فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

كأنّهم لم يسمعوا كلامَ الله حيث يقول : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (١)!! بلى والله لقد سمعوها ووعوها ، ولكنّهم حليت الدنيا في أعُينهم ، وراقهم زبْرجُها » (٢).

وقال ـ أيضاً ـ سلام الله عليه فيهم : « اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكاً ، واتّخذهم له أشراكاً ، فباض وفرّخ في صدورهم ، ودبّ ودرج في حجُورهم ، فنظر بأعينهم ، ونطق بألسنتهم ، فركب بهم الزّلل ، وزيّن لهم الخطل ، فعل من قد شرّكه الشيطان في سلطان ، ونطق بالباطل على لسانه » (٣).

وقال عليه‌السلام في الصّحابي المشهور عمرو بن العاص : « عجباً لابن النّابغة ... لقد قال باطلا ، ونطق إثماً ، أما وشرُّ القول الكذبُ ، إنّه يقول فيكذب ، ويعد فيُخلِفُ ، ويُسْأَلُ فيُلحِفُ ، ويسأل فيْبَخلُ ، ويخونُ العهدَ ويقطَعُ الإلَّ » (٤).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذبَ ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان » (٥).

وكلّ هذه الرّذائل وأكثر منها موجودة في عمرو بن العاص.

وقال عليه‌السلام في مدح أبي ذر الغفّاري ، وذمّ عثمان ومن معه الذين أخرجوه إلى الربذة ، ونفوه إلى أن مات وحيداً :

____________

(١) القصص : ٨٣.

(٢) نهج البلاغة ١ : ٣٦ ، الخطبة ٣.

(٣) نهج البلاغة ١ : ٤٢ ، الخطبة ٧.

(٤) نهج البلاغة ١ : ٤٧ ، الخطبة ٨٤.

(٥) تحف العقول : ١٠ ، صحيح البخاري ١ : ١٤ كتاب الإيمان ، باب علامة المنافق ، صحيح مسلم ١ : ٥٦ كتاب الإيمان ، باب بيان خصال المنافق.

٢٤١

« يا أبا ذر ، إنّك غضبت لله فارج من غضبتَ لهُ ، إنّ القومَ خافوك على دنياهم وخفتَهُم على دينك ، فاترك في أيديهم مَا خَافوك عليه ، واهرب منهم بما خِفتَهُم عليه ، فَما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك ، وستعلم من الرابحُ غداً والأكثر حُسَّداً ، ولو أنّ السّماوات والأرضين كانت على عبد رتْقّاً ثم اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجاً ، ولا يُؤْنِسَنَّك إلاّ الحقُّ ، ولا يُوحشَنَّكَ إلاّ الباطِلُ ، فلو قبِلتَ دنياهم لأَحبُّوك ، ولو قرضت منها لأَمنوك » (١).

وقال عليه‌السلام في المغيرة بن الأخنس ، وهو ـ أيضاً ـ من أكابر الصّحابة : « يابن اللّعين الأبتر ، والشجرة التي لا أصل لها ولا فرع ، والله ما أعزّ الله من أنتَ ناصِرُهُ ، ولا قامَ منْ أنتَ مُنْهِضُهُ ، اخرج عنّا أبعد الله نواكَ ، ثمَّ أبلغْ جهدَكَ فلا أبقَى الله عليك إنْ أبقيت » (٢).

وقال عليه‌السلام في طلحة والزّبير الصّحابيين الشهيرين اللذين حارباه بعدما بايعاه ونكثا بيعته :

« والله ما أنكروا عليّ مُنكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نصَفاً ، وإنّهم ليطلبون حقّاً هُمْ تركوه ، ودَماً هُمْ سفكُوهُ ... » (٣).

« وإنّها للفئة الباغية فيها الحِمَا والحُمَّةُ ، والشبْهةُ المُغْدِقَةُ ، وإنّ الأمر لواضحٌ ، وقد زاح الباطلُ عن نصابه ، واقطع لسانُه عن شغبهِ ...

____________

(١) نهج البلاغة ٢ : ١٣ ، الخطبة ١٣٠.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٨ ، الخطبة ١٣٥.

(٣) نهج البلاغة ١ : ٥٩ ، الخطبة ٢٢.

٢٤٢

فأقبلتُمْ إلي إقبال العوذِ المطافيل على أولادها ، تقولون : البيعةَ البيعةَ ، قبضْتُ كفِّي فبسطتُموها ، ونازعتكم يدي فجاذبتموها.

اللّهمّ إنّهما قطعاني وظلماني ، ونكثا بيعتي ، وأَلَّبَا النَّاسَ علىَّ ، فاحلُلْ ما عقَدَا ، ولا تُحكم لهما مَا أبرما ، وأرِهمَا المسَاءَة فيما أَمَّلاَ وعَمِلاَ ، ولقد استتبْتُهُمَا قبل القتال ، واستأنيتُ بهما أمَامَ الوقاعِ ، فغَمَطَا النّعمة ، وردَّا العَافيةَ » (١).

