كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-11-6
الصفحات: ٢١٦
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وإنّما سُميّت بالكتب الأربعة لأنّها أشهر كتب الحديث وأكثرها اعتباراً ، بالإضافة إلى بحار الأنوار للمرحوم العلاّمة المجلسي ، ووسائل الشيعة للمرحوم الحرّ العاملي ، ومستند الشيعة للمرحوم المولى أحمد النراقي ، ومستدرك الشيعة للمرحوم المحدّث النوري ، والأنوار البهيّة للمرحوم الشيخ عبّاس القمّي ، والمحاسن للمرحوم البرقي.

الثالث : العقل ، متى ما عجز الفقيه من العثور على الدليل من الكتاب والسنّة لاستنباط حكم ما ، وأعياه الدليل النقليّ ، انتقل إلى العقل ونظر في الأحكام العقليّة المسلّمة ، فإذا استطاع أن ينتفع بحكم العقل ويستفيد من أحكامه فيما يرمي إليه ، ولم يكن مخالفاً لحكم الشرع ؛ إذ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، إذا تمّ ذلك فإنّه يستند إليه ويعدّه حجّة ودليلاً في استنباط الحكم الشرعي ؛ لقوله عليه‌السلام : « إنّ لله على الناس حجّتين ، حجّة ظاهرة وحجّة باطنة ، فأمّا الظاهرة فالرُّسل والأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ، وأمّا الباطنة فالعقول » (١) كإنقاذ النفس المحترمة على المشهور.

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦. تحف العقول : ٣٨٦. وسائل الشيعة ١٥ : ٢٠٧ و ١١ : ١٦٢. بحار الأنوار ١ : ١٣٧ و ٧٥ : ٣٠٠ و ١٠٨ : ١٦.

١٦١

الرابع : الإجماع ، وهو آخر وسيلة وطريق يلجأ إليه الفقيه لاستنباط الحكم الفقهي ، وهو يعدّ حجّة على الفقيه في بعض الصور والحالات ؛ لأنّه عبارة عن إجماع واتّفاق الفقهاء جميعاً ، على حكم واحد في مسألة ليس لها مدرك ولا دليل ، ويسمّى الإجماع المحصّل شريطة أن يكون إجماعهم هذا كاشفاً عن رأي المعصوم واندراج رأيه بينهم ؛ إذ حجّية الإجماع متوقّفة على كاشفيّته ومشروطة بإفصاحه عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

والحمد لله ربّ العالمين

١٦٢



الدّرس الثّاني والعشرون

التقليد وأحكامه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

التقليد ـ كما تقدّم ـ عبارة عن العمل المستند إلى فتوى الفقيه الجامع لشرائط التقليد ، وإذا كان الاجتهاد ـ كما تقدّم ـ مستنداً إلى حكم العقل أو سيرة العقلاء ومأخوذاً منهما ، فالتقليد مستند كذلك إلى حكم العقل أو سيرة العقلاء ومأخوذ منهما أيضاً ، وهو أمر عقلي أو عقلائي.

س : على من يجب التقليد ؟

ج : على كلّ مكلّف ، وهو البالغ العاقل الذي ليس بمجتهد ولا يريد العمل بالاحتياط ، أو كان عاجزاً عن العمل بالاحتياط.

س : كيف يتمّ التقليد ؟

ج : أن يتعلّم المسائل والفتاوى التي وردت في الرسالة

١٦٣

العمليّة المعتمدة لدى الفقيه والمختومة بخاتمه الشريف بقصد العمل بها ، وقال آخرون : إنّ التقليد مجرّد الالتزام بالفتوى وإن لم يعمل بها ، واشترط بعضهم العمل بها ، كما اشترط آخرون الالتزام بالعمل بها.

س : في أي شيء يجب التقليد ؟

ج : يجب التقليد في جميع المسائل التي يبتلي بها المكلّف أو يحتمل ابتلاءه بها ، ولا يختصّ التقليد بالواجبات والمحرّمات ، بل يجب في الأحكام الخمسة كلّها ، أي حتّى في المستحبّات والمكروهات والمباحات.

س : من هو الفقيه الجامع لشرائط التقليد ؟

ج : الفقيه الذي يجب تقليده هو الذي توفّرت فيه الشرائط التالية :

١ ـ الاجتهاد.

٢ ـ العقل.

٣ ـ البلوغ.

٤ ـ العدالة.

