فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

فقيل : إنّ بعضهم أجابه بنعم ، وبعضهم أجابه صبأنا صبأنا ... وكلمة « فقيل » تدلّ دلالة واضحة على أنّ القوم يتمسكون بأيّ شيء قد يوهمون به النّاس ليعذروا خالد بن الوليد ، لأنّ خالد بن الوليد هو سيف الحاكم المسلول ، وهو المدافع عن الخلافة المغصوبة ، وهو وأتباعه يُمثلون القوّة الضّاربة لكلّ من تحدِّثه نفسه بالخروج والتمرّد عمّا أبرمه أبطال السقيفة يوم وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!! فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

معاملة الصحابة لأوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته

تضييعهم سنّة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج البخاري في جزئه الأوّل في باب تضييع الصّلاة .. عن غيلان قال أنس بن مالك : ما أعرفُ شيئاً ممّا كان على عهدِ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! قيل : الصّلاةُ ، قال : أليسَ ضيّعتُم ما ضيّعتُم فيها.

وقال : سمعت الزهري يقول : دخلتُ على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي ، فقلتُ له : ما يُبكيك؟ قال : لا أعرف شيئاً ممّا أدركتُ إلاّ هذه الصّلاة ، وهذه الصّلاة قد ضُيّعَتْ. ( صحيح البخاري ١ : ١٣٤ ).

كما أخرج البخاري في جزئه الأوّل في باب فضل صلاة الفجر في جماعة قال : حدّثنا الأعمش قال : سمعت سالماً قال : سمعتُ أُمّ الدرداء تقولُ : دخل علىَّ أبو الدردَاء وهو مُغضَبٌ ، فقلت : ما أغضبك؟ فقال : واللّهِ ما أعرفُ من أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً إلاّ أنّهم يصلّون جميعاً. ( صحيح البخاري ١ : ١٥٩ ).

وأخرج البخاري في جزئه الثاني في باب الخروج إلى المصلّى بغير

٢٢١

منبر ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى ، فأوّل شيء يبدأ به الصّلاة ، ثمّ بعد ذلك يعظ النّاس ، فلم يزل النّاس على ذلك حتّى خرجتُ مع مروان ، وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فأراد أن يرتقي المنبر قبل أن يُصلّي ، فجذبتُ بثوبه ، فجذبني فارتفع فخطب قبل الصّلاة ، فقلت له : غيّرتم والله ، فقال : أبا سعيد قد ذهب ماتعلم ، فقلت : ما أعلَمُ والله خيرٌ ممّا لا أعلم ، فقال : إنّ الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصّلاة ، فجعلتها قبل الصّلاة. ( صحيح البخاري ٢ : ٤ ).

إذا كان الصحابة في عهد أنس بن مالك ، وعلى عهد أبي الدرداء ، وفي حياة مروان بن الحكم ، وهو عهد قريب جدّاً بحياة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; يغيّرون سنن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويضيّعون كلّ شيء حتّى الصّلاة ـ كما سمعت ـ ، ويقلّبون سنن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصالحهم الخسيسة ، وهي أنّ بني أُمية اتخذوا سنّة سبّ ولعن علي وأهل البيت على المنابر بعد كلّ خطبة ، فكان أكثر النّاس في عيد الفطر والأضحى عندما تنتهي الصّلاة يتفرّقون ، ولا يحبّون الاستماع إلى الإمام يلعن عليّ بن أبي طالب وأهل البيت ، ولذلك عمد بنو أُميّة إلى تغيير سنّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقدّموا الخطبة على الصّلاة في العيدين; ليتسنّى لهم سبّ ولعن علي بمحضر المسلمين كافّة ، ويُرغِمُون بذلك أُنوفَهم ، وعلى رأس هؤلاء معاوية بن أبي سفيان ، فهو الذي سنَّ لهم تلك السنّة التي أصبحتْ عندهم من أعظم السنن التي يتقرّبون بها إلى الله ، حتى إنّ بعض المؤرّخين حكى أنّ أحد أئمّتهم أتَمَّ خطبتَه في يوم الجمعة ، ونَسيَ لعن علي وهمّ بالنزول للصّلاة ، فإذا النّاس يتصايحون من كلّ جانب : تركت السُنّة! نسيت السُنّة! أين هي السنّة؟!

٢٢٢

نعم ، وللأسف فهذه البدعة التي ابتدعها معاوية بن أبي سفيان بقيت ثمانين عاماً متداولة على منابر المسلمين ، وبقيت آثارها حتّى اليوم ، ومع ذلك فأهل السنّة والجماعة يترضّون على معاوية وأتباعه ، ولا يطيقون فيه نقداً ولا تجريحاً بدعوى احترام الصّحابة؟!!

