فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

وهو يفيد عدم الرجوع إليهم في المسألة وتركهم وإهمالهم; لأنّ عدم التصديق وعدم التكذيب ينفيان الغرض ، وهو السؤال الذي ينتظر الجواب الصحيح.

ثالثاً : روى البخاري في صحيحه من كتاب التوحيد باب قول الله تعالى : ( كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأن ) من جزئه الثامن صفحة ٢٠٨ :

عن ابن عبّاس قال : « يا معشر المسلمين ، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحدث الأخبار بالله محضاً لم يُشبْ ، وقد حدّثكم الله أنّ أهل الكتاب قد بدّلوا من كتب الله وغيّروا ، فكتبوا بأيديهم وقالوا : هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمناً قليلا ، أولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! فلا والله ما رأينا رجُلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم ».

رابعاً : لو سألنا أهل الكتاب من النّصارى اليوم ، فإنّهم يدّعون بأنّ عيسى هو إله ، واليهود يكذّبونهم ولا يعترفون به حتى نبيّاً ، وكلاهما يكذّب بالإسلام ونبيّ الإسلام ويقولون عنه : كذّاب ودجّال! لكلّ هذا لا يمكنُ أن يُفهم من الآية بأنّ الله أمرنا بمساءلتهم.

ولمّا كان أهل الذكر في ظاهر الآية هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فإنّ هذا لا ينفي أنّها نازلة في أهل بيت النبوّة كما ثبت عند الشيعة والسنّة من طرق صحيحة ، وبذلك يُفهم منها أنّ الله سبحانه وتعالى أورث علم الكتاب الذي ما فرّط فيه من شيء إلى هؤلاء الأئمة الذين اصطفاهم من عباده; ليرجع إليهم النّاس في التفسير والتأويل ، وبذلك تضمّن

٤١

هدايتهم إذا ما أطاعوا الله ورسوله.

ولأنّ الله سبحانه وجلّتْ حكمته أراد أن يُخضِع النّاس عامّة إلى نخبة منهم ، اصطفاهم وعلّمهم علم الكتاب ، لكي تسهل القيادة وتنتظم أحوال النّاس بذلك ، فلو غاب هؤلاء عن حياة النّاس لأصبح المجال مفتوحاً أمام المُدَّعين والجاهلين ، ولَرَكِبَ كلُّ واحد هَوَاهُ ، واضطربت أُمور النّاس ما دام كلّ واحد يمكنُه ادّعاء الأعلمية.

ولأُبَرْهِنَ على هذا الرأي ، بعد اقتناعي بأنّ أهل البيت هم أهل الذكر فسأوردُ بعض الأسئلة التي ليس لها جواب عند أهل السنّة والجماعة ، أو أنّ لها جواباً ولكن متكلّف لا يستند إلى حجّة يقبلها الباحث المحقّق ، أمّا جوابُها الحقيقي فهو عند هؤلاء الأئمة الأطهار الذين ملأوا الدنيا علماً ومعرفةً ، وعملا وصلاحاً.

٤٢

الفصل الأوّل

في ما يتعلّق بالخَالِق جلّ جلاله

السّؤال الأوّل : حول رؤية الله سبحانه وتجسيمه :

يقول الله سبحانه في كتابه العزيز : ( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ ) (١) ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٢) ، ويقول لموسى لمّا طلب رؤيته : ( لَنْ تَرَانِي ) (٣).

فكيف تقبلُون بالأحاديث المرويّة في« صحيح البخاري » و «صحيح مسلم » بأنّ الله سبحانه يتجلّى لخلقه ويَروْنَه كما يرون القمر ليلة البدر (٤) ، وأنّه ينزل إلى سماء الدنيا في كلّ ليلة (٥) ، ويضع قدمه في النار فتمتلئ (٦) ،

____________

(١) الأنعام : ١٠٣.

(٢) الشورى : ١١.

(٣) الأعراف : ١٤٣.

(٤) صحيح البخاري ٧ : ٢٠٥ كتاب مواقيت الصلاة ، باب فضل صلاة الفجر ، صحيح مسلم ١ : ١١٢ كتاب الإيمان ، باب معرفة طريق الرؤية.

(٥) صحيح البخاري ٢ : ٤٧ كتاب التهجّد ، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، صحيح مسلم ٢ : ١٧٥ كتاب صلاة المسافر ، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.

(٦) صحيح البخاري ٨ : ١٨٦ كتاب التفسير ، باب ( وتقول هل من مزيد ).

