فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاها فدك نحلة في حياته ، فليس هي من الإرث ، وعلى فرض أنّ الأنبياء لا يورّثون ، كما روى أبو بكر ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; كذّبتْه فاطمة الزّهراء عليها‌السلام ، وعارضت روايته بنصوص القرآن الذي يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (١) فإنّ فدك لا يشملها هذا الحديث المزعوم; لأنّها نحلة وليست هي من الإرث في شيء.

ولذلك تجد كلّ المؤرّخين والمفسّرين والمحدّثين يذكرون بأن فاطمة عليها‌السلام ادّعت بأنّ فدك ملك لها ، فكذّبها أبو بكر وطلب منها شهوداً على دعواها ، فجاءت بعلي بن أبي طالب ، وأُمّ أيمن ، فلم يقبل أبو بكر شهادتهما واعتبرها غير كافية (٢).

____________

(١) النمل : ١٦.

(٢) اعطاء فدك لفاطمة عليها‌السلام رواه كلّ من أبي يعلى في مسنده ٢ : ٣٣٤ ، والحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٤٣٨ بطرق متعدّدة ، والسيوطي في الدر المنثور عن البزار وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مروديه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣ : ٧٦٧ ح ٨٦٩٦ ، والقندوزي في ينابيع المودة ١ : ٣٥٩ وغيرهم.

ويدلّ على أنّ فدك كانت بيد فاطمة عليها‌السلام اُمور :

(١) قول علي عليه‌السلام في كتابه لعثمان بن حنيف : « بلى كانت في أيدينا فدك ... » ( نهج البلاغة ٣ : ٧١ ، الكتاب ٤٥ ).

(٢) الأحاديث التي وردت في إعطاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدكاً لفاطمة عليها‌السلام.

(٣) ما ورد في الأخبار من ردّ فدك لبني هاشم ممّا يدلّل على أنّها كانت بيدهم ثمّ أُخذت ثمّ رُدت.

(٤) ما ورد في الاختصاص للشيخ المفيد : ١٨٣ من أنّ ابا بكر بعث إلى وكيل فاطمة عليها‌السلام فأخرجه من فدك.

٢٦١

____________

(٥) شهادة بعض الصحابة بكون فدك لفاطمة ، وهم : عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم‌السلام ، وأُم أيمن ، وغيرهم ، هذا مضافاً إلى ادّعاء فاطمة ذلك وهي معصومة لا تكذب ، وقد أقرّها عليّ عليه‌السلام وابناها المعصومون على ذلك.

لا يقال : ليس من العدل أن يعطي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدك لفاطمة دون سائر بناته؟

لأنّنا نقول :

أولا : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ولا يفعل القبيح ولا يظلم أحداً.

ثانياً : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثل أمر الله تعالى في إعطاء فدك لفاطمة ، ورد في الكافي ١ : ٥٤٣ ح ٥ عن موسى بن جعفر عليه‌السلام أنّه قال للمهدي العباسي بخصوص فدك لما كان يردّ المظالم : « فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها : يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك ، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك » ولا اعتراض على فعل الله تعالى.

ثالثاً : لا نسلّم أن يكون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنات غير فاطمة عليها‌السلام والباقي ربائب ، كما حقّق في محلّه.

رابعاً : لو سلّمنا جدلا أنّهنّ بناته ، ولو سلّمنا أيضاً أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي أعطى فدك لفاطمة من تلقاء نفسه ، فنقول : كان ذلك لعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ ذريته ستكون من فاطمة دون سائر بناته ، فكيف لا يهتم بشؤونهم ويدعهم عيال على الناس يتصدّقون متى شاؤوا؟ أفمن العدل تركهم هكذا؟! ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي منع سعد بن أبي وقاص أن يتصدّق بثلُثَي ماله وقال له : « إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » ( صحيح البخاري ٢ : ٨٢ ) والطريف أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبّر بقوله : « ورثتك » ولم يكن لسعد إلاّ ابنة واحدة ، ولذا قال الفاكهي شارح العمدة ـ كما في نيل الأوطار للشوكاني ٦ : ١٥٠ ـ : « إنّما عبّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالورثة; لأنّه اطلع على أنّ سعداً سيعيش ويحصل له أولاد غير البنت المذكورة ... ».

خامساً : لقد نحل أبو بكر ابنته عائشة دون سائر ولده ، وكذلك فعل عمر حيث

٢٦٢

____________

نحل ابنه عاصماً دون سائر ولده ( فتح الباري ٥ : ١٥٨ ) فلو قالوا : إنّما فعلا ذلك مع رضى سائر الأولاد ، قلنا : إنّما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك مع رضى سائر البنات.