وفي رسالة منه إليهما أيضاً :

« فارجعا أيها الشيخان عن رأيكما ، فإن الآن أعظمُ أمركما العارُ من قبل أن يجتمع العارُ والنارُ ، والسلام » (٢).

وقال عليه‌السلام في مروان بن الحكم ، وقد أسره في حرب الجمل ثمّ أطلق سراحه ، وهو من الذين بايعوا ونكثوا البيعة :

« لا حاجة لي في بيعتِهِ ; إنّها كـفٌّ يهوديّة ، لو بايعني بكفَّهِ لغَدَرَ بسبَّتِهِ ، أَمَا إنّ لَهُ إمْرَةٌ كلعقةِ الكلْبِ أَنْفَهُ ، وهو أبو الأكبش الأربعة. ، وستلقَى الأُمَّةُ منْهُ ومِنْ ولَدِهِ يوماً أحْمَرَ » (٣).

وقال عليه‌السلام في الصّحابة الذين خرجوا مع عائشة إلى البصرة في حرب الجمل ، وفيهم طلحة والزبير :

« فخرجوا يجرّون حُرمَةَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تُجرُّ الأمة عند شرائِهَا ،

____________

(١) نهج البلاغة ٢ : ٢١ ، الخطبة ١٣٧.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ١١٢ ، الخطبة ٥٤.

(٣) نهج البلاغة ١ : ١٢٣ ، الخطبة ٧٣.

٢٤٣

متوجّهين بها إلى البصرة ، فحبسَا نساءهُما في بُيوتهما وأبْرزَا حبيس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهُما ولغيرهما ، في جيش ما منهم رجلٌ إلاّ وقد أعطاني الطاعة ، وسمح لي بالبيعة طائعاً غير مكره.

فقدِمُوا على عاملي بها ، وخُزّان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها ، فقتلوا طائفة صبراً ، وطائفة غدْراً ، فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلاّ رجلا واحداً متعمدين لقتله بلا جُرم جرّهُ ، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه إذْ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولا يد ، دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم » (١).

وقال عليه‌السلام في عائشة وأتْباعها من الصّحابة في حرب الجمل :

« كنتُمْ جند المرأةِ ، وأتباعَ البهيمة ، رغا فأجبتُمْ ، وعَقَر فهربتُم ، أخلاقُكم دقاقٌ ، وعهدُكم شقاقّ ، ودينكم نفاقٌ » (٢).

« أمّا فلانة فأدركها رأيُ النّساء ، وضغنٌ غَلا في صدرها كمرجَلِ القين ، ولو دُعيتْ لتَنال من غيري ما أتتْ إلىّ لم تفعَلْ ، ولها بعدُ حُرمتُها الأُولى ، والحسابُ على الله تعالى » (٣).

وقال عليه‌السلام في قريش عامّة ، وهم صحابة بلا شكّ :

« أمّا الاستبدادُ علينا بهذا المقام ونحنُ الأعلونَ نسباً ، والأشدّونَ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نَوْطاً ، فإنّها كانت أَثَرَةٌ شَحّتْ عليها نفوس قوم ، وسخت عنها

____________

(١) نهج البلاغة ٢ : ٨٦ ، الخطبة ١٧٢.

(٢) نهج البلاغة ١ : ٤٥ ، الخطبة ١٣.

(٣) نهج البلاغة ٢ : ٤٨ ، الخطبة ١٥٦.

٢٤٤

نفوسُ قوم آخرين ، والحكمُ الله ، والمَعودُ إليه القيامةُ.

ودع عنك نهباً صِيحَ في حُجَراته

ولكن حديثاً ما حديث الرواحل

وهلّم الخطبَ في ابن أبي سفيان ، فلقد أضحكني الدّهرُ بعد إبكائه ، ولا غروَ والله فيا له خطباً يستفرغُ العَجَبَ ويُكثِرُ الأوَدَ ، حاول القومُ إطفاء نور الله من مصباحه ، وسدّ فوَّاره من يُنبوعِهِ ، وجَدَحوا بيني وبينهم شِرباً وبيئاً ، فإن ترتفعُ عنّا وعنهم مِحَنُ البلوى أحملهم من الحـقّ على محضِهِ ، وإنْ تكنِ الأخري ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ) » (١).

وقال في هذا المعنى عند دفنه سيدة النّساء فاطمة الزّهراء ، وهو يخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« وستُنْبئُكَ ابنتك بتضَافِرُ أُمّتِكَ على هضْمِهَا ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلُ منك الذكر ... » (٢).

