فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

بدّاً من نسبة الارتداد إليهم; لأنهم عرفوا أن سبابُ المسلم فسوقٌ وقتاله كفرٌ ، كما جاء في صحاح أهل السنّة (١).

وحتّى إنّ البخاري عندما أخرج حديث أبي بكر وقوله : « والله لأقتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة » (٢) جعلَ له باباً بعنوان : من أبى قبول الفرائض وما نُسِبُوا إلى الردّة ، وهو دليل على أنّ البخاري نفسه لا يعتقد بردّتهم ( كما لا يخفى ).

وحاول البعض الآخر تأويل الحديث كما تأوّله أبو بكر : بأنّ الزكاة هي حقّ المال ، وهو تأويل في غير محلّه.

أوّلا : لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم قتل من قال : لا إله إلاّ الله فقط ، وفي ذلك أحاديث كثيرة أثبتتها الصّحاح سنُوافيك بها.

ثانياً : لو كانت الزكاة حقّ المال ، فإنّ الحديث يُبيح في هذه الحالة أن يأخذ الحاكم الشرعي الزكاة بالقوّة من مانعها بدون قتله وسفك دمه.

ثالثاً : لو كان هذا التأويل صحيحاً لقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثعلبة الذي امتنع عن أداء الزكاة له ( القصّة معروفة لا داعي لذكرها ) (٣).

رابعاً : إليك ما أثبتته الصّحاح في حرمة من قال : لا إله إلاّ الله ، وسأقتصر على البخاري ومسلم ، وعلى بعض الأحاديث روماً للاختصار.

____________

(١) صحيح البخاري ١ : ١٧ كتاب الإيمان ، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ، وصحيح مسلم ١ : ٥٨ كتاب الإيمان ، باب قول النبي : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٥٠ ، كتاب استتابة المرتدين.

(٣) راجع كتاب « ثمّ اهتديت » : ١٨٣ ، نشر مؤسسة الفجر لندن ( المؤلّف ).

٢٨١

( أ ) أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان ، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال : لا إله إلاّ الله.

والبخاري في صحيحه في كتاب المغازي ، باب حدّثني خليفة عن المقداد بن الأسود أنّه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرأيتَ إن لقيتُ رجلا من الكفّار فاقتتلنا ، فضرب إحدى يدىَّ بالسّيف فقطعها؟ ثمّ لاذَ منّي بشجرة ، فقال : أسلمتُ لله ، أأقتلُهُ يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تقتُلْهُ » فقال : يا رسول الله إنّه قطع إحدى يدىَّ ، ثمّ قال ذلك بعدما قطعها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تقْتلْهُ ، فإن قَتَلْتَهُ فإنَّهُ بمنزلتِكَ قبل أن تقتلَهُ ، وإنّك بمنزلتِهِ قبل أن يقول كلمتَهُ التي قال ».

هذا الحديث يفيد بأنّ الكافر الذي قال : لا إله إلاّ الله ولو بعد اعتدائه على مسلم بقطع يده فإنّه يحرمُ قتلُهُ ، وليس هناك اعتراف بمحمّد رسول الله ، ولا إقامة الصّلاة ، ولا إيتاء الزكاة ، ولا صوم رمضان ، ولا حجّ البيت ، فأينَ تذهبون وماذا تتأوّلون؟

( ب ) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب المغازي ، باب بعْث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة ، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان ، في باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال : لا إله إلاّ الله ، عن أُسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحُرقة فصبحنا القوم فهزمناهُم ، ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رَجُلا منهم ، فلمَّا غشينَاه قال : لا إله إلاّ الله ، فكفّ الأنصاري عنه ، وطعنتُهُ برُمحي حتّى قتلتُهُ ، فلمَّا قدمنا بلغ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « يا أُسامة أقتلتَهُ بعدما قال : لا إله إلاّ الله؟ » قلتُ : كان متعوّذاً ، فما زال

٢٨٢

يُكرّرُهَا حتّى تمنّيتُ أني لم أكنْ أسلمتُ قبل ذلك اليوم.

وهذا الحديث يفيد قطعاً بأنّ من قال : لا إله إلاّ الله يحرمُ قتله ، ولذلك ترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشدّد النّكير على أُسامة ، حتى يتمنّى أُسامة أنّه لم يكن أسلم قبل ذلك اليوم ليشمله حديث « الإسلام يجبَّ ما قبله » ، ويطمع في مغفرة الله له ذلك الذنب الكبير.