٤٣

وأنّه يكشف عن ساقه لكي يعرفهُ المؤمنون (١) ، وأنّه يضحك ويتعجّب. وإلى غير ذلك من الرّوايات التي تجعل من الله جسماً متحرّكاً ومتحوّلا ، له يدان ورجلان ، وله أصابع خمسة يضع على الأوّل منها السماوات ، وعلى الإصبع الثاني الأرضين ، والشجر على الإصبع الثالث ، وعلى الرابع يضع الماء والثرى ، ويضع بقية الخلائق على الإصبع الخامس (٢) ، وله دار يسكُن فيها ، ومحمدٌ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستأذن للدخول عليه في داره ثلاث مرّات (٣) ، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً ، سبحان ربّك ربّ العزة عمّا يصفون.

والجواب على هذا عند أئمة الهُدى ومصابيح الدّجى هو التنزيه الكامل لله سبحانه وتعالى عن المجانسة ، والمشاكلة ، والتصوير ، والتجسيم ، والتشبيه ، والتّحديد ، يقول الإمام علي عليه‌السلام في ذلك :

« الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يُحصي نعماءهُ العادّون ، ولا يؤدّي حقّه المجتهدون ، الذي لا يدركه بعد الهمم ، ولا ينالُه غوصُ الفطن ، الذي ليس لصفته حدّ محدود ، ولا نعت موجود ، ولا وقتٌ معدود ، ولا أجل ممدُودُ ... فمن وصف الله سبحانه فقد قرنَهُ ، ومن قرنَهُ فقدْ ثنّاهُ ، ومن ثنَّاهُ فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهلَه ، ومن جهلَهُ فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حَدَّهُ ، ومن حدّهُ فقد عَدَّهُ ، ومن قَال فِيمَ فقدْ ضمَّنه ، ومن قال علامَ فقد أخلَى

____________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٨٢ كتاب التفسير ، باب يوم يكشف عن ساق.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٣٣ كتاب التفسير ، باب قوله : ( وماقدروا الله حقّ قدره ).

(٣) صحيح البخاري ٨ : ١٨٣ كتاب التفسير ، باب قوله ( وعلّم آدم الأسماء كلها ) ، صحيح مسلم ١ : ١٢٤ كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها.

٤٤

منه ، كائنٌ لاَ عن حَدَث ، موجودٌ لا عن عَدَم ، مع كلّ شيء لا بمُقارنة ، وغيرُ كلّ شي لا بمزايلة ، فاعِلٌ لا بمعنى الحركات والآلةِ ، بصيرٌ إذْ لا منظور إليه من خلقِهِ ... » (١).

وإنّي أُلفِتُ نظر الباحثين من الشباب المثقفين إلى الكنوز التي تركها الإمام علي عليه‌السلام ، والتي جُمعتْ في « نهج البلاغة » ، ذلك السفر القيّم الذي لا يتقدّمه إلاّ القرآن ، والذي بقي مع الأسف مجهولا لدى أغلبية النّاس ، نتيجة الإعلام والإرهاب والحصار المضروب من قبل الأمويين والعبّاسيين على كل ما يتّصل بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ولستُ مبالغاً إذا قلتُ بأنّ في « نهج البلاغة » كثيراً من العلوم والنصائح التي يحتاجها النّاس على مرّ العصور ، وفي « نهج البلاغة » علم الأخلاق ، وعلم الاجتماع ، وعلم الاقتصاد ، وإشارات قيّمة في علم الفضاء والتكنولوجيا ، إضافة إلى الفلسفة ، والسّلوك ، والسياسة ، والحكمة.

وقد أثبتُ ذلك شخصياً في الأطروحة التي قدّمتها إلى جامعة السوربون ، والتي نُوقِشتْ على مواضيع أربعة اخترتها من « نهج البلاغة » ، وحصلتُ من خلالها على شهادة الدكتوراه.

فيا ليتَ المسلمين يولون « نهج البلاغة » عناية خاصّة ، فيبحثون فيه كلّ الأطروحات وكل النّظريات ، فهو بحر عميق كلّما غاص فيه الباحث استخرج منه اللؤلؤ والمرجان.

____________

(١) نهج البلاغة : ١ : ١٥ ، الخطبة الأولى.

٤٥

تعليق

هناك فرق واضح بين العقيدتين :

عقيدة أهل السنّة والجماعة التي تقول بالتجسيم ، وتجعل من الله سبحانه وتعالى جسماً وشكلا يُرى ، وتصوّره وكأنّه إنسان ، فهو يمشي وينزل ، ويحوي جسمه دارٌ ، إلى غير ذلك من الأشياء المنكرة ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وعقيدة الشيعة الذين ينزّهون الله عن المشاكلة والمجانسة والتجسيم ، ويقولون باستحالة رؤيته في الدنيا وفي الآخرة.

وأعتقد شخصيّاً بأنّ الروايات التي يحتجّ بها أهل السنّة والجماعة كلّها من دسّ اليهود في زمن الصحابة ; لأنّ كعب الأحبار اليهودي الذي أسلم في عهد عمر بن الخطّاب هو الذي أدخل هذه المعتقدات التي يقول بها اليهود ، عن طريق بعض البسطاء من الصحابة أمثال أبي هريرة ، ووهب بن منبّه.