٥ ـ الذكورة ـ أن يكون رجلاً ـ.

١٦٤

٦ ـ الحياة ـ أن يكون حيّاً ـ.

٧ ـ طهارة المولد.

٨ ـ أن يكون إماميّاً اثني عشريّاً.

٩ ـ الأعلمية ـ بأن يكون أعلم أهل زمانه من الفقهاء ـ.

وإن كان الشرط الأخير مبنيّاً عند أكثر الفقهاء على الاحتياط الواجب أو المستحبّ.

س : ما معنى العدالة المطلوبة في مرجع التقليد ، وما هي حدودها ؟

ج : العادل هو الذي حاز على ملكة العدالة ، والعدالة حالة نفسانية ، أو صفة نفسانية ، تدفع صاحبها إلى التقوى ، أي تمنعه وتصدّه عن ارتكاب المعاصي الكبيرة والإصرار على المعاصي الصغيرة.

س : كيف نعرف العادل ، وما هو ملاك العدالة ؟

ج : إعلم أنّ حُسْنَ الظاهر كاشف تعبّدي ، فإذا كان حَسَنَ الظاهر في أخلاقه وأفعاله بحيث إذا سُئل الجيران أو أهل البلدة التي يقطنها أو أصحابه وعشيرته عن حاله تكلّموا عنه خيراً ، وأخبروا عن حُسن حاله وسلوكه الديني ، كان عادلاً.

١٦٥

وأمّا ملاك العدالة فهي الإلتزام بالواجبات وترك المحرّمات بأن لا يأتي بكبيرة ، ولا يصرّ على الصغيرة ، فيتجنّب كبائر الذنوب ولا يصرّ على صغائرها.

س : من هو الأعلم ؟

ج : قيل هو الأعراف بقواعد المسائل ومداركها ، وأن يكون أكثر اطّلاعاً من غيره بنظائرها وبالأخبار والأحاديث ، وأن يكون أفضل فهماً للأخبار ، والحاصل أن يكون أفضل من غيره في استنباط الأحكام ، وهذا الأمر لا يشخّصه وجداناً إلاّ من كان من أهل الخبرة ، أي من العلماء والفضلاء المتخصّصين في علمي الفقه والاُصول والعلوم الحوزوية.

س : هل يجوز التقليد الميّت ؟

ج : لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً ، وأمّا البقاء على تقليد الميّت فهو جائز إذا كان في مستوى الأحياء في علمه ، وأمّا إذا كان أعلم من جميع الأحياء فيجب البقاء على تقليده ، وقال بعضهم : يجب البقاء على تقليده احتياطاً ، كما قال آخرون يستحبّ البقاء على تقليده احيتاطاً ، ويعمل بفتاواه كما كان يصنع في حياته.

وأمّا إذا كان في الأحياء من هو أعلم منه فلا يجوز البقاء على

١٦٦

تقليده ، بل يجب العدول إلى الحيِّ الأعلم. والمسألة خلافيّة فيجب أن يرجع كلّ مقلِّد إلى فتوى المرجع الذي يقلّده.

س : ما معنى التقليد الابتدائي ؟

ج : التقليد الابتدائي عبارة عن التقليد الحدوثي الذي لم يكن مسبوقاً بتقليد ، مثلاً لو بلغ الصبي العاقل فوجب عليه التقليد لأوّل وهلة ، ووجب عليه التقليد للمرّة الاُولى ، فعليه أن يقلّد المجتهد الحيّ ، وهكذا لو كان كبيراً ولم يكن مقلِّداً لأحدٍ من قبل ، ثمّ أراد التقليد ، فإنّ تقليده للمرّة الاُولى يكون ابتدائياً إحداثياً ، ويجب عليه حينئذٍ تقليد المجتهد الحيّ الأعلم.

ملاحظة :

وبعبارة أدقّ : في مسألة جواز التقليد الميّت يجب تقليد المجتهد الحيّ الأعلم ، ولا يجوز البقاء على تقليد الميّت إلاّ بإذنٍ من المجتهد الحيّ الأعلم ، مثلاً لو كان يقلّد مجتهداً فمات ، ثمّ أراد البقاء على تقليد نفس المجتهد ، فعليه أن يسأل ويتفحّص هل المجتهد الحيّ الأعلم يجيز البقاء على تقليد الميّت ، وما هي شروطه في جواز البقاء ، فإذا وجد الأعلم أو مَنْ فيه شبهة الأعلميّة يجيز البقاء على تقليد الميّت ، وكانت الشروط متوفّرة في الميّت الذي يريد أن يبقى

١٦٧

على تقليده ، عمل بهذه الفتوى وبقي على تقليده ، وإلاّ فلا يجوز له البقاء على تقليده.

