بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

فلما سمعوا بهرهم ما سمعوه وقالوا : قد بينت فأحسنت إلا أن المسألة المفردة ما فهمنا الجواب عنها ، فأنزل الله تعالى « يسئلونك عن الساعة أيان مرسيها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والارض لا يأتيك إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها » إلى قوله سبحانه : « ولكن أكثر الناس لا يعلمون » (١).

ومثل قصة عبدالله بن ابي بن سلول وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما خرج في غزاة تبوك نزل في منصرفه منزلا قليل الماء ، وكان عبدالله بن أبي بن سلول رجلا شريفا مطاعا في قومه ، وكان يضرب قبته وسط العسكر فيجتمع إليه قومه من الخزرج ، ومن كان على مثل رأيه من المنافقين.

فاجتمع الناس على بئر كانت في ذلك المنزل قليلة الماء ، وكان في العسكر رجل من المهاجرين يقال لها : جهجهان بن وبر ، فأدلى دلوه وأدلى معه رجل يقال له : سنان بن عبدالله من الانصار فتعلق دلوه بدلو جهجهان ، فتواثبا وأخذ جهجهان شيئا فضرب به رأس ابن سنان فشجه شجة موضحة ، وصاح جهجهان إلى قريش والمهاجرين.

فسمع عبدالله بن ابي بن سلول نداء المهاجرين فقال : ماهذا؟ قالوا : جهجهان ينتدب المهاجرين وقريشا على الخزرج والاوس ، فقال : أو قد فعلوها؟ قالوا : نعم ، قال : أما والله لقد كنت كارها لهذا المسير ، ثم أقبل على قومه فقال لهم : قد قلت : لا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا ويخرجوا عنكم ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل.

ولما سمع زيدبن أرقم ذلك جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان ابن أرقم أصغرهم سنا فيمن كان في مجلس عبدالله ابن أبي بن سلول ، فقال زيد ، يا رسول الله قد علمت حال عبدالله بن ابي بن سلول فينا وشرفه ولا يمنعني ذلك أن اخبرك بما سمعت ثم اخبره بالخبر.

__________________

(١) الاعراف : ١٨٧.

٨١

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمسير فقال أصحابه : والله ما هذا وقت مسير ، وإن ذلك الامر حدث ، ولمابلغ الانصار ما قاله زيد بن أرقم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لحق به سعد بن عبادة وقال : يا رسول الله إن زيد بن أرقم كذب على عبدالله بن أبي بن سلول وإن كان عبدالله قال شيئا من هذا فلا تلمه فان كنا نظمنا له الجزع اليماني تاجا له لنتوجه فيكون ملكا علينا ، فلما وافيت يا رسول الله رأى أنك غلبته على أمر قدكان استتب له.

ثم أقبل سعد على زيد فقال : يا زيد عمدت إلى شرفينا فكذبت عليه ، فلما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنزل الثاني مشى قوم عبدالله بن ابي بن سلول إليه فقالوا له : امض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يستغفرلك ، فلوى عبدالله بن ابي بن سلول عنقه واستهزأ ، فلم يزالوا به حتى صار معهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحلف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه لم يقل من ذلك شيئا ، وأن زيد بن أرقم كذب عليه.

فأنزل الله تعالى « إذا جائك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون * اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ماكانوا يعملون » إلى قوله : « سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفرالله لهم » إلى آخر السورة وهذا أبواب التنزيل والتأويل.

وأما الرد على من أنكر خلق الجنة والنار فقال الله تعالى : « عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى » (٢) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا من ياقوت أحمر ، يريد داخله من خارجه ، وخارجه من داخله من نوره فقلت : يا جبرئيل! لمن هذا القصر؟ فقال : لمن أطاب الكلام ، وأدام الصيام وأطعم الطعام ، وتهجد بالليل والناس نيام.

فقلت : يا رسول الله وفي امتك من يطيق هذا؟ فقال لي : ادن مني فدنوت فقال : ما تدري ما إطابة الكلام؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : هو سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، أتدري ما إدامة الصيام؟ فقال : الله أعلم

__________________

(١) النجم : ١٤ ١٥.

