فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

آخر كلامه الذي لا تفهمه العقول السّليمة ، ونحن نقبل شهادته بأنّ عمر غيّر الأحكام القرآنية تبعاً لرأيه بأنّ المصلحة تتغيّر بحسب الأزمان. ونرفض تأويله بأنّ عمر نظر إلى علّة النّص ولم ينظر إلى ظاهره ، ونقول له ولغيره : بأنّ النّصوص القرآنية والنّصوص النبويّة لا تتغيّر بتغيّر الأزمان ، فالقرآن صريح بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ليس من حقّه أن يبدّل ، قال تعالى :

( وَإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هَذَا أوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إلَيَّ إنِّي أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم ) (١).

والسنّة النبويّة الطّاهرة تقول : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (٢).

ولكن على زعم الدواليبي ، ومن يرى رأيه من أنصار الاجتهاد فإنّ الأحكام تتغيّر بتغيّر الزمان ، ولا لوم إذن على بعض الحكّام الذين غيّروا أحكام الله بأحكام الشعب ، وبأحكام وضعيّة اقتضتها مصالحهم وهي مخالفة لأحكام الله ، فمنهم من قال : أفطروا لتقوُوا على عدوّكم ، ولا حاجة بالصّوم في الوقت الحاضر الذي نجاهد فيه التخلّف والفقر والجهل ، والصّومُ يُقعدنا عن الانتاج!!

ومنع تعدّد الزوجات لأنّه يرى في ذلك ظلماً وتعدّياً على حقوق المرأة ، وقال : بأن في زمن محمّد كانت المرأة تعتبر « شقفة بول » أمّا الآن فقد

____________

(١) يونس : ١٥.

(٢) الكافي ١ : ٥٨ ح ١٩.

٣٢١

حرّرناها وأعطيناها حقوقها كاملة!!

ونظر هذا الرئيس إلى النصّ من حيث العلّة ، ولم ينظر إلى ظاهره كما نظر عمر ، فقال : إنّ الميراث يجب أن يقسم الآن للذكر والأُنثى على حدّ سواء; لأنّ الله أعطى للرجل سهمين باعتبار أنّه هو الذي يُعول الأُسرة في حين كانت المرأة معطّلة ، أمّا اليوم وبفضل جهود فخامته أصبحتْ المرأة تشتغل وتعول أُسْرتَها ، وضربَ للشعب مثلا بزوجته التي أنفقتْ على أخيها وأصبح وزيراً بفضلها وعنايتها.

كما وأنّه أباح الزنا واعتبره حقّاً شخصياً لمن بلغ سنّ الرشد ما لم يكن غصْباً أو حرفةً للعيش ، وفتح دوراً لحضانة الأطفال الذين يولدون من الزنا ، معلّلا ذلك بأنّه رحيمٌ بأولاد الزنا الذين كانوا يدفنون أحياء خوف العار والفضيحة ، إلى غير ذلك من اجتهاداته المعروفة.

والغريب أنّ هذا الرئيس كان لحد ما معجباً بشخصية عمر ، فقد ذكره مرّة بإعجاب ، وذكره مرّة بأنّه لم يتحمّل المسؤولية حيّاً وميّتاً بينما هو ( الرئيس ) سيتحمّلها حيّاً وميتاً ، ومرّة أُخرى وكأنّه بلغه بأنّ المسلمين انتقدوا اجتهاداته فقال : إنّ عمر بن الخطّاب كان من أوّل وأكبر المجتهدين في عصره ، فلماذا لا أجتهد أنا في عصريَ الجديد ، فقد كان عمر رئيس دولة وأنا أيضاً رئيس دولة!

والأغرب أنّ هذا الرئيس كان عندما يذكر محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترى في كلامه سخرية واستهزاء ، فقد قال في خطابه بأنّ محمّداً كان لا يعرف حتّى الجغرافيا ، فقد قال : « أطلبوا العلم ولو كان في الصين » ظنّاً منه بأنّ

٣٢٢

الصين هي آخر الدنيا ، فما كان محمّد يتصوّر بأنّ العلم سيصل إلى هذه الدرجة ، وأنّ أطناناً من الحديد ستطير في الهواء ، فما بالك لو قيل له أو حدّثوه عن الأورانيوم ، والبوتاسيوم ، والعلوم الذريّة ، والأسلحة النوويّة!!

هذا ولا ألوم شخصيّاً هذا المسكين الذي ما فهم من كتاب الله وسنّة رسوله شيئاً ، ووجدَ نفسه يوماً يحكم دولة باسم الإسلام ، وهو يسخر من الإسلام ، ويجري وراء الحضارة الغربية ، ويريد أن يصنع من بلاده دولة أوروبية متطوّرة بالمفهوم الذي يراه هو.

