فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

سلمان ، والمقداد ، وعمّار ، وحُذيفة ، وكلّ الصحابة المخلصين الذين والوا عليّاً وتشيّعوا له ، فقد لاقوا التعذيب والتشريد والقتل.

وهكذا أصبح أتباع مدرسة الخلفاء ، وأتباع معاوية ، وأصحاب المذاهب الذين أوجدتهم السلطة الجائرة ، أصبحوا هم أهل السنّة والجماعة ، وهم الذين يمثّلون الإسلام ، ومن خالفهم كان من الكافرين ، ولو اقتدى بأئمة أهل البيت الطيبين الطاهرين.

أمّا أتباع مدرسة أهل البيت الذين اتّبعوا باب مدينة العلم ، وأوّل النّاس إسلاماً ، ومن كان الحقّ يدور معه حيث دار ، وتشيّعوا لأهل البيت واتّبعوا الأئمة المعصومين ، أصبحوا هم أهل البدعة والضلالة ، ومن خالفهم وحاربهم كان من المسلمين ، فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم وصدق الله إذ يقول :

( وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * ألا إنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ألا إنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) (١).

وإذا رجعنا إلى موضوع حبّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة; لأنّها حفظت عنه نصف الدّين ، وكان يقول : « خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء » ، فهذا حديث باطل لا أساس له من الصّحة ، ولا يستقيم مع ما روي عن عائشة من أحكام مضحكة مبكية يتنزّه عن ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويكفينا مثلا على ذلك قضية رضاعة الكبير التي كانت ترويها عن

____________

(١) البقرة : ١١ ـ ١٣.

١٤١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي أخرجها مسلم في صحيحه ، ومالك في موطّأه ، والتي وافينا البحث فيها في كتابنا « لأكون مع الصادقين » ، فمن أراد التفصيل والوقوف على جلية الأمر فليراجعه.

ويكفي في هذه الرواية الشنيعة أنّ زوجات النبي كلّهن رفضن العمل بها وأنكرنها ، وحتّى أنّ راويها بقي عاماً كاملا يتهيّب أن يذكرها لفظاعتها وقلّة حيائها.

وإذا ما رجعنا إلى « صحيح البخاري » في باب يقصر من الصّلاة إذا خرج من موضعه ، قال : عن الزهرىّ ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : الصّلاة أوّل ما فُرِضتْ ركعتان ، فأْقرّتْ صلاة السّفر وأُتِمَّتْ صلاة الحضَر ، قال الزهري : فقلتُ لعروة : فما بال عائشة تُتمُ؟ قال : تأَوَّلتْ ماتأَوَّلْ عثمان (١).

وأخرجها مسلم في صحيحه في باب صلاة المسافرين وقصرها وبعبارة أوضح ممّا في البخاري ، قال : عن الزهريّ ، عن عروة ، عن عائشة أنّ الصلاة أوّل ما فُرضت ركعتين ، فأقرّت صلاة السفر وأتِمّتْ صلاة الحضر ، قال الزهريُّ : فقلْتُ لعروة : ما بال عائشة تُتم في السّفرِ؟ قال : إنّها تأولتْ كما تأوّل عثمان (٢).

إنّه التناقُض الصريح ، فهي التي تروي بأنّ صلاة المسافر فُرضتْ ركعتين ، ولكنّها تخالف ما افترضه الله وعمل به رسولهُ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتتأوّل لتغيّر أحكام الله

____________

(١) صحيح البخاري ٢ : ٣٦.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ١٤٢.

١٤٢

ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحياء لسنّة عثمان ، ولهذه الأسباب نجد كثيراً من الأحكام في صحاح أهل السنّة والجماعة ولكن لا يعملون بها; لأنّهم في أغلب الأحيان يأخذون بتأوّل أبي بكر ، وتأوّل عمر ، وتأوّل عثمان ، وتأوّل عائشة ، وتأوّل معاوية بن أبي سفيان ، وغيرهم من الصحابة.

فإذا كانت الحميراء التي يؤخذ عنها نصف الدّين تتأوّل في أحكام الله كيف تشاء ، فلا أعتقدُ بأنّ زوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرضى منها هذا ويأمر الناس بالاقتداء بها ، على أنّه ورد في « صحيح البخاري » وصحـاح أهل السنّة إشارة إلى أنّ في اتّباعها معصية لله ، وسنُوافيك بذلك في أوانه إن شاء الله.

وأمّا القائلون بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يُحبّها; لأنّ جبرئيل أتاه بصورتها قبل الزواج ، وأنّه لا يدخل عليه إلاّ في بيتها ، فهذه روايات تُضحك المجانين.