وقال عليه‌السلام في رسالة إلى معاوية بعث بها إليه :

« فإنّك مُترفٌ قد أخذ الشيطانُ منك مأْخذَهُ ، وبَلَغَ فيكَ أَمَلَهُ ، وجَرى منْك مجرى الروح والدَّم.

ومتى كنتم ـ يا معاوية ـ ساسة الرعيّة ، وولاّة أمر الأُمّةِ بغير قدم سابق ولا شرف باسق ، ونعوذ بالله من لزوم سوابق الشّقاء؟! وأُحذّرك أن تكون مُتمادياً في غِرَّة الأمنيةِ مُختلفِ العلانية والسريرة.

وقد دعوت إلى الحرب فدع النّاسَ جانباً ، وأخرج إلىَّ وأعفِ الفريقين

____________

(١) نهج البلاغة ٢ : ٦٤ ، الخطبة ١٦٢.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ١٨٢ ، الخطبة ٢٠٢.

٢٤٥

من القتالِ ، ليُعلمَ أيّنَا المَرينُ على قلبه ، والمُغَطَّى على بصره ، فأنا أبو الحسن قاتلُ جدّكَ وخالِكَ وأخيك شدخاً يوم بدر ، وذلك السيفُ معي ، وبذلك القلب أَلْقَى عدوّي ، ما استبدلتُ ديناً ، ولا استحدثتُ نبيّاً ، وإنّي لعلى المنهاج الذي تركتموه طائعينَ ودخلتم فيه مُكْرهين ... » (١).

« وأمّا قولُكَ إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحنُ ، ولكن ليس أُميةَ كهاشم ، ولا حربٌ كعبد المُطّلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجرُ كالطليقُ ، ولا الصَّريحُ كاللّصيقِ ، ولا المحقُّ كالمُبطلِ ، ولا المؤمِنُ كالمُدْغِلِ ، ولبئْسَ الخَلَفُ خَلَفٌ يتتبعُ سلفاً هَوَى في نار جهنّم.

وفي أيدينا بعدُ فضل النبوّة التي أذلَلْنا بها العزيز ، ونعشنا بها الذّليل ، ولمّا أدخل الله العرَبَ في دينه أفواجاً ، وأسلمتْ له هذه الأُمّة طوعاً وكرهاً كنتم ممّن دخَلَ في الدِّين إمّا رغبةً وإمّا رهبةً ، على حين فازَ أهل السّبقِ بسبْقِهم ، وذهب المهاجرون الأوّلون بفضلهم » (٢).

« وقد دعوتنا إلى حُكْمِ القرآن ولَسْتَ من أَهْلِهِ ، ولسنا إيّاكَ أَجبْنَا ، ولكِنَّا أجبنَا القرآن في حُكْمِهِ ، والسّلام » (٣).

( وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) (٤).

____________

(١) نهج البلاغة ٣ : ١٢ ، الخطبة ١٠.

(٢) نهج البلاغة ٣ : ١٧ ، الخطبة ١٧.

(٣) نهج البلاغة ٣ : ٧٨ ، الخطبة ٤٨.

(٤) الإسراء : ٤٨.

٢٤٦

الفصل الخامس

فيما يتعلّق بالخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان

إنّ أهل السنّة والجماعة ـ وكما قدّمنا ـ لا يسمحون بنقد وتجريح أىّ صحابي من صحابته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعتقدون بعدالتهم جميعاً ، وإذا كتب أيّ مفكر حرّ ، وتناول بالنقد أفعال بعض الصّحابة ، فهم يُشنّعون عليه بل ويكفّرونه ولو كان من علمائهم.

وذلك ما حصل لبعض العلماء المتحرّرين المصريين وغير المصريين أمثال الشيخ محمود أبو ريّة صاحب « أضواء على السنّة المحمدية » ، وكتاب « شيخ المضيرة » ، وكالقاضي الشيخ محمّد أمين الأنطاكي صاحب كتاب « لماذا اخترت مذهب أهل البيت » ، وكالسيّد محمّد بن عقيل الذي ألّف كتاب « النصائح الكافية لمن يتولّى معاوية » ، بل ذهب بعض الكتّاب المصريين إلى تكفير الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر عندما أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري.

وإذا كان شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية يُشنّع عليه لمجرّد اعترافَه بالمذهب الشيعي ، الذي ينتسِبُ لأُستاذ الأئمة ومعلّمهم جعفر الصادق عليه‌السلام ، فما بالك بمن اعتنق هذا المذهب بعد بحث وقناعة ، وتناول بالنقد المذهب الذي كان عليه وورثه من الآباء والأجداد؟! فهذا ما لا يسمح به أهل السنّة

٢٤٧

والجماعة ، ويعتبرونه مروقاً عن الدّين وخروجاً عن الإسلام ، وكأنّ الإسلام على زعمهم هو المذاهب الأربعة ، وغيرها باطل!!

