كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-11-6
الصفحات: ٢١٦
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



الدّرس السّادس عشر

المكلّف وبقيّة شرائط التكليف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ثانياً ـ العقل ، ثاني شرائط التكليف : العقل ، أي لزوم كون الإنسان عاقلاً ، وإلاّ فلا تكليف على المجنون الدائم الجنون ، ولا يعدّ مكلَّفاً ، لأنّ العقل هو الجوهرة التي بها يستحقّ الإنسان التكريم الإلٰهي بالتكليف ، وعليها تتوقّف حقيقة العبوديّة ، ولهذا قيل : « أخذ ما وهب ، سقط ما وجب ».

س : هناك البعض ممّن يطرؤ عليه الجنون أحياناً ، ويسمّى جنوناً أدواريّاً ، أو لا يكون مجنوناً وإنّما في عقله شيء من القصور ، أي نقص في عقله ، ويسمّى ناقص العقل ، فما هو تكليفهم ؟

ج : أمّا المجنون الأدواري فحكمه أنّه في غير حال الجنون

١٢١

ـ أي عند تعقّله ـ حاله حال سائر المكلّفين ، وأمّا في حال طروّ الجنون عليه فإنّما يتصوّر بوجهين : الأوّل ـ أن يكون جنونه الطارئ يحدث له من أوّل وقت التكليف بالواجب إلى آخر وقته ، كأن يحدث له الجنون من قبل دخول وقت صلاة الظهرين إلى دخول الليل ، فإنّ صلاة الظهرين تسقطان عنه ، أو من أوّل شهر رمضان إلى آخره ، فإنّ صيام الشهر يسقط عنه ، أو من قبل طلوع الفجر الصادق حتّى دخول الليل ، فإنّ صوم ذلك اليوم يسقط عنه ، أو من الوقت بحيث يستوعب الفترة التي يمكن بها إدراك ولو أقلّ الواجب أو الوقت الاضطراري للواجب ، كما لو طرأ عليه الجنون من التاسع من ذي الحجّة بحيث لم يقدر على الوقوف الاضطراري بالمشعر الحرام ، وفاته إدراك هذا الوقوف ، فإنّ الواجب يسقط عنه. نعم في هذه الصورة الأخيرة يحتاج إلى استطاعة اُخرى ليتوجّه إليه التكليف بالحجّ ، وقس على هذه الصور مشابهاتها ، وفي جميع هذه الصور لا يجب عليه القضاء أصلاً.

الثاني : أن لا يكون جنونه مستوعباً للوقت كلّه ، بل وقع في جزء من الوقت ، كأن يحدث بعد زوال الشمس مثلاً بمقدار إتيان

١٢٢

ولو ركعة واحدة واستمرّ جنونه إلى المغرب ، فإنّ قضاء صلاة الظهر يجب عليه ، أو أفاق من جنونه قبل خروج الوقت بمقدار ركعة واحدة من آخر الوقت ، فإنّ صلاة العصر تجب عليه ، ولو قضاءً ، أو أنّه أدرك دخول الفجر الصادق من يوم شهر رمضان ، ثمّ طرأ عليه الجنون إلى الليل ، فإنّه يكون مكلَّفاً بصوم ذلك اليوم ولو قضاءً فيما بعد ، أو أفاق قبل دخول الليل وجب عليه الإمساك إن لم يأتِ بمفطر في ذلك اليوم ، وينوي الصيام ، وهو لا يجزيه فيجب عليه القضاء ، وأمّا إذا أفاق قبل الظهر ولم يأتِ بمفطر قبله نوى وصحّ صومه وأجزأه ذلك ، أو أنّه استفاق قبل انتهاء الوقوف الاضطراري بالمشعر الحرام بحيث أمكنه إدراك ذلك الوقوف ، وجب عليه الحجّ وصحّ منه ويعمل بوظيفته المبيّنة في كتاب الحجّ ، وأجزاءه ذلك الجّ ، وإذا قصّر لم يسقط عنه وجوب الحجّ بل تعلّق في ذمّته ووجب عليه في العام القادم بأيّ وجهٍ كان من غير حاجة إلى استطاعة جديدة ، وحكم المغمى عليه حكم المجنون الأدواري على نحو ما تقدّم.