وقد حذا حذوه كثيرٌ من الرؤساء والملوك لما حصل عليه من تأييد الدول الغربية واللائكية ، ومدحهم وإطرائهم له ، حتى لقّبوه بالمجاهد الأكبر ، ثمّ لا ألومه فالشيء من مأتاه لا يُستغرب ، وكلّ إناء بالذي فيه ينضحُ.

وإذا كنت مُنصفاً فسألقي باللّوم على أبي بكر وعمر وعثمان ، الذين فتحوا هذا الباب من يوم وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسبّبوا في كلّ الاجتهادات التي دأبَ عليها الحكّام الأمويون والعبّاسيون وما أكثرهم ، سبع قرون خلتْ وكلّها طمس لحقائق الإسلام بنصوصه وأحكامه ، واستفحل الأمرُ في القرون التي أعقبتها ، حتّى وصل الأمرُ بأنْ يخطبُ الرئيس أمام شعبه المسلم مستهزئاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ينكرُ عليه أحد لا في الداخل ولا في الخارج!!!

وهذا ما قلته وما أقوله لبعض الإخوة من الحركة الإسلامية : إن كنتُم تنكرون اليوم على الرئيس عدم اتّباع النّصوص القرآنية والسنّة النبويّة ، فواجبٌ عليكم أن تنكروا على من سنّ هذه البدعة في الاجتهاد مقابل

٣٢٣

النّصوص ، إن كنتم منصفين وتريدون فعلا اتّباع الحقّ.

فلا يقبلون منّي هذا الكلام ، ويعيبون علىَّ كيف أقارن الرؤسَاء اليوم بالخلفاء الراشدين؟

وأجيبُهم : بأنّ الرؤساء اليوم وملوك اليوم هم النتيجة الحتمية لما وقع في التاريخ ، ومَتى كان المسلمون يوماً أحْراراً منذ وفاة الرسول وحتى اليوم؟

فيقولون : أنتم الشيعة تفترون وتشتمون الصحابة ، ولو وصلنا يوماً إلى الحكم فسنحرقكم بالنار!

فأقول : لا أراكم الله ذلك اليوم.

( ت ) قال الله تعالى : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أنْ تَأخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إلا أنْ يَخَافَا ألا يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيَما افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَاُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ * فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أنْ يُقِيَما حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُونَ ) (١).

والسنّة النبويّة الشريفة فسّرتْ بغير لُبس بأنّ المرأة لا تحرم على زوجها إلاّ بعد ثلاثة تطليقات ، ولا يحقّ لزوجها أن يراجعها إلاّ بعد أن تنكِحَ زوجاً آخر ، فإذا طلّقها هذا الأخير عند ذلك يمكنُ لزوجها أن يتقدّم لخطبتها من جديد كبقية الرّجال ، وعليها أن تقبل أو ترفض فالخيرة لها.

ولكنّ عمر بن الخطّاب وكعادته تَخطّى حدود الله التي بيّنها لقوم يعلمون ،

____________

(١) البقرة : ٢٣٠.

٣٢٤

فأبدل هذا الحكم بحكمه الذي يقول طلقةٌ واحدة فعلية بلفظ الثلاثة ، تحرم على الزوج زوجه ، وخالف بذلك القرآن الكريم والسنّة النبويّة.

فقد جاء في صحيح مسلم في كتاب الطّلاق باب طلاق الثّلاث عن ابن عبّاس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عُمر طلاقُ الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطّاب : إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانتْ لهم فيه أناةٌ ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم (١).

عجباً! والله كيف يجرؤ الخليفة على تغيير أحكام الله بمحضر من الصحابة ، فيوافقون على كلّ ما يقول وما يفعل ولا من منكر ولا من مُعارض ، ويموّهون علينا نحن المساكين بأنّ أحد الصحابة قال لعمر : « والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوّمناك بحدّ السّيف »!!

فهذا زور من القول وبُهتان ، ليتشدّقوا بأنّ الخُلفاء كانوا المثل الأعلى في الحريّة والديمقراطيّة ، والتاريخ يُكذّبهم بواقعه العملي ، ولا عبرة بالأقوال إذا كانت الأعمال على نقيضها.

أو لعلّهم كانوا يرون الاعوجاج في الكتاب والسنّة ، وأنّ عمر بن الخطاب هو الذي قوّمها وأصلحها ، نعوذ بالله من الهذيان ، وكنتُ في مدينة قفصة كثيراً ما أفتي للرجال الذين حرّموا نساءهم بكلمة : « أنتِ حرامٌ بالثلاث » ، ويفرحون عندما أعرّفهم بأحكام الله الصحيحة التي لم يتصرّف فيها الخلفاء

____________

(١) صحيح مسلم ٤ : ١٨٣ ، مسند أحمد ١ : ٣١٤ ، المستدرك للحاكم ٢ : ١٩٦.