ولستُ أدري أكانت الصورة التي جاء بها جبرئيل فوتوغرافية أم لوحة زيتية ، على أنّ صحاح أهل السنّة يروون بأنّ أبا بكر بعث بعائشة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعها طبق من التمر لينظر إليها ، وهو الذي طلب من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتزوّج ابنته ، فهل هناك داع لينزل جبرئيل بصورتها ، وهي تسكن على بعد بضع أمتار من مسكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!! وأعتقد أنّ مارية القبطية التي كانت تسكنُ مصر ، وهي بعيدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كان أحد يتصوّر مجيئها ، هي أولى بأن ينزل جبرئيل بصورتها ، ويبشّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الله سيرزقه منها إبراهيم.

١٤٣

ولكن هذه الروايات هي من وضع عائشة التي كانتْ لا تجدُ شيئاً تفتخر به على ضرّاتها إلاّ الأساطير التي يخلقها خيالها ، أو أنّها من وضع بني أُميّة على لسانها ليرفعوا من شأنها عند بسطاء العقول.

وأمّا أنّ جبرئيل كان لا يدخل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مضطجع إلاّ في بيت عائشة فهي أقبحُ من الأُولى ، والمعلوم من القرآن الكريم أنّ الله هدّدها عندما تظاهرت على رسوله ، هدّدها بجبرئيل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهيراً.

فما أقوال شيوخنا وعلمائنا إلاّ ضربٌ من الظنّ والخيال ، وإنّ الظنّ لا يُغني من الحق شيئاً ( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ الظَّنَّ وَإنْ أنْتُمْ إلاّ تَخْرُصُونَ ) (١).

عائشة فيما بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أمّا إذا درسنا حياة أُمّ المؤمنين عائشة ابنة أبي بكر بعد لحوق زوجها بالرفيق الأعلى روحي له الفداء ، وبعد ما خلاَ لها الجوّ وأصبح أبوها هو الخليفة والرئيس على الأُمّة الإسلامية ، وأصبحت هي حينذاك المرأة الأُولى في الدولة الإسلامية; لأنّ زوجها رسول الله وأبوها هو خليفة رسول الله.

ولأنّها كما تعتقد هي أو توهمُ نفسها بأنها أفضلُ أزواج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا لشيء إلاّ لأنّه تزوّجها بكراً وما تزوّج بكراً غيرها!! وقد توفّي عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في عزّ شبابها وزهرة عمرها ، فكان عمرها يوم وفاة زوجها

____________

(١) الأنعام : ١٤٨.

١٤٤

ثمانية عشر عاماً على أكثر التقادير وأشهر الروايات ، ولم تعاشر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى ستّ أو ثمان سنوات على اختلاف الرّواة ، قضتْ السنوات الأُولى منها تلعب ألعاب الأطفال وهي زوجة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي كما وصفتها بريرة جارية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما قالت في عائشة : « إنّها جارية حديثة السنّ تنام عن العجين فتأتي الدّاجنُ فتأكُله » (١).

نعم ، ثمانية عشر عاماً لفتاة بلغت سنّ المراهقة كما يقال اليوم ، وقضت نصف عمرها مع صاحب الرسالة ، وبين ضرّات يبلغ عددهن عشر أو تسع زوجات ، وهناك امرأة أُخرى أغفلنا ذكرها في حياة عائشة ، وكانت أشدّ عليها من كلّ ضرّة ، لأنّ حبّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها فاق التصوّر ، وهذه المرأة هي فاطمة الزهراء ربيبة عائشة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خديجة ، وما أدراك ما خديجة الصدّيقة الكبرى التي سلّم عليها جبرئيل ، وبشّرها ببيت لها في الجنّة لا صخَب فيه ولا نصب (٢).

والتي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدع مناسبة تفوته إلاّ ويذكر خديجة ، فيتفطر كبد عائشة ويحترق قلبها غيرة ، فتثور ثائرتها وتخرج عن أطوارها ، فتشتم بما يحلو لها ، ولا تبال بعواطف زوجها ومشاعره.

ولنستمع إليها تحدّث عن نفسها بخصوص خديجة ، كما روى البخاري ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، قالت : ما غرتُ على امرأة لرسول الله كما

____________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٥٦ ، كتاب الشهادات ، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٢٣١ ، صحيح مسلم ٧ : ١٣٣ ، باب فضائل أم المؤمنين خديجة.

١٤٥

غرت على خديجة (١) لكثرة ذكر رسول الله إياها وثنائه عليها ، فقلتُ : ما تذكُر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشّدقين ، هلكتْ في الدّهر ، قد أبدلك الله خيراً منها.

قالت : فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغيّراً ما كنتُ أراه إلاّ عند نزول الوحي ، وقال : « لا ، ما أبدلني الله خيراً منها ، قد آمنتْ بي إذ كفر بي النّاس ، وصدّقتني إذْ كذّبني الناس ، وواستني بما لها إذ حرمني النّاس ، ورزقني الله عز وجلّ ولدها إذ حرمني أولاد النساء » (٢).

____________

(١) قد مرّ بنا سابقاً قولها : ما غرت على امرأة كما غرت على صفية ، وقولها : ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية ، لكِ الله يا عائشة ، فهل سَلمتْ واحدة من أزواج النبي من غيرتك وأذيّتك؟ ( المؤلف ).