قد يقال : ألستم تقولون بأنّ فدك إرث ، والآن تقولون هبة؟

فنقول في الجواب : الثابت الصحيح انّ فدك لم تكن إلاّ نحلة وهبة لفاطمة عليها‌السلام ، والزهراء بدعواها الإرث قد طالبت بجميع متروكات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي قبضها أبو بكر بلا فرق بين فدك ومال بني النضير وسهمه من خمس خيبر وغيرها ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ترك أموالا كثيرة من صدقات وموقوفات وضياع وأملاك ، والقوم أطلقوا على كلّها اسم الصدقة لمصالح سياسية ، فأخذوها من أهلها ومن له ولاية التصرّف فيها ، قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٥ : ١٤٧ « وقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وله ضياع كثيرة جليلة جداً بخيبر وفدك وبني النضير ، وكان له وادي نخلة وضياع أُخرى كثيرة بالطائف ، فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر ».

وممّا يؤيّد أنّ الأمر تمّ لمصالح سياسية ما روي في المعجم الأوسط ٥ : ٢٨٨ عن عمر قال : لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جئت أنا وأبو بكر إلى عليّ فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : « نحن أحقّ الناس برسول الله وبما ترك » ، قال : فقلت : والذي بخيبر؟ قال : « والذي بخيبر » ، قلت : والذي بفدك؟ فقال : « والذي بفدك » ، قلت : أما والله حتى تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا.

فتلخّص : أنّ فاطمة عليها‌السلام حاكمت القوم بعدّة محاكمات في عرض واحد : نحلتها ، إرثها ، موقوفات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي لها عليها‌السلام ولاية التصرّف فيها ، خمس خيبر ، سهم ذوي القربى ، وذلك لأنّ القوم أرادوا اغتصابها جميعاً بعنوان أنّها صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوالي أحقّ بها والنبي لا يورّث ، وإلاّ كيف جاز لعمر أن يردّ صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي بالمدينة إلى عليّ والعباس ـ كما في البخاري كتاب فرض الخمس ـ مع أنّه هو الذي شهد مع أبي بكر بأنّ النبي لا يورّث؟!! ، فتبيّن

٢٦٣

وهذا ما اعترف به ابن حجر في الصواعق المحرقة ، حيث ذكر بأنّ فاطمة ادّعتْ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحلها فدكاً ، ولم تأتِ عليها بشهود إلاّ بعلي بن أبي طالب وأُمّ أيمن ، فلم يكمل نصاب البيّنة (١).

كما قال الإمام الفخر الرّازي في تفسيره : فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ادّعتْ فاطمة عليها‌السلام أنّه كان ينحلها فدكاً ، فقال لها أبو بكر : أنتِ أعزّ النّاس علىَّ وأحبّهم إلىَّ غِنى ، لكنّي لا أعرف صحة قولك ، فلا يجوز أن أحكم لك ، قال : فشهدت لها أُمّ أيمن ومولى لرسول الله ، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع ، فلم يكن (٢).

ودعوْى فاطمة عليها‌السلام بأنّ فدكاً أنحلها لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ أبا بكر ردّ دعوتها ، ولم يقبل شهادة علي عليه‌السلام وأُم أيمن; معلومة لدى المؤرّخين ، وقد ذكرها كلّ من ابن تيمية ، وصاحب السيرة الحلبية ، وابن القيم الجوزية وغيرهم.

ولكنّ البخاري ومسلم اختصراها ، ولم يذكرا إلاّ طلب الزهراء بخصوص الإرث ، حتّى يُوهما القارئ بأنّ غضب فاطمة على أبي بكر في غير محلّه ، ولم يعمل أبو بكر إلاّ بما سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهي ظالمة وهو

____________

ممّا مضى أنّ الأمر كان ذا أبعاد متشعبة.

ومن هنا يعرف أنّ ما ذكره مؤلّف كتاب كشف الجاني في الصحفة ١٣٤ ما هو إلاّ ارتجال ناشئ عن الجهل الذي أطبق عليه.

(١) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ١ : ٩٣ الشبهة السابعة.

(٢) تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي ١٠ : ٥٠٦ تفسير سورة الحشر الآية السادسة.

٢٦٤

مظلوم!! كلّ ذلك حفاظاً منهما على كرامة أبي بكر ، فلا مراعاة للأمانة في النقل ، ولا لصدق الأحاديث التي كانت تكشف عن عورات الخلفاء ، وتزيل الأكاذيب والحجب التي نمّقها الأمويون وأنصار الخلافة الراشدة ، ولو كان ذلك على حساب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه أو بضعته الزّهراء سلام الله عليها!!

ومن أجل ذلك حاز البخاري ومسلم على زعامة المحدّثين عند أهل السنّة والجماعة ، واعتبروا كتبهما أصحّ الكتب بعد كتاب الله ، وهذا تلفيق لا يقوم على دليل علمي ، وسنبحثه إن شاء الله في باب مستقل حتّى نكشف الحقيقة لمن يريد معرفتها.

ومع ذلك فإننا نُناقش البخاري ومسلم اللّذين أخرجا في فضائل فاطمة الزهراء عليها‌السلام الشيء اليسير ، ولكن فيه ما يكفي لإدانة أبي بكر الذي عرف الزهراء وقيمتها عند الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر ممّا عرفه البخاري ومسلم ، ومع ذلك كذّبها ولم يقبل شهادتها ، وشهادة بعلها الذي قال فيه رسول الله : « علىّ مع الحقّ والحقّ مع علىّ يدور معه حيث دار » (١) ولنكتفِ بشهادة البخاري وشهادة مسلم في ما أقرّه صاحب الرّسالة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في فضل بضعته الزهراء.