إنّها عقول متحجّرة وجامدة ، تُشبهُ تلك العقول التي يحدّثنا عنها القرآن ، والتي واجهت دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعارضته معارضة شديدة; لأنّه دعاهم إلى التوحيد وترك الآلهة المتعدّدة ، قال تعالى : ( وَعَجِبُوا أنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (١).

ولكلّ ذلك فأنا واثقُ من الهجمة الشرسة التي سوف تُواجهني من أُولئك المتعصّبين الذين جعلوا أنفسهم قوّامين على غيرهم ، فلا يحقّ لأحد أن يخرج عن المألوف لديهم ، ولو كان هذا المألوف لا يمتّ للإسلام بشيء!! وإلاّ كيف يحكم على من انتقد بعض الصّحابة في أعمالهم بالخروج عن الدّين والكفر ، والدّينُ بأُصوله وفروعه ليس فيه شيء من ذلك؟!

بعض المتعصّبين كان يروّج في أوساطه بأنّ كتابي « ثمّ اهتديت » يشبه كتاب سلمان رُشدي ، ليصدّ الناس عن قراءته بل ويحثّهم على لعن كاتبه!!

إنّه الدسّ والتزوير والبهتان العظيم الذي سوف يُحاسبه عليه ربّ العالمين ، وإلاّ كيف يُقارن كتاب « ثمّ اهتديت » الذي يدعو إلى القول بعصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنزيهه ، والاقتداء بأئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً; بكتاب « الآيات الشيطانية » الذي يشتمُ فيه صاحبه الملعون الإسلام ونبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعتبر أنّ الدين الإسلامي هو نفثة الشياطين؟!

____________

(١) ص : ٥.

٢٤٨

فالله يقول : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ ) (١).

ومن أجل هذه الآية الكريمة فأنا لا أُبالي إلاّ برضاء الله سبحانه وتعالى ، ولا أخشى فيه لومة لائم ما دمتُ أُدافعُ عن الإسلام الصحيح ، وأُنزّه نبيَّهُ الكريم عن كلّ خطأ ، ولو كان ذلك على حساب نقد بعض الصّحابة المقرّبين ، ولو كانوا من « الخلفاء الراشدين »; لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أولى بالتنزيه من كلّ البشر.

والقارئ الحرُّ اللّبيب يفهمُ من كلّ مؤلّفاتي ما هو الهدف المنشود ، فليست القضية هي انتقاصُ الصّحابة والنيل منهم بقدر ما هو دفاع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعصمته ، ودفع الشبهات التي ألصقها الأمويون والعباسيون بالإسلام وبنبىّ الإسلام ، خلال القرون الأُولى التي تحكّموا فيها على رقاب المسلمين بالقهر والقوّة ، وغيّروا دين الله بما أملته عليهم أغراضهم الدنيئة ، وسياستهم العقيمة ، وأهواؤهم الخسيسة.

وقد أثّرتْ مؤامرتهم الكبرى على كتلة كبيرة من المسلمين الذين اتبعوهم عن حسن نيّة فيهم ، وتقبّلوا كلّ ما رووه من تحريف وأكاذيب على أنّها حقائق ، وأنّها من الإسلام ، ويجب على المسلمين أن يتعبّدوا بها ولا يُناقشوها!!

ولو عرف المسلمون حقيقة الأمر لما أقاموا لهم ولا لمروياتهم وزناً.

ثمّ إنّه لو كان التاريخُ يروي لنا بأنّ الصّحابة كانوا يمتثلون أوامر رسول

____________

(١) النساء : ١٣٥.

٢٤٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونواهيه ، ولا يناقشونه ولا يعترضون على أحكامه ، وأنّهم لم يعصوه في أواخر أيام حياته في عدّة أحكام; لحكمنا بعدَالتِهم جميعاً ، ولما كان لنا في هذا المجال بحثٌ ولا كلام.

أمّا وإنّ منهم مكذّبون ، ومنهم منافقون ، ومنهم فاسقون بنصّ القرآن والسنّة الثابتة الصحيحة. أمّا وأنّهم اختلفوا بحضرته ، وعصوه في أمر الكتاب حتّى اتهموه بالهذيان ، ومنعوه من الكتابة ، ولم يمتثلوا أوامره عندما أمّر عليهم أُسامة .. أمّا وإنّهم اختلفوا في خلافته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أهملوا تغسيله وتجهيزه ودفنه ، واختصموا من أجل الخلافة ، فرضي بها بعضهم ورفضها بعضهم الآخر .. أمّا وإنّهم اختلفوا في كلّ شيء بعده حتّى كفّر بعضهم بعضاً ولعن بعضهم بعضاً ، وتحاربوا فقتل بعضهم بعضاً ، وتبرّأ بعضهم من بعض.