٨٢

ورسوله ، فقال : من صام شهر رمضان ولم يفطر منه يوما ، أتدري ما إطعام الطعام؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : من طلب لعياله ما يكف به وجوههم ، أتدري ما التهجد بالليل والناس نيام؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : من لا ينام حتى يصلي العشاء الآخرة ، ويريد بالناس ههنا اليهود والنصارى لانهم ينامون بين الصلاتين.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما اسرى بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعان ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وربما أمسكوا؟ فقلت لهم : ما بالكم قد أمسكتم؟ فقالوا : حتى تجيئنا النفقة ، فقلت : وما نفقتكم؟ قالوا؟ قول المؤمن : سبحان الله ، والحمدلله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، فاذا قال : بنينا ، وإذا سكت أمسكنا.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما اسري بي إلى سبع سماواته ، وأخذ جبرئيل بيدي وأدخلني الجنة ، وأجلسني على درنوك من درانيك الجنة وناولني سفرجلة فانفلقت نصفين ، وخرج حوراء منها ، فقامت بين يدي ، وقالت : السلام عليك يامحمد السلام عليك يا أحمد السلام عليك يا رسول الله ، فقلت : وعليك السلام من أنت؟ فقال : أنا الراضية المرضية ، خلقني الجبار من ثلاثة أنواع ، أعلائي من الكافور ووسطي من العنبر ، وأسفلي من المسك ، عجنت بماء الحيوان ، قال لي ربي : كوني فكنت (١) وهذا ومثله دليل على خلق الجنة ، وبالعكس من ذلك الكلام في النار.

وأما من أنكر البداء فقد قال الله في كتابه : « فتول عنهم فما أنت بملوم » (٢) وذلك أن الله سبحانه أراد أن يهلك الارض في ذلك الوقت ، ثم تداركهم برحمته فبداله في هلاكهم وأنزل على رسوله « وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين » (٣).

__________________

(١) زاد القمى بعده في تفسيره ص ٢٠ : لاخيك ووصيك على بن أبى طالب.

(٢) الذاريات : ٥٤.

(٣) الذاريات : ٥٥.

٨٣

ومثله قوله تعالى : « وماكان الله ليعذبهم وأنت فيهم وماكان الله معذبهم وهم يستغفرون » ثم بداله « ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام » (١) وكقوله : « إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا » ثم بداله تعالى ، فقال : « الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين باذن الله والله مع الصابرين » (٢) وهكذا يجري الامر في الناسخ والمنسوخ وهويدل على تصحيح البداء وقوله : « يمحوا الله مايشاء ويثبت وعنده ام الكتاب » (٣) فهل يمحو إلا ماكان ، وهل يثبت إلا مالم يكن ، ومثل هذا كثير في كتاب الله عزوجل.

وأما الرد على من أنكر الثواب والعقاب في الدنيا ، وبعد الموت قبل القيامة فيقول الله تعالى : « يوم يأتي لا تكلم نفس إلا باذنه فمنهم شقى وسعيد * فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السموات والارض » الآية « وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السموات والارض إلا ما شاء ربك » (٤) يعني السماوات والارض قبل القيامة ، فاذا كانت القيامة بدلت السموات والارض.

ومثل قوله تعالى : « ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون » (٥) وهو أمر بين أمرين ، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة.

ومثل قوله تعالى : « النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة » (٦) والغدو والعشي لا يكونان في القيامة التي هي دار الخلود ، وإنما يكونان في الدنيا.

وقال الله تعالى في أهل الجنة « ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا » (٧) والبكرة والعشي إنما يكونان من الليل والنهار في جنة الحياة قبل يوم القيامة

__________________

(١) الانفال : ٣٣ ٤٤.

(٢) الانفال : ٦٥ ٦٦.

(٣) الرعد : ٣٩.

(٤) هود : ١٠٥.

(٥) المؤمنون : ١٠٠.

(٦) غافر ٤٦.

(٧) مريم : ٦٢.

٨٤

قال الله تعالى : « لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا » (١).

ومثله قوله سبحانه : « ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون » (٢).

وأما الرد على من أنكر المعراج فقوله تعالى : « وهو بالافق الاعلى * ثم دنى فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى » إلى قوله : « عندها جنة المأوى » (٣) فسدرة المنتهى في السماء السابعة ثم قال سبحانه : « واسئل من أرسلنا قبلك من رسلنا اجعلنا لهم دون الرحمن آلهة يعبدون » (٤) وإنما أمر رسوله أن يسأل الرسل في السماء ، ومثله قوله تعالى « فان كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك » (٥) يعني الانبياء عليهم السلام هذا كله ليلة المعراج.