فأغلب هذه الروايات مروية في البخاري ومسلم عن أبي هريرة ، وقد تقدّم في بحث سابق كيف أنّ أبا هريرة لا يفرّق بين أحاديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاديث كعب الأحبار حتّى ضربه عمر بن الخطّاب ، ومنعه من الرواية في قضية خلق الله السماوات والأرض في سبعة أيام.

وما دام أهل السنّة والجماعة يثقون في البخاري ومسلم ، ويجعلون منهما أصحّ الكتب ، وما دام هؤلاء يعتمدون على أبي هريرة حتى أصبح عمدة المحدّثين ، وأصبح عند أهل السنّة راوية الإسلام; فلا يمكن والحال هذه أن

٤٦

يغيّر أهل السنّة والجماعة عقيدتهم إلاّ إذا تحرّروا من التقليد الأعمى ، ورجعوا إلى أئمة الهدى ، وعترة المصطفى ، وباب مدينة العلم الذي منه يُؤتى.

وهذه الدعوى لا تختصّ بالكبار والشيوخ بل الشباب المثقّف من أهل السنّة والجماعة كذلك ، ومن واجبه أن يتحرّر من التقليد الأعمى ، ويتّبع الحجّة والدليل والبرهان.

السؤال الثاني : حول العدل الإلهي والجبر :

يقول الله سبحانه في كتابه العزيز : ( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (١).

( لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) (٢).

( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ) (٣).

( إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر ) (٤).

فكيف تقبلون بالأحاديث المروية في « صحيح البخاري » و « صحيح مسلم » بأنّ الله سبحانه قدّر على عباده أفعالهم قبل أنْ يخلقهم؟ فقد روى البخاري في صحيحه قال : أحتجَّ آدم وموسى ، فقال له موسى : يا آدم أنت أبونَا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنَّة ، قال له آدمُ : يا موسى اصطفاك الله بكلامه ،

____________

(١) الكهف : ٢٩.

(٢) البقرة : ٢٥٦.

(٣) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٤) الغاشية : ٢١ ـ ٢٢.

٤٧

وخطّ لك بيده ، أتلومني على أمر قدّرَهُ الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة ، فحجَّ آدمُ موسى ثلاثاً ... » (١).

كما روى مسلم في صحيحه قال : إنّ أحدكم يُجمَعُ خَلْقُهُ في بطن أُمّهِ أربعين يوماً ، ثمّ يكون في ذلك علقةً مثل ذلك ، ثمّ يكون في ذلك مُضغة مثل ذلك ، ثم يُرسل الملكُ فينفُخُ فيه الرّوح ، ويُؤْمَرُ بأربع كلمات بِكَتْبِ رِزِقِهِ وأجلهِ وعَملِهِ وشقىٌ أو سَعِيدٌ.

فوالذي لا إله غيرهُ إنّ أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنّة حتى ما يكون بينُه وبينها إلاّ ذراعٌ ، فيسبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهل النار فيدخلها ، وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراعٌ ، فيسبق عليه الكتاب فيعملُ بعمل أهل الجنّة فيدخلُها » (٢).

كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت : دُعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جنازة صبىّ من الأنصار ، فقلتُ : يا رسول الله طوبى لهذا ، عصفورٌ من عصافير الجنّة لَمْ يعمل السّوء ولم يدركْهُ ، قال : « أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنّة أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنّار أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم » (٣).

وروى البخاري في صحيحه قال رجلٌ : يا رسول الله أيُعرفُ أهلُ الجنة

____________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٢١٤ كتاب القدر ، باب تحاج آدم وموسى ، صحيح مسلم ٨ : ٤٩ كتاب القدر ، باب حجاج آدم وموسى عليهما‌السلام.

(٢) صحيح مسلم ٨ : ٤٤ كتاب القدر ، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أُمه ، صحيح البخاري ٧ : ٢١٠ كتاب القدر باب في القدر.

(٣) صحيح مسلم ٨ : ٥٥ كتاب القدر ، باب كلّ مولود يولد على الفطرة.

٤٨

من أهل النّار؟ قال : « نعم » ، قال : فلم يعمَلُ العاملون؟ قال : « كلٌّ يعملُ لما خُلقَ له ، أو لما يُسِّرَ لَهُ » (١).

سبحانك ربّنا وبحمدك تباركت وتعاليتَ عن هذا الظلم علوَّاً كبيراً ، فكيف نصدّق بهذه الأحاديث المناقضة لكتابك العزيز الذي قُلت فيه وقولك الحقّ :

( إنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٢).

( إنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ) (٣).

( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَداً ) (٤).

( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٥).

( فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (٦).

( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ) (٧).

( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيكُمْ وَأنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلام لِلْعَبِيدِ ) (٨).

( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلام لِلْعَبِيدِ ) (٩).

____________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٢١٠ كتاب القدر ، باب جفّ القلم على علمِ الله.

(٢) يونس : ٤٤.

(٣) النساء : ٤٠.

(٤) الكهف : ٤٩.

(٥) آل عمران : ١١٧.

(٦) التوبة : ٧٠ ، العنكبوت : ٤٠ ، الرّوم : ٩.

(٧) الزخرف : ٧٦.

(٨) الأنفال : ٥١.

(٩) فصلت : ٤٦.

٤٩

وكما قال في حديث قدسي : « يا عبادي إني حرّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا » (١)؟

فكيف يصدّق مسلم آمن بالله وبعدالته ورحمته أنّ الله سبحانه خلق الخلق ، وحكم على بعضهم بالجنّة وعلى الآخرين بالنار حسب اختياره هو ، وقدّر لهم أعمالهم فكلّ ميسّرٌ لما خُلِقَ له ، على حسب هذه الروايات المعارضة للقرآن الكريم ، وللفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وللعقل والوجدان ، ولأبسط حقوق الإنسان؟

كيف نؤمن بهذا الدّين الذي يحجّر العقول على أنّ هذا الإنسان هو دمية تُحرِّكُها أَيْدي القدر كيف شاءت ، لتُلقي بها بعد ذلك في التنّور؟ هذا الاعتقاد الذي يمنع العقول من الخلق والابتكار ، والإبداع والتطوّر ، والمنافسة التي تأتي بالأعاجيب ، ويبقى الإنسان جامداً راض بما هو فيه وبما عنده ، بدعوى أنّه ميسّر لما خُلقَ لَهُ.

كيف نقبلُ هذه الرّوايات التي تصادمُ العقول السليمة ، وتصوّر لنا بأنّ الله سبحانه هو خالقُ ، جبّارٌ ، قوىٌ ، قاهرٌ ، وله أن يخلق عباده الضعفاء ليزجّ بهم في نار جهنم لا لشيء إلاّ لأنّه يفعل ما يشاء ، وهل يسمّي العقلاء هذا الإله حكيماً أو رحيماً أو عادلا؟

كيف لو تَحدّثنا مع المثقّفين والعلماء من غير المسلمين ، وعَرفُوا بأنّ رَبّنا على هذه الصّفات ، وأنَّ دِيننا قد حكم على النّاس قبل ولادتهم بالشقاء ،

____________

(١) صحيح مسلم ٨ : ١٧ كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم ، السنن الكبرى للبيهقي ٦ : ٩٣ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٢٣٧ ح ٦٠٢٠.

٥٠

فهل سيقبلون الإسلام ويدخلون في دين الله أفواجاً؟

سبحانك! إنّ هذا زورٌ من القول ركَّزَهُ الأمويّون ، وروّجوا له لحاجة في نفوسهم ، والباحث يعرف سرّ ذلك ، وهو زورٌ من القول لأنّه يعارض كلامك ، وحاش رسولك أنّ يتقوّل عليك بما يُناقضُ وَحْيُك الذي أوحيتَ إليه ، وقد ثبت أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إذا جاءكم الحديث عنّي فاعرضوه على كتاب الله ، فما وافق الكتاب فخذوه ، وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار » (١).

وكلّ هذه الأحاديث وأمثالها كثيرة تعارض كتاب الله وتعارض العقل ، فليضرب بها عرض الجدار ، ولا يُلتفتُ إليها وإن كان أخرجها البخاري ومسلم ، فما كان معصوميْن عن الخطأ.

ويكفينا دليلا واحداً للردّ على هذا الادّعاء الباطل هو بعثة الأنبياء والمرسلين من قبل الله إلى خلقه ، وعلى طول التاريخ البشري ليُصلحوا مفاسد العباد ، ويوضّحوا لهم الصراط المستقيم ، ويعلّموهم الكتاب والحكمة ، ويبشّروهم بالجنّة إن كانوا صالحين ، وينذروهم من عذاب الله في النّار إن كانوا مُفسدين.

ومن عدالة الله سبحانه في خلقه ورحمته بهم أنّه لا يعذّب إلاّ من بعث إليه رسولا ، وأقام عليه الحجّة ، قال تعالى : ( مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ) (٢).

____________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ٣ : ٣٩٢ ، باختلاف يسير.

(٢) الإسراء : ١٥.

