كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

محمد مهدي المؤمن

كيف نفهم الرسالة العمليّة - ج ٢

المؤلف:

محمد مهدي المؤمن


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-11-6
الصفحات: ٢١٦
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



الدّرس الثّالث عشر

معرفة التكاليف ـ ١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « حديث في حلال وحرام تأخذه من صادقٍ خَيْرٌ من الدنيا وما فيها من ذهبٍ أو فضّةٍ » (١).

أوّلاً : لأنّ الذهب والفضّة مادّيّة زائلة ، ومعرفة الحلال والحرام من الاُمور المعنوية الباقية ، والمعنى خير من المادة كما أنّ الباقي خير من الزائل.

ثانياً : الذهب والفضّة مال ، ومعرفة الحلال والحرام علم ، وقد قال أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام : « العلم خير من المال ، العلم يحفظك وأنت تحفظ المال » (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٧٠.

(٢) الخصال : ١٨٦. نهج البلاغة : باب المختار من حِكم

١٠١

ثالثاً : معرفة الحلال والحرام تجعلك في مأمنٍ من كسب الذهب والفضّة عن طريق الحرام ، وتُعينك على الكسب الحلال ، بل من دون المعرفة يستحيل الكسب الحل إلاّ نادراً من باب الصدفة ، وأمّا العكس فغير صحيح ؛ إذ طلب العلم والمعرفة لا يتوقّف على وجود الذهب والفضّة.

رابعاً : الفقر المادي لمن لا يملك الذهب والفضّة ليس عيباً عند العقلاء ، بينما الفقر المعنوي لمن هو جاهل بما يجب معرفته عيب ، بل قبيح عندهم.

خامساً : الغنى بالعلم أفضل عند العقلاء من الغنى بالمال.

سادساً : العلم والمعرفة سلاحان لكسب الذهب والفضّة بالقطع واليقين ، وأمّا الذهب والفضّة ليسا كذلك بالقطع واليقين.

سابعاً : معرفة الحلال والحرام مقدّمة للعمل والتطبيق ليفوز الإنسان بذهب دائم وفضّة خالصة لا تنفد ، ومن غير المعرفة لا يكون الكسب حلالاً ليتمكّن صاحبهما من صرفهما في سبيل الفوز بالنعيم الدائم الأبدي أو لا يعرف كيف يصرفهما في ذلك.

__________________

أمير المؤمنين عليه‌السلام ومواعظه ـ من كلام له عليه‌السلام لكميل بن زياد النخعي ، رقم ١٤٧.

١٠٢

ثامناً : الذهب والفضّة ينتقلان إلى الورثة ولا يأخذ صاحبهما منهما شيئاً إلى الآخرة إلاّ إذا كان أنفق شيئاً منها في سبيل الله تعالى ، وأمّا معرفة الحلال والحرام فإنّها ترافق الإنسان في قبره وتنفعه في وحشته ويوم القيامة.

تاسعاً : قال الشاعر ، وقد ورد في الديوان المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام :

ليس اليتيمُ مَنْ قد مات والده

إنّ اليتيمَ يتيمُ العلم والأدبِ

عاشراً : ولأنّ من لا يعرف الحلال والحرام يعاقب يوم القيامة على تركه للتعليم والمعرفة ، وأمّا من لا يملك الذهب والفضّة فإنّه لا يُحاسب على ذلك.

وقد مثّل الإمام عليه‌السلام بالفضّة والذهب لخير الدنيا ، واختار من جميع خيراتها مجرّد الذهب والفضّة لأنّهما أفضل ما في الدنيا كلّها ، وما من شيء أفضل منهما عند أهل الدنيا وطالبيها.

