فاسألوا أهل الذّكر

الدكتور محمّد التيجاني السماوي

فاسألوا أهل الذّكر

المؤلف:

الدكتور محمّد التيجاني السماوي


المحقق: مركز الأبحاث العقائديّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-14-5
الصفحات: ٤٨٥

أرى ربّك إلاّ يسارع في هواكَ (١).

وكانت عائشة إذا غضبتْ ( وكثيراً ما كانت تغضب ) تهجرُ اسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا تذكر اسم محمّد وإنّما تقول : وربّ إبراهيم (٢).

وقد أساءتْ عائشة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيراً وجرّعْتهُ الغصص ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤوف رحيم ، وأخلاقه عالية وصبره عميق ، فكان كثيراً ما يقول لها : « ألبسَكِ شيطانُكِ يا عائشة » (٣) وكثيراً ما كان يأسى لتهديد الله لها ولحفصة بنت عمر (٤) ، وكم من مرّة ينزل القرآنُ بسببها.

____________

(١) صحيح البخاري ٦ : ٢٤ و ١٢٨ باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ١٥٨ باب غيرة النساء ووجدهنّ.

(٣) المعجم الصغير للطبراني ١ : ١٧١ ، تلخيص الحبير ٢ : ٣٥ ، نيل الأوطار للشوكاني ١ : ٢٤٧ ، واستدلّ به في مسألة فقهية وقال : « والحديث يدلّ على أنّ اللمس غير موجب للنقض ( أي نقض الوضوء ) لأنّ عائشة لمست شعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لتراه هل اغتسل أم لا »؟ وفي صحيح مسلم ٨ : ١٣٩ بلفظ « أقد جاءك شيطانك ».

(٤) وقد تجنّى عثمان الخميس في كتاب « كشف الجاني » : ١٣١ كعادته ، واتهم المؤلّف بالكذب والافتراء ، وأنّه يعتمّد المصادر الشيعية التي لا قيمة لها عند السنّة؟!

وهذا جناية في الكلام لا يقولها إلاّ من توسّم بالتقليد والتعصب; لأنّ كلّ الذي نقله المؤلّف كان من مصادر أهل السنّة المعتبرة ، والتي تبيّن أخلاقيات عائشة وسيرتها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل أكثرها من صحيحي البخاري ومسلم اللذين هما أصحّ كتاب بعد كتاب الله!!

ولعلّ عثمان الخميس لا يرى في هذه المسألة المتقدّمة وغيرها الكثير ممّا لم يذكر ممّا يؤذي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ أيّ عاقل من المسلمين وغيرهم يرى أنّ هذه

١٢١

فقد قال تعالى لها ولحفصة : ( إنْ تَتُوبَا إلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (١) ، أي أنّها زاغتْ وانحرفت عن الحقّ ، وقوله : ( وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) (٢) هو تهديد صريح من

____________

الأفعال أقبح أنواع الإساءة نظراً لمقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ونضيف إلى صاحب « كشف الجاني » بأنّ عائشة لم تقتصر على إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، بل آذته بعد وفاته ، وخالفت ربّها قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبينما القرآن يخاطبها بقوله : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) ، وبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لها : « أيتكنّ صاحبة الجمل الأدأب تنبحها كلاب الحوأب يقتل عن يمينها وعن شمالها قتلى كثير ... ». ( فتح الباري ١٣ : ٤٥ وصرّح بصحة السند ، مجمع الزوائد ٧ : ٢٣٤ وصرّح بوثاقة رجاله ) ، وبينما رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية » ( أخرجه مسلم ٦ : ٢١ ) .. بينما كان ذلك كلّه على مرأى ومسمع منها وإذا بها تخالفه ، فلا تقرّ في بيتها وتنبحها كلاب الحوأب وتفارق الجماعة ، وتشكّل حزباً مع طلحة والزبير وتقاتل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ظلماً وبغياً كما ذكر المناوي في فيض القدير ٦ : ٤٧٤ ، وعلى غير هدىً ، بل في معصية الله تعالى كما ذكر ذلك ابن حجر في فتح الباري ١٣ : ٧٥ ، حتى إنّها قالت بعد وقعة الجمل ورجوعها إلى المدينة : « إنّي أحدثت بعد رسول حدثاً أدفنوني مع أزواجه » بينما كانت تريد أن تدفن إلى جواره ، كما أخرج ذلك ابن سعد ٨ : ٧٤ ، والحاكم في المستدرك ٤ : ٦ مقرّاً بصحته ووافقه الذهبي ، وبعد ذا وذاك يأتي عثمان الخميس متشدّقاً بروايات الدولة الأموية ليضفي على عائشة هالة من الأُبهة والقداسة ، والتي تصوّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصاً مشغوفاً بالدنيا ـ والعياذ بالله ـ ولا همّ له إلاّ عائشة بنت أبي بكر؟!! إلى غير ذلك من الترهات التي سودت بها صفحات الإسلام وسيرة رسوله النيرة المشرقة .. لكن خلفاء الطلقاء بين الفينة والاخرى تنبت لهم نابتة وتظهر قرنها المعوج!!

(١) التحريم : ٤.

(٢) التحريم : ٤.