ملاحظة :

١ ـ يجب التقليد الأعلم في مسألة جواز وعدم جواز البقاء على تقليد الميّت ، ولا يكفي تقليد غير الأعلم فيها.

٢ ـ في المسائل التي لم يكن للميّت فتوى فيها أيام حياته ، وكذا في المسائل المستحدثة المستجدّة ، يجب أن يقلّد فيها المجتهد الحيّ الأعلم.

والحمد لله ربّ العالمين

١٦٨



الدّرس الثّالث والعشرون

مسائل التقليد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

س : كيف نعرف المجتهد أو الأعلم ؟

ج : يعرف المجتهد والأعلم بأحد الطرق والوسائل التالية :

١ ـ بالاختبار والوجدان ، وهذا لا يمكن إلاّ لمن كان فاضلاً قضى شطراً من عمره في دراسة الفقه والاُصول حتّى صار من أهل الخبرة.

٢ ـ بالشهرة المفيدة للعلم ، أي أن يشتهر في الحوزات العلميّة أو بعضها ـ أي بين أهل العلم والعلماء ـ ، أنّه مجتهد أو أعلم ، بحيث يكون مفيداً للعلم واليقين.

٣ ـ قيام البيّنة ، أي شهادة عدلين ، أي عادلين ، من أهل الخبرة ، بشرط أن لا تعارضها شهادة عدلين آخرين على

١٦٩

خلافهما ، كأن يقولا : إنّه ليس بمجتهد أو ليس هو الأعلم.

ملاحظة :

١ ـ يجب على المكلّف لكي يعرف المجتهد الأعلم أن يفحص ويسأل أهل الخبرة عنه.

٢ ـ إذا تساوى اثنان من المجتهدين أو أكثر في الأعلمية ـ كما لو اختلف أهل الخبرة فيما بينهم ، فمنهم من قال : هذا أعلم ، ومنهم من قال : ذاك أعلم ، ومنهم من قال : فلان أعلم ـ ، بحيث انحصرت شبهة الأعلميّة فيهم ، أي احتملنا أن يكون كلّ واحدٍ منهم أعلم ، لو صار الأمر هكذا تخيّر المقلِّد في تقليد أيّ منهم ، كما أنّه يمكنه التبعيض.

س : ما هو التبعيض ؟

ج : التبعيض هو أن يقلّد هذا في جملة من الأحكام ، ويقلّد ذاك في جملة اُخرى منها ، مثلاً يقلّد أحدهما في أحكام العبادات ، ويقلّد الآخر في أحكام المعاملات.

س : ما هي العبادات ، وما هي المعاملات ؟

ج : إعلم أنّ كلّ رسالة عمليّة تتألّف من قسمين من الأحكام :

الأوّل ـ العبادات وأحكامها ، أو أحكام العبادات.

١٧٠

الثاني ـ المعاملات وأحكامها ، أو أحكام المعاملات.

س : ما معنى العبادات ، وكم عددها ؟

ج : الاُمور العبادية هي الاُمور التي يحتاج في مقام الإتيان بها إلى قصد التقرّب ، وهي تنقسم إلى قسمين : واجبات ومستحبّات : كالصلاة ، والصيام ، والحجّ ، وسائر فروع الدين التي تقدّمت ، وهي جميعاً عشرة ، وفي قبالها اُمور تسمّى بالتوصّليات كغسل اليد المتنجّسة وغسل الثوب المتنجّس للصلاة ممّا لا تحتاج في صحّتها إلى قصد القربة.

س : ما هي المعاملات ، وكم عددها ؟

ج : المعاملات جمع المعاملة ، وهي الأفعال الكثيرة التي تصدر من الناس يوميّاً في حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم المدنيّة ، وهي كثيرة جدّاً ، نذكر بعضها على نحو التمثيل لا الحصر ، كالبيع والشراء والنكاح والسفر والإجارة والقرض والتعليم والتعلّم والقضاء والصيد والذباحة والحدود والديات وما أشبه.