والحمد لله فإنّ الباحثين المخلصين من أُمّة الإسلام بدأوا يعرفون الحقّ من الباطل ، وبدأ الكثير منهم يتخلّص من عقدة الصّحابة التي ما كوَّنها إلاّ معاوية وأشياعه وأتباعه ، وأهل السنّة والجماعة بدأوا يفيقون لِهذا التناقض الشنيع ، في الوقت الذي يُدافعُون فيه عن الصّحابة أجمعين حتّى يلعنوا من انتقص واحداً منهم. وإذا قُلتَ لهم : إنّ لعنكم هذا يشمل معاوية بن أبي سفيان ، لأنّه سبّ ولعن أفضلُ الصّحابة على الإطلاق ، وهو يقصد بالطبع سبّ رسول الله الذي قال : « من سبّ علياً فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله » (١).

____________

(١) تاريخ دمشق ٤٢ : ٥٣٣ ، الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٦٠٨ ح ٨٧٣٦ ، نظم درر السمطين : ١٠٥ ، وروي صدره فقط في المستدرك ٣ : ١٢١ وصحّحه ووافقه الذهبي على تصحيحه ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٣٣ ، مسند أحمد ٦ : ٣٢٣ ، عنه مجمع الزوائد ٩ : ١٣٠ وقال : « رجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة ».

وكذلك الحديث الذي مرّ عليك آنفاً في هامش ص ١٣١.

وقد سب معاوية بن أبي سفيان ومن تبعه علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقد أخرج ابن ماجة في سننه عن سعد بن أبي وقاص قال : قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه سعد ، فذكروا علياً ، فنال منه ، فغضب سعد وقال : تقول هذا لرجل سمعت

٢٢٣

____________

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : « من كنت مولاه فعلي مولاه » ، وسمعته يقول : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » ، وسمعته يقول : « لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ».

وعلّق الشيخ الألباني عليه بقول : « فنال منه » ، أي نال معاوية من علي وتكلّم فيه «. راجع صحيح سنن ابن ماجة للألباني ١ : ٧٦ ح ١٢٠.

وقال الشيخ عبد الباقي في تعليقه على سنن ابن ماجه : « قوله ( فنال منه ) أي نال معاوية من علي ووقع فيه وسبّه » سنن ابن ماجه تحقيق الشيخ عبد الباقي ١ : ٨٢ ح ١٢١.

وقد مرّ عليك حديث أُم سلمة في ص ١٣١ عندما اعترضت عليهم بأنّ الرسول يسبّ فيهم لأنّهم يسبّون علياً ومن يحبه ، ورسول الله كان يحبه.

وأخرج مسلم في صحيحه ٤ : ١٤٩٠ كتاب الفضائل ، باب فضائل علي بن أبي طالب ، عن سعد بن أبي وقاص قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟

فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه .. سمعت رسول الله يقول له ، خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : « يا رسول الله! خلفتني مع النساء والصبيان »؟ فقال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة بعدي » .. وسمعته يقول يوم خيبر : « لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويُحبُّه الله ورسوله ».

وعند ترتّب القضايا السابقة وهي : أن معاوية كان يسبّ علياً كما ذكر ذلك ابن ماجة بسند صحيح كما ذكر الألباني.

وأنّ سابّ علياً ، أو ساب من يحبّه يكون ساباً لله كما ذكر ذلك الألباني وصححه.

وأنّ الله يحبّ علياً كما هو واضح; لأنّ مسلماً أخرج ذلك في صحيحه.

فعند ترتيب هذه الأُمور يتّضح بلا أدنى شكّ أنّ معاوية بن أبي سفيان كان يسب الله سبحانه وتعالى ، وقد اتفق عموم المسلمين على أنّ ساب الله كافر سواء كان

٢٢٤

عند ذلك يتلجلجون ويتلكّؤون في الجواب ، ويقولون أشياء إن دلّتْ على شيء فلا تدلّ إلاّ على سخافة العقول والتعصّب الأعمى المقيت ، يقول بعضهم مثلا : هذه أكاذيب من موضوعات الشيعة! والبعض الآخر يقول : هم صحابة رسول الله ، ولهم أن يقولوا في بعضهم ما شاؤوا ، أمّا نحنُ فلسنا في مُستَواهم لكي ننتقدهم!!

____________

سبه عن جد أو هزل. راجع المغني لابن قدامة ١٠ : ١١٣ ، المحلي لابن حزم ١١ : ٤١١ وغيرها.

إذن معاوية بن أبي سفيان يكون كافراً بنصّ أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله.

وهذا الحكم على معاوية بن أبي سفيان لابدّ أن يلتزم به الشيخ الألباني طبقاً لمبانيه; لأنّه لم يلتزم بعدالة عموم الصحابة ، بل حكم على بعضهم بأنّهم في النار تبعاً لأحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد ذكر تحت حديث : « قاتل عمّار وسالبه في النار » ، أنّ أبا الغادية الجهني ( واسمه يسار بن سبع ) ، وهو صحابي ، وهو قاتل عمّار ، وبما أنّه صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ قاتل عمار في النار ، فيكون أبو الغادية الجهني من أهل النار مع أنّه صحابي ، قال الشيخ الألباني في صحيحته ٥ : ١٨ ح ٢٠٠٨بعد تصحيحه حديث ( قاتل عمّار وسالبه في النار ، قال : « .. وأبو الغادية هو الجهني ، وهو صحابي كما أثبت ذلك جمع ... وجزم ابن معين أنّه قاتل عمار .. لا يمكن القول بأنّ أبا غادية القاتل لعمار مأجور لأنه قتله مجتهداً ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « قاتل عمّار في النار » ، فالصواب أن يقال : إنّ القاعدة صحيحة إلاّ ما دلّ الدليل القاطع على خلافها ، فيستثنى ذلك منها ، كما هو الشأن هنا ، وهذا خبر من ضرب الحديث الصحيح بها ... » ومراد من القاعدة هي : إنّ جميع الصحابة مجتهدون ، والله راض عنهم .. الخ.