فاطمة عليها‌السلام معصومة بنصّ القرآن

أخرج مسلم في صحيحه الجزء السّابع باب فضائل أهل البيت ، قالت عائشة : خرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فدخل معه ، ثمّ جاءت فاطمة

____________

(١) راجع باختلاف ألفاظه تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢٢ ح ٧٦٤٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٤٩ ، الإمامة والسياسة ١ : ٩٨.

٢٦٥

فأدخلها ، ثمّ جاء علي فأدخله ، ثم قال : ( إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١).

فإذا كانت فاطمة الزهراء عليها‌السلام هي المرأة الوحيدة التي أذهب الله عنها الرّجس ، وطهّرها من كلّ الذنوب والمعاصي في هذه الأُمّة ، فما بال أبي بكر يكذّبها ، يطلبُ منها الشهود يا تُرى؟

فاطمة عليها‌السلام سيّدة نساء المؤمنين وسيّدة نساء هذه الأُمّة

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السّابع في كتاب الاستئذان في باب من ناجى بين يدي النّاس ومن لم يخبر بسرّ صاحبه فإذا مات أخبر به ، ومسلم في كتاب الفضائل ، عن عائشة أُم المؤمنين قالت : إنّا كنّا أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنده جميعاً لم تغادر منّا واحدة ، فأقبلت فاطمة عليها‌السلام تمشي لا والله ما تخفى مشيتها من مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رآها رحّب بها ، قال : « مرحباً بابنتي » ، ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ، ثم سارّها فبكت بكاءً شديداً ، فلمّا رأى حُزْنها سارّها الثانية إذا هي تضحك ، فقلتُ لها أنا من بين نسائه : خصّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسرِّ من بيننا ثمّ أنتِ تبكين ، فلمّا قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألتُها عمّا سارّكِ؟ قالت : « ما كنتُ لأفشي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سِرَّهُ » ، فلمّا توفي قلتُ لها : عزمتُ عليك بما لي عليك من الحقّ لما أخبرتني ، قالت : أمّا الآن فنعم ، فأخبرتني قالت : « أمّا حين سارّني في الأمر الأول ، فإنّه أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضُهُ بالقرآن كل سنة مرّة ، وأنّه قد

____________

(١) الأحزاب : ٣٣.

٢٦٦

عارضني به العامَ مرّتين ، ولا أرى الأجَلَ إلاّ قد اقتربَ ، فاتّقي الله واصبري فإنّي نعم السّلف أنا لك ، قالت : فبكيتُ بكائي الذي رأيت ، فلمّا رأى جزعي سارني الثانية قال : يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين ، أو سيّدة نساء هذه الأُمّة ».

فإذا كانت فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وهي سيّدة نساء المؤمنين ، كما ثبت ذلك عن رسول الله يُكذّبها أبو بكر في أدّعائها فدك ولا يقبل شهادتها ، فأيّ شهادة تُقبل بعدها يا تُرى؟!

فاطمة الزهراء عليها‌السلام سيّدة نساء أهل الجنّة

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرابع في كتاب بدء الخلق باب مناقب قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ».

فإذا كانت فاطمة عليها‌السلام سيّدة نساء أهل الجنّة ، ومعناه أنّها سيدة نساء العالمين; لأنّ أهل الجنة ليسوا أُمّة محمّد وحدهم كما لا يخفى ، فكيف يكذّبها أبو بكر الصديق؟

ألم يدّعوا بأنّ لقب الصديق أحرزه لأنّه كان يصدّق كلّ ما يقوله صاحبه محمّد! فلماذا لم يصدّقه فيما قاله بخصوص بضعته الزهراء؟! أم أنّ الأمر لم يكن يتعلّق بفدك وبالصّدقة والنّحلة بقدر ما يتعلّق بالخلافة التي هي من حقّ علي زوج فاطمة؟! فتكذيب فاطمة وزوجها الذي شهد معها في قضية النّحلة أيسر عليه ليَقطع بذلك عليهما الطريق للمطالبة بما وراء ذلك ، إنّه مكرٌ كبير تكاد تزول منه الجبال!!

٢٦٧

فاطمة بضعة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرّسول يغضب لغضبها

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الرّابع من كتاب بدء الخلق في باب منقبة فاطمة عليها‌السلام بنت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : حدّثنا أبو الوليد ، حدّثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني ».

وإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغضب لغضب بضعته الزهراء ، ويتأذّى بأذاها ، فمعنى ذلك أنّها معصومة عن الخطأ ، وإلاّ لما جاز للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول مثل هذا ; لأنّ الذي يرتكب معصية يجوز ايذاؤه وإغضابه مهما علت منزلته; لأنّ الشرع الإسلامي لا يراعي قريباً ولا بعيداً ، شريفاً أو وضيعاً ، غنيّاً أو فقيراً.