( ت ) أخرج البخاري في صحيحه من كتاب اللّباس ، باب الثياب البيض ، وكذلك مسلم في صحيحه كتاب الإيمان ، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة :

عن أبي ذر الغفاري ( رضي الله عنه ) ، قال : أتيتُ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائم ، ثمّ أتيتُه وقد استيقظ ، فقال : « ما من عبد قال : لا إله إلاّ الله ثمّ ماتَ على ذلك إلاّ دخل الجنّة » ، قلتُ : وإن زنى وإن سرق؟ قال : « وإن زنى وإن سرق » ، قلتُ : وإن زنى وإن سَرَقَ؟ قال : « وإن زنى وإن سرقَ » ، قلتُ : وإن زنى وإن سرق؟ قال : « وإن زنى وإن سَرَقَ على رغم أنفِ أبي ذرّ ». وكان أبو ذرّ إذا حدّث بهذا الحديث قال : وإن رغم أنف أبي ذرّ.

وهذا الحديث هو الآخر يثبت دخول الجنّة لمن قال : لا إله إلاّ الله ، ومات على ذلك فلا يجوز قتلهم ، وذلك رغم أنف أبي بكر وعمر ، وكلّ أنصارهم الذين يتأوّلون الحقائق ويَقبلونها حفاظاً على كرامة أسلافهم وكبرائهم الذين غيّروا أحكام الله.

وبالتأكيد أنّ أبا بكر وعمر يعرفان كلّ هذه الأحكام ، فهما أقرب منّا لمعرفتها ، وألصق بصاحب الرسالة من غيرهما ، ولكنّهما ومن أجل الخلافة

٢٨٣

تأوّلا جُلّ أحكام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على علم وبيّنة.

ولعلّ أبا بكر لمّا عزم على قتال مانعي الزّكاة ، وعارضه عمر بحديث الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يحرمَ ذلك أقنع صاحبه بأنّه هو الذي حمل الحطب ليحرق بيت فاطمة بنفسه ، وأنّ فاطمة أقلّ ما يقال بحقها : إنّها كانت تشهد أن لا إله إلاّ الله ، ثمّ أقنعه بأنّ فاطمة وعلىّ لم يعد لهما كبير شأن في عاصمة الخلافة ، بينما هؤلاء القبائل الذين منعوا الزكاة لو تركوهم واستشرى أمرهم في داخل البلاد الإسلامية ، فسيكون لهم تأثير كبير على مركز الخلافة ، عند ذلك رأى عمر أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال ، فاعترف بأنّه الحقّ.

أبو بكر يمنع من كتابة السنّة النبويّة

وكذلك يفعل بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان

إنّ الباحث إذا ما قرأ كتب التّاريخ ، وأحَاط ببعض الخلْفيّات التي توخّتها حكومة الخلفاء الثلاثة ، علم عِلم اليقين بأنّهم هم الذين منعوا من كتابة الحديث النّبوي الشريف وتدوينه ، بل منعوا حتى التحدّث به ونقله إلى النّاس; لأنّهم بلا شكّ علموا بأنّه لا يخدم مصالحهم ، أو على الأقل يتعارض ويتناقض مع الكثير من أحكامهم ، وما تأوّلوه حسب اجتهاداتهم ، وما اقتضته مصالحهم.

وبقي حديث النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي هو المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ، بل هو المفسّر والمبيّن للمصدر الأوّل ألا وهو القرآن الكريم ، بقىّ ممنوعاً ومحرَّماً على عهدهم ، ولذلك اتفقت كلمة المحدّثين والمؤرّخين على بداية جمع الحديث والتدوين في عهد عمر بن عبد العزيز ( رضي الله عنه ) أو بعده بقليل.

٢٨٤

فقد نقل البخاري في صحيحه في كتاب العلم ، باب كيف يقبض العلم قال : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم : أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاكتبه ، فإنّي خفتُ دروس العلم وذهاب العلماء ، ولا يقبل إلاّ حديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليفشوا العلم ، وليجلسوا حتّى يُعلَّمَ من لا يعلمُ ، فإنّ العلمَ لا يهلكُ حتّى يكون سرّاً.

فهذا أبو بكر يخطب في النّاس بعد وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا لهم : إنّكم تحدّثون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّمواحرامه (١).

عجيبٌ والله أمر أبي بكر! ها هو وبعد أيام قلائل من ذلك اليوم المشـؤوم الذي سُمِّيَ برزيّة يوم الخميس ، يُوافق ما قاله صاحبه عمر بن الخطّاب بالضّـبط عندما قال : إنّ رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله يكفينا!!

وها هو يقول : لا تُحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه.