٣٢٥

باجتهاداتهم ، ولكنّ من يدّعون العلم يخوّفونهم بأنّ الشيعة عندهم كل شيء حلال.

وأتذكّر بأن أحدهم جادلني مرّة بالحُسنى وسألني : إذا كان سيّدنا عمر ابن الخطّاب ( رضي الله عنه ) بدّل حكم الله في هذه القضية وفي غيرها ، ووافق الصّحابة على ذلك ، فلماذا لم يعارض سيّدنا علي كرّم الله وجهه ورضي الله عنه ، ولم ينكر على سيّدنا عمر؟ وأجبته بجواب الإمام علي عليه‌السلام عندما قالت قريش : بأنّه رجلٌ شجاعٌ ، ولكن لا علم له بالحرب ، فقال :

« للّه أبوهم! وهل أحدٌ منهم أشدُّ لها مراساً ، وأقدم فيها مقاماً منّي! لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين ، وها أنذا قد ذرفت على السّتين ، ولكن لا رَأْيَ لمن لا يُـطَـاع » (١).

نعم ، وهل استمع المسلمون لرأي علي غير شيعته الذين آمنوا بإمامته ، فقد عارض تحريم المتعة ، وعارض بدعة التراويح ، وعارض كلّ الأحكام التي غيّرها أبو بكر وعمر وعثمان ، ولكن بقيت آراؤه محصورة في أتباعه وشيعته ، أمّا غيرهم من المسلمين فقد حاربوه ولعنوه ، وحاولوا جهدهم القضاء عليه ومحو ذكره.

ولا أدلَّ على معارضته من موقفه العظيم البطولي عندما دعاه عبد الرحمن بن عوف الذي رشّحوه لاختيار الخليفة بعد موت عمر فاشترط عليه ـ بعد أن اختاره ليكون هو الخليفة ـ أن يحكم فيها بسنّة الخليفتين أبو

____________

(١) نهج البلاغة ١ : ٧٠ ، الخطبة ٢٧.

٣٢٦

بكر وعمر ، فرفض علي عليه‌السلام هذا الشرط وقال : أحكم بكتاب الله وسنّة رسوله. وعلى هذا تركوه ، واختاروا عثمان بن عفان الذي قبل شرط الحكم بسنّة الخليفتين ، فإذا كان علي عليه‌السلام لا يقدر على معارضة أبي بكر وعمر وهما ميّتان ، فكيف يعارضهما وهما على قيد الحياة؟!

ولذلك ترى اليوم بأنّ باب مدينة العلم الذي كان أعلم النّاس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقضاهم وأحفظهم لكتاب الله وسنّة رسوله متروكاً عند أهل السنّة والجماعة ، فيقتدون بمالك وأبي حنيفة والشّافعي وابن حنبل ، ويقلّدونهم في كلّ أُمور الدّين من العبادات والمعاملات ، ولا يرجعون في شيء للإمام علي.

وكذلك فعل أئمّتهم في الحديث كالبخاري ومسلم ، فتراهم يروون عن أبي هريرة ، وعن ابن عمر ، وعن الأقرع والأعرج ، وعن كلّ قريب وبعيد مئات الأحاديث ، ولا يروون عن علي إلاّ بضعة أحاديث مكذوبة عليه ، وفيها مسُّ بكرامة أهل البيت.

ثمّ هم لا يكتفون بذلك ، فيستنكرون ويكفّرون من قلّده واقتدى به من شيعته المخلصين ، وينبزونهم بالرّوافض وبكلّ ما يُشين.

والحقيقة : إنّ هؤلاء ليس لهم ذنبٌ إلاّ أنّهم اقتدوا بعلي الذي كان منبوذاً ومبعداً في عهد الخلفاء الثلاثة ، ثمّ هو ملعون ومحارب في عهد الأموييّن والعبّاسيّين ، وكلّ من له إلمام ومعرفة بالتّاريخ ، سيُدركُ هذه الحقيقة واضحة جليّة ، وسيفهم الخلفيات والمؤامرات التي حيكتْ ضدّه ، وضدّ أهل بيته وشيعته.

٣٢٧

عثمان بن عفان يتّبع سنّة صاحبيه في مخالفة النّصوص

لعلّ عثمان بن عفان عندما عاهد عبد الرحمن بن عوف غداة بيعته بالخلافة أن يحكم فيهم بسنّة الخليفتين أبي بكر وعمر كان يرمي بأنّه سيجتهدُ كما اجتهدا ، ويغيّر النّصوص القرآنية والنّصوص النبويّة كما كانا يفعلان.

ومن تتبّع سيرته أيام خلافته يجده قد ذهب أشواطاً بعيدة في الاجتهاد ، حتّى أنسى النّاس اجتهادات صاحبيه أبي بكر وعمر!!