فهنا على كلام الشيخ الألباني يلزم إخراج معاوية من القاعدة والحكم بكونه من أهل النار ، وإلاّ يلزم ضرب الأحاديث الصحيحة والتي صحح جميعها بالقاعدة ، وهو لا يقبل ذلك بل يقول : بلزوم تقديم الحديث الصحيح على القاعدة!!

٢٢٥

سبحانك اللهمّ وبحمدك! لقد أوقفني كلامك في القرآن الكريم على حقائق كان من الصعب علىّ فهمها والاعتقاد بها ، وكنت كلّما قرأتُ : ( وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا اُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ اُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ ) (١).

أتعجّبُ في نفسي وأقول : كيف يكون ذلك؟ أيمكن أن يكون الحيوان الأبكم أهدى من هذا الإنسان؟! أيمكن أن ينحتَ الإنسانُ حجراً ثمّ يعبدُهُ ويطلب منه الرزق والمعونة؟ ولكن والحمد لله زال عجبي عندما تفاعلتُ مع النّاس ، وسافرت إلى الهند ، ورأيتُ العجب العجاب ، رأيت دكاترة في علم التشريح يعرفون خلايا الإنسان ومكوّناته ، ولا يزالون يعبدون البقر ، ولو اقترف هذا الإثم الجاهلون من الهندوس لكان عذرهم مقبول ، ولكن أن ترى النخبة المثقّفة منهم يعبدون البقر والحجر والبحر والشمس والقمر فما عليك بعد ذلك إلاّ أن تسلّم وتفهم مدلول القرآن الكريم بخصوص البشر الذين هم أضلّ من الحيوان!!

شهادة أبي ذر الغفاري في بعض الصحابة

أخرج البخاري في جزئه الثاني في باب ما أُدّيت زكاتُه فليس بكنز ، عن الأحنف بن قيس قال : جلست إلى ملاً من قريش ، فجاء رجلٌ خشِنُ الشعر والثياب والهيئةِ حتّى قام عليهم فسلّم ثمّ قال : بشّر الكانزين برضْف يُحمى عليه في نار جهنم ، ثم يوضع على حلَمة ثديِ أحدهم يخرج من نُغضِ كتفِهِ ، ويوضَعُ على نُغضِ كتفِهِ حتى يخرجَ من حلمة ثديه يتزلزلُ ، ثُمّ

____________

(١) الأعراف : ١٧٩.

٢٢٦

ولّى فجلس إلى سارية ، وتبعته وجلست إليه ، وأنَا لا أدري من هو.

فقلت له : لا أرى القومَ إلاّ قد كرهوا الذي قُلت ، قال : إنّهم لا يعقلون شيئاً ، قال لي خليلي ... ، قلت : من خليلك؟ قال : النبىُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال لي : « يا أبا ذر أتبصر أحداً »؟ قال : فنظرتُ إلى الشمس ما بقي من النهار ، وأنَا أرى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُرسلني في حاجة لَه ، قلت : نعم ، قال : « ما أحبّ أن لي مثل أُحُد ذهباً أُنْفِقُه كُلَّهُ إلاّ ثلاثةَ دنانير. وإنّ هؤلاء لا يعقلون إنّما يجمعُون الدنيا ، لا والله لا أسألهم دنْيا ، ولا أستفتيهم عن دين حتّى ألقى الله عزّ وجلّ ». ( صحيح البخاري ٢ : ١١٢ ) (١).

وأخرج البخاري في جزئه السابع في باب الحوض وقول الله تعالى : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « بينما أنا قائم فإذا زمرةٌ حتّى إذا عرفتهم خرج رجُلٌ من بيني وبينهم فقال : هَلُمَّ ، فقلتُ : أين؟ قال : إلى النّار والله ، قلت : وما شأنُهم؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك أدبارهم القهقرى ، ثم إذا زمرة حتّى إذا عرفتهُم خرج رجُلٌ من بيني وبينهم فقال : هَلُمَّ ، قلتُ : أين؟ قال : إلى النّار والله ، قلتُ : ما شأنهم؟ قال : إنّهم ارتّدوا بعدك على أدبارهم القهقرى ، فلا أراهُ يخلصُ منهم إلاّ مثل همل النَّعَمِ ».