(٢) حديث غيرة عائشة على خديجة رضي الله عنها ورد في مصادر أهل السنّة بكثرة وبألفاظ مختلفة ، والمؤلف لفق بين هذه الأحاديث ، فقولها : « ما غرت على ... وثنائه عليها » يوجد في البخاري ٦ : ١٥٨ ، ونحوه بلفظ قريب منه في مسلم ٧ : ١٣٤ ، وسنن ابن ماجة ١ : ٦٤٣ ، وسنن الترمذي ٣ : ٢٤٩ وغيرها.

أمّا قولها : « ما تذكر من عجوز ... خيراً منها » يوجد بألفاظه المختلفة في كلّ من : صحيح البخاري ٤ : ٢٣١ ، صحيح مسلم ٧ : ١٣٤ ، مسند أحمد ٦ : ١٥٤ ، السنن الكبرى النسائي ٧ : ٣٠٧ وغيرها.

أمّا قولها : « فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... أولاد النساء » يوجد بألفاظه المختلفة في : مسند أحمد ٦ : ١١٨ عنه مجمع الزوائد ٩ : ٢٢٤ وقال : « رواه أحمد وإسناده حسن » ، فتح الباري ٧ : ١٠٣ ، فيض القدير ٤ : ١٦٤ ، البداية والنهاية ٣ : ١٥٨ وقال : « تفرّد به أحمد واسناده لا بأس به ، ومجالد روى له مسلم متابعة وفيه كلام مشهور والله أعلم ».

وانظر أيضاً المعجم الكبير للطبراني ٢٣ : ١٣ ، تاريخ دمشق ٣ : ١٩٥ ، الاصابة

١٤٦

وليس هناك شكّ أنّ ردّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبطل دعوى من يقول بأنّ عائشة هي أحبّ وأفضل أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكيد أيضاً أنّ عائشة ازدادت غيرة وكُـرهاً لخديجة عندما قرّعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا التوبيخ ، وأعلمها بأنّ ربّه لم يُبدلَهُ خيراً من خديجة.

ومرّة أخرى يعلّمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه لا يميل مع الهوى ، ولا يحبّ الجمال والبكارة; لأنّ خديجة سلام الله عليها تزوّجت قبله مرّتين ، وكانت تكبره بخمسة عشرة عاماً ، ومع ذلك فهو يحبّها ولا ينثني عن ذكرها ، وهذا

____________

٨ : ١٠٣.

أمّا مجالد بن سعيد فقد وثّقه غير واحد كما في مجمع الزوائد ١٠ : ٣٩٩ ، وهو حسن الحديث كما في مجمع الزوائد أيضاً ٩ : ٢٤٢.

وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ : ١١٢ من طريق مروان بن معاوية ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي ، عن عائشة ، والسند حسن كما صرّح محقّق الكتاب بذلك.

وكذلك أخرجه الدولابي في كتابه الذرية الطاهرة : ٣١ عن محمّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، عن مروان بن معاوية الفزاري ، عن وائل بن داود ، عن عبد الله البهي ، عن عائشة. وهذا السند حسن كما ترى ، والحسن يحتج به; لأنّه من قسم الصحيح بالمعنى الأعم.

ومنه يتبيّن أن ما ذكره في « كشف الجاني » : ١٣٣ من تضعيف هذه الزيادة واتهام المؤلّف بالكذب ليس بصحيح ، وناشئ من عدم اطّلاع عثمان الخميس على رواياتهم ومباني علماء الحديث وذلك :

(١) إنّ مجالد بن سعيد مختلف فيه ، فحديثه يكون حسناً على أقل تقدير.

(٢) إنّ مجالد بن سعيد لم ينفرد بهذه الزيادة ، بل وردت عن عبد الله البهي ، وهو ثقة فيحتجّ بحديثه ، ويكون حديث مجالد بن سعيد صحيحاً; لأنّ له متابعاً صحيحاً وهو حديث عبد الله البهي ، فيكون مقوّياً له.

١٤٧

لعمري هو خُلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يحبّ في الله ويبغض في الله.

وهناك فرق كبير بين هذه الرواية الحقيقية ، وتلك المزيّفة التي تدّعي بأنّ الرسول يميل إلى عائشة ، حتّى بعثن إليه نساؤُه ينشدنه العدل في ابنة أبي قحافة!!

وهل لنا أن نسأل أُمّ المؤمنين عائشة التي ما رأت يوماً في حياتها السيّدة خديجة رضوان الله عليها ولا التقت بها : كيف تقول عنها : عجوز حمراء الشّدقين؟ وهل هذه هي أخلاق المؤمنة العادية الّتي يحرمُ عليها أن تغتاب غيرها إذا كان حيّاً! فما بالك بالميّت الذي أفضى إلى ربِّه!! فما بالك إذا كان ضحية الغيبة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي ينزل جبرئيل في بيتها ويبشّرها ببيت في الجنّة لا صخب فه ولا نصب؟!