وأنا لا أُريد الإطالة في هذا الموضوع الذي ملأ كتب التاريخ قديماً وحديثاً ، وما أحدثه عثمان من أُمور غريبة سبّبت الثورة عليه وأودت بحياته ، ولكنّي سأقتصر على بعض الأمثلة الوجيزة كالعادة; ليتبيّن للقارئ ولكلّ باحث ما أحدث أنصار الاجتهاد في دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( أ ) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين عن عائشة قالت : فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ، ثمّ أتمّها في الحضر ، فأُقرّت صلاة السّفر على الفريضة الأُولى.

كما أخرج مسلم في صحيحه في نفس الكتاب المذكور أعلاه ، عن يعلى ابن أُميّة قال : قلتُ لعمر بن الخطّاب : ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فقد أمن النّاس! فقال : عجبتُ ممّا عجبتَ منه ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فقال : « صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقتُه ».

كما أخرج مسلم في صحيحه في كتاب صلاة المسافرين وقصرها عن

٣٢٨

ابن عبّاس ، قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحضر أربعاً ، وفي السّفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة.

كما أخرج مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلّى ركعتين.

وعنه أيضاً قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة إلى مكّة ، فصلّى ركعتين ركعتين حتّى رجع ، قلتُ : كم أقام بمكّة؟ قال : عشراً (١).

ومن خلال هذه الأحاديث التي أخرجها مسلم في صحيحه ، يتبيّن لنا بأنّ الآية الكريمة التي نزلت بخصوص تقصير الصّلاة في السّفر ، فهم منها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفسّرها قولا وعملا بأنّها رخصة تصدّق الله بها على المسلمين ويجب قبولها.

وبهذا تبطل دعوى الدواليبي ومن كان على شاكلته في التماس العذر لعمر وتصحيح أخطائه ، بأنّه نظر إلى علّة الحكم ولم ينظر إلى ظاهره; لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّمه بمناسبة نزول آية قصر الصّلاة عندما تعجّبَ عمر ، بأنّ النّصوص الثابتة لا تتوقّفُ على علّتها ، وبذلك تقصرُ الصّلاةُ في السّفر ، ولو أمِنَ النّاسُ ولم يخافوا أن يفتنهم الذين كفروا ، ولكن عمر له رأي آخر غير الذي يرتئيه الدواليبي وعلماء أهل السنّة بحسن ظنّهم.

ولننظر إلى عثمان بن عفّان ، فلا بدّ له هو الآخر أن يجتهدَ في النّصوص القرآنية والنبويّة حتّى يلحق بركب الخلفاء الرّاشدين ، فما أن استتبّ له الأمر حتّى أتمَّ الصّلاة في السّفر ، وأبدلها بأربع ركعات عوض ركعتين!!

____________

(١) صحيح مسلم ٢ : ١٤٢ ـ ١٤٥ كتاب صلاة المسافرين.

٣٢٩

وكم بقيتُ أتساءل عن السّبب في تغيير هذه الفريضة والزّيادة فيها ، وما هي الدوافع لذلك ، ولم أرَ إلاّ أنّه أرادَ أن يوهم النّاس وبالخصوص بني أُميّة بأنّه أبرّ وأتقى لله من محمّد وأبي بكر وعمر.

فقد أخرج مسلم في صحيحه في باب صلاة المسافرين وقصر الصّلاة بمنى ، قال : عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه صلّى صلاة المسافر بمنى وغيره ركعتين ، وأبو بكر وعمر وعثمانُ ركعتين صدْراً من خلافته ، ثمّ أتمّها أربعاً (١).

كما جاء في صحيح مسلم أيضاً أنّ الزّهري قال : قلتُ لعروة : ما بالُ عائشة تُتمُّ في السّفر؟ قال : إنّها تأوّلتْ كما تأوّلَ عثمان (٢).

وهكذا يصبح دين الله بأحكامه ونصوصه خاضعاً لتأوّل المتأولين وتفسير المفسّرين.

( ب ) كما أنّ عثمان اجتهد برأيه لتأييد ما ذهب إليه عمر من تحريم متعة الحجّ أيضاً كما حرّم متعة النساء ، فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الحجّ في باب التمتّع والإقران ، عن مروان بن الحكم قال : شهدْتُ عثمان وعليّاً رضي الله عنهما ، وعثمانُ ينهى عن المتعة وأن يجمَعُ بينهما ، فلمّا رأى علىٌّ أهلَّ بهما لبيكَ بعمرة وحجّة ، وقال : ما كنتُ لأدع سنّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول أَحَد.

____________

(١) صحيح مسلم ٢ : ١٤٦ كتاب صلاة المسافرين.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٤٣ كتاب صلاة المسافرين ، صحيح البخاري ٢ : ٣٦ كتاب تقصير الصلاة باب يقصر إذا خرج من موضعه.