____________

(١) ولعلّ قائلا يقول : من قال بأنّ هؤلاء كانوا من الصحابة؟

وللجواب عليه نذكر ما قاله ابن حجر العسقلاني في الإصابة ٢ : ٤٦٩ حيث قال : « .. إنّ من كان في عصر أبي بكر وعمر رجلا وهو من قريش فهو على شرط الصحبة ، لأنه لم يبق بعد حجة الوداع منهم أحد على الشرك ، وشهدوا حجة الوداع مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... ».

٢٢٧

وعن أبي سعيد الخدري : « فيقال إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدَكَ ، فأقُولُ : سُحْقاً سُحْقاً لِمنْ غيَّرَ بعدي ». ( صحيح البخاري ٧ : ٢٠٨ ).

كما أخرج البخاري في جزئه الخامس من باب غزوة الحديبية وقول الله تعالى : ( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) :

عن العلاء بن المسيّب ، عن أبيه قال : لقيتُ البراء بن عازب رضي الله عنهما فقُلتُ : طوبى لك صَحِبتَ النبىَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبايعتَهُ تحت الشجرةِ ، فقال : يابن أخي ، إنّك لا تدري ما أحدثنَا بعده. ( صحيح البخاري ٥ : ٦٦ ).

وإنّها لشهادةٌ كبرى من صحابي كبير كان على الأقل صريح مع نفسه ومع النّاس ، وتأتي شهادته مؤكّدة لِمَا قاله اللّهُ تعالى فيهم : ( أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ ).

ومؤكّدة لما قاله النبىُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فيقال لي ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ».

والبراء بن عازب وهو صحابي جليل من الأكابر ، ومن السّابقين الأوّلين الذين بايعوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة : يشهد على نفسه وغيره من الصحابة بأنّهم أحدثوا بعد وفاة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي لا يغترّ بهم النّاس ، وأوضح بأنّ صحبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومبايعته تحت الشجرة ، والتي سمّيت بيعة الرضوان ، لا تمنعان من ضلالة الصحابي وارتداده بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأخرج البخاري في جزئه الثامن في باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لتتبعنّ سنن من كان قبلكم » عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لتتّبعنَّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، حتّى لو دخلوا جُحْر ضبّ تبعتموهم » ، قلنا : يا رسول اللّهِ اليهود والنّصارى;

٢٢٨

قال : « فمن »؟ ( صحيح البخاري ٨ : ١٥١ ).

شهادة التاريخ في الصحابة

ولنا بعد القرآن والسنّة شهادة أُخرى قد تكون أوضح وأصرح; لأنّها ملموسة ومحسوسة ، عاشها النّاس وشاهدوها وتفاعلوا معها ، فأصبحت تاريخاً يُدوّن ، وأحداثاً تحفظ وتكتب.

وإذا قرأنا كتب التاريخ عند أهل السنّة والجماعة كالطبري ، وابن الأثير ، وابن سعد ، وأبي الفداء ، وابن قتيبة ، وغيرهم لرأينا العجب العُجاب ، ولأدركنا أنّ ما يقوله أهل السنّة والجماعة في عدالة الصّحابة ، وعدم الطّعن في أىّ واحد منهم ، كلام لا يقوم على دليل ، ولا يقبله العقل السّليم ، ولا يوافق عليه إلاّ المتعصّبون الذين حجبت الظلمات عنهم النور ، ولم يعودوا يفرّقون بين محمّد النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المعصوم ، الذي لا ينطق عن الهوى ولا يفعل إلاّ الحق وبين صحابته الذين شهد القرآن بنفاقهم وفسقهم وقلّة تقواهم ، فتراهم يدافعون عن الصّحابة أكثر ممّا يدافعون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأضرب لذلك مثلا :

عندما تقول لأحدهم بأنّ سورة عبسَ وتولَّى لمْ يكن المقصود بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما المقصود بها أحد كبار الصّحابة الذي عاتبه الله على تكبّره ، واشمئزازه عند رؤيته الأعمى الفقير ، فتراه لا يقبل بهذا التفسير ويقول : ما محمّد إلاّ بشرٌ ، وقد غلط مرات عديدة ، وعاتبه ربّه في أكثر من موقع ، وما هو بمعصوم إلاّ في تبليغ القرآن ، هذا رأيهُ في رسول الله!

ولكنّك عندما تقول بأنّ عمر بن الخطاب أخطأ في ابتداعه لصلاة التّراويح التي نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ، وأمر النّاس بالصلاة في بيوتهم فُرادى إذا كانت الصلاة نافلة ( أي غير المكتوبة ) تراه يدافع عن عمر بن

٢٢٩

الخطّاب دفاعاً لا يقبل النّقاش ويقول : إنّها بدعةٌ حسنة!! ويحاول بكلّ جهوده أن يلتمس له عذراً رغم وجود النّص من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النّهي!!

وإذا قلت له : إنّ عمر عطّل سهم المؤلّفة قلوبهم ، الذي حكم به الله تعالى في كتابه العزيز ، فتراه يقول : إنّ سيّدنا عمر عرف أنّ الإسلام قد قوِيَ فقال لهم : لا حاجة لنا فيكم ، وهو أعلَمُ بمفاهيم القرآن من كلّ النّاس! ألا تعجب من هذا؟!