ثمّ إنّه عليه‌السلام اختار في هذا الخبر وفي الذي قبله الحلال والحرام من بين الأحكام الخمسة ؛ لأنّهما الأساس في الإسلام ، وبهما ينجو

١٠٣

العبد من العذاب ويفوز بالجنة ، وأمّا المستحبّ والمكروه فإنّ الإتيان بالمستحبّات ، وترك المكروهات ، ليس تكليفاً بالمعنى الخاصّ الذي مخالفته توجب استحقاق العقاب ؛ لأنّهما من كمال الدين وتكامل المسلم واستحقاقه درجات أرفع وأسمى ، نعم هي تكاليف بالمعنى الأعمّ لكن المعنى الأعمّ غير مراد لدى الإمام هنا ، فيكون الحلال حينئذٍ بمعنى الأعمّ من المباح والواجب ليشمل العبادات والمعاملات ، ويكون معنى الحديث : حديث في حلال وحرام ، أي معرفة المباح والحرام من المعاملات ، ومعرفة الواجب من العبادات والمعاملات خيرٌ من الدنيا وما فيها ... الخ.

والحاصل : أنّه إذا كان الحديث الواحد في حلالٍ واحد وحرام واحد يستحقّ كلّ هذا الأجر والثواب ليكون أفضل من الدنيا وما فيها من ذهب وفضّة فما حال من وقّف حياته معتكفاً على معرفة الحلال والحرام ؟! هذا حال من تعلّم فقط ولم يعمل بعد ، فكيف حال من تعلّم وعمل بعلمه أيضاً ؟!

وأمّا الأضرار المترتّبة على الجهل بالتكاليف الشرعية والأحكام الإلٰهيّة فهي كثيرة نذكرها باختصار :

أوّلاً : الوقوع في مآزق شرعية يصعب التخلّص منها ، مثلاً

١٠٤

لو جهل الإنسان أنّ الإفطار المتعمّد لليوم الواحد يوجب قضاء ذلك اليوم ، وكفّارته ستّون يوماً من الصيام أو إطعام ستّين مسكيناً أو كسوتهم ، أو جهل أنّ الإفطار المتعمّد على الحرام كفّارته الجمع بين صيام ستّين يوماً وإطعام ستّين مسكيناً وكسوتهم ، بالإضافة إلى قضاء ذلك اليوم ، هذا كلّه لليوم الواحد ، فإذا أمضى فترة من عمره على هذه الحال وقع في مأزق كبير قد يموت دون أن يوفّق لقضاء ما عليه من الصيام ، وهذه المشكلة قد تجري وتحدث له في جميع الفرائض لجهله بالأحكام ، وإذا به يجد نفسه في مأزق ولا ينتبه إلاّ بعد فترة طويلة من الجهالة والتخبّط ، مثلاً ينتبه بعد بلوغه الأربعين أو الخمسين أو أكثر بأنّه كان يغتسل خطئاً ، أو يتوضّأ خطئاً ، أو يصلّي خطئاً ، أو حجّه كان باطلاً ، أو جميع أعماله كانت باطلة وعليه إعادتها جميعاً ، أو أنّ كسبه كان حراماً ، وفي ذمّته أموال العشرات بل مئات من الناس ، وقد لا يعرف بعضهم ، أو لا اتّصال بينه وبينهم ، ولا يعرف لهم أثراً ، وما شابه ذلك من حقوق الله تبارك وتعالى ، أو حقوق الناس ممّا يصعب بل قد يستحيل أداؤها.