وأما الرد على المجبرة وهم الذين زعموا أن الافعال إنما هي منسوبة إلى العباد ، مجازا لا حقيقة ، وإنما حقيقتها لله للعباد ، وتأولوا في ذلك آيات من كتاب الله تعالى لم يعرفوا معناها كما في قوله تعالى : « ولو شاء الله ما أشركوا » (٦) فرد عليهم أهل الحق فقالوا لهم : إن في قولكم ذلك بطلان الثواب والعقاب ، إذا نسبتم أفعالكم إلى الله ، تعالى عمايصفون ، وكيف يعاقب مخلوقا على غير فعل منه.

قال الله تعالى : « لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت » (٧) لا يجوز أن يكون إلا على الحقيقة لفعلها ، وقوله تعالى : « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرايره » (٨) وقوله سبحانه : « كل نفس

__________________

(١) الانسان : ١٣.

(٢) آل عمران : ١٦٩ ١٧٠.

(٣) النجم : ٧ ١٥.

(٤) الزخرف : ٤٥.

(٥) يونس : ٩٤.

(٦) الانعام : ١٠٧ وعد في تفسير القمى « وما تشاؤن الا أن يشاء الله » « ومن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ».

(٧) البقرة : ٢٨٦.

(٨) الزلزال : ٧ ٨.

٨٥

بما كسبت رهينة » (١) وقوله : « لتسئلن عما كنتم تعملون » (٢) وقوله تعالى : « فكلا أخذنا بذنبه » إلى قوله : « وماكان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون » (٣).

ومثل هذا كثير في كتاب الله تعالى وفيه بطلان ما ادعوه ونسبوه إلى الله تعالى أن يأمر خلقه بما لا يقدرون أو ينهاهم عماليس فيهم صنع ولا اكتساب.

وخالفهم فرقة اخرى في قولهم فقالوا : إن الافعال نحن نخلقها عند فعلنا لها ، وليس فيها صنع ولا اكتساب ولا مشية ولا إرادة ، ويكون مايشاء إبليس ولا يكون ما لا يشاء ، فضادوا المجبرة في قولهم وادعوا أنهم خلاقون مع الله ، واحتجوا بقوله : « تبارك الله أحسن الخالقين » (٤) فقالوا : قوله : « تبارك الله أحسن الخالقين » يثبت خلاقين غيره ، فجهلوا هذه اللفظة ، ولم يعرفوا معنى الخلق ، وعلى كم وجه هو.

فسئل عليه السلام عن ذلك وقيل له : هل فوض الله تعالى إلى العباد ما يفعلون؟ فقال : الله اعز واجل من ذلك ، قيل : فهل يجبرهم على ما يفعلون؟ قال : الله سبحانه أعدل من أن يجبرهم على فعل ثم يعذبهم عليه ، قيل : أبين الهاتين المنزلتين منزلة ثالثة؟ فقال : نعم ، كما بين السماء والارض ، فقيل : ماهي؟ قال : سرمن أسرار الله.

وأما الرد على من أنكر الرجعة فقول الله عزوجل : « ويوم نحشر من كل امة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون » (٥) أي إلى الدنيا ، وأما معنى حشر الآخرة فقوله عزوجل : « وحشرناهم فلم نغادرمنهم أحدا » (٦) وقوله سبحانه : « وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون » (٧) في الرجعة ، فأما

__________________

(١) المدثر : ٣٨.

(٢) النحل : ٩٣.

(٣) العنكبوت : ٤٠.

(٤) المؤمنون : ١٤.

(٥) النمل : ٨٣.

(٦) الكهف : ٤٨.

(٧) الانبياء : ٩٥.

٨٦

في القيامة فانهم يرجعون.

ومثل قوله تعالى : « وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جائكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه » (١) وهذا لا يكون إلا في الرجعة ، ومثله ماخاطب الله تعالى به الائمة ووعدهم من النصر والانتقام من أعدائهم فقال سبحانه : « وعدالله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبد لنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا » (٢) وهذا إنما يكون إذا رجعوا إلى الدنيا ، ومثله قوله تعالى : « ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين » (٣) وقوله سبحانه : « إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد » (٤) أي رجعة الدنيا.