وبالتأكيد إنّ ذلك البغض ، وتلك الغيرة التي تأجّجت في قلب عائشة من أجل خديجة لابدّ لها من فورة ومتنفّس وإلاّ انفجرت ، فلم تجد عائشة أمامها إلاّ فاطمة ابنة خديجة ربيبتها ، والتي هي في سنّها أو تكبرها قليلا على اختلاف الرّواة.

وبالتأكيد ـ أيضاً ـ أنّ ذلك الحبّ العميق من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لخديجة تجسّد وقوِيَ في ابنته ووحيدته فاطمة الزهراء ، فهي الوحيدة التي عاشت مع أبيها ، تحمـل في جنباتها أجمل الذكريات التي كان يحبّها رسول الله في خديجة ، فكان يسمّيها أمّ أبيها.

وزاد في غيرة عائشة أن ترى رسول الله يمجّد ابنته ، ويسمّيها سيّدة نساء

١٤٨

العالمين وسيّدة نساء أهل الجنة (١) ، ثمّ يرزقُه الله منها سيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ، فترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يذهب ويبات عند فاطمة ساهراً على تربية أحفاده ويقول : « ولداي هذان ريحانتي من هذه الأُمة » (٢) ويحملهما على كتفيه ، فتزداد بذلك عائشة غيرة لأنّها عقيم!!

ثمّ ازدادت الغيرة أكثر عندما شملت زوج فاطمة أبا الحسنين لا لشيء إلاّ لحبّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه ، وتقديمه على أبيها في كلّ المواقف ، فلا شكّ أنّها كانت تعيش الأحداث.

وترى ابن أبي طالب يفوز في كلّ مرّة على أبيها ، ويمضي بحبّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ، وتفضيله وتقديمه على من سواه ، فقد عرفت أنّ أباها رجع مهزوماً في غزوة خيبر بمن معه من الجيوش ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تألّم لذلك وقال : « لأعطين الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبُّهُ الله ورسوله كرّار غير فرار » (٣) ، وكان ذلك الرجل هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة ، ثمّ رجع

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٨٣ ، ٢٠٩ و ٧ : ١٤٢.

(٢) ورد في تاريخ دمشق ١٣ : ٢٠٢ ، وكنز العمال ١٣ : ٦٦٧ ح ٣٧٦٩٩ بلفظ : « إنّ ابني هذين ... » ، وفي مسند أحمد ٢ : ٨٥ ـ ١١٤ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر في كلا الموضعين بصحته ، والمصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥١٤ ح ١٦ ، والسنن الكبرى للنسائي ٥ : ٤٩ ح ٨١٦٧ ، وصحيح ابن حبان ١٥ : ٤٢٦ بلفظ : « هما ريحانتي من الدنيا ».

(٣) بهذا اللفظ في تاريخ دمشق ٤١ : ٢١٩ ، وكنز العمال ١٣ : ١٢٣ ح ٣٦٣٩٣ ، ويوجد صدر الحديث في صحيح البخاري ٥ : ٧٦ ، صحيح مسلم ٥ : ١٩٥ ، ويوجد بلفظ : « ليس بفرار » في مسند أحمد ١ : ٩٩ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٥٢٢ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٠٩ ، المعجم الكبير للطبراني ٧ : ٣٥.

١٤٩

عليٌّ بعد ما فتح خيبر بصفية بنت حُيي التي تزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزلت على قلب عائشة كالصّاعقة.

وقد عرفت ـ أيضاً ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبوها بسورة براءة ليبلّغها إلى الحجيج ، ولكنّه أرسل خلفه علي بن أبي طالب فأخذها منه ، ورجع أبوها يبكي ويسأل عن السبب ، فيجيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن الله أمرني أن لا يبلّغ عني إلاّ أنا أو أحد من أهل بيتي » (١).

وقد عرفتْ أيضاً بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّب ابن عمّه علي خليفة على المسلمين من بعده ، وأمر أصحابه وزوجاته بتهنئته بإمرة المؤمنين ، فجاءه أبوها في مقدّمة النّاس يقول : بخ بخ لك يا بن أبي طالب ، أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وقد عرفتْ بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أَمَّر على أبيها شابّاً صغيراً لا نبات بعارضيه ، عمره سبعة عشر عاماً ، وأمره بالسّير تحت قيادته والصلاة خلفه.

ولا شكّ بأنّ أُمّ المؤمنين عائشة كانت تتفاعل مع هذه الأحداث ، فكانت تحمل في جنباتها همَّ أبيها ، والمنافسة على الخلافة والمؤامرة التي تدور عند رؤساء القبائل في قريش ، فكانت تزداد بُغضاً وحنقاً على علي وفاطمة ، وتحاول بكلّ جهودها أنْ تتدخّل لتغيير الموقف لصالح أبيها بشتّى الوسائل ، كلّفها ذلك ما كلّفها.