ثانياً : إيقاع الآخرين في المآزق الصعبة والمشكلات المعقّدة ،

١٠٥

مثلاً لو جهل الإنسان ـ لا سيّما المرأة ـ أحكام الرضاعة فإنّه سيقع في مشاكل ويوقع غيره في مشاكل ولو بعد ثلاثين أو أربعين سنة ، فيتزوّج الرجل ابنة عمّه وإذا بها اُخته في الرضاعة لا يجوز له نكاحها ، أو جهله بأحكام البيع أو القرض قد يوقعه في الكسب الحرام أو الربا الذي هو من أشدّ المحرّمات فيكون في صفّ المحاربين لله تعالى ؛ لأن ّ القرآن يقول عن آكلي الربا : ( فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ ) (١) ، وتكون النتيجة أنّه يأكل الحرام ويطعم أولاده وأهله من المال الحرام ومن الربا فيؤثّر في تربيتهم ويحول دون هدايتهم ، وقد يصبحون من المحاربين للدين كما هو الحال في كثير من المسلمين المعادين للشريعة الغرّاء ، كما أنّ الجهل بالأحكام قد ينتج عنه إبقاع الآخرين في مشاكل كثيرة من حيث يريد أو لا يريد ، وقد يتسبّب في جلب المشقّة للغير كما لو مات على جهله بالأحكام الشرعيّة ، فيتحمّل وريثه الابن الأكبر تبعات قضاء واجباته التي تركها أو كانت باطلة في حياته ، وهكذا الوفاء بما ذمّته من الحقوق المالية والمظالم.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٧٩.

١٠٦

ثالثاً : الإضرار بالنفس والغير ، مثلاً لو جهل بحرمة النكاح والمواقعة في الحيض ، فأتى زوجته فيها ، قد يؤدّي ذلك إلى انعقاد نطفة في الحيض ، فيكون الولد ظالماً قاسياً مريقاً للدماء ، ولو جهل حكم الزنا فقد يؤخذ وتثبت في حقّه فيستحقّ الحدّ ، وهو إضرار بالنفس ، وقد تنعقد منها نطفة فهو إضرار بمولود يولد من الزنا ؛ لأنّه يُحرم من الإرث في الدنيا ويعيش في عقدة اجتماعية لشذوذه الفطري والخَلقي بين الناس ، هذا بالإضافة إلى حرمانه من الإيمان والهداية ، بل من المعاصي ما يضرّ بالطبيعة والحياة كالزنا فإنّ لها آثاراً سلبيّة حتّى على الطبيعة ، فهي ظلم كبير لأنّها إضرار بالنفس وبالغير حتّى بالطبيعة والمجتمع وخرق للقوانين الطبيعية والأنظمة الاجتماعية والحقوق العامّة والخاصّة ، وهذا معنى قولهم عليهم‌السلام : « لا يزني الزاني وهو مؤمن » (١) ، ومعنى قوله عليه‌السلام : « أنّ العرش يهتزّ بفعل الزاني » ، ومن هنا تتضّح أهمّية معرفة الأحكام الشرعية.

رابعاً : الإنحراف والضلال ، روى بشير الدهّان ، قال : قال

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٦ : ١٤١.

١٠٧

أبو عبدالله عليه‌السلام : « لا خَيْرَ فيمن لا يتفقَّهُ من أصحابنا. يا بشير ، إنّ الرجل منكم إذا لم يَسْتَغْنِ بفقهه احتاج إليهم ، فإذا احتاج إليهم أدْخَلُوهُ في باب ضَلالتهم وهو لا يعلم » (١).

قل عليّ عليه‌السلام : « علّموا صبيانكم ما ينفعُهُمُ اللهُ به لا يغلبُ عليهمُ المُرجِئَةُ برأيها » (٢).

قال أبو عبدالله عليه‌السلام : « العاملُ على غيرِ بصيرةٍ كالسائر على غير الطريق ، ولا يزيده سرعة السير من الطريق إلاّ بُعداً » (٣).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ٢٢٠.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ١٧.

(٣) بحار الأنوار ١ : ٢٠٦.

١٠٨



الدّرس الرّابع عشر

معرفة التكاليف ـ ٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

خامساً : غضب الشارع المقدّس على من يعزف عن التعلّم ، ففي الحديث الشريف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اُفٍّ لِكُلِّ مسلمٍ لا يجعلُ في كُلِّ جمعةٍ يوماً يَتَفَقَّهُ فيهِ أَمْرَ دِينِهِ ويسْأَلَ عَن دينه » (١).

سادساً : استحقاق العقاب الدنيوي لمن لا يتعلّم أحكام دينه ، ففي الخبر.