١٢٢

ربّ العزّة لها ولحفصة ، التي كانت كثيراً ما تنصاع لها وتعمل بأوامرها.

وقال الله لهما : ( عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَات مُؤْمِنَات ) (١) وهذه الآيات نزلت في عائشة وحفصة بشهادة عمر بن الخطّاب ، كما جاء في البخاري (٢). فدلّت هذه الآية لوحدها على وجود نساء مؤمنات في المسلمين خير من عائشة.

ومرّة بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أراد أن يخطب لنفسه شراف أُخت دحية الكلبي ، وطلب من عائشة أن تذهب وتنظر إليها ، ولما رجعت كانت الغيرة قد أكلتْ قلبها ، فسألها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رأيت يا عائشة؟ فقالت : ما رأيت طائلا! فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد رأيت طائلا ، لقد رأيت خالا نجدها اقشعرّتْ منه ذوائبك ». فقالت : يا رسول الله ما دونك سرّ ، ومن يستطيع أن يكْتُمكَ (٣).

وكلّ ما فعلته عائشة مع حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مؤامرات كانت في أغلب الأحيان تجرّ معها حفصة بنت عمر ، والغريب أنّنا نجد تفاهماً وانسجاماً تامّاً بين المرأتين عائشة وحفصة كالانسجام والتفاهم بين أبويهما أبو بكر وعمر ، غير أنّه في النّساء كانت عائشة دائماً هي الجريئة والقوية وصاحبة المبادرة ، وهي التي كانت تجرّ حفصة بنت عمر وراءها في كلّ شيء ، بينما كان أبوها أبو بكر ضعيفاً أمام عمر الذي كان هو الجري والقوي ، وصاحب المبادرة في كلّ شي ولقد رأينا فيما مرّ من الأبحاث أنّه حتّى في خلافته

____________

(١) التحريم : ٥.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٧٠ ، باب وإذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه.

(٣) طبقات ابن سعد ٨ : ١٦١ ، تاريخ دمشق ٥١ : ٣٦ ، الإصابة ٨ : ٢٠٠.

١٢٣

كان ابن الخطّاب هو الحاكم الفعلي.

وقد حدّث بعض المؤرخين أنّ عائشة لما همّت بالخروج إلى البصرة لمحاربة الإمام علي فيما سُمّي بحرب الجمل ، أرسلت إلى أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمهات المؤمنين تسألهن الخروج معها ، فلم يستجب لها منهن إلاّ حفصة بنت عمر التي تجهّزت وهمّت بالخروج معها ، لكن أخاها عبد الله بن عمر هو الذي منعها وعزم عليها فحطّت رحلها (١) ، ومن أجل ذلك كان الله سبحانه يتهدّد عائشة وحفصة معاً في قوله : ( وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ وَالمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ) ، وكذلك قوله : ( إنْ تَتُوبَا إلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ).

ولقد ضرب الله لهما مثلا خطيراً في سورة التحريم ليُعلمهما وبقية المسلمين الذين يعتقدون بأنّ أُم المؤمنين تدخل الجنّة بلا حساب ولا عقاب لأنّها زوجة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلاّ ، فقد أعلم الله عباده ذكوراً وإناثاً بأنّ مجرّد الزوجية لاتضرّ ولاتنفعُ حتّى ولو كان الزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما الذي ينفع ويضرُّ عند الله هو فقط أعمالُ الإنسان ، قال تعالى : ( ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأةَ نُوح وَامْرَأةَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأةَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا

____________

(١) البداية والنهاية ٧ : ٢٥٨ ، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٨.

١٢٤

فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ ) (١).

وبهذا يتبيّنُ لكلّ الناس بأنّ الزوجيّة والصّحبة ، وإن كانت فيهما فضائل كثيرة إلاّ أنّهما لا يغنيان من عذاب الله إلاّ إذا اتسمتا بالأعمال الصالحة ، وإلاّ فإنّ العذاب يكون مضاعفاً; لأنّ عدل الله سبحانه يقتضي أن لا يعذّب البعيد الذي لم يسمع الوحي كالقريب الذي ينزل القرآن في بيته ، والإنسان الذي عرف الحق فعانده كالجاهل الذي لم يعرف الحقّ.

وإليك الآن أيّها القارئ بعض رواياتها بشيء من التفصيل; لكي تتعرّف على شخصية هذه المرأة التي لعبتْ أكبر الأدوار في إبعاد علي عليه‌السلام عن الخلافة ، وحاربته بكلّ ما أُوتيت من قوّة ودهاء.

ولكي تعرف أيضاً بأنّ آية إذهاب الرجس والتطهير بعيدة عنها بُعد السماء عن الأرض (٢) ، وأنّ أهل السنّة أكثرهم ضحايا الدسّ والتزوير ، فهم أتباع بني أُميّة من حيث لا يشعرون.

أُمّ المؤمنين عائشة تشهد على نفسها

ولنستمع إلى عائشة تروي عن نفسها وكيف تفقِدُهَا الغيرةُ صوابها ، فتتصرّفُ بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصرّفاً لا أخلاقياً ، قالت : بعثت صفية زوج

____________

(١) التحريم : ١٠ ـ ١٢.