وأمّا ناقص العقل أو ضعيفه إذا كان بحيث يدرك معنى التكليف ، ومعنى الحلال والحرام ، ويميّزها ، فحكمه ان يتمّ تعليمه

١٢٣

ويؤمر بها أو يُنهى عن المحرّمات ، وتجب عليه تلك التكاليف وتصحّ منه بالوجه الذي يطيق ، ويسعه الإتيان به.

ثالثاً : القدرة ، وهي شرط في التكاليف المشروطة بالقدرة ، كالحجّ والصوم والجهاد وغيرها ، وهي ما عدا الصلاة ، فإنّها غير مشروطة بها ؛ لأنّها مشروطة بالبلوغ والعقل لا غير.

ملاحظة : حقوق الناس مضمونة لا تسقط بالصغر أو الجنون أو سلب الاختيار ، فلو سرق الطفل أو المجنون أو المكرَه ، أو أتلف شيئاً لأحد ، فالضمان على وليّه إن كان طفلاً أو مجنوناً إن علم الوليّ ، فإن جَهِل الولي أو علم ولم يضمن ـ أي لم يؤدِّ الحقّ ـ في حينه ، بقي الضمان ، فإذا كبر الطفل وجب عليه الضمان ، وإذا استفاق المجنون وجب عليه أيضاً ، وإلاّ بقي على وليّه ، وينتقل من وليٍّ إلى آخر حتّى يدفعه أحدهم ، وأمّا المكرَه فإنّه يضمن بمجرّد ارتفاع الإكراه عنه وعودة الاختيار إليه ، ولعلّ الضمان على المكرِه فحسب.

س : ما هي أنواع التكليف ؟

ج : التكاليف على ثلاثة أنواع :

النوع الأوّل : التكاليف الاعتقادية ـ اُصول الدين ـ وقد أفردنا

١٢٤

للبحث عنها الحلقة الاُولى من هذه السلسلة.

النوع الثاني : التكاليف العمليّة ـ وهي الأحكام والفروع ـ ، وهي مورد بحثنا هنا وفي بعض الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى.

النوع الثالث : الكمالات المعنوية من الأخلاق والفضائل الخلقية ، والسجايا النفسانية ، وستأتي في الحلقة الأخيرة إن شاء الله تعالى.

والحمد لله ربّ العالمين

١٢٥
١٢٦



الدّرس السّابع عشر

التكاليف والمكلّفون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

س : من هم المكلَّفون ؟ وهل تتوجّه التكاليف العمليّة الإلٰهيّة إلى غير المسلمين ؟ أم أنّها مختصّة بهم ؟ وعلى فرض عدم الاختصاص بالمسلمين فهل تصحّ أو تقبل منهم ؟ ولماذا ؟

ج : الظاهر من الأدلّة توجّه التكاليف إلى الجنّ والإنس ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) ، وعدم اختصاصها بالمسلمين منهم أيضاً ، وهذا مذهب المشهور من فقهائنا العظام وعلمائنا الأعلام ومختارهم ، لكنّها لا تصحّ من غير المسلمين ؛ لأنّ من شرائط الصحّة ـ أي صحّة الأعمال العباديّة ـ

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥٦.

١٢٧

هو الإسلام والإيمان ، وقصد القربة ، وقصد القربة لا يتمشّى مع الشرك ، ولا يتأتّى من غير المسلم ، وأمّا القبول فهو متوقّف على صحّة العمل أوّلاً ، وعلى التقوى ثانياً لقوله تعالى : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (١) ، وقوله تعالى : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ) (٢) ، والتقوى هو الإسلام والإيمان.

س : ما هي التكاليف العمليّة ـ فروع الدين ـ في الإسلام ؟

ج : هي كثيرة ، أهمّها واُصولها عشرة :

١ ـ الصلاة ، وهي العبادة الواجبة في كلّ زمان ومكان على البالغ العاقل ، وفي جميع الظروف ، لا تسقط عنه في حال من الأحوال ؛ لأنّها ارتباط دائم وتعلّق مستمرّ للعبد بمولاه الخالق الكريم والربّ الرحيم ، وهي حاجة دائمة للإنسان في حركته الفرديّة والاجتماعية نحو الغنيّ القويّ المطلق بالذات ، من الفقير الضعيف المقيّد بالذات.