س : ما الفرق بين العبادات والمعاملات ؟

ج : أوّلاً : في صحّة العبادة يشترط أن يأتي العبد بالفعل متقرِّباً به إلى الله تعالى ، فيشترط في صحّتها قصد القربة ونيّة

١٧١

التقرّب إلى الله تعالى.

وأمّا في صحّة المعاملات فلا يشترط قصد القربة ، أمّا التعبّدي فمثلاً لو صلّى من غير أن يقصد القربة والتقرّب إلى الله تعالى بطلت صلاته ؛ لأنّ قصد القربة ونيّتها من أركان كلّ عمل عبادي ، كالصلاة فإنّها عبادة ، فالنيّة ركن من أركانها تبطل الصلاة بتركها سهواً أو عمداً ، وأمّا التوصُّليات فإنّها تصحّ من غير قصد القربة ، فقصد القربة ليس من أركانها ، مثلاً لو غسَّل يده المتنجّسة أو ثوبه المتنجّس بحيث اُزيلت عين النجاسة في النهر ، طهرت يده أو الثوب ، وإن لم ينو التطهير أصلاً ، فضلاً عن نيّة القربة. نعم ، في المعاملات التي تعدّ من العقود أو الايقاعات ـ وسيأتي البحث عنها إن شاء الله تعالى في محلّه ـ مجرّد قصد الفعل شرط في صحّتها ، ولا يكفي الإتيان بها من غير قصد إلى الفعل أصلاً ، نعم لا يشترط في صحّتها قصد التقرّب إلى الله تعالى.

فالأعمال على ثلاثة أقسام :

القسم الأوّل : ما لا يصحّ إلاّ أن يؤتي به بقصد القربة إلى الله تعالى بأن يقصد الفعل أوّلاً ويقصد التقرّب به إلى الله تعالى ثانياً ، كالصلاة وبقيّة فروع الدين من الواجبات

١٧٢

والمستحبّات ، وهي العبادات.

القسم الثاني : ما لا يصحّ إلاّ بالقصد إلى الفعل ونيّته مع إجراء الصيغة الخاصّة بها ؛ لأنّها عقود أو إيقاعات ، والعقود تتبع القصود ، ولا يحتاج إلى أن يقصد القربة إلى الله تعالى ، كالبيع والزواج ، فالبائع يجب أن يقصد البيع في قوله : بعت أو في فعله ، وإلاّ لم يتحقّق البيع ، فإذا قال : بعتك هذا بهذا ولم يقصد البيع أو مستلزمات البيع لم يقع البيع ، أو مثلاً باع وهو غافل أو نائم أو مغمى عليه بحيث لا يمكن وقوع قصد البيع منه ، فإنّ هذا البيع لا يقع أيضاً ، وتسمّى بالمعاملات.

القسم الثالث ـ ما لا تقف صحّته على قصدٍ أصلاً ، ولا يحتاج في صحّته لا إلى قصد الإتيان بالفعل ولا قصد القربة ، بل يصحّ من المكلَّف كيفما أتى به ، كتطهير اليد ، أو تطهير المسجد وما شابه ذلك ، وتمسّى التوصُّليّات.

ملاحظة :

١ ـ إعلم أنّ الإنسان لا يستحقّ الثواب على شيء إلاّ إذا أتى به بنيّة التقرّب إلى الله تعالى ، وخالصاً لوجهه الكريم ، فجميع الأعمال ـ من الأقسام الثلاثة المتقدّمة كلّها ـ يمكن أن ينوي فيها

١٧٣

العبد التقرّب إلى الله تعالى ليستحقّ عليه الأجر والثواب ، حتّى في المباحات كشرب الماء والنوم وغيرهما إذا قصد بهما عنواناً عبادياً محبوباً للمولى كالتقوّي على العبادة مثلاً ، فإذا نوى الإتيان بها بقصد القربة للتقوّي على العبادة والطاعة أو للتقوّي على دفع الباطل أو الوسوسة النفسانية والشيطانية وما شابه ذلك ، فهو يستحقّ الأجر والثواب من الله تبارك وتعالى.

٢ ـ قصد القربة واستحقاق الثواب لا يتنافى مع أخذ الاُجرة على العمل ، فمثلاً لو أخذ المال على تطهير المسجد أو حفظه وحراسته أو على سائر الأفعال ، ونواها قربة إلى الله تعالى لاستحقّ الأجر والثواب إن لم يكن الداعي من عمله هو الأجر الدنيوي بحيث يترك الفعل إن منعوا عنه الأجر الدنيوي.