وإذا كان الأمر كذلك ، فما بال أبي بكر يؤذي الزهراء ولا يبالي بغضبها ، بل يغضبها حتى تموت وهي واجدةٌ عليه ، بل ومهاجرته فلم تكلّمه حتى توفيت ، وهي تدّعي عليه في كلّ صلاة تصلّيها ، كما جاء ذلك في تاريخ ابن قتيبة وغيره من المؤرّخين؟!

نعم ، إنّها الحقائق المرّة ، الحقائق المؤلمة التي تهزّ الأركان وتزعزع الإيمان; لأنّ الباحث المنصف المتجرّد للحقّ والحقيقة لا مناص له من الاعتراف بأنّ أبا بكر ظلم الزهراء واغتصب حقّها ، وكان بإمكانه وهو خليفة المسلمين أن يُرضيها ويعطيها ما ادّعت; لأنّها صادقة والله يشهد بصدقها ، والنّبي يشهد بصدقها ، والمسلمون كلّهم بما فيهم أبو بكر يشهدون بصدقها ، ولكنّ السيّاسة هي التي تقلّب كلّ شيء ، فيصبح الصّادق كاذباً ، والكاذب صادقاً.

٢٦٨

نعم ، إنّه فصل من فصول المؤامرة التي حيكت لإبعاد أهل البيت عن المنصب الذي اختاره الله لهم ، وقد بدأت بإبعاد علي عن الخلافة ، واغتصاب نحلة الزّهراء وإرثها ، وتكذيبها واهانتها حتّى لا تبقى هيبتها في قلوب المسلمين ، وانتهت بعد ذلك بقتل علي والحسن والحسين وكلّ أولادهم ، وسُبيت نساؤهم ، وقُتل شيعتهم ومحبّوهم وأتباعهم ، ولعلّ المؤامرة متواصلة ولا زالت حتى اليوم ، تفعل فعلها وتأتي بثمارها.

نعم ، أيّ مسلم حرّ ومنصف سوف يعلم عندما يقرأ كتب التاريخ ، ويمحّص الحقّ من الباطل ، بأنّ أبا بكر هو أوّل من ظلم أهل البيت ، ويكفيه قراءة صحيح البخاري ومسلم فقط لتنكشف له الحقيقة إذا كان من الباحثين حقّاً.

فها هو البخاري وكذلك مسلم يعترفان عفواً بأنّ أبا بكر يصدّق أيّ واحد من الصّحابة العادّيين في ادّعائه ، ويكذّب فاطمة الزهراء سيّدة نساء أهل الجنّة ، ومن شهد لها الله بإذهاب الرّجس والطّهارة ، وكذلك يكذّب عليّاً وأم أيمن ، فاقرأ الآن ما يقوله البخاري ومسلم :

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الثالث من كتاب الشّهادات باب من أمر بإنجاز الوعد.

ومسلم في صحيحه من كتاب الفضائل باب ما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً قط فقال لا ، وكثرة عطائه.

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : لمّا ماتَ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمىّ ، فقال أبو بكر : من كان له على

٢٦٩

النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دينٌ أو كانتْ له قِبلَهُ عِدَةٌ فليأتنا ، قال جابر : فقلتُ : وعدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا ، فبسط يديه ثلاث مرّات ، قال جابر : فعدّ في يدىّ خمسمائة ثمّ خمسمائة ثمّ خمسمائة.

فهل من سائل لأبي بكر يسأله : لماذا صدّق جابر بن عبد الله في ادّعائه بأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعده أن يعطيه هكذا وهكذا وهكذا ، فيملأ أبو بكر يديه ثلاثة مرّات بما قدره ألف وخمسمائة ، بدون أن يطلب منه شاهد واحد على ادّعائه؟

وهل كان جابر بن عبد الله أتقى لله وأبرّ من فاطمة سيّدة نساء العالمين؟ والأغْرب من كلّ ذلك هو ردّ شهادة زوجها علي بن أبي طالب الذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّره تطهيراً ، وجعل الصّلاة عليه فرضٌ على كلّ المسلمين ، كما يُصلّى على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبّه إيمان وبغضه نفاق (١).

أضف إلى ذلك بأنّ البخاري نفسه أخرج حادثة أُخرى تعطينا صورة حقيقية عن ظلم الزهراء وأهل البيت.

فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب لا يحلّ لأحد أن يرجع في هبته وصدقته من كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها ، قال : إنّ بني صهيب مولى ابن جدعان ادّعوا بيتين وحُجرة ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى ذلك

____________

(١) صحيح مسلم ١ : ٦١ ، سنن ابن ماجه ١ : ٤٣ ، سنن النسائي ٨ : ١١٧ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٤٩٤ ، السنة لعمرو بن أبي عاصم : ٥٨٤ ، مسند أبي يعلى ١ : ٣٤٧ ، صحيح ابن حبان ١٥ : ٣٦٧ وغيرها من المصادر.