قال أبو عبدالله وأبوجعفر عليهم‌السلام : « لو اُتِيتُ بشابٍّ من شباب الشيعة لا يتفقّه لأدَّبْتُهُ » (٢).

سابعاً : بطلان الأعمال في كثير من الحالات بل في أكثرها ،

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ١٧٦.

(٢) المصدر المتقدّم : ٢١٤.

١٠٩

بيان ذلك : أنّ الجاهل بالأحكام إن كان مقصّراً غافلاً غير ملتفت فأعماله صحيحة بشرطين :

١ ـ إذا كانت مطابقة للواقع ، أو كانت مطابقة لفتوى المجتهد الجامع للشرائط الذي يجب تقليده.

٢ ـ إذا كان يصحّ منه قصد القربة مع الغفلة ، في الأعمال العباديّة التي يشترط في صحّتها قصد القربة.

وإن كان مقصّراً ملتفتاً فإنّه يتصوّر بوجهين :

١ ـ فإمّا أن تكون أعماله مخالفةً للواقع فهي باطلة إلاّ في موردين فإنّها تصحّ على فتوى أغلب الفقهاء :

الأوّل : في الجهر والإخفات كأن يكون قد صلّى الظهرين مثلاً جهراً ، أو يكون قد صلّى الصبح أو المغربين مثلاً إحفاتاً ، فإنّها صحيحة في صورة الجهل بالحكم ، لكن إذا كان متمكّناً من الإتيان بها بقصد القربة.

الثاني : إذا كان جاهلاً بوجوب القصر مثلاً في السفر ، فصلّى تماماً ، أو كان جاهلاً ببطلان الصوم في السفر ، فصام ، فإنّ صلاته تماماً في مورد القصر أو الصوم في السفر مثلاً صحيحان مع الجهل بالحكم ، ولا إعادة عليه في الوقت أو القضاء خارجه.

١١٠

نعم لو كان عالماً بالحكم فنسي وصلّى تماماً أو صام في السفر فإنّ صلاته وصيامه باطلان ، يجب إعادة الصلاة في الوقت قصراً وقضاء الصلاة والصوم خارج الوقت.

٢ ـ الوجه الثاني لصحّة عمل الجاهل المقصّر الملتفت أن تكون أعماله مطابقة للواقع ، وهو على قسمين أيضاً :

الأوّل : أن لا يكون العمل عبادياً أي كونه غير مشروط بقصد القربة كالمعاملات والتوصّليات مثل البيع والشراء والتطهير وما أشبه فهو صحيح.

الثاني : أن يكون عملاً عباديّاً ، كالصلاة والصيام والحجّ وما أشبه ذلك ، فإن لم يكن قد قصد القربة فعمله باطل ، وإن كان قاصداً للقربة ، فإنّ بعض الفقهاء ذهبوا إلى بطلانه أيضاً ، وبعضهم ذهب إلى التفصيل ، أي قال لو كان قد أتى بعمله بقصد إدراك الواقع ورجاء مطابقة الواقع وتبيّن فيما بعد موافقته للواقع أو لفتوى المرجع الجامع للشرائط الذي يجب عليه تقليده أو كان يجب عليه تقليده فهو صحيح ، وإلاّ لو كان عمله خالياً عن قصد إدراك الواقع ورجاء المطابقة

١١١

فإنّه باطل فاسد (١).

والحاصل أنّه بناءً على ما تقدّم تكون كثير من أعماله فاسدة لا سيّما العبادية منها.

وأمّا الجاهل القاصر فحكمه ـ أي حكم أعماله ـ كالجاهل المقصّر الغافل ـ غير الملتفت ـ ، وقد بيّنّاه مفصّلاً.

س : ما هو ملاك الجاهل المقصّر ، وما الفرق بينه وبين الجاهل القاصر ؟

ج : الملاك هو الالتفات واحتمال البطلان أو الشكّ في صحّة العمل وعدم صحّته ، بمعنى أنّه لو احتمل بطلان عمل خاصّ ـ بعينه ـ وشكّ في صحّته ، ولم يسأل أو يتفحّص رغم تمكّنه من السؤال فهو جاهل مقصّر ، ولا يكون معذوراً حينئذٍ ، وأمّا إذا لم يكن ملتفتاً ولم يتوجّه إلى جهله ولم يحتمل البطلان ، فهو جاهل قاصر ، ويكون معذوراً.

