب الحديث والأخبار والرجال من ممارسة فعليّة عمليّة للاجتهاد في عصر المعصومين عليهم‌السلام ، بل في محضرهم وبحضروهم عليهم‌السلام أحياناً من غير ردع من الإمام عليه‌السلام ، بل بتشجيع منه عليه‌السلام ، هذا ناهيك عن دعوة الإمام عليه‌السلام للعامّة من الناس ، بل وأمره إيّاهم بالرجوع إلى بعض أصحابه ، وبعض

__________________

(١) نسب هذا القول إلى بعض الأعاظم من المتأخّرين والمعاصرين ، منهم المرحوم العلاّمة الفقيه المحقّق والاُصولي المدقّق آية الله العظمى الشيخ آغا ضياء العراقي قدس‌سره.

٣٥

العلماء كقوله عليه‌السلام : « أما لكم من مفزع ؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه ؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصري ؟ ».

وقوله عليه‌السلام لمسلم بن أبي حيّة حين سأله أن يزوّده : « إئت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع منّي حديثاً كثيراً ، فما رواه لك فاروه عنّي » ، ويكفيك ما أسردناه في الدرسين الأوّلين من الأدلّة الدالّة بالصراحة على هذا المدّعى ، وهذا يمكن تسميته « عاشراً ».

فلم تكن وظيفة أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام والعلماء قبل عصر الشيخ الطوسي قدس‌سره مجرّد الرواية ونقل قول المعصوم عليه‌السلام ، كما زعم البعض ؛ لأنّا نجد في كتب القوم استدلالاً واضحاً واستنباطاً بيّناً ، كما في بعض كتب الشيخ الصدوق قدس‌سره ، والشيخ المفيد قدس‌سره ، والسيّد المرتضى قدس‌سره وأضرابهم ، ويمكن تسميته بـ « الحادي عشر ».

الثاني عشر والأخير : أمّا ما استشهدوا به من كلام لشيخ الطائفة الطوسي قدس‌سره ، وقد أوردناه بتفصيله فإنّه لا يدلّ على ما زعموا ، وأقصى ما يدلّ عليه قوله قدس‌سره في تلك المقدّمة أنّ علماء الطائفة أعلى الله مقامهم لم يكتبوا كتباً في القواعد الاُصولية ولم يبادروا إلى تأليف كتاب استدلالي في الفقه ، وهذا أخصّ من المدّعي ، بل لا علاقة له بالمدّعي ـ أعني لا علاقة له بدعوى عدم

٣٦

كون الاجتهاد على النحو المألوف في كتب الشيخ الطوسي وعلى وجه التحديد كتابه المبسوط ـ ، ويظهر ذلك بأدنى تأمّل في ما كتبه الشيخ أعلى الله مقامه الشريف.

ثمّ التأمّل في قوله قدس‌سره : « وينسبونهم إلى قلّة الفروع وقلّة المسائل ويقولون : إنّهم أهل حشوٍ ومناقضة ... الخ » صريح على بطلان هذا المدّعى ، وقوله قدس‌سره : « وأمّا ما كثّروا به كتبهم من مسائل الفروع فلا فرع من ذلك إلاّ وله مدخل في اُصولنا ... الخ » لأدلّ دليل على بطلان ذاك المدّعى وصحّة ما ذكرناه ، وفي ذلك كلّه كفاية للناقد البصير ، والمقام لا يحتمل أكثر ممّا بحثناه وأسردناه.

والحمد لله ربّ العالمين

٣٧
٣٨



الدّرس الخامس

من تأريخ الاجتهاد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إذن عملية الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية عملية عقلانية عقلائيّة ، جرى عليها حكم العقل أو سيرة العقلاء ، شأنها شأن الاجتهاد لذوي الاختصاص في كلّ فنّ من الفنون ، وعلم من العلوم ، وصناعة من الصناعات ، ولا يمكن أن يغلق باب الاجتهاد في الدين وأحكامه ما دام هناك من له أهلية الاجتهاد فيها ، وما دامت الدراسة لمعالم الدين وأحكامه موفورة ، والحوزات العلمية بتربية ذوي الاختصاص والمجتهدين مشغولة ، وشأن المجتهد في علم الدين كشأن الدكتور في سائر العلوم والفنون ، كما أنّ شأن الاجتهاد في علم الدين وأحكامه شأن الاجتهاد في سائر العلوم ، فالحائز على رتبة الدكتوراه وشهادتها

٣٩

في علم الطبّ مثلاً ، أو الحقوق المدينة الوضعية ، له نظريّاته وآراؤه ، وله أن يصدِّر أحكاماً في المجال الذي تخصّص فيه والمسلك الذي انتهجه ، وليس لغيره أن يمنعه من إبداء رأيه. نعم لنظائره من أهل الاختصاص أن يناقشوه في مباينه والاُصول التي بنى عليها آراءه وأنظاره ، أو الردّ عليه في تطبيق المبنى والأصل وكيفيّة استنباطه لحكم جزئي من ذلك الأصل الكلّي ، ولكن لا يحقّ لهم أن يمنعوه من الاستنباط طالما توفّرت فيه شروطه وشروط الاجتهاد ، وهكذا الحال في علوم الشريعة طبق القذّة للقذّة ، ومن السخافة والجهل بمكان أن يُمنع المجتهد من الاجتهاد ، أو توصد أبواب الاستنباط ، والقول بسدّ هذا الباب ، وانسداده أشدّ سُخرية وأدعى للجهل ، بلى كانت هناك تدخّلات سقيمة ومحاولات فاشلة ، وهي لا تزال ، ممّن نزعوا جلباب الحياء ، ومزّقوا حُجُب التقوى ، فجلسوا مجلس الفتيا ، ونزوا على منبر الاجتهاد ، وتقمّصوا ثوب الاستنباط وهم ليسوا من أهله ، بل بينهم وبينه ما بين المشرقَين ، إمّا لدوافع شخصيّة وطلباً للمكانة الاجتماعية والجاه الدنيوي الزائف الزائل ، وإمّا لدوافع سياسية ، وهذا القسم عمل تارةً لدنيا غيره ، وخدمة للخليفة والسلطان ،

٤٠