____________

(١) انظر بألفاظه المختلفة : مسند أحمد ١ : ٣ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته ، كتاب السنّة لابن أبي عاصم : ٥٩٥ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٢٩ ، المعجم الأوسط ٣ : ١٦٥ ، الدر المنثور ٣ : ٢١٠.

١٥٠

وقد رأيناها كيف أرسلتْ إلى أبيها على لسان زوجها تأمره ليُصلّي بالنّاس ، عندما علمتْ بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرْسَلَ خلف علي ليكلّفَه بتلك المهمّة ، ولمّا علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلك المؤامرة اضطرّ للخروج ، فأزاح أبا بكر عن موضعه وصلّى بالنّاس جالساً ، وغضب على عائشة وقال لها : « إنّكنّ أنتنّ صويحبات يوسف » ( يقصد أن كيدها عظيم ) (١).

والباحث في هذه القضية التي روتها عائشة بروايات مختلفة ومتضاربة يجدُ التناقض واضحاً ، وإلاّ فإنّ أباها عبّأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش ، وأمره بالخروج تحتَ قيادة أُسَامة بن زيد قبل تلك الصّلاة بثلاثة أيام ، ومن المعلوم بالضرورة أنّ قائد الجيش هو إمام الصلاة ، فأُسامة هو إمام أبي بكر في تلك السرية.

فلمّا أحسّتْ عائشة بتلك الإهانة ، وفهمت مقصود النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، خصوصاً وأنّها تفطّنت بأنّ علي بن أبي طالب لم يعيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الجيش الذي عبّأ فيه وجوه المهاجرين والأنصار ، والذين لهم في قريش زعامة ومكانة ، وقد علمتْ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كْما علم أكثر أصحابه بأنّ أيّامه أصبحتْ معدودة ، ولعلّها كانتْ على رأي عمر بن الخطّاب في أنّ رسول الله أصبح يهجرُ ولا يدري ما يفعَلُ; فدفعتها غيرتها القاتلة أن تتصرّف بما تراه يرفع من شأن أبيها وقدره مقابل منافسه علي.

ولكلّ ذلك أنكرت أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى لعلي ، ولذلك حاولت إقناع البسطاء من النّاس بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات في حجرها بين سحرها

____________

(١) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٩٧.

١٥١

ونحرها ، ولذلك حدّثت بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها وهو مريض : ادع لي أباك وأخاكِ لأكتب لهم كتاباً ، عسى أن يدّع مُدّع ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلاّ أبا بكر!! فهل من سائل يسألُها : ما الذي منعها من دَعوتهم؟

موقف عائشة ضدّ علي أمير المؤمنين عليه‌السلام

والباحث في موقفها تجاه أبي الحسن يجد أمراً عجيباً وغريباً ، ولا يجد له تفسيراً إلاّ الغيرة والعداء لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سجّل لها التاريخ كرهاً وبغضاً للإمام علي لَمْ يُعرف له مثيلٌ ، وصل بها إلى حدّ أنّها لا تطيق ذكر اسْمِهِ (١) ، ولا تطيق رؤيته ، وعندما تسمع بأنّ الناس قد بايعوه بالخلافة بعد قتل عثمان ، تقول : وددت لو أنّ السّماء انطبقت على الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب (٢). وتعمل كلّ جهودها للإطاحة به ، وتقود ضدّه عسكراً جرّاراً لمحاربته ، وعندما يأتيها خبر موته تسجد شكراً لله (٣).

ألا تعجبون معي لأهل السنّة والجماعة الذين يروون في صحاحهم بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يا علي لا يُحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافقٌ » (٤) ،

____________

(١) مضى تخريجه.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢١٥.

(٣) قال أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين : ٥٥ « لمّا أن جاء عائشة قتل عليّ عليه‌السلام سجدت ».

(٤) مسند أحمد ١ : ٩٥ وصرّح محقّق الكتاب أحمد شاكر بصحته ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٦ وقال : حسن صحيح ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ١٣٧ ح ٨٤٨٧ ، مسند أبي يعلى ١ : ٢٥١ ، تاريخ بغداد ١٤ : ٤٢٦ ح ٧٧٨٥ ، تاريخ دمشق ٤٢ : ٢٧١ ،

١٥٢

ثمّ يروون في صحاحهم ومسانيدهم وتواريخهم بأنّ عائشة تبغض الإمام علي ولا تطيق ذكر اسمه ، أليس ذلك شهادة منهم على ماهية المرأة؟

كما يروي البخاري في صحيحه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « فاطمة بضعة منّي من أغضبها أغضبني ، ومن أغضبني فقد أغضب الله » (١). ثمّ يروي البخاري نفسه بأنّ فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر فلم تكلّمه حتى ماتتْ (٢).

أليس ذلك شهادة منهم بأنّ الله ورسوله غاضبان على أبي بكر؟ فهذا ما يفهمه كلّ العقلاء ، ولذلك أقول دائماً بأنّ الحقّ لا بدّ أن يظهر مهما ستره المُبطلون ، ومهما حاول أنصار الأمويين التمويه والتلفيق ، فإنّ حجّة الله قائمة على عباده من يوم نزول القرآن إلى قيام السّاعة ، والحمد لله ربّ العالمين.