__________________

(١) العروة الوثقى ، ج ١ ، في التقليد ، مسألة ١٦ ، وفي أحكام القراءة ، مسألة ٢٢ ، وفي أحكام المسافر ، مسألة ٣ و ٤ و ٥ ، مدارك العروة ١ : ١٢١ ، أجوبة الاستفاءات ١ : ٧ ، س ٦ ، مع تصرّف وتوضيح وتعبير من المؤلّف.

١١٢

ثامناً : المحاسبة يوم القيامة.

عن مَسْعَدَةِ بنِ زيادٍ ، قال : سمعتُ جعفرَ بن محمّدٍ عليهما‌السلام ، وقد سُئل عن قوله تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) (١) ، فقال : « إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي كنتَ عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عَمِلْتَ بما عَلِمْتَ ؟ وإن قال : كنتُ جاهلاً ، قال : أفلا تعلّمتَ حتّى تعمل ؟ فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة » (٢).

تاسعاً : استحقاق العذاب الاُخروي.

عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه قال : « لستُ اُحِبُّ أن أرى الشّابّ منكم إلاّ عادياً في حالين : إمّا عالماً أو متعلّماً ، فإن لم يفعل فَرَّطَ ، فإن فَرَّطَ ضَيَّعَ أثِمَ ، وإن أثِمَ سكن النار ، والذي بعَثَ محمّداً بالحقّ » (٣).

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٤٩.

(٢) تفسير الميزان ٧ : ٣٩٣.

(٣) بحار الأنوار ١ : ١٧٦.

١١٣
١١٤



الدّرس الخامس عشر

شرائط التكليف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

التكاليف الإلٰهيّة ـ كما ذكرنا في الحلقة الاُولى من هذه السلسلة ـ مبنيّة على المصالح والمفاسد التي قد يشير الشارع المقدّس إلى بعضها ، وقد يدرك العقل أيضاً لوحده بعضها لكن ليس من الضرورة أن يدرك كنه ذاتها وحقيقتها ؛ لأنّ التكاليف في الحقيقة مبنيّة على التعبّد المحض للشارع المقدّس ، أي عبوديّة خالصة من العبد ، وتعبّد محض منه لخالقه الحكيم ، وفي العبودية والتعبّد تكمن أسرار عظيمة ، بل هما السرّ الأعظم من التكاليف السماوية ؛ لأنّ الشارع الحكيم في كثير من أوامره ونواهيه يلاحظ مدى امتثال العبد ومستوى طاعته واستعداده للرضوخ أمام أوامره ونواهيه ، وبمقدار ما له من الاستعداد للطاعة والامتثال

١١٥

يظهر إيمانه وتظهر منزلته عند الله تبارك وتعالى ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) ، وأعظم المصالح تكمن في هذه العبودية وهذا التعبّد ، ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (٢) ، فأصل التكليف مبني على اختبار العبد لمعرفة مستوى عبوديّته لمولاه الحكيم ، وبهذا يميّز الخبيث من الطيّب ، وإن كانت هناك مصالح اُخرى للعبد قد لاحظها وراعاها الشارع المقدّس.

س : ما هي شرائط التكليف ؟ وبعبارة اُخرى : ما هي الشرائط التي يجب توفّرها في العبد ـ الإنسان ـ حتّى يصير مكلَّفاً ؟

ج : أوّلاً : البلوغ الشرعي ، وهو البلوغ الذي له علامات خاصّة ، وقد عدّه الشارع المقدّس أوّل شرط لتوجّه التكاليف الإلٰهيّة إلى العبد ، ويكون أوّل شرائط صيرورته مكلَّفاً.