٣٣٠

وأخرج مسلم في صحيحه في كتاب الحجّ باب جواز التمتّع عن سعيد ابن المسيّب ، قال : اجتمع علىٌّ وعثمان رضي الله عنهما بعُسْفَانَ ، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرةِ ، فقال علىٌّ : ما تريدُ إلى أمر فعلَهُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تنهى عنه؟ فقال عثمان : دعنا منك ، فقالَ : إنّي لا أستطيع أن أدعَكَ ، فلمّا رأَى علىٌّ ذلك أهلَّ بهما جميعاً.

نعم ، هذا هو علىٌّ بن أبي طالب سلام الله عليه ، فما كان ليدع سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقول أحد من النّاس ، والرواية الثانية تفيدنا بأنّ شجاراً دار بين علي وعثمان ، وقول عثمان لعلي : « دعنا منك » فيه ما فيه من مخالفته في كلّ شيء ، وعدم اتباعه فيما يرويه عن ابن عمّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ الرواية مبتورة إذا تقول : فقال علي : « إنّي لا أستطيع أن أدعكَ ، فلمّا رأى علي ذلك » ما هو الذي رآه علي؟ لا شك أنّ الخليفة ورغم تذكير علي له بالسنّة النبويّة أصرّ على رأيه في مخالفتها ، ومنع النّاس من التمتّع ، عند ذلك خالفه علىّ وأهلّ بهما جميعاً ، يعني الحجّ والعمرة.

( ت ) كما أنّ عثمان بن عفّان اجتهد أيضاً في أجزاء الصّلاة ، فكان لا يكبّر في السّجود ولا في الرّفع منه.

فقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده الجزء الرابع عن عمران بن حصين قال :

« صلّيتُ خلف علىّ صلاةً ذكرتني بصلاة صلّيتُها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والخليفتين ، قال : فانطلقتُ فصلّيتُ معه ، فإذا هو يكبّر كلّما سجد ورفع رأسه من الركوع ، فقلت : يا أبا نجيد مَن أولّ من تركه؟ قال : عثمان ( رضي الله عنه ) حين كبّر

٣٣١

وضعف صوته تركه » (١).

نعم ، هكذا تضيع السنن النبويّة ، وتتبدّل بسُنن خُلفائيّة ، وسنن ملوكيّة ، وسنن صحابيّة ، وسنن أمويّة ، وسنن عبّاسية ، وكلّها بُدع مبتدعة في الإسلام ، فكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار ، كما قال صاحب الرسالة عليه وآله أفضل الصّلاة وأزكى السّلام.

____________

(١) وراجع أيضاً فتح الباري ٢ : ٢٢٤ ، تحفة الأحوذي للمباركفوري ٢ : ٨٦ ، عون المعبود للعظيم آبادي ٣ : ٤٥. وفي فتح الباري أيضاً ٢ : ٢٢٤ قال : « روى أحمد والطحاوي باسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري قال : ذكرنا علي صلاة كنّا نصليّها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إما نسيناها وإما تركناها عمداً ... ».

فهذا الصحابي يصرّح بأنّهم قد نسوا سنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّهم جديدوا عهد بموته!! ثمّ يصرّح بأنّه قد يكون تركنا لها عمداً لا نسياناً ، وهذا طامة كبرى سترها أفضل من إفشائها; لأنّها تهدم ركناً عظيم وتشكّك في أمر قام عليه المذهب السنِّي ، وهو عدالة الصحابة ، فاقرأ وأعجب!!

ولأجل هذه المسائل التي تفضحهم وتهدّ ركنهم تراهم يدعون إلى عدم إفشاء هذه الأُمور بين عموم المسلمين وجعلها مستورة مغمورة لا يطلع عليها إلاّ المتيقّن من نفسه أنّه ثابت على سنّة بني أُمية وأتباعهم ، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٠ : ٩٢ : « كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنّه بهوىً وعصبية لا يلتفت إليه ، بل يطوى ولا يروى كما تقرّر عن الكفّ عن كثير ممّا شجر بين الصحابة وقتالهم .. وكتمان ذلك متعيّن عن العامّة وآحاد العلماء ، وقد يرخّص في مطالعة ذلك للعالم المنصف .. بشرط أن يستغفر لهم .. ».

فلا يطلع عليه إلاّ من يحكم مسبقاً بأنّهم عدول خيرين؟!

وهذا من العجب العجاب فالمسلم يريد معرفة الحقّ بالبحث ، فإذا كان مسبقاً حاملا لقاعدة عدالة عموم الصحابة وكلّ ما صدر عنهم لا يضرّ فأىّ قيمة لبحثه؟! وأي فائدة من مطالعته؟! فما لكم كيف تحكمون؟!!