حدّث الإمام أحمد بن حنبل أنّ أبا بكر جاء مرّة واستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقبل الدّخول سمع صوت عائشة عالياً وهي تقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والله لقد عرفتُ أنّ عليّاً أحبّ إليك منّي ومن أبي ، تعيدها مرّتين أو

____________

أُسد الغابة ٤ : ٢٦ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ١٨٩.

وفي صحيح مسلم ١ : ٦١ باب الدليل على حبّ الأنصار وعلي من الإيمان عن عليّ عليه‌السلام بلفظ : « والذي فلق الحبة وبرأ النسمة انّه لعهد النبي الأُمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق ».

(١) البخاري ٤ : ٢١٠ ، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باب مناقب فاطمة عليها‌السلام ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٥٢٦ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ : ٩٧ ح ٨٣٧١.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ٨٢ ، كتاب المغازلي ، باب غزوة خيبر و ٨ : ٣ كتاب الفرائض ، باب قول النبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورث ما تركنا صدقة ».

١٥٣

ثلاثاً ... » الحديث (١).

وبلغ من أمر عائشة وبُغضِهَا للإمام علي أنّها كانت تحاول دائماً إبعاده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما استطاعتْ لذلك سبيلا.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في « شرح النهج » : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استدنى عليّاً ، فجاء حتّى قعد بينه وبينها وهما متلاصقان ، فقالت له : أما وجدت مقعداً لكذا إلاّ فخذي (٢).

وروي ـ أيضاً ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساير يوماً الإمام علي وأطال مناجاته ، فجاءت عائشة وهي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما ، وقالتْ لهُمَا : فيمَ أنتُما فقد أطلتما ، فغضب لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

ويروي أيضاً أنّها دخلت مرّة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عليّاً ، فصرختْ وقالت : مالي ولك يا بن أبي طالب؟ إنّ لي نوبة واحدة من رسول الله ، فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكم من مرّة أغضبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتصرّفاتها الناتجة عن الغيرة الشديدة ، وعن حدّة طبعها وكلامها اللاّذع.

وهل يرضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مؤمن أو مؤمنة ملأ قلبه كُرهاً وبغضاً

____________

(١) الإمام أحمد في مسنده ٤ : ٢٧٥ ، عنه مجمع الزوائد ٩ : ٢٠١ وقال : « رجاله رجال الصحيح ».

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٩٥ ، وفي تاريخ دمشق ٤٢ : ٤٥ انّه عليه‌السلام ، جلس بينهما قالت له : « أما وجدت مكاناً أوسع لك من هذا » فزجرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٩٥.

١٥٤

لابن عمّه وسيّد عترته ، الذي قال فيه : « يحبّ الله ورسولَهُ ويحبّه الله ورسوله » (١) وقال فيه : « من أحبّ علياً فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني » (٢).

( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ )

أمر الله سبحانه نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستقرار في بيوتهنّ ، وأن لا يخرجن متبرّجات ، وأمرهنّ بقراءة القرآن ، وإقامة الصّلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعمل نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّهن امتثلْنَ أمر الله وأمر رسوله الذي نهاهنّ هو الآخر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل وفاته وحذّرهن بقوله : « أيّتكن تركب الجمل وتنبحها كلاب الحوأب » (٣) ، كلّهن ما عدا عائشة ، فقد اخترقت كلّ الأوامر ،

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ١٢ ، ٢٠ ، كتاب فضائل أصحاب النبي ، باب مناقب علي ابن أبي طالب ، صحيح مسلم ٧ : ١٢٠ ، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي ابن أبي طالب. سنن ابن ماجة ١ : ٤٤ ، سنن الترمذي ٥ : ٣٠٢ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٠٩.

(٢) المستدرك للحاكم ٣ : ١٣٠ وقال : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه » ، المعجم الكبير للطبراني ٢٣ : ٣٨٠ ، عنه مجمع الزوائد ٩ : ١٣٢ وقال : إسناده حسن. الجامع الصغير للسيوطي ٢ : ٥٥٤ ح ٨٣١٩ ، وصحّحه الألباني في صحيح الجامع الصغير ٢ : ١٠٣٤ ح ٥٩٦٣.

(٣) نحوه مسند أحمد ٦ : ٩٧ وسنده صحيح ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٢٠ وسقط تصحيح الحاكم من المطبوع لكن قال ابن حجر في فتح الباري ١٣ : ٤٥ : إنّه صححه ، مجمع الزوائد ٧ : ٢٣٤ وصرّح بوثاقة رجاله ، المصنّف لعبدالرزاق ١١ :

١٥٥

____________

٣٦٥ ح ٢٠٧٥٣ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٨ : ٧٠٨ ، صحيح ابن حبان ١٥ : ١٢٦ ، فتح الباري ١٣ : ٤٥ وصرّح بوثاقة رجاله ، سير أعلام النبلاء للذهبي ٢ : ١٧٨ وصرّح بصحة الإسناد ، البداية والنهاية لابن كثير ٦ : ٢٣٦ وقال بعد أن ذكره من طريق أحمد : « وهذا إسناد على شرط الصحيحين ولم يخرجوه » ، الإصابة ٨ : ١٨٦.