٥١

فإذا كانت هذه الروايات التي أخرجها البخاري ومسلم ، والتي تقول بانّ الله كتب على عباده أعمالهم قبل أن يخلُقهم ، وحكم على البعض منهم بالجنّة وعلى البعض بالنّار ـ كما قدّمنا سابقاً ـ وكما يؤمنُ بذلك أهل السنّة والجماعة ، أقول : إن كان هذا صحيح ، فإن إرسال الرّسل وانزال الكتب يصبح ضرباً من العبث! تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، وما قدروا الله حق قدره ، فما يكون لنا أن نتكلّم بهذا ، سبحانك هذا بهتان عظيم.

( تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (١). والجواب على هذا عند أئمة الهدى ، ومصابيح الدُّجى ، ومنار الأمّة ، هو تنزيه الله سبحانه عن الظلم والعبث ، فلنستمع إلى باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهو يشرح للنّاس هذا الاعتقاد الذي بقي لغزاً عند بعض المسلمين الذين تركوا الباب ، يقول عليه‌السلام لمّا سأله أحد أصحابه : أكان مسيرنا إلى الشّام بقضاء من الله وقدره؟

« ويحك لعلّك ظنَنْتَ قضاءً لازماً وقدراً حاتماً ، ولو كان كذلك لبطَلَ الثوابُ والعقابُ ، وسقط الوعْدُ والوعيدُ ، إنّ الله سبحانه أمَرَ عبادَهُ تخييراً ، ونهاهُم تحذيراً ، وكلَّف يسيراً ، ولم يُكلّف عسيراً ، وأعْطَى على القَليل كثيراً ، ولم يُعْصَ مغلوباً ، ولم يُطَعْ مُكْرِهاً ، ولم يُرسلِ الأنْبياءَ لَعِباً ، ولم يُنزلِ الكُتبَ للعباد عَبثاً ، ولا خَلَقَ السّماواتِ والأرضَ وما بينَهُما باطلا ، ذلك ظنُّ الذين كَفَروا فويل للّذين كَفروا من النّار » (٢). صدق الإمام عليه‌السلام فويلٌ للذين يُنسبون

____________

(١) آل عمران : ١٠٨.

(٢) نهج البلاغة شرح محمّد عبده ٤ : ١٧ ، الخطبة : ٧٨.

٥٢

العبث والظلم لله من عذاب أليم.

والجدير بالذكر والحقُّ يقال بأنّ أهل السنّة والجماعة ينزّهون الله عن العبثِ والظلم ، فإذا ما سألت أحدهم فسوف لن يُنسب الظّلم لجلال الله سبحانه ، ولكنّه سوف يَجِدُ نفسه متحرّجاً لرفض أحاديث أخرجها البخاري ومسلم ، ويعتقد ضمنيّاً أنّها صحيحة ، ولذلك تراه عندما تجادله بالمنطق المعقول ، يدّعي بأنّ ذلك لا يُسمّى ظلماً عنْد الله; إذ أنّه الخالق ، وللخالق أن يفعل في مخلوقاته ما يشاء! فهو لا يسأل عمّا يَفْعَلُ وهم يُسأَ لُون.

وعندما تسأله : كيف يحكم الله على عبد بالنّار قبل خَلقِه لأنّه كتب عليه الشقاء ، ويحكم على آخر بالجنّة قبل خلقه لأنّه كتب عليه السّعادة؟ أليس في ذلك ظُلم للاثنين؟ لأنّ الّذي يدخل الجنّة لا يدخلها بعمله وإنّما باختيار الله له ، وكذلك الّذي يدخل النار لا يدخلها بما اقترفه من ذنوبه وإنّما بما قدّره الله عليه ، أليس في ذلك ظلم ، وهو يناقضُ القرآن؟ فسيجيبك : بأنّ الله فعّالٌ لما يريد! فلا تفهم من موقفه المتناقض شيئاً.

وهذا بديهي إذ أنّه يُنزل البخاري ومسلم بمنزلة القرآن ، ويقول : أصحّ الكتب بعد كتاب الله البخاري ومسلم ، وفي البخاري ومسلم عجائب وغرائبٌ ومصائبٌ ابتُليَ بها المسلمون ، وقد نجح الأمويون ومن بعدهم العبّاسيون نجاحاً كبيراً في بثّ بِدَعهم وعقائدهم التي تتماشى وسياستهم العقيمة ، وبقيتْ آثارهم حتى اليوم إذ يعتبرها المسلمون أعزّ وأعظم تُراث; لأنّه جمع الأحاديث النبويّة الصحيحة على حدّ زعمهم ، ولو يعلم المسلمون مقدار ما كَذَبُوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل أغراضهم السّياسية لما صدّقوا

٥٣

بتلك الأحاديث ، وخصوصاً منها المتناقض مع كتاب الله.

ولأنّ القرآن الكريم تكفّل الله بحفظه ، ولأنّه كان محفوظاً عند الصّحابة ، وكانوا يعرضونه على النّبي ، لذلك لم يتمكّنوا من تحريفه وتبديله ، فعمدوا إلى السنّة المطهّرة فوضعوا ما شاؤوا لمن شاؤوا.