أمّا وإنّ دين الله الواحد أصبح مذاهب متعدّدة وآراء مختلفة; فلابدّ والحال هذه أنْ نبحث عن العلّة وعن الخللْ الذي أرجع خير أُمّة أُخرجت للنّاس ، وأهوى بها إلى الحضيض ، فأصبحتْ أذلّ وأجهل وأحقر أُمّة على وجه البسيطة ، تنتهكُ حُرماتها ، وتحتلُّ مقدساتْها ، وتستعمرُ شعوبُها ، وتشرّدُ وتطردُ من أراضيها ، فلا تقدر على دفع المعتدين ، ولا مسح العار عن جبينها؟!

والعلاج الوحيد فيما أعتقد لهذه المعضلة هو النقد الذّاتي ، فكفانا التغنّي بأسلافنا وبأمجادنا المزيّفة التي تبخَرتْ وأصبحت متاحف أثرية خالية حتى من الزوّار ، والواقع يدعونا أن نبحث عن أسباب أمراضنا وتخلّفنا ، وتفرّقنا وفشلنا حتى نكتشف الدّاء فنشخّص له الدواء الناجع لشفائنا ، قبل

٢٥٠

أن يقضي علينا ويأتي على آخرنا.

هذا هو الهدف المنشود ، والله وحده هو المعبود ، وهو الهادي عباده إلى سواء الصراط.

وما دام هدفنا سليماً ، فما قيمة اعتراض المعترضين والمتعصّبين الذين لا يعرفون إلاّ السّباب والشتائم بحجّة الدفاع عن الصّحابة ، وهؤلاء لا نلومهم ولا نحقد عليهم بقدر ما نرثي لحالهم; لأنّهم مساكين منعهم حسنُ ظنّهم بالصّحابة وحجبَهم عن الوصول للحقيقة ، فما أشبههم بأولاد اليهود والنّصارى الذين أحسنوا الظنّ بآبائهم وأجدادهم ، ولم يكلّفوا أنفسهم جهد البحث في الإسلام ، معتقدين بمقالة أسلافهم بأنّ محمّداً كذّابٌ ، وليس هو بنبىّ ، قال تعالى : ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ ) (١).

وبمرور القرون المتتالية أصبح من العسير اليوم على المسلم أن يُقنع يهوديّاً أو نصرانيّاً بعقيدة الإسلام ، فما بالك بمن يقول لهم بأنّ التوراة والانجيل اللذين يتدالونهما هما محرّفان ، ويستدلّ على ذلك بالقرآن ، فهل يجد هذا المسلم آذاناً صاغية لديهم؟

وكذلك المسلم البسيط الذي يعتقد بعدالة كلّ الصّحابة ، ويتعصّب لذلك بدون دليل ، فهل يمكن لأحد من النّاس أن يقنعه بعكس ذلك؟

وإذا كان هؤلاء لا يطيقون جرح ونقد معاوية وابنه يزيد ، وأمثالهم كثير الذين شوّهوا الإسلام بأعمالهم القبيحة; فما بالك إذا كلّمتهم عن أبي بكر وعمر وعثمان ( الصديق والفاروق ومن تستحي منه الملائكة ) ، أو عن عائشة

____________

(١) البينة : ٣.

٢٥١

أُمّ المؤمنين زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنة أبي بكر ، والتي تكلّمنا عنها في فصل سابق بما رواه عنها أصحاب الصحاح المعتمدين عند أهل السنة؟!

وجاء الآن دور الخلفاء الثلاثة لنكشف عن بعض أفعالهم التي سجّلها عليهم صحاح السنّة ومسانيدُهم وكتب التاريخ المعتمدة لديهم ، لنبيّن ـ أوّلا ـ أنّ مقولة عدالة الصّحابة غير صحيحة ، وأنّ العدالة انتفتْ حتى عن بعض الصّحابة المقرّبين.

ولنكشف ـ ثانياً ـ لإخواننا من أهل السنّة والجماعة بأنّ هذه الانتقادات لا تدخل في السبّ والشتم والانتقاص بقدر ما هي إزالة للحجب للوصول إلى الحقّ ، كما أنّها ليست من مختلقات وأكاذيب الروافض كما يدّعي عامّة النّاس ، وإنّما هي من الكتب التي حكموا بصّحتها ، وألزمُوا أنفسهم بها.

أبو بكر الصدّيق في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء السادس صفحة ٤٦ في كتاب تفسير القرآن سورة الحجرات ، قال : حدّثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا; أبا بكر وعمر رضي الله عنهما; رفعا أصواتُهما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قدمَ عليه ركبُ بني تميم ، فأشار أحدُهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخرُ برجل آخر ، قال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردتَ إلاّ خلافي ، قال : ما أردتُ خلافك ، فارتفعتْ أصواتُهما في ذلك ، فأنزل الله : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ ) (١) الآية.