ومثله قوله : « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم » (٥) ثم ماتوا ، وقوله عزوجل : « واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا » (٦) فردهم الله تعالى بعد الموت إلى الدنيا وشربوا ونكحوا ومثله خبر العزيز.

وأما من أنكر فضل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فالدليل على بطلان قوله : قول الله عزوجل : « وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى » (٧) فأول من سبق من الرسل إلى « بلى » محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لان روحه أقرب الارواح إلى ملكوت الله تعالى ، والدليل على ذلك قول جبرئيل عليه السلام لما اسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء

__________________

(١) آل عمران : ٨١.

(٢) النور : ٥٥.

(٣) القصص : ٥

(٤) القصص : ٨٥.

(٥) البقرة : ٢٤٣.

(٦) الاعراف : ١٥٥.

(٧) الاعراف : ١٧٢.

٨٧

السابعة قال : يا محمد تقدم فانك قد وطئت موطئا لم يطأ قبلك ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، فلولا أن روحه كانت من ذلك المكان لم يقدر أن يتجاوزه ، وذلك أنه إذا أمر الله تعالى فأول مايصل أمره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقربه إلى ملكوته ، ثم سائر الانبياء على طبقاتهم.

ويزيد ذالك بيانا قوله تعالى : « وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم » (١) فأفضل الانبياء الخمسة ، وأفضل الخمسة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم أجمعين ، قال الله تعالى : « إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين * مطاع ثم أمين » (٢).

والدليل على أنه أفضل الانبياء أن الله سبحانه أخذ ميثاقه على سائر الانبياء فقال سبحانه : « وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جائكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين » (٣) فهذا بيان فضل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على سائر المرسلين والنبيين ، ونطق به الكتاب.

ولما اسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء الرابعة ، ودخل إلى البيت المعمور جمع الله عزوجل له من النبيين من آدم فهلم حتى صلى بهم ، قال الله تعالى : « واسئل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون » (٤) وفي هذا مقنع لمن تأمله.

وأما عصمة الانبياء والمرسلين والاوصياء عليهم السلام فقد قيل في ذلك أقاويل تختلف قال بعض الناس : هو مانع من الله تعالى يمنعهم عن المعاصي فيما فرض الله عليهم من التبليغ عنه إلى خلقه ، وهو فعل الله دونهم ، وقال آخرون : العصمة من فعلهم لانهم يحمدون عليها ، وقال آخرون : يجوز على الانبياء والمرسلين والاصياء

__________________

(١) الاحزاب : ٧.

(٢) التكرير : ٢٠ ٢٢.

(٣) آل عمران : ٨١.

(٤) الزخرف : ٤٥.

٨٨

مايجوز على غيرهم من الذنوب كلها ، والاول باطل ، لقوله : « واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا » (١) وقوله تعالى : « ولقد راودته عن نفسه فاستعصم » (٢) أي امتنع ، لان العصم هو المنع ، وقد غلط من أجرى الرسل والانبياء مجرى العباد ، يقع منهم الافعال الذميمة من أربعة وجوه : من الحسد والحرص والشهوة والغضب ، فجميع تصرفات الناس التي هي من قبل الاجساد لا يحدث إلا من أحد هذه الوجوه الاربعة.

والانبياء والرسل والاوصياء عليهم السلام لا يقع منهم فعل من جهة الحسد لان الحاسد إنما يحسد من هو فوقه ، وليس فوق الانبياء والرسل والاوصياء أحد منزله أعلا من منازلهم فيحسدوه عليها ، ولايجوز أن يقع منهم فعل من جهة الحرص في الدنيا على شئ من أحوالها لان الحرص مقرون به الامل ، وحال الامل منقطعة عنهم لانهم يعرفون مواضعهم من كرامة الله عزوجل.

وأما الشهوة فجعلها الله تعالى فيهم لما أراده من بقائهم في الدنيا ، وانقطاع الخلائق لهم ، وفاقتهم إليهم ، فلولا موضع الشهوة لما أكلوا ، فبطل قوة أجسامهم عن تكليفاتهم ، ويبطل حال النكاح فلا يكون لهم نسل ولا ولد ، وما جرى مجرى ذلك ، فالشهوة مركبة فيهم لذلك ، وهم معصومون مما يعرض لغيرهم من قبيح الشهوات.