٢ ـ الصوم : إذ سعادة الإنسان وفوزه في الدراين رهينة تقواه ، والصوم تمرين وممارسة لاكتساب التقوى ، بل هو التقوى بعينه ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٢٧.

(٢) سورة آل عمران : ٨٥.

١٢٨

لكنّه تمرين لجعله ملكة راسخة في نفس صاحبه ، ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي : « الصوم لي وأنا أجزي به » (١) أو « عليه » ، أي جزاء الصائم عندي ، والصحيح أن يُقرأ « الصوم لي وأنا اُجزى به » (٢) ، أو « عليه » ، أي جزاء الصوم لذّة معرفة الله ومحبّة الله ورضى الله والتودّد إلى الله ، والتقرّب من الله ، والتوكّل على الله ، والاستعانة بالله ، والرضا بقضاء الله وقدره ، والإخلاص لله ، وتوحيد الله ، والاستغناء بالله ، واللجوء إلى الله ، والاستعاذة بالله ، وأن لا يرجونّ سوى الله تبارك وتعالى ، ليشعر بحقيقة قوله تعالى : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ ) (٣) ويدركها بكلّ وجوده ؛ لأنّه رياضة روحانية وجهاد نفساني ـ جهاد أكبر ـ يُقوّي الإرادة ويزيد في القدرة على مخالفة الشيطان ومقارعة الأهواء النفسانيّة ، وطاعة الرحمن جلّت قدرته ، هذا في الجانب الفردي ، وأمّا في الجانب الاجتماعي فهو ينظّم الحياة الاجتماعية ، ويُحسّن حركة المجتمع ، ويليّن النفوس

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤٠٠ : ١٠. الكافي ٦٣ : ٤. من لا يحضره الفقيه ٧٥ : ٢.

(٢) مشرق الشمسين ـ البهائي : ٣٦٩. الحدائق ٨ : ١٣. الرياض ٣٢٥ : ١.

(٣) سورة الحديد : ٣.

١٢٩

ويهذّبها كي تستعدّ لتلقّي الأحكام الإلٰهيّة ، واجتناب المعصية ، وعدم الخروج أو التحايل على القانون ، ويدفعها إلى الرأفة والرحمة وصلة الأرحام وإعانة الفقراء والمساكين والرأفة بالمحتاجين وقضاء حوائجهم وعمل الخير ، وقلّة الجرائم ، لتسود المجتمع روح التعاون والاخوّة والاحساس بالمسؤولية ونبذ الشرّ ، وبذلك تتحقّق المدنيّة الإسلامية ، على طريق المجتمع المثالي والمدينة الفاضلة.

٣ و ٤ ـ الخمس والزكاة ، وهما عبارة عن إخراج سهم معيّن على ما سنبيّنه في محلّه إن شاء الله تعالى ، قسم منه سهم الإمام عليه‌السلام ليقوم بأعباء الإمامة وتبليغ الرسالة ، وقسم منه سهم السادة من بني هاشم إكراماً لهم من الله تبارك وتعالى ، وقسم منه يدفعه إلى الإمام عليه‌السلام أو نائبه ليصرفه في وجهه ومصارفه التي ستأتي إن شاء الله تعالى ، من رفع حوائج المساكين والفقراء وذوي الحاجة في المجتمع الإسلامي ، ونشر الإسلام وإحياء تراثه ، وسدّ حوائج بيت المال ، والقيام بشؤون الدولة الإسلامية ، والذبّ عن بيضة الإسلام ، والتصدّي لأعدائه.