٢٧٠

صُهيباً ، فقال مروان : من يشهد لكُما على ذلك؟ قالوا : ابن عُمر! فدعاه ، فشهد لأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صهيباً بيتين وحجرةً ، فقضى مروان بشهادته لهم (١).

أنظر أيّها المسلم إلى هذه التصرّفات والأحكام التي تنطبق على البعض دون البعض الآخر ، أليس هذا من الظلم والحيف؟! وإذا كان خليفة المسلمين يحكم لفائدة المدّعين لمجرّد شهادة ابن عمر ، فهل لمسلم أن يتساءل لماذا رُدّتْ شهادة علي بن أبي طالب وشهادة أم أيمن معه؟ والحال أن الرجل والمرأة أقوى في الشهادة من الرجل وحده ، إذا ما أردنا بلوغ النّصاب الذي طلبه القرآن.

أم أنّ أبناء صُهيب أصدق في دعواهم من بنت المصطفى عليها‌السلام؟ وأنّ عبد الله بن عمر موثوق عند الحكّام ، بينما عليّ عليه‌السلام غير موثوق عندهم؟!

وأمّا دعوى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورّث ، وهو الحديث الذي جاء به أبو بكر ، وكذّبته فاطمة الزهراء وعارضته بكتاب الله ، وهي الحجّة التي لا تُدحضُ أبداً; فقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « إذا جاءكم حديث عنّي فأعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله فاعملوا به ، وإن خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الجدار » (٢).

ولا شكّ أنّ هذا الحديث تعارضه الآيات العديدة من القرآن الكريم ، فهل من سائل يسأل أبا بكر ، ويسأل المسلمين كافة : لماذا تُقبلُ شهادة أبي بكر

____________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٤٣.

(٢) تفسير أبي الفتوح الرازي ٣ : ٣٩٢ نحوه ، والأخبار في ذلك كثيرة ، راجع الكافي ١ : ٦٩ باب الأخذ بالسنّة ، في أنّ ما خالف كتاب الله فهو مردود وزخرف.

٢٧١

وحده في رواية هذا الحديث الذي يُناقض النقلَ والعقلَ ، ويعارض كتاب الله ، ولا تقبلُ شهادة فاطمة وعليّ عليهما‌السلام التي توافق النقل والعقل ، ولا تتعارض مع القرآن؟!

أضف إلى ذلك بأنّ أبا بكر مهما علتْ مرتبتُه ، ومهما انتحل له مؤيدوه والمدافعون عنه من فضائل ، فإنّه لا يبلغ مكانة الزّهراء سيدة نساء العالمين ، ولا مرتبة علي بن أبي طالب الذي فضّله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كلّ الصّحابة في المواطن كلّها ، أذكر منها على سبيل المثال يوم إعطاء الرّاية ، عندما أقرّ له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه يحبّ الله ورسولَه ويحبّه الله ورسولُهُ ، وتطاول لها الصّحابة كلٌّ يُرجى أن يُعطاها ، فلم يدفعها إلاّ إليه. وقال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ عليّاً منّي وأنا منه ، وهو وليُّ كلّ مؤمن بعدي » (١).

ومهما شكّك المتعصّبون والنّواصب في صحة هذه الأحاديث ، فلن يشكّكوا في أنّ الصّلاة على علي وفاطمة هي جزء من الصّلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا تقبل صلاة أبي بكر وعمر وعثمان والمبشّرين بالجنّة ، وكلّ

____________

(١) المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٠٤ ، مسند الطيالسي : ١١١ ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٥٥٠ ح ١١٨٧ ، وقال محقّق الكتاب الشيخ محمّد الألباني : « إسناده صحيح ، رجاله ثقات على شرط مسلم. والحديث أخرجه الترمذي ٢ : ٢٩٧ ، وابن حبان : ٢٢٠٣ ، والحاكم ٣ : ١١٠ ـ ١١١ ، وأحمد ٤ : ٤٣٧ ، من طرق اُخرى ... وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، وأقرّه الذهبي ، وله شاهد من حديث بريدة مرفوعاً به أخرجه أحمد ٥ : ٣٥٦ ، من طريق أجلح ... وإسناده جيّد رجاله ثقات رجال الشيخين غير أجلح ... وهو شيعي صدوق ».

٢٧٢

الصّحابة ومعهم كلّ المسلمين ، إذا لم يُصلّوا على محمّد وآل محمّد ، الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم ، كما جاء ذلك في صحاح أهل السنّة من البخاري ومسلم (١) وبقية الصّحاح ، حتّى قال الإمام الشافعي في حقّهم « من لم يصلّ عليكم لا صلاة له » (٢).

فإذا كان هؤلاء يجوز عليهم الكذب والادعاء بالباطل ، فعلى الإسلام السّلام وعلى الدنيا العفا ، أمّا إذا سألتَ : لماذا تقبل شهادة أبي بكر وتردّ شهادة أهل البيت؟ فالجواب : لأنّه هو الحاكم ، وللحاكم أن يحكم بما يشاء ، والحقّ معه في كلّ الحالات ، فدعوى القوىّ كدعوى السّباع من النّاب والظّفر بُرهانُهَا.