(٢) وقد تحامل عثمان الخميس في « كشف الجاني » : ١٣٢ على المؤلّف فاتّهم الشيعة بأقوال وروايات تبرأ منها براءة الذئب من دم يوسف ، ولا أثر لها في كتب الشيعة ، وإنّما هي مذكورة في كتب أهل السنّة ، كما أحال عثمان الخميس على : من الكتاب ، مع أنّ المؤلّف نقل الروايات عن كتب أهل السنّة لا الشيعة ....

١٢٥

النبي إلى رسول الله بطعام قد صنعته له ، وهو عندي ، فلما رأيتُ الجارية أخذتني رعدة حتّى أستقلّني أفكل ، فضربتُ القصعة ورميتُ بها ، قالت : فنظر إلىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرفت الغضب في وجهه ، فقلتُ : أعوذ برسول الله أن يلْعنني اليومَ ، قالت ، قال : « أَوِّلي » ، قلت : وما كفّارته يا رسول الله؟ قال : « طعام كطعامها ، وإناء كإنائها » (١).

ومرّة أُخرى تروي عن نفسها ، قالت : قلتُ للنبي : حسبُك من صفيّة كذا وكذا ، فقال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد قُلتِ كلمة لو مُزجتْ بماء البَحْرِ لمزجته » (٢).

سبحان الله! أين أُمّ المؤمنين من الأخلاق ، وأبسط الحقوق التي فرضَها الإسلام في تحريم الغيبة والنّميمة؟! ولا شكّ بأنّ قولها : « حسبك من صفية كذا وكذا » ، وقول الرسول بأنّها كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجتْهُ; بأنّ ما قالته عائشة في ضرّتها أُمّ المؤمنين صفية أمرٌ عظيم ، وخطبٌ جسيم.

وأعتقد بأنّ رواة الحديث استفضعوها واستعظموها ، فأبدلوها بعبارة ( كذا وكذا ) كما هي عادتهم في مثل هذه القضايا (٣).

____________

(١) مسند الإمام أحمد بن حنبل ٦ : ٢٧٧ ، فتح الباري ٥ : ٩٠ وقال : إسناده حسن ، فيض القدير ٤ : ٣٥٢ ، مجمع الزوائد للهيثمي ٤ : ٣٣١ وصرّح بوثاقة رجاله.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ٤٥٠ ح ٤٨٧٥ ، تفسير ابن كثير ٤ : ٢٢٩ ، أحكام القرآن للجصاص ٣ : ٥٤١ ، تحفة الأحوزي في شرح سنن الترمذي ٧ : ١٧٦ ونقل المنذري تصحيح الترمذي للحديث وأقرّه. قال النووي في الأذكار النووية : ٣٣٧ بعد إيراد الحديث : « وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها ، وما أعلم شيئاً من الأحاديث بلغ في ذمّها هذا المبلغ ».

(٣) ولا تستغرب من فعل المحدّثين هذا ، ولا تظنه تقولا من المؤلف; إذ إن لهم في

١٢٦

وها هي عائشة أُمّ المؤمنين تحكي مرّة أُخرى عن غيرتها من أُمهات المؤمنين ، قالت : ما غرتُ على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية ، وذلك أنّها كانتْ جميلة جعدة وأعجب بها رسول الله ، وكان أنزلها أوّل ما قدم بها في بيت حارثة بن النعمان ، وفزعنا لها فجزعتُ ، فحوّلها رسول الله إلى العالية ، فكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ علينا ، ثمّ رزقه الله الولد منها وحرمناه (١).

كما أنّ عائشة تعدتْ غيرتها دائرة مارية ضرّتها إلى إبراهيم المولود

____________

هذه المسألة باعاً طويلا ، وقدماً راسخة يقرون ويعترفون بذلك ، فقد أخرج أبو داود في سننه ٢ : ٤٠١ ح ٤٦٣٦ عن عبد الله بن ظالم المازني قال : « ذكر سفيان رجلا فيما بينه وبين عبد الله بن ظالم المازني ، قال : سمعت سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل قال : لما قدم فلان إلى الكوفة أقام فلان خطيباً .. ». فعلق العظيم آبادي في عون المعبود ١٢ : ٣١٣ قال : « قال في الفتح الودود : ولقد أحسن أبو داود في الكناية عن اسم معاوية ومغيرة بفلان ستراً عليهما في مثل هذا المحل ... ».

قال بعض العلماء : كان في الخطبة تعريضاً بسب علي .. « ، وكذلك فعل ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان ١٩ : ١٤٩ في قضية نزول قوله تعالى ( وَأنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ودعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاقربائه على أن يؤازره في هذا الأمر ويكون وصيه وخليفته كما ورد في ذلك في تاريخه ٢ : ٦٣ ، إلاّ أن الطبري في تفسيره المشار إليه أبدل قوله : ( هذا أخي ووصيي وخليفتي ) بقوله : ( هذا أخي وكذا وكذا ) ، مع أنّه رواها في التفسير والتاريخ بنفس السند!!