والحمد لله على اعترافه صراحة بأنّهم نبذوا سنّة نبيّهم وراء ظهورهم ، وكانت عندهم نسياً منسياً!!

والسّؤال هنا إلى أهل السنّة والجماعة الذين يدافعون عن أبي بكر وعمر ، ويعتبرانهما أفضل الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كانت صحاحكم كما تعتقدون تروي بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « تركت فيكم خليفتين ما إن

____________

(١) تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ٣.

٢٨٥

تمسكتم بهما لن تضلّوا أبداً : كتاب الله وسُنَّتي » ـ على فرض أنّنا سلّمنا بصحّة هذا الحديث ـ فما بال أفضل الخلق عندكم يرفضان السنّة ، ولا يقيمان لها وزناً ، بلْ ويمنعان النّاس من كتابتها والتحدّث بها؟! وهل من سائل يسأل أبا بكر في أيّ آية وجدَ قتال المسلمين الذين يمنعون الزكاة ، وسبي نسائهم وذراريهم؟!

فكتاب الله الذي بيننا وبين أبي بكر يقول في حقّ مانعي الزكاة : ( وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) (١).

وباتفاق جميع المفسّرين ، فإنّ هذه الآيات نزلت بخصوص ثعلبة الذي منع الزكاة على عهد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أضف إلى ذلك بأنّ ثعلبة منع الزكاة ، وامتنع من أدائها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، لأنّه أنكرها وقال هي جزية (٢).

وقد شهد الله في هذه الآيات على نفاقه ، ومع ذلك فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقاتله ، ولم يأخذ أمواله بالقوة ، وكان قـادراً على كلّ ذلك ، أمّا مالك بن نويرة وقومه فلم ينكروا الزكاة كفرض من فروض الدّين ، وإنّما أنكروا الخليفة الذي استولى على الخلافة بعد الرسول بالقوة والقهر ، وانتهاز الفرصة.

ثمّ إنّ أمْر أبي بكر أغرب وأعجب عندما نبذ كتاب الله وراء ظهره ، وقد

____________

(١) التوبة : ٧٥ ـ ٧٧.

(٢) تفسير الطبري ١٠ : ٢٤٢ ، تفسير ابن كثير ٢ : ٣٨٨ ، زاد المسير لابن الجوزي ٣ : ٣٢١.

٢٨٦

احتجّت به عليه فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين ، وتلتْ على مسامعه آياتٌ بيّنات محكمات من كتاب الله الذي يُقرّ وراثة الأنبياء ، فلم يقبل بها ونسخها كلّها بحديث جاء به من عنده لحاجة في نفسه!! وإذا كان يقول : إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والنّاس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه. فلماذا لم يفعل هو بما يَقول عندما اختلف مع بضعة المصطفى الصدّيقة الطّاهرة ، في حديث النّبي « نحن معشر الانبياء لا نوّرث » ولم يحتكم معها إلى كتاب الله ، فيُحِلّ حلاله ويُحرّم حرامه؟

والجواب معروف ، في تلك الحالة سوف تجد كتاب الله ضدّه ، وسوف تنتصر عليه فاطمة في كلّ ما ادّعته ضدّه ، وإذا ما انتصرت عليه يومها فسوف تحاججه بنصوص الخلافة على ابن عمّها ، وأنّى له عندئذ دفعها وتكذيبها ، والله يقول بهذا الصدد : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّهِ أنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) (١).

نعم ، لكلّ ذلك ما كان أبو بكر ليرتاح إذا ما بقيت أحاديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متداولة بين النّاس ، يكتبونها ويحفظونها ويتناقلونها من بلد لآخر ومن قرية لأُخرى ، وفيها ما فيها من نصوص صريحة تتعارض والسّياسة التي قامت عليها دولته ، فلم يكن أمامه حلاّ غير طمس الأحاديث وسترها بل ومحوها وحرقها.

____________

(١) الصف : ٢ ـ ٣.

٢٨٧

فها هي عائشة ابنته تشهد عليه ، قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله ، فكانتْ خمسمائة حديث ، فبات يتقلّب ، فقلت : يتقلّب لشكوى أو لشيء بلغه ، فلما أصبح قال : أي بنيّة هلمّي الأحاديث التي عندك فجئته بها ، فأحرقها ... الحديث (١).