وليتبين لك أيها القارئ الكريم صدق القول ، فتعال معي لتقرأ ما أخرجه البخاري في صحيحه من تناقض بخصوص ورثة النّبي الذي قال حسبما رواه أبو بكر : « نحن معشر الأنبياء لا نورّث ما تركنا صدقة » والذي يصدّقه أهل السنّة جميعاً ، ويستدلّون به على عدم استجابة أبي بكر لطلب فاطمة الزّهراء سلام الله عليها.

وممّا يدلك على بطلان هذا الحديث وأنّه غير معروف ، أنّ فاطمة عليها‌السلام طالبت بإرثها ، وكذلك فعل أزواج النّبي أُمّهات المؤمنين ، فقد بعثن لأبي بكر

____________

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٧ باب إنّ الله وملائكته يصلّون على النبي من سورة الأحزاب ، وصحيح مسلم ٢ : ١٦ كتاب الصلاة باب الصلاة على النبي.

(٢) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي ٢ : ٤٣٥ ، الآية الثانية النازلة في أهل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٣

يُطالبنه بميراثهن (١). فهذا ما أخرجه البخاري ، وما يُستدلُّ به على عدم توريث الأنبياء.

ولكنّ البخاري ناقض نفسه وأثبت بأنّ عمر بن الخطاب قسّم ميراث النّبي على زوجاته ، فقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الحرث والمزارعة من باب المزارعة بالشطر ونحوه ، عن نافع : أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَامَل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ، فكان يُعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير ، فقسّم عُمر خيبر ، فخيّر أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع لهنّ من الماء والأرض ، أو يُمضي لهنّ ، فمنهنّ من اختار الأرض ، ومنهنّ من اختار الوسْقَ ، وكانتْ عائشة قد اختارت الأرض.

وهذه الرواية تدلّ بوضوح بأنّ خيبر التي طالبت الزهراء بنصيبها منها كميراث لها من أبيها ، وردّ أبو بكر دعوتها بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورّث ، وهذه الرواية تدلّ أيضاً بوضوح بأنّ عمر بن الخطّاب قسّم خيبر في أيّام خلافته على أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخيّرهن بين امتلاك الأرض أو الوسق ، وكانت عائشة ممّن اختار الأرض ، فإذا كان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورّث ، فلماذا ترث عائشة الزوجة ، ولا ترث فاطمة البنت؟! (٢).

____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ٢٤ باب حديث بني النضير من كتاب المغازي ، وصحيح مسلم ٥ : ١٥٣ باب قول النبي : « لا نورّث » من كتاب الجهاد والسير.

(٢) قال ابن حجر في فتح الباري ٦ : ١٤١ : « وكان أبو بكر يقدّم نفقة نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرها ممّا كان يصرفه ، فيصرفه من خيبر وفدك » ، فنقول لابن

٢٧٤

أفتونا في ذلك يا أُولى الأبصار ولكم الأجر والثواب.

أضف إلى ذلك أنّ عائشة ابنة أبي بكر استولتْ على بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأكلمه ، ولم تحظ أيّ زوجة أُخرى بما حَظيتْ به عائشة ، وهي التي

____________

حجر ولغيره : كيف إذاً منع فاطمة عليها‌السلام حتى جاءت وسألته نصيبها ، كما روى ذلك البخاري في كتاب فرض الخمس عن عائشة حيث قالت : « وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك .. فأمّا صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى عليّ والعباس ... ». ولا أدري كيف اجتهد عمر أمام النصّ الثابت ـ بحسب زعمهم ـ الذي تمسّك به أبو بكر في منع الإرث ، فخالفه عمر ودفع صدقات المدينة إلى علي والعباس؟ وما معنى هذا التناقض من الخليفتين؟

ثمّ لا يقال : يشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع ... بلفظ : « ما تركت نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة » ( فتح الباري ٦ : ١٤١ ) لأنّه

أولا : مرفوع كما صرّح به ابن حجر ، فكيف يعتمد عليه في مثل هذه الأمور الخطيرة وقد قال محمّد رشيد رضا : « ليس كلّ ما صح سنده من الأحاديث المرفوعة يصح متنه; لجواز أن يكون في بعض الرواة من أخطأ في الرواية عمداً أو سهواً ... » ( أضواء على السنّة المحمدية لأبي رية : ٢٩١ ).

ثانياً : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعدل من أن يفكّر بمستقبل أزواجه وعامله ويدع ذريته من دون أن يوصي لهم أو يترك لهم شيئاً بل ويمنعهم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القائل لسعد بن أبي وقاص لما أراد أن يتصدّق بثلثي ماله لما ظنّ دنوّ أجله : « إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس » ( البخاري ٢ : ٨٢ ) فكيف يصح أن يترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذريّته وأحبّ الخلق إليه الذين أوصى بهم كثيراً ، عالة يتكفّفون الناس؟ نحن ننزه ساحة نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الأمر ولا نسلم بحديث أبي هريرة ولا بحديث أبي بكر ، كيف وأوّل من رفض حديث أبي بكر وخالفه هو عمر بن الخطاب حيث سلّم صدقات المدينة إلى عليّ والعباس في حين أن أبا بكر منع فاطمة منها تمسكاً بحديث : « لا نورّث ».