وهناك شواهد كثيرة موجودة في كلمات المحدّثين ، تتكتّم على فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، أو تتستر على فضائح القوم الذين يحبونهم ، فلا ينقلونها بأمانة وإنما يقوموم ببترها وقطعها. وهذا كثير في كتب المحدثين الأمناء!!

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ٨ : ٢١٢ ، الإصابة في معرفة الصحابة للعسقلاني ٨ : ٣١١.

١٢٧

الرضيع البريء! قالتْ : لما وُلد إبراهيم جاء به رسول الله إلىَّ ، فقال : « أنظري إلى شبهه بي » ، فقلتُ : ما أرى شبهاً ، فقال رسول الله : « ألا ترين إلى بياضه ولحمه »؟ قالت : فقلت : من سُقِيَ ألبانُ الضّأن ابيضّ وسمن (١).

وقد تعدّت غيرتها كلّ الحدود وفاقت كل تعبير عندما وصلت بها الظّنون والوساوس إلى الشكّ في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكانت كثيراً ما تتظاهر بالنّوم عندما يبات عندها رسول الله ، ولكنّها ترقبُ زوجها وتتحسّسُ مكانه في الظلام ، وتتعقّبه أين ما ذهب.

وإليك الرواية عن لسانها والتي أخرجها مسلم في صحيحه والإمام أحمد في مسنده وغيرهم ، قالت : لمّا كانتْ ليلتي التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها عندي ، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه ، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع ، فلم يلبث إلاّ ريثما ظنّ أن قد رقدتُ فأخذ رداءهُ رويداً ، وانتعل رويداً وفتح الباب فخرج ثم أجافَهُ رويداً.

فجعلتُ درعي في رأسي ، واختمرتُ وتقنّعتُ إزاري ، ثمّ انطلقت على أثره حتّى جاء البقيع ، فقام فأطال القيام ، ثمّ رفع يديه ثلاث مرّات ، ثمّ انحرف فانحرفتُ ، فأسرَعَ فاسرعْتُ ، فهروَلَ فهرولتُ ، فأحضر فأحضرتُ ، فسبقته فدخلتُ فليس إلاّ أن اضطجعتُ فدخل فقال : « ما لك يا عائش حشْياً رابيةً؟ » قالتْ : فقلتُ : لا شيء ، قال : « لتخبريني أو ليخبرني اللّطيف الخبير » ، قالت : قلت : يا رسول الله بأبي أنت واُمّي فأخبرتُه ، قال : « فأنت

____________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ١ : ١٣٧ ترجمة إبراهيم بن النبي ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٨٧.

١٢٨

السّوادُ الذي رأيت أمامي »؟ ، قلت : نعم ، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ، ثمّ قال : « أظننت أنْ يحيفَ اللّهُ عليك ورسولُهُ ... » (١).

ومرّة أُخرى قالت : فقدتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظننتُ أنّه أتى بعض جواريه ، فطلبته فإذا هو ساجد يقول : « ربّ اغفر لي » (٢).

وأُخرى قالت : إنّ رسول الله خرج من عندي ليلا ، قالت : فغرتُ عليه ، قالت : فجاء فرأَى ما أصنع ، فقال : « ما لك يا عائشة ، أغرتِ »؟ فقلت : ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك! فقال رسول الله : « أفأخذكِ شيطانك » (٣).

وهذه الرواية الأخيرة تدلُّ دلالة واضحة على أنّها عندما تغارُ تخرجُ عن أطوارها ، وتفعل أشياء غريبة كأنْ تكسّر الأواني ، أو تمزّق الملابس مثلا ، ولذلك تقول في هذه الرواية : فلمّا جاء ورأى ما أصنعُ قال : « أفأخذكِ شَيطانكِ »؟

ولا شكّ أنّ شيطان عائشة كان كثيراً ما يأخذها أو يلبسها ، وقد وجد لقلبها سبيلا من طريق الغيرة ، وقد روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « الغيرة للرّجل إيمان وللمرأة كفرٌ » باعتبار أن الرّجل يغار على زوجته لأنّه لا يجوز شرعاً أن يشاركه فيها أحد ، أمّا المرأة فليس من حقّها أن تغار على زوجها; لأنّ الله سبحانه أباح له الزواج بأكثر من واحدة.

____________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٦٤ ، باب ما يقال عند دخول القبور ، مسند أحمد بن حنبل ٦ : ٢٢١.

(٢) مسند الإمام أحمد ٦ : ١٤٧ ، سنن النسائي ٢ : ٢٢٠ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ : ٣٤ ، والسند صحيح.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٦ : ١١٥ ، صحيح مسلم ٨ : ١٣٩.