وبما أنّهم كانوا أعداءً لأهل البيت حفظة القرآن والسنّة اختلقوا لكلّ حادثة حديث نسبوه للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وموّهوا على المسلمين بأنّ هذه الأحاديث هي أصحّ من غيرها ، فقبلها النّاس على حسن نيّة ، وهم يتداولونها بالوراثة جيلا بعد جيل.

وللإنصاف أقول بأنّ الشيعة هم الآخرون ضحية الدس والتمويه في كثير من الأحاديث التي تُنسب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لأحد الأئمة الأطهار سلام الله عليهم ، فهذا الدس والتمويه لم يسلم منه المسلمون سنّة وشيعة على مرّ التاريخ ، ولكن الشيعة يمتازون على أهل السنّة والجماعة بثلاثة أشياء ميّزتهم على غيرهم من الفرق الإسلامية الأُخرى ، وأبرزتْ عقائدهم سليمة ومتّفقة مع القرآن والسنّة والعقل ، وهذه الأشياء الثلاثة هي :

أوّلا : انقطاعهم لأهل البيت النّبوي ، فهم لا يقدّمون عليهم أحداً ، وكلّنا يعلم من هم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

ثانياً : عدد أئمة أهل البيت ، وهو اثني عشر إماماً ، امتدتْ حياتهم وآثارهم طوال ثلاثة قرون ، وقد وافق بعضهم بعضاً في كل الأحكام والأحاديث ، ولم يختلفوا في شيء ، ممّا جعل شيعتهم وأتباعهم متعلّمين في كلّ مجالات العلم والمعرفة بوضوح وبدون تناقض في العقائد أو في غيرها.

٥٤

ثالثاً : اعترافهم وإقرارهم بأنّ ما لديهم من الكتب يحتملُ الخطأ والصّواب ، وليس عندهم كتاب صحيح إلاّ كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ويكفيك أن تعرف مثلا أن أعظم كتاب عندهم وهو « أُصول الكافي » يقولون بأنّ فيه آلاف الأحاديث المكذوبة (١) ، ولذلك تجد علماءهم ومجتهديهم دائبين على البحث والتنقيب ، فلا يأخذون منه إلاّ الثّابت بالمتن

____________

(١) بمعنى التي لم تصح ولا يمكن الاحتجاج بها لضعف سندها الناشئ : إمّا من عدم توثيق الراوي ، أو أنّه متهم بالكذب ، أو غير ذلك. ثمّ إنّ مراده من الكافي جميع روايات كتاب الكافي والتي هي مقسمة إلى أُصول وفروع وروضة ، ويبلغ مجموعها أكثر من ستة عشر ألف حديث ، وليس مقصوده فقط الاُصول من كتاب الكافي المقابلة للفروع ، وسرّ وجود هكذا روايات في المصادر الشيعية ـ وخصوصاً الكافي الذي هو من أهم الكتب المعتمدة عند اتباع مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ـ هو أنّ المحدثين الشيعة لم يتعهدوا ولم يلتزموا بأن ينقلوا خصوص الروايات الصحيحة كما فعله غيرهم ـ حسب زعمه ـ ، وإنّما دوّنوا الروايات والآثار المنقولة والمنسوبة إلى الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ، وعلى العالم الرجوع إلى سند أي رواية يريد التمسّك بها; ليراها هل هي صحيحة السند أم لا؟ وعلى فرض صحة سندها هل يكون متنها مقبولا ، أي خالياً من الشذوذ والعلّة كما يقول علماء الحديث ، إذ ليس كلّ ما صح سنده قُبل وعمل به ، ولأجل ذلك ترى أنّ العلماء يختلفون فيما بينهم في صحة رواية وضعفها; وهذا موجود أيضاً عند أهل السنّة فيما عدا ما يسمى بـ ( صحيح البخاري ) و ( صحيح مسلم ) إذ أنّهما ـ حسب زعمهم ـ صحيحان ، ولا يطعنون في رواية واحدة منهما.

ومن هذا يتضح أنّ ما ذكره عثمان الخميس في مناظرة قناة المستقلّة ، سنة ١٤٢٢ في شهر رمضان المبارك ، كلام بعيد عن المنهج العلمي والبحث بالتي هي أحسن ، وهو كلام تهريج أقرب من كلام باحث يتوخى الحقيقة والوصول إليها.

٥٥

والسند ، وما لا يتعارض مع القرآن والعقل.

أمّا أهل السنّة والجماعة فقد ألزموا أنفسهم بكتب سمّوها الصحّاح الستّة باعتبار أنّ كلّ ما فيها صحيح ، وأغلبهم يتناقلون هذا الرأي بالوراثة بدون بحث ولا تمحيص ، وإلاّ فإنّ كثيراً من الأحاديث التي رُويتْ في هذه الكتب لا تقومُ على دليل علمي ، وفيها الكفرُ الصريح ، وبما يتناقض والقرآن ، وأخلاق الرسول وأفعاله والحطّ من كرامته.