ويكون الاصطبار وترك الغضب فيهم ، فهم لا يغضبون إلا في طاعة الله تعالى قال الله سبحانه : « قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة » (٣) فالفصل يقع بين الانبياء والرسل والاوصياء من جهة الغضب ، ولا يكون غضبهم إلا لله تعالى وفي الله سبحانه ، فهذا معنى عصمة الله تعالى الانبياء والرسل والاوصياء ، فهم صلوات الله عليهم يجتمعون مع العباد في الشهوة والغضب على الاسماء ويباينونهم في المعنى.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) يوسف : ٣٢.

(٣) براءة : ١٢٣.

٨٩

وأما الرد على المشبهة فقول الله عزوجل : « وأن إلى ربك المنتهى » (١) فاذا انتهى إلى الله (٢) فأمسكوا وتكلموا فيما دون ذلك من العرش فما دونه.

وارجعوا إلى الكلام في مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد غيره فمن ذلك قول الله عزوجل : « ولا تدع مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا » (٣).

والمخاطبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمراد بالخطاب الامة ، ومنه قوله تعالى : « يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن » (٤) « يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين » (٥) والمخاطبة له ، والمراد بالخطاب امته.

أما ما نزل في كتاب الله تعالى مما هو مخاطبة لقوم والمراد به قوم آخرون فقول الله عزوجل : « وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا » (٦) والمعنى والخطاب مصروف إلى امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصل التنزيل لبني إسرائيل.

وأما الاحتجاج على من أنكر الحدوث مع ماتقدم ، فهو أما لما رأيناهذا العالم المتحرك متناهية أزمانه وأعيانه وحركاته وأكوانه ، وجميع مافيه ، ووجدنا ماغاب عنا من ذلك يلحقه النهاية ، ووجد [ نا ] العقل يتعلق بما لا نهاية ، ولولا

__________________

(١) النجم : ٢٤.

(٢) في تفسير القمى والظاهر عندى أنه ينقل من اصل هذه الرسالة قال : حدثنى أبى عن ابن أبى عمير عن جميل عن أبى عبدالله عليه السلام قال : اذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا وتكلموا فيما دون العرش ، ولا تكلموا فيما فوق العرش فان قوما تكلموا فيما فوق العرش فتاهت عقولهم حتى كان الرجل ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادى من خلفه فيجب من بين يديه.

(٣) أسرى : ٣٩ ونصفها : « ولا تجعل ».

(٤) الطلاق : ١.

(٥) الاحزاب : ١.

(٦) أسرى : ٤.

٩٠

ذلك لم يجد العقل دليلا يفرق ما بينهما ، ولم يكن لنا بد من إثبات ما لا نهاية له معلوما معقولا أبديا سرمديا ليس بمعلوم أنه مقصور القوى ، ولا مقدور ولا متجزئ ولا منقسم ، فوجب عند ذلك أن يكون ما لا يتناهى مثل ما يتناهى.

وإذا قد ثبت لنا ذلك ، فقد ثبت في عقولنا أن مالا يتناهى هو القديم الازلي وإذا ثبت شئ قديم وشئ محدث ، فقد استغنى القديم الباري الاشياء عن المحدث الذي أنشأه وبرأه وأحدثه ، وصح عندنا بالحجة العقلية أنه المحدث للاشياء وأنه لا خالق إلا هو ، فتبارك الله المحدث لكل محدث ، الصانع لكل مصنوع المبتدع للاشياء من غير شئ.

وإذا صح أني لا أقدر أن احدث مثلي استحال أن يحدثني مثلي ، فتعالى المحدث للاشياء عما يقول الملحدون علوا كبيرا.

ولما لم يكن إلى إثبات صانع العالم طريق إلا بالعقل لانه لا يحس فيدركه العيان أو شئ من الحواس ، فلو كان غيرواحد بل اثنين أو أكثر لاوجب العقل عدة صناع كما أوجب إثبات الصانع الواحد ، ولو كان صانع العالم اثنين لم يجر تدبيرهما على نظام ، ولم ينسق أحوالهما على إحكام ، ولا تمام ، لانه معقول من الاثنين الاختلاف في دواعيهما وأفعالهما.