وقال الشيخ الألباني في صحيحته ١ : ٨٤٨ ، ح ٤٧٤ : « .. والحديث من أصح الأحاديث ، ولذلك تتابع الأئمة على تصحيحه قديماً وحديثاً :

الأوّل : ابن حبان ..

الثاني : الحاكم ..

الثالث : الذهبي ..

الرابع : الحافظ ابن كثير ..

الخامس : الحافظ ابن حجر .. ».

ثمّ علق الشيخ الألباني على الحديث بقوله : « ولا نشكّ أنّ خروج أُمّ المؤمنين كان خطأً من أصله ، ولذلك همّت بالرجوع حين علمت بتحقّق نبوءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الحوأب ، ولكن الزبير رضي الله عنه أقنعها بترك الرجوع بقول : عسى الله أن يصلح بك بين الناس. ولا نشكّ أنّه كان مخطئاً أيضاً ، والعقل يقطع بأنّه لا مناصّ من القول بتخطئة إحدى الطائفتين المتقاتلتين اللتين وقع فيهما مئات القتلى ، ولا نشكّ أنّ عائشة رضي الله عنها هي المخطئة; لأسباب كثيرة وأدلّة واضحة ... ».

وقد أجاد الشيخ الألباني في هذا الكلام إلاّ في أمرين :

الأوّل : إنّه التمس العذر لعائشة بمقولة الزبير ، مع أنّ عائشة لديها توصية من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه فلذلك أرادت الرجوع ، لكن الصحابي وهو الزبير ضرب كلام النبي وراء ظهره وبالتالي أقنع عائشة بذلك.

الثانية : قوله : « همّت بالرجوع حين علمت بتحقيق نبوءة النبي .. » ليس

١٥٦

وسخرت من كلّ التحذيرات.

ويذكر المؤرّخون أنّ حفصة بنت عمر أرادت الخروج معها ، ولكن أخاها عبد الله حذّرها وقرأ عليها الآية ، فرجعت عن عزمها ، أمّا عائشة فقد ركبت الجمل ، ونبحتها كلاب الحوأب.

يقول طه حسين في كتابه « الفتنة الكبرى » : مرّت عائشة في طريقها بماء فنبحتها كلابه ، وسألتْ عن هذا الماء فقيل لها : إنّه الحوْأب ، فجزعتْ جزعاً شديداً وقالتْ :

ردّوني ردّوني ، قد سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول وعنده نساؤه : « أيّتكنّ تنبحُها كِلابُ الحوأب »؟ وجاء عبد الله بن الزبير فتكلّف تهدئتها ، وجاءها بخمسين رجلا من بني عامر يحلفون لها كذباً أنّ هذا الماء ليس بماء الحوأب (١).

وأنا أعتقد بأنّ هذه الرّواية وُضعتْ في زمن بني أُميّة; ليخفّفوا بها عن أُمّ المؤمنين ثقل معصيتها ، ظنّاً منهم بأنّ أُمّ المؤمنين أصبحتْ معذورة بعد أن خدعها ابن أُختها عبد الله بن الزّبير ، وجاءها بخمسين رجلا يحلفون بالله ويشهدون شهادة زوراً بأنّ الماء ليس هو ماء الحوأب.

إنّها سخافة هزيلةٌ يريدون أن يموّهوا بمثل هذه الروايات على بسطاء العقول ، ويُقنعونهم بأنّ عائشة خُدِعتْ; لأنّها عندما مرّتْ بالماء وسمعتْ

____________

صحيحاً ، بل الحقّ أنّ إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وتحقّق إخباره في الخارج دالٌ على معجزته ومدى معرفته ، وليس تنبأً كما حاول الشيخ إظهاره.

(١) المجموعة الكاملة لمؤلّفات طه حسين : ٤٦٩.

١٥٧

نباح الكلاب ، فسألت عن هذا الماء ، فقيل لها : إنّه الحوْأَبْ ، فجزعتْ وقالت : ردّوني ردّوني. فهل لهؤلاء الحمقى الذين وضعوا الرواية أن يلتمسوا لعائشة عذراً في معصيتها لأمر الله ، وما نزل من القرآن بوجوب الاستقرار في بيتها؟! أو يلتمسوا لها عذراً في معصيتها لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوب لزوم الحصير وعدم ركوب الجمل ، قبل الوصول إلى نباح الكلاب في ماء الحوأب؟!!