ويكفي الباحث أن يقرأ كتاب الشيخ المصري محمود أبو رية « أضواء على السنّة المحمدية » ليعرف ما هي قيمة الصحاح الستّة.

والحمد لله فإنّ كثيراً من الشباب الباحث اليوم تحرّر من تلك القيود ، وأصبح يُفرّق بين الغث والثمين ، بل حتّى الشيوخ المتعصّبين للصحّاح أصبح الكثير منهم اليوم يُنكرها ، لا لأنّه ثبت لديه ضعف بعض الأحاديث فيها ، ولكن لأنّه وجد فيها حجّة الشيعة التي يقولون بها سواء في الأحكام الفقهية أو في العقائد الغيبيّة ، فما من حُكم أو عقيدة يقول بها الشيعة إلاّ ولها وجودٌ فعلي في أحد الصحاح الستّ لدى أهل السنّة والجماعة.

وبالمقابل قال لي بعض المتعصّبين : ما دُمتم تعتقدون بأنّ أحاديث البخاري ليست صحيحة ، فلماذا تحتجّون بها عليَنا؟

أجبت : ليس كلّ ما في البخاري صحيح ، وليس كلّ ما فيه مكذوب ، فالحقّ حقّ والباطل باطل ، وعلينا أن نُغربل ونصفّي (١).

____________

(١) مضافاً إلى أن أُسلوب المناظرة والاحتجاج يقتضي الإتيان بالمشتركات ، وما

٥٦

قال : هل عندك مِجْهرٌ خاصّ تعرف به الصحيح من المكذوب؟

قلت : ليس عندي أكثر ممّا عندك ، ولكن ما اتفق عليه السنّة والشيعة فهو صحيح; لأنّه ثبتت صحّته عند الطرفين ، ونُلزمهم به كما ألْزموا أنفسهم ، وما اختلفوا فيه حتّى لو كان صحيحاً عند أحدهم فلا يُلزمُ الطرف الثاني بقبوله ، كما لا يُلزمُ الباحث الحيادي قبوله والاحتجاج به لأنّه دورىٌ.

وأضربُ لذلك مثلا واحداً حتّى لا يبقى هناك إشكال في هذا الموضوع ، وحتّى لا يعاد نفس الانتقاد بأساليب متعدّدة :

يدّعي الشيعة بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّب عليّاً خليفة للمسلمين في غدير خم يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة بعد حجّة الوداع وقال بالمناسبة :

« من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » (١). فهذه الحادثة وهذا الحديث نقله كثير من علماء أهل السنّة

____________

يؤمن الخصم به ، فإذا كان مؤمناً بصحيح البخاري ، وكان في البخاري ما يؤكّد عقيدة الشيعة ـ مثلا ـ ويدعمها فالاحتجاج به يكون أفضل وأكمل والزام للخصم بما ألزم به نفسه. وهذا الإشكال لا يورده إلاّ المبتدئ الذي لم يسمع بالحوار والاستدلال ، أو المتعصب الذي أعماه حب الهوى فأصم سمعه وبصره.

(١) حديث الغدير حديث ثابت صحيح متواتر ، نصّ على صحته وتواتره أعلام القوم ، وقد أخرجه أكثر المحدّثين وأرباب التصانيف ، راجع على سبيل المثال : مسند أحمد ١ : ١١٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ٣٧١ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٣ ، المصنف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٩ ح ٢٨ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٣٢ ح ٨٤٧٣ ، صحيح ابن حبان ١٥ : ٣٧٦.

وأخرجه الشيخ الألباني في صحيحته ٤ : ٣٣٠ ح ١٧٥٠ ، وأثبت صحة الحديث وتواتره ، وردّ على شيخ السلفية ابن تيمية المتسرع في الطعن بأحاديث فضائل أهل البيت من دون نظر في طرق ورأي العلماء فيها.

٥٧

والجماعة في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم ، فيمكن للشيعة عندئذ أن يحتجّوا به على أهل السنّة والجماعة.

ويدّعي أهل السنّة والجماعة بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّن أبا بكر ليُصلّي بالنّاس في مرض موته ، وقال بالمناسبة : « ويأبى الله ورسولَه والمؤمنون إلاّ أبا بكر » (١).

فهذه الحادثة وهذا الحديث لا وجود له في كتب الشيعة ، وإنّما يروون بأنّ رسول الله بعث إلى علىّ ، فبعثت عائشة إلى أبيها ولمّا عرف رسول الله ذلك قال لعائشة : « إنكنّ لصويحبات يوسف » (٢) وخرج هو ليصلّي بالنّاس وزحزح أبا بكر.