٣٣٢

ولذلك فأنتَ ترى اليوم أشكالا وألواناً في صلاة المسلمين ، وتحسبهم جميعاً وقلوبُهم شتّى; لأنّهم يصطفّون للصلاة صفّاً واحداً ، فترى هذا سادلٌ يديه ، وذاك قابضٌ ، وآخر له شكلا خاصّاً في القبض ، فهو يضع يديه فوق السرّة ، وذاك يضعها قرب قلبه .. واحدٌ جامع بين قدميه وآخر مفرّق بينهما ، وكلّ واحد يعتقد بأنّه هو الحقّ ، وإذا ما تكلّمت في ذلك فسيقال لك : يا أخي إنها شكليات فلا تهتم بها وصلّ كما تريد ، فالمهم هو أن تُصلّي.

نعم ، هذا صحيح إلى حد ما ، فالمهم هي الصلاة ، ولكن يجب أن تكون صلاة مطابقة لصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قال : « صلّوا كما رأيتموني أُصلّي » (١) ، فعلينا أن نجتهد في البحث عن صلاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; لأنّ الصلاة عمود الدين.

( ث ) عثمان الذي استحت منه ملائكة الرحمن.

قال البلاذري في أنساب الأشراف ٥ : ٥٤.

لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة قال : رحمه الله. فقال عمّار بن ياسر : نعم ، فرحمه الله من كلّ أنفسنا ، فقال عثمان لعمّار : يا عاضَّ أير أبيه أتراني ندمتُ على تسييره ، وأمر فدفع في قفاه وقال : إلحق بمكانه.

فلما تهيّأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى علىّ ، فسألوه أن يكلّم عثمان فيه ، فقال له علي : يا عثمان اتّق الله فإنّك سيّرت رجلا صالحاً من المسلمين فهلك في تسييركَ ، ثمّ أنتَ الآن تريد أن تنفي نظيره؟

____________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٣٣ ، الأدب المفرد ٥٥ ، صحيح ابن خزيمة ٢٠٦ ، صحيح ابن حيان ٤ : ٥٤٢ ، السنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٣٤٥ ، سنن الدارقطني ١ : ٢٨٠.

٣٣٣

وجرى بينهما كلام حتّى قال عثمان لعلي : أنت أحقُّ بالنّفي منه ، فقال علي : رُم ذلك إن شئت.

واجتمع المهاجرون إلى عثمان فقالوا : إن كنتَ كلّما كلّمك رجلٌ سيّرتَه ونفيتَهُ فإنّ هذا شيء لا يسوغ ، فكفَّ عن عمّار.

وفي رواية اليعقوبي من تاريخه ٢ : ١٤٧ : أنّ عمار بن ياسر صلّى على المقداد ودفنَه ، ولم يؤذن بذلك عثمان بوصية من المقداد ، فاشتدّ غضب عثمان على عمّار وقال : ويلي على ابن السوداء ، أما لقد كنتُ به عليماً (١).

أفيمكن للحيىّ الذي تستحي منه الملائكة أن يتفحّش في الأقوال ، ولخيرة المؤمنين؟

ولم يكتف عثمان بشتم عمّار وقوله له فحشاً من القول ، كقوله : يا عاضّ أير أبيه ، حتَّى أمرَ غلمانه فمسكوا عماراً ، ومدوا بيديه ورجليه ، ثمّ ضربه عثمان برجليه ، وهي في الخفّين على مذاكيره فأصابه الفتق ، وكان ضعيفاً كبيراً فغُشي عليه ، وهذه قصّة معروفة عند المؤرّخين (٢) ، عندما كتب جمع من الصحابة كتاباً وأمروا عمّار أن يوصله له.

وكذلك فعل عثمان مع عبد الله بن مسعود إذ أمر به أحد جلاوزته ، وهو عبد الله بن زمعة ، فاحتمله ابن زمعة حتّى جاء به باب المسجد ، وضرب به الأرض فكسّر ضلعاً من أضلاعه (٣) ، لا لشيء إلاّ أن عبد الله بن مسعود

____________

(١) راجع الغدير للأميني ٩ : ١٩ عن أنساب الأشراف وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٣.

(٢) راجع الغدير ٩ : ١٦ عن أنساب الأشراف ٦ : ٢٠٩ ، الاستيعاب ، رقم ١٨٦٣ ، الامامة والسياسة ١ : ٣٥.

(٣) الغدير ٩ : ٣ عن أنساب الأشراف ٦ : ١٤٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٠.

٣٣٤

استنكر على عثمان أن يُعطيَ بني أُمية الفسقة أموال المسلمين بغير حساب.