س : ما هي علامات تحقّق البلوغ الشرعي ؟

ج : يتحقّق البلوغ في الذكر بإحدى العلائم الثلاث :

الاُولى : إنبات الشعر الخشن في العانة ـ القسم الأسفل من البطن ، وعلى أطراف الجهاز التناسلي ـ ، وقيل : تحت الإبطين أيضاً يكفي.

__________________

(١) سورة الذاريات : ٥٦.

(٢) سورة هود : ٧.

١١٦

الثانية : خروج المني من الذَّكر ، سواء في النوم أو اليقظة.

الثالثة : إتمام خمس عشرة سنة هجريّة قمريّة.

وأمّا الإناث فيتحقّق فيهنّ البلوغ بإحدى العلائم الثلاث التالية :

الاُولى : إنبات الشعر الخشن على العانة كالذكور.

الثانية : خروج المني كالذكور أيضاً.

الثالثة : إكمال تسع سنوات هجريّة قمريّة.

ومعنى ذلك أنّه لو ظهرت إحدى العلامتين قبل العلامة الثالثة ، سواء في الذكور أو الإناث ، فقد تحقّق البلوغ ودخل سنّ التكليف وتجب عليه كافّة التكاليف. نعم ، التكاليف المشروطة بشروط خاصّة كالحجّ المشروط بالاستطاعة فإنّها لا تجب إلاّ بعد تحقّق تلك الشروط الخاصّة أيضاً ، وعليه فالذكور قد يبلغ بعضهم قبل إكمال خمس عشرة سنة قمرية ، كما قد يبلغ بعض الإناث قبل إكمال تسع سنوات قمريّة ، فإذا لم تظهر إحدى العلامتين الاُولَيين يكون البلوغ بالعلامة الثالثة ويتحقّق بها التكليف ، ولهذا فسنّ التكليف لا يتجاوز عند الذكور ـ الصبيان ـ الخامسة عشرة ، وسنّ التكليف لدى الإناث ـ الفتيات ـ لا يتجاوز التاسعة.

١١٧

س : هناك بعض الأولاد ممّن تظهر عندهم إحدى هذه العلامات لكنّهم لضعف بناهم الجسديّة يعجزون عن القيام بالتكاليف الموجّهة إليهم كالصلاة والصيام ، لا سيّما شيوعه في أوساط الإناث ، فما هو الحلّ ؟

ج : أوّلاً : الشارع المقدّس حكيم لطيف بعباده لا يكلّفهم بما لا يطيقون ؛ إذ الصلاة والصيام مثلاً ممّا يحتاجان إلى بعض التمرين ، ولهذا أمر الشارع المقدّس باستحباب أن يُعوِّد الوالدان أولادهما على الصلاة والصيام بالتمرين والممارسة المحفوفتين بالتشجيع منذ السابعة للذكور وأن يفرضا ذلك عليهما ولو بالضرب والتخويف والعقوبة المناسبة لحال الصبيان ـ أو الصبي ـ ، وهي العقوبة التأديبية فحسب ، إذا بلغوا العاشرة من العمر ، وأمر باستحباب ذلك للبنات أيضاً منذ السابعة ، وهذه العمليّة كفيلة بتحصيل الاستعداد وتحقيقه لديهم لامتثال التكاليف الشرعية منذ الوهلة الاُولى من البلوغ.

ثانياً : يمكن في بعض التكاليف كالصيام مثلاً أن يتمسّكوا بالرخص الشرعيّة في التهرّب من الصيام ـ مثلاً ـ ، إن كان شاقّاً على الأولاد ، كأنْ يبعثوهم إلى السفر فيصدق عليهم عنوان

١١٨

المسافر ، وحينئذٍ يسقط عنهم التكليف بالصيام ، لكن يحرصون على قضاء تلك الأيّام خلال عامهم إن أمكن ، سيّما إذا كان ذلك في فترة الشتاء وعلى نحو متقطّع.

والحمد لله ربّ العالمين

١١٩
١٢٠