١٢٩

فالمرأة الصالحة المؤمنة التي أذعنتْ لأحكام الله سبحانه تتقبّل ضرّتها بنفس رياضية كما يقال اليوم ، وخصوصاً إذا كان زوجها عادلا مستقيماً يخاف الله ، فما بالك بسيّد الإنسانية ، ورمز الكمال والعدل ، والخلق العظيم؟

على أنّنا نجد تناقضاً واضحاً في خصوص حبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة ، وما يقوله أهل السنّة والجماعة من أنّها كانت أحبّ نسائه إليه وأعزّهم لديه ، حتّى إنّهم يروون أنّ بعض نسائه وهبْنَ نوبتهنّ لعائشة لمّا علمن بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّها ولا يصبر عليها ، فهل يمكن والحال هذه أن نجد مبرّراً وتفسيراً لغيرة عائشة المفرطة؟ والمفروض أنّ العكس هو الصحيح ، أي أن تغار بقية أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عائشة لشدّة حبّه إياها وميله معها ، كما يروون ويزعمون ، وإذا كانت هي المدلّلَة عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما هو مبرّر الغيرة؟

والتاريخ لم يحدّثْ إلاّ بأحاديثها ، وكتب السيرة طافحة إلاّ بتمجيدها ، وأنّها حبيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدلّلة التي كان لا يطيق فراقها.

واعتقد بأنّ كلّ ذلك من الأمويين الذين أحبّوا عائشة ، وفضّلوها لمّا خدمت مصالحهم ، وروت لهم ما أحبّوا ، وحاربت عدُوّهم علي بن أبي طالب.

وكما أعتقدُ بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يحبّها لما فعلتهُ معه كما قدّمنا; وكيف يحبّ رسول الله من تكذبُ ، وتغتابُ ، وتمشي بالنميمة ، وتشكّ في الله ورسوله ، وتظنّ منهما الحيف؟!

كيف يحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تتجسّس عليه ، وتخرج من بيتها بدون

١٣٠

إذنه لتعلم أين يذهبُ؟!

كيف يحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تشتم زوجاته بحضرته ولو كنّ أمواتاً؟!

كيف يحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبغض ابنه إبراهيم ، وترمي أُمّه مارية بالإفك (١).

كيف يحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تتدخّل بينه وبين زوجاته بالكذب مرّة ، وبإثارة الأحقاد أُخرى ، وتتسبب في طلاقهنّ؟!

كيف يحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبغض ابنتهُ الزهراء ، وتبغض أخاه وابن عمّه علي بن أبي طالب إلى درجة أنّها لا تذكر اسمه ولا تطيب له نفساً بخير (٢)؟!

كلّ هذا وأكثر في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا بعد وفاته فحدّث ولا حرج.

وكلّ هذه الأفعال يمقُتها الله ورسولُه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يحبّان فاعلها; لأنّ الله هو الحقّ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمثل الحقّ ، فلا يمكن له أن يُحبّ من كان على غير الحقّ.

وسوف نعرف خلال الأبحاث القادمة بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يُحبّها ،

____________

(١) يراجع في هذا الموضوع كتاب حديث الإفك للعلامة جعفر مرتضى العاملي. ( المؤلّف ).

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ : ١٧٩ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٨٩ ، والمصنّف لعبد الرزاق الصنعاني ٥ : ٤٣٠ بسند صحيح ، وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني ١ : ١٧٨ ح ١٤٧ قال بعد ـ ذكر الحديث ـ : « ورواه أحمد ٦ : ٢٢٨ مختصراً وزاد في آخره » ولكن عائشة لا تطيب له نفساً « وسنده صحيح ».

١٣١

بل إنّه حذّرَ الأُمّة من فتنتها (١).

سألتُ بعض شيوخنا مرّة عن سبب حبّ النبي المفرط لعائشة بالذّات دون سواها؟ فأجابوني بأجوبة عديدة كلّها مزيّفة.

قال أحدهم : لأنّها جميلة وصغيرة ، وهي البكر الوحيدة التي دخل بها ، ولم يشاركه فيها أحدٌ سواه.

وقال آخر : لأنّها ابنة أبي بكر الصدّيق صاحبه في الغار.

وقال ثالث : لأنّها حفظت عن رسول الله نصف الدّين ، فهي العالمة الفقيهة.

وقال رابع : لأنّ جبرئيل جاءه بصورتها ، وكان لا يدخل على النبي إلاّ في بيتها.

وأنت كما ترى أيّها القارئ بأنّ كلّ هذه الدّعايات لا تَقومُ على دليل ، ولا يقبلها العقل والواقع ، وسوف نأتي على نقضها بالأدلّة ، فإذا كان الرسول يحبّها لأنّها جميلة ، وهي البكر والوحيدة التي دخل بها ، فما الذي يمنعه من الزواج بالأبكار الجميلات اللآتي كنّ بارعات في الحسن والجمال وكنّ مضرب الأمثال في القبائل العربية ، وكنّ رهن إشارته؟! على أنّ المؤرّخين يذكرون غيرة عائشة من زينب بنت جحش ، ومن صفية بنت حيي ، ومن مارية القبطية لأنهنّ كنّ أجمل منها.

روى ابن سعد في طبقاته ٨ : ١٤٨ ، وابن كثير في تاريخه ٥ : ٣٢٠ أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج مليكة بنت كعب ، وكانت تعرف بجمال بارع ، فدخلتْ

____________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٤٦ ، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي من كتاب الجهاد والسير.

١٣٢

عليها عائشة ، فقالت لها : أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك ، فاستعاذتْ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فطلّقها ، فجاء قومها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله إنّها صغيرة ، وإنّها لا رأي لها ، وإنّها خُدِعتْ فارتجِعْهَا ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان أبوها قد قُتِلَ في يوم فتح مكّة ، قتله خالد بن الوليد بالخندمة.