عمر بن الخطاب يتشدّد أكثر من صاحبه في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويمنع النّاس من نقله

لقد رأينا سياسة أبي بكر في منع الحديث ، حتّى وصل به الأمر أن أحرق المجموعة التي جُمعت على عهده ، وهي خمسمائة حديث ، لئلا تتفشّى عند الصّحابة وغيرهم من المسلمين الذين كانوا يتعطشون لمعرفة سنّة نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولما ولي عمر الخلافة بأمر من أبي بكر ، كان عليه أن يتوخّى نفس السّياسة ولكن بأُسلوبه المعروف بالشدّة والغلظة ، فلم يقتصر على حظر ومنع تدوين الحديث ونقله فحسب ، بل تهدّد وتوعّد وضرب أيضاً ، واستعمل فرض الحصار هو الآخر.

روى ابن ماجة في سننه من الجزء الأول ، باب التوقّي في الحديث. قال : عن قرظة بن كعب ، بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة ، وشيّعنا فمشى معنا إلى موضع صرار ، فقال : أتدرون لم مشيتُ معكم؟ قال : قلنا لحقّ صُحبة رسول الله ، ولحقِّ الأنصار ، قال : لكنّي مشيتُ معكم لحديث أردتُ أن

____________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٨٥ ح ٢٩٤٦٠ ، تذكرة الحفاظ ١ : ٥.

٢٨٨

أحدّثكم به ، فأردتُ أن تحفظوه لممشاي معكم ، إنّكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم ازيز كأزيز المرجل ، فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم ، وقالوا أصحاب محمّد! فأقلّوا الرواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أنا شريككم. فلما قدم قرظة بن كعب قالوا : حدّثنا ، قال : نهانا عمر (١).

كما روى مسلم في صحيحه في كتاب الآداب ، باب الاستئذان ، بأنّ عمر هدّد أبا موسى الأشعري بالضرب من أجل حديث رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال أبو سعيد الخدري : كنا في مجلس عند أُبي بن كعب ، فأتى أبو موسى الأشعري مُغضباً ، حتى وقفَ فقال : أنشدكم الله هل سمع أحدٌ منكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك وإلاّ فارجع؟ قال أُبي : وما ذاك ، قال : استأذنتُ على عمر بن الخطاب أمس ثلاث مرّات ، فلم يؤذن لي فرجعتُ ، ثمّ جئته اليوم فدخلتُ عليه ، فأخبرته أنّي جئتُ بالأمس فسلمتُ ثلاثاً ثمّ انصرفت ، قال : قد سمعناك ونحن حينئذ على شغل ، فلو ما استأذنت حتى يؤذن لك ، قلتُ : استأذنت كما سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فوالله لأوجعنّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمنْ يشهد لك على هذا ، فقال أُبي بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلاّ أحدثنا سنّاً ، قم يا أبا سعيد ، فقمت حتى أتيتُ عُمر ، فقلت : قد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول هذا.

وروى البخاري هذه الحادثة ، ولكنّه كعادته بترها وحذف منها تهديد

____________

(١) سنن ابن ماجة ١ : ٢٥ ح ٢٨ ، ط دار الفكر وصرّح البوصيري في حاشيته على السنن بصحته ، تذكرة الحفاظ للذهبي ١ : ٧.

٢٨٩

عمر بضرب أبي موسى حفاظاً كعادته على كرامته (١). مع أنّ مسلم في صحيحه زاد قول أُبي بن كعب لعمر : يابن الخطاب فلا تكوننَّ عذاباً على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد روى الذهبي في تذكرة الحفاظ من جزئه الأول الصفحة السابعة عن أبي سلمة قال : قلت لأبي هريرة : أكنتَ تحدّث في زمان عمر هذا؟ فقال : لو كنتُ أُحدّث في زمان عمر مثل ما أُحدّثكم لضربني بمخفقته (٢).

كما أنّ عمر بعد منع الحديث والتهديد بالضرب ، أقدم هو الآخر على حرق ما دوّنَهُ الصّحابة من الأحاديث ، فقد خطب النّاس يوماً قائلا : أيّها النّاس ، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتبٌ ، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها ، فلا يبقيّن أحد عنده كتاباً إلاّ أتاني به فأرى فيه رأيي ، فظنّوا أنّه يريد النّظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنّار (٣).

كما أخرج ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله ، أنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتب السنّة ، ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب إلى الأمصار من كان عنده شيء فليمحه (٤).

____________

(١) صحيح البخاري ٦ : ١٧٨ في كتاب الاستئذان ، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ : ٧.

(٣) حجيّة السنّة لعبد الغني : ٣٩٥ ونحوه : الطبقات الكبرى لابن سعد ٥ : ١٨٨ ، سير أعلام النبلاء للذهبي ٥ : ٥٩.