ووصل الحدّ بأحدهم عندما قلتُ له : دعنا من البدعة الحسنة ومن المؤلّفة قلوبهم ، ما هو دفاعك عنه إذ أخذ يهدّد بحرق بيت فاطمة الزهراء بمن فيه إلاّ أن يخرجوا للبيعة (١)؟

فأجابني بكلّ صراحة : معه الحقّ ، ولولا أنّه لم يفعل ذلك لتخلّف كثير من الصّحابة عند علي بن أبي طالب ، ولوقعت الفتنة!!

فكلامنا مع هذا النّمط من النّاس لا يجدي ولا ينفعُ ، ومع الأسف الشّديد فإنّ الأغلبية من أهل السنّة والجماعة يفكّرون بهذه العقلية; لأنّهم لا يعرفون الحقّ إلاّ من خلال عمر بن الخطاب وأفعاله ، فهم عكسوا القاعدة وعرفوا الحقّ بالرّجال ، والمفروض أن يعرفوا الرجالَ بالحقِّ « أعرف الحقّ تعرف أهلَهُ » (٢) ، كما قال الإمام علي.

ثمّ سَرَتْ هذه العقيدة فيهم ، وتعدّت عمر بن الخطاب إلى كلّ الصّحابة ،

____________

(١) ذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه ٨ : ٥٧٢ التهديد بحرق دار الزهراء بأسانيد قوية ، وصحيحة.

(٢) أنساب الأشراف للبلاذري : ٢٧٤ ، تفسير القرطبي ١ : ٣٤٠ ، فيض القدير ١ : ٢٨ ، روضة الواعظين للفتال النيسابوري : ٣١.

٢٣٠

فهم كلّهم عدول ولا يمكن لأحد خدشهم أو الطعن فيهم ، وبذلك ضربوا حاجزاً كثيفاً وسدّاً منيعاً على كلّ باحث يريد معرفة الحقّ ، فتراه لا يتخلّص من موجة حتى تعترضه أمواج ، ولا يتخلّص من خطر حتى تعترض سبيله أخطار ، ولا يكاد المسكين يصل إلى شاطئ السّلامة إلاّ إذا كان من أُولي العزم والصبر والشجاعة.

وإذا رجعنا إلى موضوع التاريخ فإنّ بعض الصّحابة قد كُشفتْ عوراتهم ، وسقطت أقنعتهم ، وظهروا على حقيقتهم التي حاولوا جُهدهم اخفاءها على النّاس ، أو حاول ذلك أنصارهم وأتباعهم ، أو قل : حكام السوء والمتزلّفين إليهم.

وأوّل ما يلفِتُ النّظر هو موقف هؤلاء تجاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وفاته روحي له الفداء ، وكيف تركوه جثة ولم يشتغلوا بتجهيزه وتغسيله وتكفينه ودفنه ، بل أسرعوا إلى مؤتمرهم في سقيفة بني ساعدة يختصمون ويتنافسون على الخلافة ، والتي عرفوا صاحبها الشرعي ، وبايعوه في حياة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ممّا يؤكّد لنا بأنّهم اغتنموا فرصة غياب علي وبني هاشم الذين أبتْ أخلاقُهم أن يتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مُسجّى ويتسابقوا للسّقيفة ، فأراد هؤلاء أن يُبرمُوا الأمر بسرعة قبل فراغ أولئك من مهمّتهم الشريفة ، ويلزموهم بالأمر الواقع فلا يقدرون بعده على الكلام والاحتجاج; لأنّ أصحاب السّقيفة تعاقدوا على قتل كلّ من يحاول فسخ الأمر الذي أبرموه بدعوى مقاومة المخالفين واخماد الفتنة.

٢٣١

ويذكر المؤرخون أشياء عجيبة وغريبة وقعت في تلك الأيام من أُولئك الصّحابة الذين اصبحوا فيما بعد هم خلفاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمراء المؤمنين ، كحملهم النّاس على البيعة بالضّرب والتهديد بالقوة ، وكالهجوم على بيت فاطمة وكشفه ، وكعصر بطنها بالباب الذي كانت وَراءه حتى أسقطت جنينها ، واخراج علي مكتّفاً وتهديده بالقتل إن رفض البيعة ، وغصْب الزهراء حقوقها من النحلة والإرث وسهم ذي القربى حتّى ماتت غاضبة عليهم وهي تَدْعي عليهم في كلّ صلاة ، ودفنت في الليل سرّاً ولم يحضروا جنازتها ، وكقتلهم للصّحابة الذين أبوا أن يدفعوا الزّكاة لأبي بكر تريّثاً منهم حتّى يعرفوا سبب تأخّر علي عن الخلافة ، لأنّهم بايعوه في حياة النبىّ في غدير خم (١).