٢٧٥

دفنتْ أباها في ذلك البيت ، ودفنت عمر إلى جانب أبيها ، ومنعتْ الحسين أن يدفن أخاه الحسن بجانب جدّه ، ممّا حدى بابن عبّاس أن يقول فيها :

تجمَّلْت تبغّلتِ ولو عشت تفيَّلتِ

لك التسع من الثمن وفي الكلّ تصرّفت

وعلى كلّ حال فأنا لا أُريد الإطالة في هذا الموضوع ، فإنّه لا بدّ للباحثين من مراجعة التاريخ ، ولكن لا بأس بذكر مقطع من الخطبة التي ألقتها فاطمة الزهراء عليها‌السلام بمحضر أبي بكر وجلّ الصّحابة; ليهلك من هلك منهم عن بيّنة ، وينجو من نجا منهم عن بيّنة. قالت لهم :

« أعَلى عمد تركتُم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (١) ، وقال فيما اقتصّ من خبر زكريّا : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (٢) ، وقال : ( وَاُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ ) (٣) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ ) (٤) ، وقال : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى المُتَّقِينَ ) (٥).

أفخَصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن

____________

(١) النمل : ١٦.

(٢) مريم : ٥ ـ ٦.

(٣) الأنفال : ٧٥.

(٤) النساء : ١١.

(٥) البقرة : ١٨٠.

٢٧٦

وعمومه من أبي وابن عمّي؟ أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان؟ فدونكهما مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون » (١).

أبو بكر يقتل المسلمين الذين امتنعوا عن إعطائه الزّكاة

أخرج البخاري في صحيحه كتاب استتابة المرتدّين باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نُسبوا إلى الردّة ، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس ، عن أبي هريرة قال : لمّا توفّي النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستُخِلفَ أبو بكر وكفر من كفر من العرب ، قال عمر : يا أبا بكر ، كيف تُقاتل النّاس وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا : لا إله إلاّ الله ، فمن قال لا إله إلاّ الله عَصَمَ منّي مَالَه ونفسَهُ إلاّ بحقِّهِ وحسابه على الله؟

قال أبو بكر : والله لأقاتلنَّ منْ فرّق بينَ الصلاة والزّكاةِ ، فإنّ الزّكاة حقّ المال ، والله لو منعوني عُناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاتلتهم على منعها ، قال عُمر : فوالله ما هو إلاّ أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتالِ ، فعرفت أنّه الحقّ.

وليس هذا بغريب على أبي بكر وعمر اللّذَيْن هدّدا بحرق بيت الزّهراء

____________

(١) وردت خطبة الزهراء عليها‌السلام في عدّة مصادر وبألفاظ مختلفة ، انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٠ ، كشف الغمة للإربلي ٢ : ١٠٨ ، مروج الذهب ٢ : ٣٠٤ ، الاحتجاج للطبرسي ١ : ٢٥٣ ح ٤٩ ، بلاغات النساء لأحمد بن أبي طاهر : ١٤ ، المقتل للخوارزمي ١ : ٧٧ ، أعلام النساء ٤ : ١١٦ ، شرح الأخبار ٣ : ٣٤ ، دلائل الإمامة : ١٠٩ ح ٣٦ ، وغيرها.

٢٧٧

سيّدة النّساء بمن فيه من الصّحابة المتخلّفين عن البيعة (١) ، وإذا كان حرق علي وفاطمة والحسن والحسين ونخبة من خيرة الصّحابة الذين امتنعوا عن البيعة أمراً هيّناً عليهما ، فليس قتال مانعي الزّكاة إلاّ أمراً ميسوراً ، وما قيمة هؤلاء الأعراب الأباعد مقابل العترة الطّاهرة والصّحابة الأبرار!!

أضف إلى ذلك أنّ هؤلاء المتخلّفين عن البيعة يرون أنّ الخلافة هي حقّ لهم بنصّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحتّى على فرض عدم وجود النصّ عليهم فمن حقّهم الاعتراض والنقد والإدلاء بآرائهم إنْ كان هناك شورى كما يزعمون ، ومع ذلك فإنّ تهديدهم بالحرق أمرٌ ثابتٌ بالتّواتر ، ولولا استسلام عليّ وأمره للصّحابة بالخروج للبيعة حفاظاً على حقن دماء المسلمين ووحدة الإسلام لما تأخّر القائمون بالأمر عن إحراقهم.

أمّا وقد استتب الأمر لهم ، وقويت شوكتهم ، ولم يعدْ هناك معارضة تذكر بعد موت الزّهراء ومصالحة عليّ لهم ، فكيف يسـكتون عن بعض القبائل التي امتنعتْ عن دفع الزّكاة لهم بحجّة التريّث حتى يتبيّنوا أمر الخلافة ، وما وقع فيها بعد نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تلك الخلافة التي اعترف عمر نفسه بأنّها فلتة (٢).