(٤) كنز العمال ١٠ : ٢٩٢ ح ٢٩٤٧٦ ، عن ابن عبد البر وأبي خثيمة ، جامع بيان العلم وفضله : ٧٧.

٢٩٠

ولمّا أعيته الحيلة ورغم تهديده ووعيده ، ومنعه وتحريمه ، وحرقه كتب الأحاديث ، بقي بعض من الصّحابة يُحدّثون بما سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما يلتقون في أسفارهم خارج المدينة بالنّاس اللذين يسألونهم عن أحاديث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رأى عمر أن يحبس هؤلاء النفر في المدينة ، ويضرب عليهم حصاراً وإقامة جبريّة.

فقد روى ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : والله ما مات عمر حتّى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق : عبد الله بن حذيفة ، وأبي الدرداء ، وأبي ذر الغفاري ، وعقبة بن عامر. فقال : ما هذه الأحاديث التي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق ، قالوا : تنهانا؟ قال: لا ، أقيموا عندي ، لا والله لا تفارقوني ما عشت (١).

ثمّ جاء بعده ثالث الخلفاء عثمان الذي اتّبع نفس الطريق ، وسلك ما سطّره له صاحباه من قبل ، فصعد على المنبر وأعلن صراحة قوله :

لا يحلُّ لأحد أن يرويَ حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم أسمع به في عهد أبي بكر وعمر (٢).

وهكذا دَام الحصار طيلة حياة الخلفاء الثلاثة ، وهي خمسة وعشرون عاماً ، ويا ليته كان حصاراً في تلك المدّة فحسب ، ولكنّه تواصل بعد ذلك ، وعندما جاء معاوية للحكم صعد المنبر هو الآخر وقال : إيّاكم وأحاديث إلاّ

____________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٩٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٠ : ٥٠٠.

(٢) الطبقات لابن سعد ٢ : ٣٣٦ ، كنز العمال ١٠ : ٢٩٥ ح ٢٩٤٩٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٣٩ : ١٨٠.

٢٩١

حديثاً كان في عهد عمر ، فإنّ عمر كان يخيفُ الناسَ في الله عز وجلَّ. الحديث أخرجه مسلم في صحيحه ، في كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة من جزئه الثالث.

ونهج الخلفاء الأمويون على هذا المنوال ، فمنعوا أحاديث الرسول الصحيحة ، وتفنّنوا في وضع الأحاديث المزوّرة والمكذوبة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى ابتُلي المسلمون في كلّ العصور بالمتناقضات ، وبالأساطير والمخاريق التي لا تمتُّ للإسلام بشيء.

وإليك ما نقله المدائني في كتابه « الأحداث » قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة : أن برئتْ الذمّة ممن رَوى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ( يقصد علي بن أبي طالب ) ، فقامَ الخطباء في كلّ كورة وعلى كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته.

ثمّ كتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق : أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة.

ثمّ كتب إليهم : أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبّيه ، وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم ، وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إلىّ بكلّ ما يروي كلّ رجل منهم ، واسمه واسم أبيه وعشيرته.

ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه ، لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصِّلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كلّ مصر ، وتنافسوا في المنازل والدنيا ، فلا يأتي أحد مردود من الناس عاملا من عمّال معاوية ، فيروي في عثمان فضيلة أو

٢٩٢

منقبة إلاّ كتب اسمه وقرّبه وشفّعه ، فلبثوا بذلك حيناً.

ثمّ كتب معاوية إلى عمّاله : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية ، إذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصّحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصّحابة ، فإنّ هذا أحبّ إلىّ وأقرُّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ عليهم من مناقب عثمان وفضله.

فقُرأت كتبه على النّاس ، فرويت أخبارٌ كثيرة في مناقب الصّحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر ، وألقي إلى معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم ، حتى رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتّى علّموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله.

ثمّ كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان :

أُنظروا من قامت عليه البيّنة أنّه يحبّ علياً وأهل بيته ، فامحوا اسمه من الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه.

ثمّ شفع ذلك بنسخة أُخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به ، واهدموا داره.

فلم يكن البلاء أشدّ ولا أكثر منه بالعراق ولا سيّما بالكوفة ، حتّى إنّ الرّجل من شيعة علي ليأتيه من يثق به ، فيدخل بيته فيلقي إليه سرّه ، ويخاف من خادمه ومملوكه ، ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه.

٢٩٣

فظهر حديث كثير موضوع ، وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم النّاس بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون ، الذين يظهرون الخشوع والنسك ، فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقرّبوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان ، فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنها حقّ ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ، ولا تديّنوا بها (١).