والحمد لله ربّ العالمين

١٧٤



الدّرس الرّابع والعشرون

أحكام العبادات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثانياً ـ أي الفرق الثاني الذي بين العبادات والمعاملات هو أنّ العبادة لكونها مشروطة بقصد القربة فإنّه يجب أن يكون فيها جهة رجحان ، ووجه يرجّح إتيانها على تركها ، وهذا الرجحان ذاتيٌّ ، كالنذر مثلاً ، فإنّه ينعقد شرعاً بقولك : « لله عليَّ كذا وكذا » ، إن لم يكن مشروطاً ، أو بقولك : « لله تعالى عليَّ كذا وكذا ، إن أعطاني الله ولداً ذكراً » مثلاً ، وهذا نذر مشروط ـ وسوف يأتي النذر بتفاصيله في محلّه إن شاء الله تعالى ، وكيف كان فإنّ النذر لا ينعقد ولا يصحّ ولا يجب الوفاء به إلاّ إذا كان له وجه من الرجحان على تركه ، مثلاً كأن يقول : « لله تعالى عليَّ أن أترك الفعل القبيح مثل القهقهة والصّراخ ، أو الفعل المضرّ كالتدخين ،

١٧٥

أو الحرام كالكذب والغيبة ، فإنّ نذره شرعي إذا تحقّق شرطه وجب الوفاء به ـ إن كان مشروطاً ـ ، وإلاّ وجب الوفاء به مطلقاً.

وأمّا لو نذر الإتيان بفعل قبيح أو مضرّ أو حرام فإنّ نذره لا ينعقد ولا يجب الوفاء به وإن تحقّق شرطه ـ في النذر المشروط ـ ، وهكذا حكم اليمين والعهد وغيرهما من الأفعال العباديّة.

س : ما معنى قصد القربة ، وكيف يتمّ ؟

ج : قصد القربة معناه أن يكون العمل الذي يأتي به خالصاً لوجه الله تعالى ، فيأتي بالصلاة ـ مثلاً ـ قربة إلى الله تعالى ، أي لكي يتقرّب بها إليه تعالى ، وهذا لا ينافي ـ كما ذكرنا ـ أخذ الاُجرة على العمل ، بأن يأخذ الاُجرة إن اُعطي ، ولكن لا يكون الدافع والمحرّك والباعث له نحو الفعل هي الاُجرة والمال أو التقرّب إلى الناس ، بل يأتي به خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى ، بل لا يجوز له أن يشرك مع الله تعالى أحداً في عمله ، كأن يأتي بالصلاة مثلاً قربة إلى الله تعالى ، ولكي يمدحه الناس ، وإن أتى بها هكذا ، بطلت صلاته.

س : هل التقليد عبادة ؟

ج : ليس التقليد عملاً عبادياً بذاته ، أي ليس عبادة قد شرّعها

١٧٦

الله تعالى كالصلاة ونظائرها ، ولمّا لم يكن عبادة في ذاته فلا تتوقّف صحّته على قصد القربة ، ويكفي أن يقلِّد وإن لم يكن لوجه الله تعالى. نعم ، لو نوى وقَصَدَ التقرّب به إلى الله تعالى باعتبار الإتيان بالعمل العباديّ صحيحاً قد يحصل على الأجر والثواب ، بل لعلّه يستحقّه.

ملاحظة :

١ ـ هناك فرق بين معنى العادة والعبادة ومفهومهما ، بكون العادة في الخير أو العادة الحسنة عبارة عمّا يصدر من الإنسان من أفعال محبوبة عند الله تعالى لا يريد بها وجه الله تعالى والتقرّب إلى ذاته المقدّسة ، بل يأتي بها كثيراً واعتاد عليها ، وأمّا العبادة فهي تلك الأعمال التي اعتاد الإتيان بها قاصداً بها وجه الله تعالى ، أو قل إنّ العبادة هي تلك الأعمال التي فيها مطلوبيّة ورجحان ذاتيّين بقصد التقرّب إلى الله تعالى ، وأمّا عادة الخير فنفس تلك الأفعال مع خلوّها من قصد القربة إليه تعالى.