وهل يجدون لأُمّ المؤمنين عذراً بعدما رفضت نصيحة أُمّ المؤمنين أمّ سلمة التي ذكرها المؤرّخون إذ قالت لها : أتذكرينَ يومَ أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن معه حتى إذا هبَط من قديد ذات الشمال ، فخَلا بعلي يُناجيه فأطال ، فأردتِ أن تهجمي عليهما ، فنهيتُكِ فعصيتني وهجمتِ عليهما ، فما لبثت أن رجعتِ باكية ، فقلت : ما شأنك؟ فقلت : أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلاّ يوم من تسعة أيام أفمَا تدعني يا بن أبي طالب ويومي ، فأقبل رسول الله علىَّ وهم محمّر الوجه غضباً فقال : « ارجعي وراءك ، والله لا يبغضه أحد من النّاس إلاّ وهو خارج من الإيمان » ، فرجعت نادمةً ساخطة.

فقالت عائشة : نعم أذكر ذلك.

قالت : وأُذَكّركِ ـ أيضاً ـ كنت أنا وأنتِ مع رسول الله ، فقال لنا : « أيتكنّ صاحبة الجمل الأدب تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط »؟ فقلنا : نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك وقال : « إيّاك أن تكونيها يا حميراء »؟

قالت عائشة : أذكر ذلك.

١٥٨

فقالت أُمّ سلمة : أتذكرين يوم جاء أبوك ومعه عمر ، وقمنا إلى الحجاب ، ودخلا يحدّثانه فيما أرادا إلى أن قالا : يا رسول الله ، إنّا لا ندري أمَدُ ما تَصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعاً؟ فقال لهما : « أما أنّي قد أرى مكانه ، ولو فعلتُ لتفرّقتم عنه كما تفرّق بنو إسرائيل عن هارون » ، فسكتا ثمّ خرجَا ، فلمّا خرجا خرجنا إلى رسول الله ، فقلتِ له أنت وكنتِ أجرأ عليه منّا : يا رسول الله مَنْ كنت مستخلفاً عليهم؟ فقال : « خاصف النّعل » ، فنزلنا فرأيناه عليّاً. فقلتِ : يا رسول الله ، ما أرى إلاّ عليّاً. فقال : « هو ذاك »؟

قالت عائشة : نعم أذكر ذلك.

فقالت لها أُمّ سلمة : فأيّ خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة؟

فقالت : إنّما أخرج للإصلاح بين الناس (١).

فنهتها أُمّ سلمة عن الخروج بكلام شديد وقالت لها : إنّ عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال ، ولا يَرْأبُ بهن إن صُدِعَ ، حماديات النساء غضّ الأطراف ، وخفر الأعراض ، ما كنتِ قائلة لو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عارضك في بعض هذه الفلوات ، ناصّة قلوصاً من منهل إلى آخر؟ والله لو سرتُ سيرك هذا ثمّ قيل لي : أدخلي الفردوس ، لاستحييت أن ألقى محمّداً هاتكةً حجاباً ضربه علىَّ (٢).

____________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢١٧ ونحوه المعيار والموازنة : ٢٨.

(٢) غريب الحديث لابن قتيبة ٢ : ١٨٢ ، الفائق للزمخشري ٢ : ١٣٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٦ : ٢٢٠.

١٥٩

كما لم تقبل أُمّ المؤمنين عائشة نصائح كثير من الصحابة المخلصين ، روى الطبري في تاريخه أن جارية بن قدامة السعدي قال لها : يا أُمّ المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفّان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسّلاح ، إنّه قد كان لك من الله سترٌ وحرمة ، فهتكت سِتْرَكِ وأبحتِ حرمتك ، إنّه من يرى قتالك فإنّه يرى قتلك ، إن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلكِ ، وإن أتيتنا مستكرهة فاستعيني بالنّاس (١).

أُمّ المؤمنين هي القائدة

ذكر المؤرّخون بأنّها كانت هي القائدة العامة ، وهي التي تولّي وتعزل وتصدر الأوامر ، حتى إنّ طلحة والزبير اختلفا في إمامة الصلاة ، وأراد كلّ منهما أن يصلّي بالنّاس ، فتدخّلت عائشة وعزلتهما معاً ، وأمّرت عبد الله بن الزبير ابن أُختها أن يصلّي هو بالنّاس.

وهي التي كانتْ ترسل الرّسل بكتبها التي بعثتها في كثير من البلدان تستنصرهم على علي بن أبي طالب ، وتثير فيهم حميّة الجاهلية. حتّى عبّأتْ عشرين ألفاً أو أكثر من أوباش العرب وأهل الأطماع لقتال أمير المؤمنين والإطاحة به ، وأثارتها فتنة عمياء قُتل فيها خلق كثير باسم الدّفاع عن أُمّ المؤمنين ونصرتها.

ويقول المؤرّخون : إنّ أصحاب عائشة لمّا غدروا بعثمان بن حنيف والي البصرة ، وأسروه هو وسبعين من أصحابه الذين كانوا يحرسون بيت المال ،

____________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٤٨٢ ، البداية والنهاية لابن كثير ٧ : ٢٥٩ ، الإمامة والسياسة ١ : ٨٨.

١٦٠