وكهتكهم للمحارم ، وتعدّي حدود الله في قتل الأبرياء من المسلمين ، والدخول بنسائهم من غير احترام للعدّة (٢) ، وكتغييرهم أحكام الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبيّنة في الكتاب والسنّة ، وإبدالها بأحكام اجتهادية تخدم مصالحهم الشخصية (٣) ، وكشرب بعضهم الخمر ، والمداومة على الزنا ، وهم ولاة المسلمين والحاكمون فيهم (٤).

وكنَفْيِ أبي ذر الغفاري وطرده من مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى مات

____________

(١) قضية مالك بن نويرة مشهورة في كتب التاريخ ( المؤلّف ).

(٢) قضية خالد بن الوليد ودخوله بليلى بنت المنهال بعد قتل زوجها ( المؤلّف ).

(٣) كتعطيل إرث الزهراء ، وسهم ذي القربى ـ وسهم المؤلّفة قلوبهم ـ ومتعة الزواج ومتعة الحج وغيرها كثير ( المؤلّف ).

(٤) كقضية المغيرة بن شعبة وزناه بأُم جميل ، والقصة مشهورة في كتب التاريخ ( المؤلّف ).

٢٣٢

وحيداً بدون ذنب اقترفه ، وضرب عمّار بن ياسر حتّى وقع له فتق ، وضرب عبد الله بن مسعود حتّى كُسرتْ أضلاعه ، وعزل الصحابة المُخلصين من المناصب ، وتوليّة الفاسقين والمنافقين من بني أُميّة أعداء الإسلام.

وكَسبِّ ولعن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً ، وقَتل من تشيّع لهم من الصّحابة الأبرار (١).

وكاستيلائهم على الخلافة بالقهر والقوّة والقتل والإرهاب ، وتصفية من عارضهم بشتّى الوسائل كالاغتيال ودسّ السمّ وغير ذلك (٢) ، وكإباحتهم مدينة الرسول لجيش يزيد يفعل فيها ما يشاء رغم قول الرسول : « إنّ حرمي المدينة ، فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين » (٣).

وكرميهم بيت الله بالمنجنيق ، وحرقهم الحرم الشريف ، وقتلهم بعض الصّحابة بداخله.

وكحربهم لأمير المؤمنين ، وسيّد الوصيين ، سيّد العترة الطّاهرة الذي كان من رسول الله بمنزلة هارون من موسى في حرب الجمل ، وحرب صفين ،

____________

(١) كما قتل معاوية بن أبي سفيان حجر بن عدي الصحابي الجليل وأصحابه; لأنّه امتنع عن لعن علي بن أبي طالب ( المؤلّف ).

(٢) يقول المؤرّخون : كان معاوية يستدعي معارضيه ويسقيهم عسلا مسموماً فيخرجون من عنده ويموتون فيقول : إنّ لله جنداً من عسل ( المؤلّف ).

(٣) نحوه مسند أحمد ٣ : ٢٣٨ ، صحيح البخاري ١ : ٤٦٠ ، كتاب فضائل المدينة ، باب حرم المدينة ، ٤ : ٤٢٠ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب إثم من آوى محدثاً.

٢٣٣

وحرب النهروان من أجل أطماع خَسيسة ، ودنيا فانية.

وكقتلهم سيّدىّ شباب أهل الجنّة الإمام الحسن بالسمّ والإمام الحسين بالذبح والتمثيل ، وقتل عترة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأجمعهم ، فلم ينجُ منهم إلاّ علي ابن الحسين ، وكأفعال أُخرى يندى لها جبين الإنسانية ، وأُنزّه قلمي عن كتابتها ، وأهل السنّة والجماعة يعرفون الكثير منها ، ولذلك يحاولون جهدهم صدّ المسلمين عن قراءة التاريخ والبحث في حياة الصّحابة.

وما ذكرته الآن من كتب التاريخ من جرائم وموبقات هي من أعمال الصّحابة بلا شكّ ، فلا يمكنُ لعاقل بعد قراءة هذا؟! أن يبقى مُصرّاً على تنزيه الصّحابة والحكم بِعدَالَتِهْم وعدم الطّعن فيهم إلاّ إذا فقد عقله.

مع الملاحَظة الأكيدة بأنّنا واعون جدّاً إلى عدالة البعض منهم ، ونزَاهتهم وتَقْواهم ، وحبّهم لله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثباتهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتّى قضوا نحبهم وما بدّلوا تبديلا ، فرضِي الله عنهم وأسكنهم بجوار حبيبهم ونبيّهم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهؤلاء هم أكبر وأعظم وأسْمَى من أن يَخْدِشَ في سمعتهم خادشٌ ، أو يتقوّل عليهم متقوّلٌ ، وقد مدحهم ربُّ العزّة والجلالة في عدّة مواضع من كتابه العزيز ، كما نوّه بصحبتهم وإخلاصهم نبىّ الرحمة أكثر من مرّة ، كما لم يسجّل لهم التاريخ إلاّ المواقف المشرّفة المليئة بالمروءة ، والنبل ، والشجاعة ، والتقوى ، والخشونة في ذات الله ، فهنيئاً لهم وحسن مآب ، جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ، ورضاءٌ من الله أكبر ذلك جزاء الشاكرين ، والشّاكرون ـ كما ذكر كتاب الله ـ هم أقلية قليلة ، فلا تَنْسَ!