ويمكن جعل العادة الحسنة عبادة بكلّ سهولة ويُسر ، فبإضافة قصد القربة إليها ، تصير العادات الحسنة عبادات ، ويثاب عليها فاعلها بعد أن كان يأتي بها عبثاً لا ثواب فيها ، وهي عبث ،

١٧٧

وإن كان يحصل من خلالها على منافع دنيويّة كبيرة ، وخسارة لا تعوّض ، إلاّ صارت عبادات واستحقّ فاعلها الأجر والثواب الاُخرويّين ؛ إذ كلّ منفعة دنيويّة مهما عظمت لا تقاس بمنفعة اُخروية صغيرة جزئيّة فكيف بالأجر العظيم ، وكلّ منفعة دنيويّة خالية من المنفعة الاُخروية ـ الأجر والثواب ـ فهي خسارة بالغاً ما بلغت.

س : ما معنى الصحّة والقبول ، وما الفرق بينهما ؟

ج : إعلم أنّ أعمال الإنسان وأفعاله ذوات جهتين ، جهة صحّة العمل ، وجهة قبول العمل ، أمّا جهة صحّة العمل فهي الجهة والكيفيّة الخاصّة التي إذا أتى بالفعل على نحوها سقط عنه التكليف ولا يعاقب على تركه ؛ لأنّه لم يتركه ، بل أتى به مطابقاً لشروط الصحّة فقط ، وستأتي تلك الشروط في محلِّها إن شاء الله تعالى ، وهي مذكورة في جميع الرسائل العمليّة.

وأمّا جهة قبول العمل فهي الجهة والكيفيّة التي إذا أتى بالفعل على طبقها قُبِلَ منه الفعل ، وإذا قُبل منه الفعل استحقّ الأجر والثواب.

فالعمل قد يكون صحيحاً إذا جيء به على طبق الأحكام

١٧٨

والموازين الفقهية ، ولكن لا يلزم من صحّة العمل أن يكون مقبولاً عند الله تعالى ، فلا يستلزم استحقاق الأجر والثواب ؛ إذ القبول مشروط باُمور أحدها الصحّة.

ومن هنا يعلم أنّ النسبة بين القبول والصحّة ليست العموم والخصوص من وجه ـ كما ظنّ بعض القوم ، بل أكثرهم ـ وإنّما النسبة بينهما العموم المطلق ؛ إذ كلّ مقبول صحيح وبعض الصحيح مقبول.

س : ما هي شرائط الصحّة ، وما هي شرائط القبول ؟

ج : شرائط الصحّة أن يأتي بالعمل على النحو الذي ذكره مرجع التقليد في رسالته العمليّة ، فلا يترك جزءاً واجباً أو شرطاً أو ركناً وهلّمّ جرّاً ، وأمّا شرائط قبول العمل فهي أوّلاً : صحّة العمل على النحو المذكور في الرسائل العمليّة من قصد القربة ، وحسن الاعتقاد بولاية محمّد وآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأجزاء والشرائط.

وثانياً : التوجُّه القلبي والحضور الذهني إلى الله تعالى أثناء الصلاة وسائر العبادات ، والالتفات فيها إلى ما يقول وما يصنع ، ولهذا يُقبل من عمل الإنسان بمقدار ما توجّه والتفت إليه ، ولا يُقبل منه ما أتى به مشغول العقل والذِّهن بغير الله تعالى ،

١٧٩

ساهي القلب عمّا يقول أو يفعل ، كما أنّ لمستوى معرفة الإنسان بالله سبحانه وتعالى ومستوى إدراكه لحقيقة ما يقول ويفعل دخلاً في مرتبة القبول والأجر والثواب الذي يستحقّه العبد.

س : ما هي الثمرة العمليّة التي تترتّب على الصحّة والقبول ؟

ج : فأمّا الصحّة فيترتّب عليها سقوط التكليف عن ذمّة العبد ، وعدم استحقاق العقوبة من الله تعالى.

وأمّا القبول فتترتّب عليه آثار كثيرة في الدنيا منها استحقاق استجابة الدعاء ، وإصلاح اُمور الدنيا ، والتوفيق في الاُمور المعنوية ، والنجاة من الأمراض والعلل النفسانية ، والتخفيف من سكرات الموت وحال الاحتضار.

وآثاره الاُخرويّة الفوز بالأجر والثواب ، وقرب المنزلة من الله تعالى في الجنّة التي عرضها السماوات والأرض اُعدّت للمتّقين ، وهو الفوز الكبير ، قال تعالى : ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) (١).

وقد فسّروا التقوى والمتّقين في قوله تعالى : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ

__________________

(١) آل عمران : ١٨٥.

١٨٠