٥ ـ الحجّ ، هو الاجتماع الشعبي والتجمّع الجماهيري العظيم

١٣٠

الذي يمثّل إسلاميّة وملتقى المسلمين في كلّ عام صفّاً واحداً يتعارفون خلاله ويمارسون اُسلوب التعايش السلمي رغم ما بينهم من بُعد المسافة المكانيّة واختلاف في الآراء والأفكار وحتّى المذاهب وبعض المعتقدات ، تجمعهم وحدة المعبود ، وحدة البيت الذي يطوفون حوله ، ووحدة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووحدة الغاية والمصير ، عبادة تجمع مجمل العبادات ، وتتألّف من جملة منها ، فيها الصلاة ، وفيها الغُسل ، وفيها الوضوء ، وفيها الإمساك ، وفيها الصدقة ، وفيها الجهاد الأكبر ، وفيها صورة من الجهاد الأصغر ، وفيها صور ومشاهد من يوم القيامة والحشر والنشر ، حيث يخرج الحجّاج وما عليهم من الثياب والستر إلاّ الأكفان البيضاء ، ففي الحجّ منافع دنيويّة للمسلمين ومنافع اُخروية وترويض نفس وتزكية ، وعزوف عن الدُّنيا وزينتها ، وإعراض عن الأهل والأولاد ، وخروج من الديار والأوطان ، توكّل على الله تعالى ، وانقطاع تامّ إليه ، وهو سفر ورحلة من الخلق إلى الخالق ، ومن عالم الكثرات الماديّة إلى عالم الوحدة والبساطة الحقيقيّة ، وحركة تكامليّة نحو الكمال المطلق بالعبوديّة المطلقة وحقيقة العبوديّة ، والحاصل أنّه عبارة عن تطبيق عملي للدروس النظريّة التي نادى

١٣١

بها ودعا الإسلام ونطقت به الشريعة المحمّدية السمحاء ؛ لأنّه ملتقى خير زمانٍ في أفضل مكان لتجلّي اُصول الدين ، وفروعه ومكارم الأخلاق ومحاسنه والآداب الإسلامية ، وامتزاج بعضها ببعض.

٦ ـ الجهاد ، وهو أعمّ من الدفاع والتصدّي ، والهجوم والقتال ضدّ الكفّار ومن حذى حذوهم وسار في ركبهم : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ ) (١) ، والفتنة هي الكفر ، والدفاع أو القتال ـ الهجوم ـ كلّ واحد منهما قد يكون حرباً حارّة أي قتالاً بالأجساد وحرباً أو دفاعاً بالأسلحة المادّيّة ، وقد تكون حرباً باردة ـ كما يطلق عليها اليوم ـ ، أي بوسائل الإعلام من الأسلحة العقليّة والبراهين ، وبالقلم واللسان والجدال بالتي هي أحسن وبالحوار ومقارعة الحجّة بالحجّة ودحض الحجج الباطلة ، فالجهاد إمّا بالأبدان والأرواح والأسلحة المادّيّة ، أو بالعلم والقلم البيان والإعلام والأسلحة المعنوية ، والنوعان مطلوبان بالوجوب كفايةً ، والإسلام كسائر الأديان والشرائع السماوية

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٣.

١٣٢

لا يحبّذ النوع الأوّل من الجهاد ولا يبادر إليه إلاّ إذا اضطرّ إلى ذلك ولم يبق سبيل للهداية أو دفع شرّ العدوّ سواه ، وهو حينئذٍ لا يلجأ إلى الحرب والقتال إلاّ مع المعاند الذي نصب العداء رغم إتمام الحجّة البرهان عليه ، ولا يرضخ للحقّ ، أو يحول دون بلوغ الحقّ إلى الناس ؛ إذ الإسلام دين العقل والفطرة يبتني على الفضيلة ، ويهدف إلى تطهير الأرض من الجاهلية والشرك والظلم والرذيلة بجميع ألوانها وأشكالها ، وما كانت هذه غايته لا يحتاج إلى القتل والقتال ، بل يهدف إلى قطع دابر هذه الحروب ، بالإضافة إلى كونه غنيّاً بالحجج والبراهين والأدلّة العقليّة الكفيلة بترسيخ دعائمه وإقناع الخصوم والمخالفين ، وحينئذٍ لا يبقى مع المعاند المحارب المكابر سوى استعمال القوّة الماديّة التي لا تنفع مع أهل المادّة سواها على طريقة المقولة الشهيرة : « آخر العلاج الكيّ » ، وكلّ من ادّعى خلاف ذلك فهو امّا جاهل غافل فيجب تعليمه وتوضيح الحقيقة له ، وإمّا معاند فليُلَقّمْ حجراً ولْيُحثَى في وجهه التراب.