٢٣٤

أما الذين استسلموا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم ، وصاحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغبة ورهبة ، أو لحاجة في نفس يعقوب ، ووبّخهم القرآن وهدَدهم وتوعّدهم ، وحذّرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحذّر منهم ، ولعنهم في عدّة مواطن ، وسجّل لهم التاريخ أعمال ومواقف شنيعة ... أمّا هؤلاء فليسوا جديرين بأيّ احترام ولا تقدير ، فضلا عن أن نترضّى عليهم وننزلهم منزلة النبيّين والشهداء والصالحين.

وهذا لعمري هو الموقف الحقّ الذي يزنُ الموازين بالقسط ، ولا يتعدّى حدود ما رسمه الله لعباده من موالاة المؤمنين ، ومعاداة الفاسقين ، والبراءة منهم.

قال تعالى في كتابه العزيز : ( ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أعَدَّ اللّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ وَلا أوْلادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئاً اُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أنَّهُمْ عَلَى شَيْء ألا إنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ * اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ * إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ اُوْلَئِكَ فِي الأذَلِّينَ * كَتَبَ اللّهُ لاََغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أوْ أبْنَاءَهُمْ أوْ إخْوَانَهُمْ أوْ عَشِيرَتَهُمْ اُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ اُوْلَئِكَ

٢٣٥

حِزْبُ اللّهِ ألا إنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (١).

صدق الله العلي العظيم

ولا يفوتني في هذا الصّدد أن أُسجّل بأنّ الشيعة هم على حقّ لأنّهم لا يُلقون بالمودَة إلاّ لمحمّد وأهل بيته ، وللصحابة الذين ساروا على نهجهم ، وللمؤمنين الذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدّين. وغير الشيعة من المسلمين يُلقون بالمودّة لكلّ الصّحابة أجمعين ، غير مبالين بمن حادّ الله ورسوله ، وعادةً هم يستدلُّون بقوله تعالى : ( ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غلا لِلَّذِينَ آمَنُوا ربَّنَا إنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (٢).

فتراهم يترضّون على علىّ ومعاوية ، غير مبالين بما ارتكبه هذا الأخير من أعمال أقلّ ما يقال فيها : إنّها كفرٌ وضلال ومحاربة لله ورسولَهُ ، وقد ذكرتُ فيما سبق تلك الطريفة التي لا بأس بتكرارها ، وهي أنّ أحَد الصالحين زار قبرَ الصّحابي الجليل حجر بن عدي الكندي ، فوجَدَ عنده رجُلا يبكي ويُكثر البكاء ، فظنّه من الشيعة فسأله : لماذا تبكي؟ أجاب : أبكي على سيّدنا حجر رضي اللّهُ تعالى عنه!

قال : ماذا أصابه؟

أجاب : قَتلَهُ سيّدنا معاوية رضي الله تعالى عنه!

قال : ولماذا قتَلَهُ؟

أَجاب : لأنّه امتنع عن لعن سيّدنا علي رضي الله تعالى عنه!

____________

(١) المجادلة : ١٤ ـ ٢٢.

(٢) الحشر : ١٠.

٢٣٦

فقال له ذلك الصّالحُ : وأنا أبكي عليكَ أنتَ رضي الله تعالى عَنْكَ!!

فلماذا هذا الإصرار والعناد على مودَة كلّ الصّحابة أجمعين حتّى نراهم لا يصلّون على محمّد وآله إلاّ ويُضيفون وعلى أصحابه أجمعين ، فلا القرآن أمرَهم بذلك ، ولا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب منهم ذلك ، ولا أحدٌ من الصّحابة قال بذلك ، وإنّما كانت الصّلاة على محمّد وآل محمّد كما نزل بها القرآن ، وكما علّمها لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإن شككْتُ في شيء فلا ولن أشكَّ في أنّ الله طلب من المؤمنين مودّة ذي القربى وهم أهل البيت ، وجعلها فرضاً عليهم كأجر على الرسالة المحمّدية ، فقال تعالى :

( قُلْ لا أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى ) (١).

وقد اتّفق المسلمون بلا خلاف على مودّة أهل البيت عليهم الصّلاة والسّلام واختلفوا في غيرهم ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « دع ما يريبُك إلى ما لا يُريبُكَ » (٢).

وقولُ الشيعة في مودّة أهل البيت ومن تبعهم لا ريب فيه ، وقولُ أهل السنّة والجماعة في مودّة الصّحابة أجمعين فيه ريبٌ كبير ، وإلاّ كيف يُلقي المسلمُ بالمودّة إلى أعداء أهل البيت عليهم‌السلام وقاتليهم ويترضّى عنهم؟! أليس هذا هو التناقض المقيت؟

____________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) مسند أحمد ١ : ٢٠٠ وصرّح محقق المسند الشيخ أحمد شاكر بصحته ، صحيح البخاري ٣ : ٤ كتاب البيوع ، باب تفسير المشبهات نقلها بعنوان مقولة لحسان بن أبي سنان.