____________

(١) الحجرات : ٢.

٢٥٢

قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمِعُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هذه الآية حتّى يستفهمَه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر.

كما أخرج البخاري في صحيحه في الجزء الثامن صفحة ١٤٥ من كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة ، باب ما يكره من التعمّق والتنازع ، قال : أخبرنا وكيع ، عن نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة قال : كاد الخيّران أن يَهلكا أبو بكر وعمر; لما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفْدُ بني تميم ، أشار أحدُهما بالأقرع ابن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مُجَاشِع ، وأشارَ الآخرُ بغيره ، فقال أبو بكر لعمر : إنّما أردتَ خلافِي ، فقال عمر : ما أردتُ خلافكَ ، فارتفعت أصواتُهما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُمْ وَأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ اُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأجْرٌ عَظِيمٌ ) (١).

قال ابن أبي مليكة : قال ابن الزبير : فكان عمر بعدُ ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر إذا حدّث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحديث حدّثه كأخي السرار لم يُسمعه حتّى يستفهمه.

كما أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة ١١٦ من كتاب المغازي ـ وفد بني تميم قال : حدّثنا هشام بن يوسف ، أنّ ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة ، أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم أنّه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال أبو بكر : أمرِّ القعقاع بن معبد بن زرارة ،

____________

(١) الحجرات : ٢ ـ ٣.

٢٥٣

فقال عمر : بل أمِّر الأقرع بن حابس ، قال أبو بكر : ما أردتَ إلاّ خلافي ، قال عمر : ما أردتُ خلافك ، فتمارياً حتّى ارتفعتْ أصواتهما ، فنزلت في ذلك : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (١) حتى انقضت.

والظاهر من خلال هذه الروايات أنّ أبا بكر وعمر لم يتأدّبا بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآداب الإسلامية ، وسمحا لأنفسهما بأن يُقدّمَا بين يدي الله ورسوله بغير إذن ولا طلب منهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبديا رأيهما في تأمير أحد من بني تميم ، ثمّ لم يكتفيا حتى تشاجرا بحضرته ، وارتفعتْ أصواتهما أمامه من غير احترام ولا مُبالاة بما تفرضه عليهما الأخلاق والآداب ، التي لا يمكن لأيّ أحد من الصّحابة أن يجهلها أو يتجاهلها ، بعد ما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حياته في تعليمهم وتربيتهم.

ولو كانت هذه الحادثة قد وقعتْ في بداية الإسلام لالتمسنا للشيخين في ذلك عُذْراً ، ولحاولنا أن نجد لذلك بعض التأويلات.

ولكنّ الروايات تثبت بما لا يدع مجالا للشكّ بأنّ الحادثة وقعت في أواخر أيّام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ أنّ وفد بني تميم قدم على رسول الله في السنة التاسعة للهجرة ، ولم يعش بعدها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بضعة شهور ، كما يشهد بذلك كلّ المؤرخين والمحدّثين الذين ذكروا قدوم الوفود على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي تحدّث عنها القرآن الكريم في أواخر السور بقوله : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً ) (٢).

____________

(١) الحجرات : ١.

(٢) النصر : ١ ـ ٢.

٢٥٤

وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يعتذر المعتذرون عن موقف أبي بكر وعمر بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ولو اقتصرت الرواية على الموقف الذي مثله الصحابيّان فحسب لما وسعنا النقد ولا الاعتراض ، ولكنّ الله الذي لا يستحي من الحقّ سجّلها وأنزل فيها قرآناً يُتلى ، فيه التنديد والتهديد لأبي بكر وعمر بأن يحبط الله أعمالهما إنّ عادا لمثلها!! حتى إن راوي هذه الحادثة بدأ كلامه بقوله : « كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر »!!

ويحاول راوي الحادثة بعد ذلك ـ وهو عبد الله بن الزبير ـ أن يُقنعنا بأنّ عمر بعد نزول هذه الآية في شأنه إذا حدّث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمعه صوته حتى يستفهمه ، ورغم أنّه لم يذكر ذلك عن جدّه أبي بكر ، فالتاريخ والأحداث التي ذكرها المحدّثون تُثبتُ عكس ذلك ، ويكفي أن تذكر رزيّة يوم الخميس قبل وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاثة أيام ، حتّى نجد بأنّ عمر نفسه قال قولته المشؤومة : « إنّ رسول الله يهجر وحسبنا كتاب الله » ، فاختلف القوم ، فمنهم من يقول : قرّبوا إلى الرسول يكتب لكم ، ومنهم من يقول مثل قول عمر ، فلمّا أكثروا اللّغط والاختلاف (١) قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قوموا عنّي لا ينبغي عندي التنازع » (٢).