فلايمكن وليس من الإنصاف أن يحتجّ أهل السنّة والجماعة على الشيعة بما انفردوا هم به ، وخصوصاً إذا كانت الروايات متناقضة ويكذّبها الواقع والتاريخ; لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عيّنَ أبا بكر ليكون ضمن جيش أُسامة ، وتحت امرته وقيادته ، ومن المعلوم أنّ أمير الجيش في السّرية هو إمام الصّلاة.

وقد ثبت تاريخياً بأنّ أبا بكر لم يكن موجوداً في المدينة عند وفاة الرّسول ، وكان بالسّنح يتجهّز للخروج مع أميره وقائده أُسامة بن زيد الذي لم يبلغ من العمر إلاّ سبعة عشر عاماً ، فكيف والحال هذه يمكن لنا أن نصدّق بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّنه لإمامة الصّلاة؟ اللّهم إلاّ إذا صدّقْنا بقول

____________

(١) أورده ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١١ : ٤٩ وقال : « إنّهم وضعوه في مقابل الحديث المروي عنه في مرضه : ائتوني بدواة وكتف ... ».

(٢) الصراط المستقيم للبياضي ٣ : ١٣٤.

٥٨

عمر بن الخطاب بأنّ رسول الله يهجر ولا يدرِ ما يفعل ولا ما يقول ، وهذا أمرٌ لا سبيل إليه ، فهو مستحيلٌ ولا يقول به الشيعة.

فعلى الباحث هنا أن يتقي الله في بحثه ، ولا تأخذه العاطفة فيميل عن الحقّ ، ويتّبع الهوى فيضلّ عن سبيل الله ، إنّما واجبُه أن يخضع للحقّ ولو كان الحقّ مع غيره ، ويحرّر نفسه من الرّواسب والعواطف والأنانيّة ، فيكون من الذين امتدحهم الله عزّ وجلّ في قوله : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّهُ وَاُوْلَئِكَ هُمْ اُوْلُوا الألْبَابِ ) (١).

فليس من المعقول إذاً أنْ يقول اليهود : إنّ الحقّ عندنا ، ويقول النّصارى : إنّ الحقّ عندنا ، ويقول المسلمون : إنّ الحقّ عندنا ، وهم مختلفون في العقائد والأحكام!

فلا بدّ للباحث أنْ يُمحّص أقوال الديانات الثلاثة ، ويقارن بعضها ببعض حتّى يتبيّن له الحقّ.

وليس من المعقول أيضاً أن يقول أهل السنّة بأنّ الحقّ معهم ، ويقول الشيعة بل الحقّ عندهم وحدهم ، وهم يختلفون في بعض المفاهيم والأحكام ، فالحقّ واحدٌ لا يتجزأ.

فلا بدّ للباحث أن يتجرّد ويُمحّص أيضاً أقوال الطّرفين ، ويقارن بعضها ببعض ، ويُحَكِّمَ عقلَهُ حتّى يتبيّن له الحقّ ، وذلك هو نداء الله سبحانه لكلّ فرقة تدّعي الحقّ; إذ يقول : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢).

____________

(١) الزمر : ١٧ ـ ١٨.

(٢) البقرة : ١١١.

٥٩

فليست الأكثرية بدالّة على الحقّ ، بل العكس هو الصّحيح ، قال تعالى : ( وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ ) (١).

وقال أيضاً : ( وَمَا أكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (٢).

مثلما أنّ التقدّم الحضاري والتكنولوجي والثّراء ليس دليلا على أنّ الغرب على حقّ والشرق على باطل قال تعالى : ( فَلا تُعْجِبْكَ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٣).

قول أهل الذكر في الله تعالى

يقول الإمام علي عليه‌السلام : « الحمد لله الّذي بطن خفيات الأُمور ، ودلّتْ عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عينُ من لم يره تُنكرهُ ، ولا قلبُ من أثبتَهُ يبصره ، سبقَ في العلوِّ فلا شيء أعلى منه ، وقرُبَ في الدُنوِّ فلا شيء أقربُ منه ، فلا استعلاؤه بَاعدَهُ عن شيء من خلقِه ، ولا قُربُه سَاواهم في المكان بِهِ.

لم يُطلع العقولَ على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجِبِ معرفِتِه ، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرارِ قلب ذي الجحود ، تعالى الله عمّا يقول المشبّهونَ به والجاحدونَ له علوّاً كبيراً » (٤).

« والحمد لله الذي لم تسبق له حالٌ حالا ، فيكون أوَّلا قبل أن يكون

____________

(١) الأنعام : ١١٦.

(٢) يوسف : ١٠٣.

(٣) التوبة : ٥٥.

(٤) نهج البلاغة ١ : ٩٩ ، الخطبة : ٤٩.

٦٠