وأقول : بأنّ المسؤولية في كلّ ذلك يتحمّلها أبو بكر وعمر وعثمان ، الذين منعوا من كتابة الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بدعوى خوفهم بأن لا تختلط السنّة بالقرآن ، هذا ما يقوله أنصارهم والمدافعون عنهم.

وهذه الدّعوى تُضحك المجانين ، وهل القرآن والسنّة سُكّر وملح إذا ما اختلطا فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر ، وحتى السكّر والملح لا يختلطان; لأنّ كلّ واحد محفوظ في علبته الخاصّة به ، فهل غاب عن الخلفاء أن يكتبوا القرآن في مصحف خاصّ به ، والسنّة النّبوية في كتاب خاصّ بها ، كما هو الحال عندنا اليوم!! ومنذ دوّنت الأحاديث في عهد عمر ابن عبد العزيز ( رضي الله عنه ) ، فلماذا لم تختلط السنّة بالقرآن ، رغم أن كتب الحديث تُعدُّ بالمئات؟! فصحيح البخاري لا يختلط بصحيح مسلم ، وهذا لا يختلط بمسند أحمد ، ولا بموطأ الإمام مالك ، فضلا عن أن يختلط بالقرآن الكريم.

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١١ : ٤٤.

٢٩٤

فهذه حجّة واهية كبيت العنكبوت لا تقوم على دليل ، بل الدليل على عكسها أوضح ، فقد روى الزهري عن عروة أنّ عمر بن الخطاب أرادَ أن يكتب السنن ، فاستفْتى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأشاروا عليه أن يكتُبها ، فطفقَ عمر يستخير الله فيها شهراً ، ثمّ أصبح يوماً فقال : إنّي كنت أُريد أن أكتب السُّنن ، وإنّي ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإنّي والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبداً (١).

أنظر أيها القارئ إلى هذه الرواية ، كيف أشار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عمر بأن يكتب السُّنن ، وخالفهم جميعاً واستبدّ برأيه ، بدعوى أنّ قوماً قبلهم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها ، وتركوا كتاب الله ، فأين هي دعوى الشورى التي يتشدّق بها أهل السنّة والجماعة؟! ثمّ أين هؤلاء القوم الذين أكبّوا على كتبهم وتركوا كتاب الله ، لم نسمع بهم إلاّ في خيال عمر بن الخطّاب؟! وعلى فرض وجود هؤلاء القوم فلا وجه للمقارنة ، إذ إنّهم كتبوا كتباً من عند أنفسهم لتحريف كتاب الله ، فقد جاء في القرآن الكريم : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ) (٢).

أمّا كتابة السنن فليستْ كذلك; لأنّها صادرة عن نبي معصوم لا ينطقُ عن الهوى إن هو إلاّ وحىٌّ يُوحَى ، وهي مُبيّنة ومفسّرة لكتاب الله ، قال

____________

(١) كنز العمال ١٠ : ٢٩١ ح ٢٩٤٧٤ عن ابن عبدالبر ، المصنّف لعبد الرزاق ١١ : ٢٥٧ ح ٢٠٤٨٤ ، نحوه الطبقات لابن سعد ٣ : ٢٨٧ ، جامع بيان العلم وفضله : ٧٦.

(٢) البقرة : ٧٩.

٢٩٥

تعالى : ( وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ) (١).

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أوتيتُ القرآن ومثله معه » (٢) ، وهذا أمرٌ بديهي لكلّ من عرف القرآن ، فليس هناك الصّلوات الخمس ، ولا الزكاة بمقاديرها ، ولا أحكام الصّوم ، ولا أحكام الحجّ ، إلى كثير من الأحكام التي بيّنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكلّ ذلك قال الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٣).

وقال : ( قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (٤).

وليتَ عُمر عرف كتاب الله وأكبّ عليه; ليتعلّمَ منه الامتثال إلى أوامر الرّسول ، ولا يُناقشها ولا يطعن فيها (٥).

وليته عرف كتاب الله وأكبّ عليه ، ليتعلّم منه حكم الكلالة (٦) التي ما عرفها حتى مات ، وحكم فيها أيّام خلافته بأحكام متعدّدة ومتناقضة ، وليتَه عرف كتاب الله وأكبْ عليه; ليتعلّم منه حكم التيمّم الذي ما عرفه حتّى أيام خلافته ، وكان يفتي بترك الصّلاة لمن لم يجد الماء (٧) ، وليتَه عرف كتاب الله وأكبّ عليه ليتعلّم منه حكم الطّلاق مرّتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح

____________

(١) النحل : ٤٤.