فالمفهوم من كثرة اللغو واللغط والاختلاف والتنازع أنّهم تجاوزوا كلّ الحدود التي رسمها الله لهم في سورة الحجرات كما مرّ. ولا يمكن اقناعنا بأنّ اختلافهم وتنازعهم ولغطهم كان هَمْساً في الآذان ، بل يُفهم من كلّ ذلك

____________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٣٨ كتاب المغازي ، باب مرض النبي ووفاته.

(٢) صحيح البخاري ١ : ٣٧ كتاب العلم ، باب كتابة العلم.

٢٥٥

بأنّهم رفعوا أصواتهم حتى أن النّساء اللاتي كنّ وراء الستر والحجاب شاركن في النّزاع ، وقلنَ : قرّبوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتب لكم ذلك الكتاب ، فقال لهنّ عمر : إنكنّ صويحبات يوسف ، إذا مرض عصرتنّ أعينكنّ ، وإذا صحّ ركبتنّ عنقه ، فقال له رسول الله : « دعوهن فإنّهن خير منكم » (١).

والذي نفهمه من كلّ هذا بأنّهم لم يمتثلوا أمر الله في قوله : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) (٢) ولم يحترموا مقام الرسول ، ولا تأدّبوا عندما طعنوه بكلمة الهجر.

وقد سبق لأبي بكر أن تلفّظ بكلام بذيئ بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك عندما قال لعروة بن مسعود أمصَصْ ببظر اللاّت (٣). وقال القسطلاني شارح البخاري معلّقاً على هذه العبارة : والأمر بمصّ البظر من الشتائم الغليظة عند العرب (٤) ، فإذا كانت أمثال هذه الكلمات تُقال بحضرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما هو معنى قوله تعالى : ( وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض ) (٥)؟!

وإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على خلق عظيم كما وصفه ربُّه ، وإذا كان أشدَّ

____________

(١) الطبقات الكبرى ٢ : ٢٤٤ وسند الحديث حسن ، المعجم الأوسط ٥ : ٢٨٨ ، كنز العمال ٥ : ٦٤٤ ح ١٤١٣٣.

(٢) الحجرات : ١ ـ ٢.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ١٦٩.

(٤) إرشاد الساري ٦ : ٢٢٦ ، وفتح الباري ٥ : ٢٤٨ ، والشوكاني في نيل الأوطار ٨ : ١٩٧ واستدلّوا به على جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ!! ( والمؤلّف نقله بالمضمون ).

(٥) الحجرات : ٢.

٢٥٦

حياءً من العذراء في خدرها ، كما أخرج ذلك البخاري ومسلم (١) ، وقد صرّح الشيخان البخاري ومسلم بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن فاحشاً ولا مُتفحّشاً ، وكان يقول : « إنّ من خياركُمْ أحسنكم أخلاقاً » (٢) فمابال صحابته المقرّبين لم يتأثّروا بهذا الخلق العظيم؟

أضف إلى كلّ ذلك بأنّ أبا بكر لم يمتثل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما أمّر عليه أُسامة بن زيد ، وجعله من جملة عساكره ، وشدّد النكير على من تخلّف عنه ، حتى قال : « لعن الله من تخلّف عن جيش أُسامة » (٣) ، وذلك بعدما بلغه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طعن الطاعنين عليه في مسألة تأمير أُسامة ، التي ذكرها جلّ المؤرّخين وأصحاب السير.

كما أنّه سارع إلى السّقيفة وشارك في إبعاد علي بن أبي طالب عن الخلافة ، وترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مُسجّى بأبي هو وأُمّي ، ولم يهتمّ بتغسيله وتكفينه وتجهيزه ودفنه ، متشاغلا عن كلّ ذلك بمنصب الخلافة والزعامة التي أشرأبّتْ لها عنقه ، فأين هي الصّحبة المقرّبة ، والخلّة المزعومة؟! وأين هو الخلق؟!

وأنا أستغرب موقف هؤلاء الصّحابة من نبيّهم الذي قضى حياته في هدايتهم وتربيّتهم والنصح لهم ( عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٦٧ كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صحيح مسلم ٧ : ٧٨ كتاب الفضائل باب كثرة حيائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ١٦٦ كتاب المناقب ، باب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صحيح مسلم ٧ : ٧٨ كتاب الفضائل باب كثرة حيائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) كتاب الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٣ المقدّمة الرابعة.

٢٥٧

رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (١). فيتركونه جثّة هامدة ، ويسارعون للسّقيفة لتعيين أحدهم خليفة له!!