وقامت الثورة على عثمان وكان ما كان حتّى ذُبحَ ، ومنعوا دفنه ثلاثة أيام ، وجاء من بني أُمية أربعة ليصلّوا عليه ، فمنعهم بعض الصّحابة من الصّلاة عليه ، فقال أحدهم : ادفنوه فقد صلّى الله عليه وملائكته ، فقالوا : لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبداً ، فدفنوه في حش كوكب ، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم ، فلمّا ملكت بنو أُمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع (١).

هذه نبذة يسيرة من تاريخ الخلفاء الثلاثة : أبي بكر وعمر وعثمان ، وهي وإن كانت يسيرة لأنّنا رُمنا الاختصار وإعطاء بعض الأمثلة فقط ، ولكنّها كافية لكشف السّتار عن تلكم الفضائل المزعومة ، والمناقب المخترعة التي لا يعرفها الخلفاء الثّلاثة ، ولا حلموا بها يوماً في حياتهم.

والسّؤال الذي يُطرح هو : ما يقول أهل السنّة والجماعة في هذه الحقائق؟

والجواب عند أهل الذكر هو : إن كنتمُ تعرفونها ولا تنكرونها لأنّ صحاحكم أثبتتها على حقيقتها رغم التعتيم ، فقد أسقطتم بذلك أُسطورة الخلافة الراشدة!! وإن كنتم تنكرونها ولا تثقون في صحّتها ، فقد أسقطتم صحاحكم وكتبكم المعتبرة التي أخرجتْها ، وبذلك أسقطتم كلّ معتقداتكم!!

____________

(١) ومن شاء فليرجع إلى كتاب الفتنة ووقعة الجمل لسيف بن عمر ٨٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٥ : ٢٠٧ ، ١٠ : ٧ ، فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٣ : ٢٨٩ ، الطبقات الكبرى ٣ : ٧٨ ، الثقات لابن حبان ٥ : ٤٨٢ ، تاريخ مدينة دمشق ١٣ : ٢٨٨ ، ٣٠ ، ٢١٩ ، ٣٩ : ٥٢٦ ، ٤٨ : ٤٥٥ ، الإصابة ١ : ٢١٤ ، ٥٦٦ ، تاريخ المدينة لابن شيبة ١ : ١١٣.

٣٣٥
٣٣٦

الفصل السادس

في ما يتعلّق بالخلافة

الخلافة ، وما أدراك ما الخلافة! فهي التي جعلها الله فتنة الأُمة ، وهي التي قسمتْها وأَطمعت فيها الطّامعين ، وهي التي أهرقت في سبيلها الدّماء البريئة ، وهي التي كفر من أجلها مسلمون ، فأغرتهمُ وأبعدتهم عن الصراط المستقيم وأدخلتهم نار الجحيم ، ولا بُدَّ لنا من دراسة تكون على اختصارها محيطة بالخفايا والملابسات ، التي كانت الخلافة مسرحاً لها قبيل وبعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأوّل ما يتبادر للأذهان أنّ الزعامة عند العرب كانت من الأُمور الضرورية في كلّ العصور ، فتراهم يقدّمون رئيس القبيلة أو زعيم العشيرة على أنفسهم ، فلا يبرمون أمراً دونه ، ولا يتخذون قراراً إلاّ بمشورته ، ولا يسبقونه بالقول.

فزعيم العشيرة هذا عادة ما يكون أكبرهم سنّاً ، وأعلمهم بالأمور ، وأشرفهم حسباً ونسباً.

ويبدو أنّ هذا الرئيس يبرز من خلال الأحداث في عشيرته ، وممّا يظهر عليه من ذكاء وفطنة ، وشجاعة وعلم بالأُمور ، وسخاء وإكرام الضيف ، وغير ذلك من الخصال الحميدة ، ولكن في أغلب الأحيان هي

٣٣٧

وراثة وليست اختيار.

ونجد بعد ذلك أنّ القبائل والعشائر رغم استقلاليتها ، فهي تخضع لزعامة القبيلة الواحدة التي قد تكون أكثر عدداً ومالا ، ولها أبطال يخوضون المعارك ، ويحملون بقية القبائل تحت رعايتها ، ومثال ذلك قريش التي كانت تتزعم بقية القبائل العربية الخاضعة لها بحكم الزّعامة والسيّادة التي فرضتها رعايتها لبيت الله الحرام.

ولمّا جاء الإسلام أقرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حدّ ما هذا الأسلوب في التعامل ، فكان يولّي على القبائل التي وفدت عليه وأقرّت بالإسلام سيّدهم وشريفهم ليكون والياً عليها ، فيُصلّي بهم ، ويجمع زكاتهم ، ويكون همزة الوصل بينهم وبينه.