وهذه الرواية تَدُلّنا بوضوح بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان همّه من الزواج الصغر والجمال ، وإلاّ لما طلّق مُليكة بنت كعب ، وهي صغيرة وبارعة في الجمال ، كما تدلّنا هذه الرواية وأمثالها على الأساليب التي اتّبعتها عائشة في خداع المؤمنات البريئات ، وحرمانهن من الزواج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد سبق لها أن طلّقت أسماء بنت النّعمان لمّا غارت من جمالها وقالت لها : إنّ النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول له : أعوذ بالله منك. وهذه مليكة ، تُثير فيها حساسية مقتل أبيها ، وأنّ قاتله هو رسول الله وتقول لها : أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك!

فما كان جواب هذه المسكينة إلاّ أنّها استعاذت من رسول الله! وما عساها أن تقول غير ذلك ، والناس لا يزالون حديثي عهد بالجاهلية الذين يأخذون بالثأر ويعيّرون من لا يثأر لأبيه؟

بقي أن نتساءل ويحقّ لنا أن نتساءل : لماذا يطلّق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاتين المرأتين البريئتين ، واللّتين ذهبتا ضحية مكر وخداع عائشة لهنّ؟

وقبل كلّ شيء لابدّ لنا أن نضع في حسابنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم ، ولا يظلم أحداً ، ولا يفعل إلاّ الحقّ ، فلا بدّ أن يكون في تطليقهنّ حكمة يعلمها الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ عدم تطليق عائشة رغم أفعالها فيه ـ أيضاً

١٣٣

ـ حكمة ، ولعلّنا نقفُ على شيء منها في الأبحاث المقبلة.

أمّا بالنسبة للمرأة الأُولى ، وهي أسماء بنت النعمان فقد ظهرت سذاجتها عندما انطلتْ عليها حيلة عائشة ، فأوّل كلمة قابلت بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما مدّ يده إليها هي : « أعوذُ بالله منك ». ورغم جمالها البارع فلم يبقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبلاهتها.

يقول ابن سعد في طبقاته في ٨ : ١٤٥ وغيره عن ابن عبّاس : قال : « تزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسماء بنت النعمان ، وكانت من أجمل أهل زمانها وأتمّه ».

ولعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يعلّمنا أنّ رجاحة العقل أولى من الجمال ، فكم من امرأة جميلة جرّها غباؤها للفاحشة.

أمّا بالنسبة للمرأة الثانية ، وهي مليكة بنت كعب ، والتي عيّرتها عائشة بأنّ زوجها هو قاتل أبيها ، فلم يرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تعيش هذه المسكينة ، والتي هي صغيرة السنّ ، ولا رَايَ لها كما شهد بذلك قومُها على هواجس ومخاوف قد تُسبّب مصائب كبرى ، خصوصاً وأنّ عائشة سوف لن تتركها ترتاح مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا شكّ أنّ هناك أسباباً أُخرى يعلمها رسول الله وغابت عنّا.

والمهم أن نعرف بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يجري وراء الجمال والشهوات الجسدية والجنسية كما يتوهّمه بعض الجاهلين ، وبعض المستشرقين الذين يقولون : كان همّ محمّد هو النساء الحسناوات!!

وقد رأينا كيف طلّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاتين المرأتين رغم صغرهما

١٣٤

وجمالهما ، فكانتا أجمل أهل زمانهما وأتمّه كما جاء في كتب التاريخ وكتب الحديث ، فقول من يدّعي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبّ عائشة لصغرها وجمالها مردود ولا يقبل.

أمّا القائلين بأنّ حبّه إيّاها لأنّها ابنة أبي بكر فهذا غير صحيح ، ولكن يمكننا أن نقول بأنّه تزوّجها من أجل أبي بكر; لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوّج من عدّة قبائل زواجاً سياسياً لتأليف القلوب ، ولتسُود المودّة والرحمة في تلك القبائل بدلا من التنافر والتباغض.

فقد تزوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأُمّ حبيبة أخت معاوية ، وهي بنت أبي سفيان العدوّ الأوّل للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأنّه لا يحقد وهو رحمة للعالمين ، وقد تعدّى عطفه وحنانه القبائل العربية إلى مصاهرة اليهود والنصارى والأقباط; ليقرّب أهل الأديان بعضهم من بعض.

وبالخصوص إذا عرفنا من خلال ما نقرأه في كتب السّيرة بأنّ أبا بكر هو الذي طلب من النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يتزوّج من ابنته عائشة ، كما طلب عمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يتزوّج ابنته حفصة ، وقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ قلبه يسعُ أهل الأرض كلّهم.

قال تعالى : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١).

وإذا رجعنا إلى الرواية التي روتها عائشة ، وقالت فيها بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلبث إلاّ ريثما ظنَّ أن قد رقدتُ ، فأخذ رداءه رويداً وفتح الباب

____________

(١) آل عمران : ١٥٩.

١٣٥

فخرج ثمّ أجافه ، عرفنا كذب الزعم بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصبر عنها (١).