____________

(١) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٣٠ ، العقد الفريد ٥ : ١٣ في الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر ، تاريخ أبي الفداء ١ : ٢١٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٧٢ بسند حسن ، كنز العمال ٥ : ٦٥١ ح ١٤١٣٨ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٤٥ ، فقد ورد فيها تهديد عمر بإحراق الدار.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ٢٦ كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة ، باب رجم الحبلى من الزنا.

٢٧٨

إذاً ، ليس بالغريب أن يقوم أبو بكر وحكومته بقتل المسلمين الأبرياء ، وانتهاك حرماتهم ، وسبي نسائهم وذريتهم ، وقد ذكر المؤرّخون بأنّ أبا بكر بعث بخالد بن الوليد فأحرق قبيلة بني سليم (١) ، وبعثه إلى اليمامة ، وإلى بني تميم وقتلهم غدراً بعدما كتّفهم ، وضرب أعناقهم صبراً ، وقتل مالك بن نويرة الصّحابي الجليل الذي ولاّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه ثقة به ، ودخل بزوجته في ليلة قتل زوجها (٢) ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

وما ذنب مالك وقومه إلاّ أنّهم لمّا سمعوا بما حدث من أحداث بعد موت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وقع من إبعاد عليّ وظلم الزّهراء حتى ماتت غاضبة عليهم ، وكذلك مخالفة سيّد الأنصار سعد بن عبادة وخروجه عن بيعتهم ، وما تناقله العرب من أخبار تُشكّك في صحّة البيعة لأبي بكر ، لكلّ ذلك تريّث مالك وقومه لإعطاء الزّكاة ، فكان الحكم الصّادر من الخليفة وأنصاره بقتلهم ، وسبي نسائهم وذريتهم ، وانتهاك حرماتهم ، وإخماد أنفاسهم ، حتّى لا يتفشّى في العرب رأي للمعارضة أو المناقشة في أمر الخلافة.

والمؤسف حقّاً أنّك تجد من يدافع عن أبي بكر وحكومته ، بل ويصحّح أخطاءه التي اعترف هُوَ بها (٣) ، ويقول كقول عمر : والله ما هو إلاّ أن رأيتُ أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال ، فعرفتُ أنّه الحقّ.

____________

(١) سير أعلام النبلاء للذهبي ١ : ٣٧٢ ، الرياض النضرة ١ : ١٢٩ ح ٣٠٢.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ٥٠٤ ، أُسد الغابة ٤ : ٢٩٦ ، البداية والنهاية ٦ : ٣٥٥.

(٣) عندما اعتذر لأخي مالك متمم وأعطاه ديّة مالك من بيت مال المسلمين وقال : إنّ خالداً تأوّل فأخطأ ( المؤلّف ).

٢٧٩

وهل لنا أن نسأل عمر عن سرّ اقتناعه بقتال المسلمين ، الذين شهد هو نفسه بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم قتالهم بمجرّد قولهم : لا إله إلاّ الله ، وعارض هو نفسه أبا بكر بهذا الحديث ، فكيف انقلب فجأة واقتنع بقتالهم ، وعرف أنّه الحقّ بمجرّد أن رأى أن قد شرح الله صدر أبي بكر ، فكيف تمت عمليّة شرح الصّدر هذه ، وكيف رآها عمر دون سائر الناس؟

وإن كانت عملية الشرح هذه معنوية وليست حقيقيّة ، فكيف يشرح الله صدور قوم بمخالفتهم لأحكامه التي رسمها على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وكيف يقول الله لعباده على لسان نبيّه : من قال : لا إله إلاّ الله حرامٌ عليكم قتْله ، وحسابه علىَّ ، ثمّ يشرح صدر أبي بكر وعمر قتالهم؟ فهل نزل وحىٌّ عليهما بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أم هو الاجتهاد الذي اقتضته المصالح السيّاسية ، والتي ضربت بأحكام الله عرض الجدار؟

أمّا دعوى المدافعين : بأنّ هؤلاء ارتدّوا عن الإسلام فوجب قتلهم ، فهذا غير صحيح ، ومن له أيّ اطّلاع على كتب التّاريخ يعلم علم اليقين أنّ مانعي الزكاة لم يرتدّوا عن الإسلام ، كيف وقد صلّوا مع خالد وجماعته عندما حلّوا بفنائهم.

ثمّ إنّ أبا بكر نفسه أبطل هذه الدعوى الكاذبة بدفعه ديّة مالك من بيت مال المسلمين واعتذر عن قتله ، والمرتدّ لا يُعتذر عن قتله ولا تُدفع ديّته من بيت المال ، ولم يقل أحدٌ من السّلف الصالح أنّ مانعي الزكاة ارتدّوا عن الإسلام إلاّ في زمن متأخّر عندما أصبحتْ هناك مذاهب وفرق ، فأهل السنّة حاولوا جهدهم وبدون جدوى أن يبرّروا أفعال أبي بكر فلم يجدوا

٢٨٠