(٢) مسند أحمد ٤ : ١٣١ ، تفسير ابن كثير ١ : ٤.

(٣) الحشر : ٧.

(٤) آل عمران : ٣١.

(٥) صحيح البخاري١ : ٣٧ باب كتابة العلم ، و ٥ : ١٣٨ ، في رزية الخميس.

(٦) صحيح مسلم ٢ : ٨١ ، باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً.

(٧) صحيح البخاري ١ : ٩٠ ، صحيح مسلم ١ : ١٩٣ باب التيمّم وفيه : « إنّ رجلا أتى عمر فقال : إنّي أجنبت فلم أجد ماء؟ فقال : لا تصلِّ ... ».

٢٩٦

بإحسان ، والذي جعله هو طلقةٌ واحدة (١) ، وعارض برأيه واجتهاده أحكام الله ، وضرب بها عرض الحائط.

والحقيقة التي لا مجال لدفعها ، هي أنّ الخلفاء منعوا من انتشار الأحاديث ، وهدّدوا من يتحدّث بها ، وضربوا عليها الحصار; لأنّها تفضح مخطّطاتهم ، وتكشف مؤامراتهم ، ولا يجدون مجالا لتأويلها كما يتأولون القرآن; لأنّ كتاب الله صامتٌ وحمّالٌ أوجه ، أمّا السُّنن النبويّة فهي أقوال وأفعال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يمكن لأحد من النّاس دفعها.

ولذلك قال أمير المؤمنين علي لابن عباس عندما بعثه للاحتجاج على الخوارج :« لا تُخاصمهم بالقرآن ، فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه ، تقول ويقُولون ، ولكن حاججهم بالسنّة ، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً » (٢).

أبو بكر يسلّم الخلافة لصاحبه عمر ويخالف بذلك النصوص الصّريحة

يقول الإمام علي عليه‌السلام في هذا الموضوع بالذّات :

« أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلمُ أنّ محلي منها محلّ القطب من الرّحى ، ينحدر عني السّيلُ ولا يرقى إلىَّ الطير ، فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كشحاً ، وطفقتُ أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيتُ أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين

____________

(١) صحيح مسلم٤ : ١٨٣ في كتاب الطلاق ، باب طلاق الثلاث من جزءه الأول.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ١٣٦ ، الخطبة ٧٧.

٢٩٧

قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهْباً ، حتّى مضى الأولُ لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعدَهُ.

( شتان ما يومي على كورها

ويوم حيّان أخي جابر )

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغْلظُ كلامُها ، ويخشنُ مسُّها ، ويكثُرُ العثَارُ فيها ، والاعتذار منها ... » الخطبة (١).

يعرفُ كلّ محقّق وباحث بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ بالخلافة وعيّن علي ابن أبي طالب قبل وفاته ، كما يعرف ذلك أغلب الصّحابة ، وفي مقدّمتهم أبو بكر وعمر ، ولهذا كان الإمام علي يقول : « وإنه ليعلمُ أنَّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى ».

ولعلّ ذلك ما دعا أبو بكر وعمر أن يمنعا رواية الحديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قدّمنا في الفصل السّابق ، وتمسّكا بالقرآن لأنّ القرآن وإن كان فيه آية الولاية ، غير أنّ اسم علي لم يذكر صراحة كما هو الحال في الأحاديث النّبوية ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كنت مولاه فهذا علىٌّ مولاه » (٢) ، و « علىّ مني

____________

(١) نهج البلاغة ١ : ٣٠ ، الخطبة ٣ ، المعروفة بالشقشقية.

(٢) مسند أحمد ١ : ٨٤ وصرّح محقّق الكتاب الشيخ أحمد شاكر بصحة متن الحديث وقال : ( ورد عن طرق كثيرة ، ذكر المناوي في شرح الجامع الصغير في الحديث ٩٠٠٠ عن السيوطي أنّه قال : « حديث متواتر » ... ) ، سنن ابن ماجة ١ : ٤٥ ح ١٢١ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٩٧ ح ٣٧٩٧ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١١٠ ، كتاب السنة لابن أبي عاصم : ٥٩٠ ، وغيرها من المصادر الكثيرة. وهو حديث متواتر كما صرّح الشيخ الألباني في صحيحته ٤ : ٣٤٣.

٢٩٨

بمنزلة هارون من موسى » (١) و « علي أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي » (٢) و « علىّ منّي وأنا منه وهو ولىّ كلّ مؤمن بعدي » (٣).

____________

(١) صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ كتاب الفضائل ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٢ ، ح ٣٨٠٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٩ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٤٠ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٦ ، كتاب السنّة : ٥٨٦ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٤ ح ٨١٣٨ ، وغيرها.