ونحن نعيش اليوم في القرن العشرين الذي نقول عنه بأنّه أتعس القرون ، وأنّ الأخلاق تدهورت ، والقيم تبخّرتْ ، ومع كلّ ذلك فإنّ المسلمين إذا ماتَ جارٌ لهم أسرعوا إليه ، وانشغلوا به حتّى يواروه في حفرته ، ممتثلين قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إكرام الميّت دفنه » (٢).

وقد كشف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن تلك الوقائع بقوله : « أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلَمُ أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا ... » (٣).

ثمّ بعد ذلك استباح أبو بكر مهاجمة بيت فاطمة الزّهراء ، وتهديده بحرقه إن لم يخرج المتخلّفون فيه لبيعته ، وكان ما كان ممّا ذكره المؤرّخون في كتبهم ، وتناقله الرواةُ جيلا بعد جيل ، ونحن نضرب عن ذلك صفحاً ، وعلى من أراد المزيد أن يقرأ كتب التاريخ.

أبو بكر بعد حياة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

تكذيبه للصّديقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء وغصبه حقّها

أخرج البخاري في صحيحه من الجزء الخامس صفحة ٨٢ في كتاب المغازي باب غزوة خيبر ، قال : عن عروة ، عن عائشة : أنّ فاطمة عليها‌السلام بنت

____________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) كشف الخفاء للعجلوني ١ : ١٦٨.

(٣) نهج البلاغة ١ : ٣٠ ، الخطبة رقم ٣ المعروفة بالشقشقية.

٢٥٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلتْ إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لا نوّرثُ ما تركنا صدقة ، إنّما يأكل آل محمّد في هذا المال ، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً ، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك ، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشتْ بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة أشهر ، فلمّا توفّيتْ دفنها زوجُها علي ليلا ، وصلّى عليها ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وكان لعلي من النّاس وجْهٌ في حياة فاطمة ، فلمّا توفيت استنكر علىٌّ وجوه النّاس ، فالتمس مصالحه أبي بكر ومبايعته ، ولم يكن يبايع تلك الأشهر ... (١).

وأخرج مسلم في صحيحه من الجزء الثاني كتاب الجهاد ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورّث ما تركنا فهو صدقة » :

عن عائشة أُمّ المؤمنين رضي الله عنها : أنّ فاطمة عليها‌السلام ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألتْ أبا بكر الصديق ، بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسمَ لها ميراثها ممّا ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وممّا أفاء الله عليه ، فقال لها أبو بكر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا نوّرث ، ما تركنا صدقة ».

فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهجرتْ أبا بكر ، فلم تزل مهاجرتُه

____________

(١) صحيح مسلم ٥ : ١٥٣ أيضاً في كتاب الجهاد ، باب قول النبي : لا نورث ما تركنا فهو صدقة.

٢٥٩

حتى توفيتْ ، وعاشت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة أشهر (١).

قالتْ : وكانتْ فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خيبر وفدك ، وصَدَقتهُ بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال : لستُ تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعمل به إلاّ عملتُ به ، فإنّي أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ ، فأمّا صدقتهُ بالمدينة فدفعها عُمر إلى علي والعبّاس ، فأمّا خيبر وفدك فأمسكها عُمرُ ، وقال : هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهُما إلى من ولي الأمْرَ ، فهُما على ذلك إلى اليوم.

ورغم أنّ الشّيخين البخاري ومسلم اقتضبا هذه الروايات واختصراها لئلاّ تنكشف الحقيقة للباحثين ، وهذا فنٌّ معروف لديهما توخياه للحفاظ على كرامة الخلفاء الثلاثة ـ ولنا معهما بحث في هذا الموضوع إن شاء الله سنوافيك به عمّا قريب ـ إلاّ أن الروايات التي نمّقوها كافية للكشف عن حقيقة أبي بكر الذي ردّ دعوى فاطمة الزّهراء ، ممّا استوجب غضبها عليه وهجرانها له حتى ماتت عليها‌السلام ، ودفنها زوجها سرّاً في اللّيل بوصية منها دون أن يؤذن بها أبا بكر ، كما نستفيد من خلال هذه الروايات بأنّ علياً لم يبايع أبا بكر طيلة ستّة أشهر ، وهي حياة فاطمة الزّهراء بعد أبيها ، وأنّه أضطرّ لبيعته اضطراراً لمّا رأى وجوه النّاس قد تنكّرت له ، فالتمس مُصالحة أبي بكر.

والذي غيّره البخاري ومسلم من الحقيقة هو أدّعاء فاطمة عليها‌السلام بأنّ أباها

____________

(١) هذا المقطع لا يوجد في صحيح مسلم ، بل أخذه المؤلّف من صحيح البخاري ٤ : ٤٢ ، كتاب الخمس باب فرض الخمس.

٢٦٠