٢٣٧

ودع عنك قول أهل الشطحات ، وبعض المتصوّفة الذين يزعمون أن الإنسان لا يصفى قلبه ، ولا يعرف الإيمان الحقيقي إلاّ عندما لا يبقى في قلبه مثقال ذرة من بُغض لعباد الله أجمعين; من يهود ونصارى وملحدين ومشركين ، ولهم في ذلك أقوال عجيبة وغريبة يلتقوا فيها مع المبشّرين من رجال الكنيسة المسيحيين ، الذين يُموّهوا على النّاس بأنّ اللّهَ محبّة والدّين محبّة ، فمن أحبّ مخلوقاته فليس له حاجة بالصّلاة والصّوم والحج وغير ذلك!!

إنّها لعمري خزعبلاتٌ لا يقرّها القرآن والسنّة ولا العقل ، فالقرآن الكريم يقول : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ) (١).

ويقول : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْض وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٢).

وقال تعالى : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٣).

وقال أيضاً : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الحَقِّ ) (٤).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يتمّ إيمان المؤمن حتّى يكون حبّه في الله وبغضه في الله ».

____________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) المائدة : ٥١.

(٣) التوبة : ٢٣.

(٤) الممتحنة : ١.

٢٣٨

وقال ـ أيضاً ـ : « لا يجتمع في قلب مؤمن حبّ الله وحبّ عدوّه ».

والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً ، ويكفي العقل وحده دليلا بأنّ الله سبحانه حبّبَ للمؤمنين الإيمان وزيّنه في قلوبهم ، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، فقد يكره الإنسان ابنَهُ أو أباه أو أخاه لمعاندة الحقّ والتمادي في طريق الشيطان ، وقد يحبّ ويوالي أجنبي لا تربطه به إلاّ إخوّة الإسلام.

ولكلّ هذا يجبُ أن يكون حُبّنا وودّنا وموالاتنا لمن أمر الله بمودّتهم ، كما يجبُ أن يكون بغضنا وكرهنا وبراءتنا لمن أمر الله سبحانه بالبراءة منهم.

ومن أجل ذلك كانت موالاتنا لعلي والأئمّة من بنيه من غير أن تكون لنا علاقة مسبقة بمودّتهم ، وذلك لأنّ القرآن والسنّة والتّاريخ والعقل لم يتركوا لنا فيهم أي ريب.

ومن أجل ذلك كانت ـ أيضاً ـ براءتنا من الصّحابة الذين اغتصبوا حقّه في الخلافة ، من غير أن تكون لنا علاقة مسبقة ببغضهم; وذلك لأنّ القرآن والسنّة والتاريخ والعقل تركوا لنا فيهم ريباً كبيراً.

وبما أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا بقوله : « دعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك » فلا ينبغي لمسلم أنْ يتّبع أيّ أمر مريب ، ويترك الكتاب الذي لا ريب فيه.

كما يجبُ على كلّ مسلم أن يتحرّر من قيوده وتقاليده ، ويحكّم عقله بدون أفكار مسبقة ولا أحقاد دفينة; لأنّ النّفس والشيطان عدوّان خطيران يُزيّنان للإنسان سوء عمله فيراه حسناً ، ولنعم ما قاله الإمام البوصيري في البردة :

٢٣٩

وخالف النّفس والشيطان واعصهما

وإن هما محّضاك النصح فاتّهم

وعلى المسلمين أن يتّقوا الله في عباده الصّالحين منهم ، أمّا الذين لم يكونوا من المتّقين فلا حرمة لهم ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نميمة في فاسق » ليكشف المسلمون أمره ، فلا يغترّون به ولا يوالونَه.

وعلى المسلمين أنْ يكونوا اليوم صادقين مع أنفسهم ، وينظروا إلى واقعهم المؤلم الحزين المخزي ، ويكفيهم من التغنّي والتفاخر بأمجاد أسلافهم وكبرائهم ، فلو كان أسلافنا على حقّ كما نصوّرهم اليوم لما وصلنا نحن إلى هذه النتيجة التي هي حتماً حصيلة الانقلاب الذي وقع في الأُمّة بعد وفاة نبيّها ، روحي وأرواح العالمين له الفداء.

( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقِيراً فَاللّهُ أوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (١).

قول أهل الذكر بخصوص بعض الصحابة

قال الإمام علي عليه‌السلام ، يصف هؤلاء الصّحابة المعدودين من السّابقين الأوّلين :

« فلمّا نهضت بالأمر ، نكثتْ طائفةٌ ، ومرقتْ أُخرى ، وقسط آخرون (٢) ،

____________

(١) النساء : ١٣٥.

(٢) يقول محمّد عبده في شرح نهج البلاغة من الخطبة الشقشقية في هذا : الناكثون أصحاب الجمل ، والمارقون أصحاب النهروان ، والقاسطون أي الجائرون وهم أصحاب صفين. ( المؤلّف ).

٢٤٠