(٢) قريب منه في تاريخ الطبري ٢ : ٦٣ ، الخصائص للنسائي : ٤٩ ح ٦٥ في حكاية يوم الدار ونزول قوله تعالى : ( وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ).

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٢ ح ٣٧١٢ وقال : « هذا حديث حسن غريب » ، خصائص أمير المؤمنين ١٠٩ ح ٨٩ ـ ٩٠ ، مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٤٣٧ ، فضائل الصحابة ٢ : ٦٠٥ ح ١٠٣٥ ، مسند أبي داود الطياسي : ١١١ح ٨٢٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٦ : ٣٧٥ ح ٣٢١١٢ ، صحيح ابن حبان ٥ : ٣٧٣ ح ٦٩٢٩ ، المستدرك ٣ : ١١٠ ، وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ولم يتعقبه الذهبي بشيء ، حلية الأولياء ٦ : ٢٩٤ ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ٥ : ٢٦١ ح ٢٢٢٣ ، البداية والنهاية ٧ : ٣٥١ ، مختصر إتحاف السادة المهرة ٩ : ١٧٠ح ٧٤١ وقال البوصيري : رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح.

ولأجل وضوح دلالة هذا الحديث على خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام أنكره ابن تيمية وطعن فيه ، قال في منهاج سنته ٤ : ١٠٤ : « قوله : ( وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي ) كَذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، بل هو في حياته وبعد مماته وليّ كلّ مؤمن ، وكلّ مؤمن وليّه في المحيا والممات. فالولاية التي هي ضدّ العداوة لا تختصّ بزمان ، أما الولاية التي هي الامارة فيقال فيها : والي كل مؤمن بعدي ».

ويكفي ردّاً على كلام ابن تيمية ما ذكره شيخ السلفية المحدّث محمّد ناصر الدين الألباني في سلسلته الصحيحة ٥ : ٢٦٣ إذ قال بعد تخريجه الحديث :

٢٩٩

وبذلك نفهم مدى نجاح المخطّط الذي رسمه أبو بكر وعمر في منع وحرق الأحاديث النبويّة ، وجعل كمّامات على الأفواه حتى لا يتحدّث الصّحابة بها ، كما قدّمنا في رواية قرظة بن كعب ، واستمرّ ذلك الحصار ربع قرن ، وهي مدّة الخلفاء الثـلاثة ، حتى إذا جاء علي للخـلافة نرى أنّه استشهد الصّحابة يوم الرحبة على حديث الغدير ، فشهد له ثلاثون صحابيّاً (١) منهم سبعة عشر بدريّاً (٢).

وهذا يدلّ دلالة واضحة بأنّ هؤلاء الصّحابة ، وعددهم ثلاثون ، ما كانوا ليتكلّموا لولا أن طلب منهم أمير المؤمنين ذلك ، فلو لم يكن علىّ خليفة وبيده القوّة لأقعدهم الخوف عن أداء الشّهادة ، كما وقع ذلك فعلا من بعض الصّحابة الذين أقعدهم الخوف أو الحسد عن الشهادة ، أمثال أنس بن مالك ، والبرّاء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وجرير بن عبد الله البجلي ، فأصابتهم دعوة علي بن أبي طالب (٣).

ولم ينعم أبو تراب عليه‌السلام بالخلافة ، فكانت أيامه كلّها محن وفتن ، ومؤامرات وحروب شُنّتْ عليه من كلّ حدب وصوب ، وبرزت تلك الأحقاد

____________

« فمن العجب حقّاً أن يتجرّأ شيخ الإسلام ابن تيمية على إنكار هذا الحديث وتكذيبه في منهاج السنّة ( ٤ / ١٠٤ ) كما فعل بالحديث المتقدّم هناك .. فلا أدري بعد ذلك وجه تكذيبه للحديث إلاّ التسرّع والمبالغة في الردّ على الشيعة ».

(١) مسند أحمد ٤ : ٣٧٠ وفيه أيضاً « وقال أبو نعيم : فقام ناس كثير فشهدوا ... ».

(٢) مسند أحمد ١ : ١١٩ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته ، وفيه أيضاً : « فقام إلاّ ثلاثة لم يقوموا ، فدعا عليهم فأصابتهم دعوته ».

(٣) أنساب الأشراف ١٥٧ ح ١٦٩ ، ونحوه السيرة الحلبية ٣ : ٣٨٥ ، المعجم الكبير ٥ : ١٧٥ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٠٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ٢١٨.

٣٠٠