وهذا الاستنتاج ليس استنتاجاً عفوياً ألّفه خيالي ، كلاّ فإنّ له أدلّة في صحاح السنّة ، فقد روى مسلم في صحيحه وغيره من صحاح أهل السُنّة أنّ عمر بن الخطاب قال : لمّا اعتزل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءَهُ ، قال : دخلت المسجد فإذا النّاسُ ينكُتون بالحصَى ويقولون : طلّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه ، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب.

فقال عمر : فقلتُ : لأعلمنَّ ذلك اليوم ، قال : فدخلت على عائشة فقلتُ : يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تُؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فقالت : مالي ومالك يابن الخطّاب عليكَ بعيبتك! قال : فدخلتُ على حفصة بنت عمر فقلت لَها : يا حفصة أقد بلغ من شأنكِ أنْ تُؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! واللّهِ لقد علمت أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُحِبّكِ ، ولولا أنَا لطلَّقكِ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبكتْ أشدّ البكاءِ ... الحديث (٢).

إنّ هذه الرواية تدلّنا بوضوح لا يقبلُ الشكّ في أنّ زواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفصة بنت عمر لم يكن عن محبّة ، ولكنّه لمصلحة سياسية اقتضتها الظروف.

وممّا يزيدنا يقيناً بصحّة ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج ، أنّ عمر بن الخطّاب يُقسمُ بالله بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يُحبُّ حفصة ، ويزيدنا عمر يقيناً

____________

(١) صحيح مسلم ٣ : ٦٤ ، ومسند أحمد ٦ : ٢٢١.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٨٨ في باب الايلاء واعتزال النّساء وتخييرهنّ ، وقوله تعالى : ( وَإنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ ) ، مسند أبي يعلى ١ : ١٥٠ ، صحيح ابن حبان ٩ : ٤٩٦.

١٣٦

جديداً بأنّ ابنتَهُ حفصة تعلمُ هي الأُخرى هذه الحقيقة المؤلمة ، إذ يقول لها : « والله لقد علمت بأنّ رسول الله لا يُحبُّكِ ».

ثمّ لا يبقي لنا أدنى شكّ في أنّ الزواج منها كان لمصلحة سياسيّة عندمَا قالَ : « ولولا أنَا لطلّقَكِ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

فهذه الرّواية تعطينا أيضاً فكرة على زواج النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعائشة بنت أبي بكر ، وأنّه صبر وتحمّل كلّ أذاها من أجل أبي بكر أيضاً ، وإلاّ فإنّ حفصة أولى بحبّ الرسول وتقديره; لأنّه لم يصدر منها ما يُسيء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر معشار ما فعلته عائشة بنت أبي بكر.

وإذا بحثنا في الواقع العملي بقطع النّظر عن الروايات الموضوعة الّتي نمّقها بنو أُميّة في فضائل عائشة ، لوجدنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كثيراً ما يتأذّى منها ، وكثيراً ما يغضب عليهَا ، وها نحن ننقُل رواية واحدة أخرجها البخاري وكثير من المحدّثين من أهل السنّة ، تعرب عن مدى النفور الذي كانت تشعُرُ به أُمّ المؤمنين عائشة من قبلِ زوجها رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أخرج البخاري في صحيحه في الجزء السابع في باب قول المريض : إنّي وجعٌ ، أَوْ وا رأسَاهُ ، قال : سمعتُ القاسم بن محمّد قال : قالت عائشة : وا رأسَاهُ! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ذاك لو كان وأنا حىٌّ فأستغفر لكِ وأدعو لَكِ » ، فقالت عائشة : وا ثكليَاهُ ، واللّهِ إنّي لأظنّكَ تحِبُّ موتي ، ولو كانَ ذاكَ لظَلِلْتَ آخر يومك مُعرِّساً ببعض أزواجِكَ (١).

فهل تدلّك هذه الرّواية على حبّ النبىّ لعائشة؟

____________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٨ من كتاب المرضى والطبّ ، مسند أحمد ٦ : ٢٢٨.

١٣٧

ونخلص بالأخير إلى أنّ بني أُميّة ، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان يبغضون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنذ أن آلتُ إليهم الخلافة عملوا على تقليب الحقائق ظهراً على عقب ، ورفعوا أقواماً إلى القمّة من المجد والعظمة ، بينما كانوا في حياة النبىّ أُناساً عاديّين وليس لهم شأن كبير ، ووضعوا آخرين كانوا في قمّة الشرف والعزّ أيام النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأعتقد أنّ ميزانهم الوحيد في الرفع والوضع هو فقط عداؤهم الشديد وبغضهم اللاّمحدود لمحمّد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين ، فكلّ شخص كان ضدّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وضدّ أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً رَفعوا من شأنه ، واختلقوا له روايات وفضائل ، وقرّبوه وأعطوه المناصب والعطايا ، فأصبح يحظى بتقدير النّاس واحترامهم.

وكلّ شخص كان يحبّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويدافع عنه عملوا على انتقاصه ، وخلق المعايب الكاذبة له ، واختلاق الروايات التي تنكر فضله وفضائله.