والحمد لله ربّ العالمين

١٣٣
١٣٤



الدّرس الثّامن عشر

أقسام التكليف وأحكام المكلّفين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

س : جاء في الدرس السابق عن الجهاد أنّ الإسلام لا ينتشر ولا يُبلّغ إلاّ بالعلم والبرهان ، وإنّما يلجأ إلى استعمال القوّة دفعاً لأخطار الأعداء وتصدّياً لمحاولاتهم في النيل من الدين وأهله ، أو لرفع الموانع التي يكيدها ويخلقها المعاندون في طريقه بعد إتمام الحجّة عليهم ، لكن الإشكال الذي يرد هنا ، أنّنا نجد كتب التأريخ والعقيدة مليئة بما يفيد أنّ الإسلام قد انتشر بغير ذلك ، وأنّ كثيراً من المعارك والحروب والفتوحات الإسلاميّة التي انتشر بها الإسلام لم يسبقها التبليغ الكامل وإتمام الحجّة ، بل جاء بعضها من دوافع عدائيّة وانتقامات عرقيّة أو عنصرية أو دينيّة أو طائفيّة أو منطلقات سياسيّة وحزبيّة وحتّى شخصيّة ،

١٣٥

أضف إلى ذلك الخبر المتواتر المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما قام ولا استقام ديني إلاّ بشيئين : مال خديجة ، وسيف عليّ بن أبي طالب » (١) وهو نصّ صريح يخالف مزاعمكم ، فما الجواب ؟

ج : أوّلاً : قلنا هذا شأن الإسلام ، ولا يصحّ تحميل الإسلام أخطاء بعض المسلمين أو المنتسبين إليه.

ثانياً : كلُّ ما وقع من الأخطاء وانتهى باسم الإسلام بل انعكست سلبيّانه على الإسلام والمسلمين لم تخلُ من إحدى هذه الأسباب والعوامل :

١ ـ عدم مراعاتهم لأوامر المعصوم في فترة حكومتهم ـ عن عمد أو سهو ـ وهم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام والإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام ، حيث لم يتصدّ للحكومة معصوم سواهم.

٢ ـ عدم مراعاة الشؤون الإسلاميّة والأحكام الشرعيّة من الأوامر والنواهي ، إمّا جهلاً من الخلفاء والقادة والمسلمين بها ، أو تعمّداً منهم في مخالفتها.

__________________

(١) شجرة طوبى ٢ : ٢٣٣. تنقيح المقال ٣ : ٧٧ ، وقد ادّعى المرحوم المامقاني التواتر فيه.

١٣٦

٣ ـ غضب الخلافة وسلبها من أهلها ، أعني سلب الخلافة من أهل بيت العصمة والطهارة ، وتصدّي من ليس بأهل للخلافة ؛ لضعف إيمانه وعقيدته ، ولجهله بالأحكام والقوانين الإسلاميّة ، ولوهنه في القيام بأعباء الخلافة وإدارة الدولة الإسلامية ، وضعفه في تطبيق الشؤون والقوانين الإسلاميّة ، إذ فاقد الشيء لا يعطيه.

ثالثاً : لا نقبل هذه الدعاوى على إطلاقها وسعتها ؛ لأنّها من مزاعم الأعداء وقام بتهويلها وتعظيمها المستشرقون في كتبهم ، وإن كنّا نذعن بوقوعها ولا ننكر أيضاً كثرتها وسوء دواعيها وفساد دوافعها وعواملها ولا قبحها ؛ لأنّها أضرّت كثيراً بالدعوة الإسلامية ، وصارت مادّة لطعنات أعداء الإسلام ، وسبباً في تأخّر المسلمين.

وأمّا الخبر المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه إخبار عمّا وقع ، وعن الحقيقة ، لا إنشاء عمّا يجب أن يكون. وبعبارة أوضح : أمّا مال خديجة فإنّها قُدّمت في هذا الحديث لأنّها تقدّمت في الزمان ، حيث أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يترك طريقة ولا اُسلوباً للهداية إلاّ مارسها وعمل بها في مكّة المكّرمة لتبليغ الرسالة ونشر الدعوة الإسلامية متحمّلاً في سبيل ذلك أشدّ العذاب وأقساه من