ثمّ إنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنشأ بأمر الله سبحانه الدولة الإسلامية ، التي تخضع في كلّ أحكامها وقراراتها إلى ما ينزل به الوحي من الله ، فكان نظام المجتمع ونظام الفرد من عقود نكاح وطلاق ، وبيع وشراء ، وأخذ وعطاء ، وإرث وزكاة ، وكلّ ما يخصّ الفرد والمجتمع في الحرب والسلم من معاملات وعبادات ، كلّها خاضعة إلى أحكام الله ، ومهمّة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي التنفيذ ، والسّهر على تطبيق تلك الأحكام.

ومن الطبيعي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفكّر في من سيخلفه في هذه المهمّة العظمى ، ألا وهي قيادة الأُمّة.

ومن الطبيعي أن يهتمّ كلّ رئيس دولة ـ إن كان يهمّه شعبه ـ بالشخص الذي يختاره; ليكون نائبه في كلّ المهمّات التي يكون هو غائبٌ عنها ،

٣٣٨

فيكون وزيره الأول والمقرّب الذي يحضر إذا يغيبون ، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون نائبه معلوماً لدى كلّ الوزراء وعند الشعب أيضاً.

فلا يمكن أن يصدّق العقل بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أغفل كلّ ذلك ولم يهتمّ به ، ولا شكّ بأنّه كان شغله الشاغل ، ولا شكّ بأنّ الأحاديث المتعلّقه بالموضوع خضعت للحصار الذي ضربه الخلفاء الذين كانوا يتزعّمون نظريّة الشورى والذين عملوا بكلّ جهودهم لمعارضة النّصوص التي عيّنت وشخّصت الخليفة.

وكان من هذه الجهود أيضاً الطعن بقداسة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتهامه بالهجر ، ثمّ الطعن فيه وفي الأمير الذي ولاّه قيادة الجيش; بدعوى أنّه لا يصلح للإمارة والقيادة لصغر سنّه ، ثمّ التّشكيك في وفاة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تضطرب الأُمور ، ولا يسبق النّاسُ عامّة لبيعة الخليفة الذي عيّنَهُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل.

ومن تلك الجهود اغتنامهم فرصة اشتغال علي وأنصاره بتجهيز النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعقد مؤتمر السّقيفة الطارئ ، واختيار من يرضونه وترتاح نفوسهم إليه وتُعقدُ آمالهم عليه ، ثمّ حمل النّاس عامّة على البيعة بالتّهديد والتنّديد ، والوعد والوعيد ، ثمّ إقصاء المعارضة كلّياً عن السّاحة السياسيّة ، ثمّ الوقوف بحزم وصرامة ضدّ كلّ من تحدّثه نفسه بشقّ عصا الطّاعة ، أو شكّك في شرعيّة الخلافة الجديدة ، ولو كانت فاطمة بنت النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ ضرب الحصار والمنع الباتّ على الأحاديث النّبوية الشريفة عامّة ، حتّى لا تتفشّى النّصوص بين النّاس وتضطرب الأُمور ، ولو أدّى ذلك

٣٣٩

للاغتيال الفردي والقتال الجماعي; لإخماد المعارضة بدعوى القضاء على الفتنة مرّة والردّة أُخرى!!

كلّ ذلك عرفناه من خلال ما كتبه المؤرّخون ، وإن كان بعضهم يحاول تغطية الحقيقة بوضع بعض الروايات المتناقضة ، أو بعض التأويلات والاعتذارات التي كشفتْ خفاياها الأيام والأحداث والأبحاث.

وقد يكون بعضهم معذوراً; لأنّه أخذ معلوماته من المصادر الأُولى التي كُتبتْ تحت التأثير السيّاسي والاجتماعي الذي خلّفته الفتنة الكبرى ، وما أعقبها من أحداث عندما استولى بنو أُميّة على الخلافة ، وأغدقوا الأموال والمناصب على بعض الصّحابة والتابعين المأجورين ، فأخذ بعض المؤرّخين من هؤلاء لحسن ظنّه بهم ، وهو لا يعلم خائنة الأعينُ وما تُخفي الصّدور ، فاختلطت الروايات الصحيحة بالروايات المكذوبة ، وأصبح من العسير على الباحث الوصول إلى الحقيقة.

ولتقريب القارئ الباحث من هذه الحقيقة ، لابدّ من إثارة وطرح هذه الأسئلة ، حتّى يكتشف من خلالها أو من خلال الإجابة عليها بعض الحقائق ، أو بعض الإشارات التي توصله إلى الحقيقة.

أسئلة وأجوبة لا غِنى عنها لكلّ باحث

وردت علىّ رسائل عديدة من أقطار كثيرة ، تحمل في طيّها بعض التساؤلات المهمّة ، والتي تنبئُ عن حرص القرّاء الكرام لمزيد البحث والتنقيب عن الحقائق ، وقد أجبتُ على البعض منها ، وأعرضت عن البعض الآخر غير مستخفّ بها ، ولكن لأنّ الجواب عليها موجود في كتابي « ثمّ

٣٤٠