وهكذا أصبح عمر بن الخطّاب الذي كان يعارضه في كلّ أوامره ، حتّى رماه بالهجر في أواخر أيام حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; أصبح هذا الرجل هو قمّة الإسلام عند المسلمين زمن الدولة الأمويّة!

أمّا علي بن أبي طالب الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى ، والذي يحبّ الله ورسوله ويُحبُّه اللّهُ ورسولُهُ ، والذي هو وليّ كلّ مؤمن; أصبح يلعنُ على منابر المسلمين ثمانين عاماً!!

وهكذا أصبحتْ عائشة الّتي جرّعت رسول الله الغُصص ، وعصتْ أوامره كما عصتْ أمر ربّها ، وحاربتْ وصىّ رسول الله ، وتسبّبت في أكبر فتنة

١٣٨

عرفها المسلمون والتي قُتل فيها آلاف المسلمين; أصبحتْ هذه المرأة هي أشهر نساء الإسلام وعنها تُؤخذُ الأحكام ، أمّا فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين التي يغضبُ ربّ العزّة لغضبها ويرضى لرضاها ، أصبحت نسياً منسيّاً ، ودُفنتْ في الليل سرّاً بعدما هدّدوها بالحرق ، وعصروا على بطنها بالباب حتى أسقطتْ جنينها ، ولا أحد من المسلمين من أهل السنّة يعرف رواية واحدة تنقُلها عن أبيها!!

وهكذا أصبح يزيد بن معاوية ، وزياد بن أبيه ، وابن مرجانة ، وابن مروان ، والحجّاج ، وابن العاص وغيرهم من الفسّاق الملعونين بنصّ الكتاب على لسان نبي الله ، نعم أصبح هؤلاء أُمراء المؤمنين وولاة أُمورهم ، أمّا الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة ، وريحانتا النبي من هذه الأُمّة ، والأئمة من عترة الرسول الذين هم أمانُ الأُمة ، أصبحوا مشرّدين مسجونين مقتولين مسمومين!!

وهكذا أصبح أبو سفيان المنافق الذي ما وقعت حربٌ ضدّ الرّسول إلاّ وكان هو قائدها ، أصبح محموداً مشكوراً حتّى قيل : من دخل داره كان آمناً ، أمّا أبو طالب حامي النبي وكفيله والمدافع عنه بكلّ ما يملك ، والذي قضى حياته مناوئاً لقومه وعشيرته من أجل دعوة ابن أخيه ، حتّى قضى ثلاث سنوات في الحصار مع النبىّ في شعب مكة ، وكتم إيمانه لمصلحة الإسلام ، أي لإبقاء بعض الجسور مفتوحة مع قريش ، فلا يؤذون المسلمين كما يريدون ، وذلك كمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه ، أمّا هذا فكان جزاؤه ضحضاح من نار يضع فيها رجله فيغلي منها دماغه!!

١٣٩

وهكذا أصبح معاوية بن أبي سفيان ، الطليق بن الطليق ، واللعين بن اللعين ، ومن كان يتلاعب بأحكام الله ورسوله ولا يقيم لها وزناً ، ويقتل الصلحاء والأبرياء في سبيل الوصول إلى أهدافه الخسيسة ، ويسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مرأى ومسمع من المسلمين (١) ، أصبح هذا الرّجل يسمّى كاتب الوحي ، ويقولون بأن الله ائتمنَ على وحيه جبرئيل ومحمّداً ومعاوية ، وأصبح يوصف بأنّه رجل الحكمة والسياسة والتدبير.

أمّا أبو ذر الغفاري الذي ما أقلّت الخضراء ولا أظلت الغبراء أصدق ذي لهجة منه ، فأصبح صاحب فتنة ، يضربُ ويشرّد ويُنفى إلى الربذة ، وأمّا

____________

(١) يقول الشاعر في هذا المعنى :

عاندوا « أحمد » وعادوا عليّاً

وتولّوا منافقاً وغويّاً

وأسرّوا سبّ النبي نفاقاً

حين سبّوا جهراً أخاهُ عليّاً

 ( المؤلف )

وقد ذكر الشيخ الألباني في صحيحته حديث رقم ٣٣٣٢ : « ... عن أبي عبد الله الجدلي قال : قالت لي أُم سلمة : أيُسبُ رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينكم على المنابر؟!

قلت : سبحانه الله! وأنّى يسب رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

قالت : أليس يُسبُّ علي بن أبي طالب ومن يحبّه ، وأشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يُحبه ...

قلت : وهذا إسناد جيد ورجاله كلّهم ثقات ... ».

وهذا من الطامات الكبرى والرزايا العظمى أن يسب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعهد منه قريب جداً ، وجسده الشريف لم يبرد بعد ، وكفنه لم يبل ، لكن الطلقاء وأبناء الطلقاء أرادوا حجب نور الشمس قبل بزوغها ، وإطفاء نورها قبل ظهورها ، فسعوا إلى ذلك بكلّ ما أُتوا من قوّة; إلاّ أَن الله كان لهم بالمرصاد ، فأخمدهم وأخمد فتنتهم قبل انتصاب الأمور وتحقيق غاياتهم الفاسدة.

١٤٠