١٣٧

المشركين ، ولم يألُ جهداً في سبيل الهداية بالطرق العقليّة والبرهانيّة والاستدلاليّة والوعظ والإرشاد ثمّ تجاوز ذلك حتّى توسّل بالمعجزة وأكثر من الإتيان بها طيلة ثلاث عشرة سنة ، ولم يغيّر مسلكه في ذلك قيد شعرة ، ولا عدل عن طريقته تلك قيد أنملة بعدما انتقل إلى المدينة المنوّرة وهاجر إليها واستقرّ فيها ، وحتّى بعد أن فتح الله له وعليه وأقام أوّل دولة إسلاميّة نموذجيّة ، وأوّل حكم عادل مثالي وخضعت له الرقات ، وذلّت له الأعناق ؛ إذ كانت سيرته العمليّة والنظريّة هي الدعوة والنصح والموعظة والإرشاد والجدال بالتي هي أحسن ، وإقامة الحجج والبراهين ، والاحتجاج بالمعاجز والكرامات ، من غير التجاء إلى قوّة اليد وضربة السيف ، بل ازداد تواضعاً ورأفةً ورحمةً وشفقةً كلّها ازداد قوّة وصولةً وحكماً وسلطةً ونفوذاً ، يكفيك ما صنعه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمشركي قريش وصناديد الكفر عندما أظفره الله تعالى بهم في فتح مكّة وهي آخر عام من حياته. غير أنّ اهل العناد والتضليل والإلحاد أبوا إلاّ أن يشهروا سيوف الشرك والإلحاد في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويستجمعوا قواهم وجنودهم ، فيهبّون لحربه والنيل منه ومن الشريعة الغرّاء ، لكي يئدوا صوت الحقّ في مهده ، وينكّسوا

١٣٨

رايته قبل أن يرفرف على قمم هذه المعمورة ، حتّى تعود الجاهلية الجهلاء ، وترجع للشيطان الكرّة بعد الفرّة ، وإذا كان في مكّة حينذاك لم ينفع الدينّ شيءٌ في ديموميّته وبقاءه كمال خديجة عليها‌السلام ، فإنّ ما فرضته الظروف بعد الهجرة وإقامة الدولة الإسلامية من إعلان المشركين الحربَ على الإسلام والمسلمين ، ثمّ أهل الكتاب ومن جرى في فلكهم ، ـ هذه الظروف ـ فرضت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المواجهة الصارمة والردّ بالمثل ، وحينئذٍ لم ينفع الإسلام شيءٌ في ديموميّة بقاءه واستمراريّته وحياته كسيف عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فالخبر المروي المذكور لا يعني سوى ما ذكرناه ، بل يؤكّد ما أكّدناه.

٧ و ٨ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهما الساقان والقدمان اللذان يعتمد عليها الدين ، لا شكّ أنّ القانون مهما كان عظيماً ومهما اُوتي من دقّة فإنّه لا يكون ضامناً للسعادة إلاّ بعد التطبيق ، ثمّ إنّ مجردّ التطبيق حدوثاً وآناً لا يكفي ، بل لا بدّ لتحقيق السعادة الدائمة من ديمومية التطبيق ودوام العمل ، ودوام الحال محال إلاّ بمداومة التذكير والتذكُّر والمواجهة والتصدّي ، وهي التي عبّر عنها الإسلام بالأمر بالمعروف والنهي

١٣٩

عن المنكر ، ذلك أنّ الإنسان طبع على النسيان واتّباع الهوى والشهوات ، وهي تصدّه عن العمل بالقانون ، فلا جرم من ردعه ونهيه عن المنكر إن أتى به ، أو أمره بالمعروف إن تركه وأعرض عنه ، بالنصح والتذكير إن نفعا ، وبالتهديد والتخويف إن لم ينفعا ، وأخيراً بقوّة القانون الذي خالفه واعتدى عليه ، وإلاّ بقي القانون حبراً على ورق.

٩ و ١٠ ـ التولّي لأولياء الله تعالى ، والتبرّي من أعدائهم ، وهما الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن ؛ إذ المؤمن في عروج دائم ، يهوى الصعود والطيران نحو الكمال ، وكلّ ما يأتي به من فرائض أو نوافل إنّما يريد بها نيل العُلى والمعالي ، لكنّها جميعاً لا تفي إلاّ بوجود الجناحين وهما التولّي والتبرّي في الشريعة ؛ إذ لا يقبل عمل إلاّ بهما ، فلا عروج إلاّ بهما ، ولهذا قال تعالى : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (١) ، وقدّم هنا التولّي لئلاّ يظنّ بعض السُّذَّج من الناس أن لا داعي ولا حاجة إلى التبرّي ، وإنّما المهمّ هو التولّي كما يزعم

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٩.

١٤٠