ولا يجوز أن يقال إنهما متفقان ولا يختلفان ، لان كل من جاز عليه الاتفاق جاز عليه الاختلاف ، ألا ترى أن المتفقين لا يخلو أن يقدر كل [ منهما على ذلك أولا يقدر كل منهما على ] ذلك فان قدرا كانا جميعا عاجزين ، وإن لم يقدرا كانا جاهلين ، والعاجز والجاهل لا يكون إلها ولا قديما.

وأما الرد على من قال بالرأي والقياس والاستحسان والاجتهاد ، ومن يقول إن الاختلاف رحمة ، فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي والقياس قد استعمل شهات الاحكام لما عجزوا عن عرفان إصابة الحكم ، وقالوا : ما من حادثة إلا ولله فيها حكم ولا يخلو الحكم من وجهين إما أن يكون نصا أو دليلا وإذ رأينا الحادثة قد عدم نصها فزعنا ، أي رجعنا إلى الاستدلال عليها بأشباهها ونظائرها ، لانامتى لم نفزع إلى

٩١

ذلك أخلناها من أن يكون لها حكم ، ولا يجوز أن يبطل حكم الله في حادثة من الحوادث ، لانه سبحانه يقول : « ما فرطنا في الكتاب من شئ » (١) ولما رأينا الحكم لا يخلو والحدث لا ينفك من الحكم التمسناه من النظائر لكي لا تخلو الحادثة من الحكم بالنص أو بالاستدلال وهذا جائز عندنا.

قالوا : وقد رأينا الله تعالى قاس في كتابه بالتشبيه والتمثيل ، فقال : « خلق الانسان من صلصال كالفخار * وخلق الجان من مارج من نار » (٢) فشبه الشئ بأقرب الاشياء به شبها.

قالوا : وقد رأينا النبي استعمل الرأي والقياس بقوله للمرأة الخثعمية حين سألت عن حجها عن أبيها فقال : أرايت لوكان على أبيك دين لكنت تقضينه عنه؟ فقد أفتاها بشئ لم تسأل عنه ، وقوله لمعاذبن جبل حين أرسله إلى اليمن : أرأيت يا معاذ إن نزلت بك حادثة لم تجد لها في كتاب الله عزوجل أثرا ولا في السنة ما أنت صانع؟ قال : أستعمل رأيي فيها ، فقال : الحمدلله الذي وفق رسوله إلى ماء يرضيه.

قالوا : وقد استعمل الرأي والقياس كثير من الصحابة ونحن على آثارهم مقتدون ، ولهم احتجاج كثير في مثل هذا.

فقد كذبوا على الله تعالى في قولهم إنه احتاج إلى القياس ، وكذبوا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله قالوا عنه مالم يقل من الجواب المستحيل.

فنقول لهم ردا عليهم : إن اصول أحكام العبادات وما يحدث في الامة من النوازل والحوادث ، لما كانت موجودة عن السمع والنطق والنص المختص في كتاب ففروعها مثلها وإنما أردنا بالاصول في جميع العبادات والمفترضات ، التي نص الله عزوجل عليها وأخبرنا عن وجوبها ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن وصيه المنصوص عليه بعده في البيان من أوقاتها وكيفيتها وأقدارها في مقاديرها عن الله عزوجل ، مثل فرض الصلاة

__________________

(١) الانعام : ٣٨.

(٢) الرحمن : ١٤ ١٥.

٩٢

والزكاة والصيام والحج والجهاد وحد الزنا وحد السرق وأشباهها مما نزل في الكتاب مجملا بلا تفسير فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المفسر والمعبر عن جمل الفرائض فعرفنا أن فرض صلاة الظهر أربع ، ووقتها بعد زوال الشمس ، يفصل مقدار ماتقرأ الانسان ثلاثين آية ، وهذا الفرق بين صلاة الزوال وبين صلاة الظهر ، ووقت العصر آخر وقت الظهر إلى وقت مهبط الشمس ، وأن المغرب ثلاث ركعات ووقتها حين الغروب إلى إدبار الشفق والحمرة ، وأن وقت صلاة العشاء الآخرة وهي أربع ركعات وأوسع الاوقات ، أول وقتها حين اشتباك النجوم ، وغيبوبة الشفق وانبساط الكلام ، وآخر وقتها ثلث الليل وروي نصفه ، والصبح ركعتان ووقته طلوع الفجر إلى إسفار الصبح.

وأن الزكاة يجب في مال دون مال ، ومقدار دون مقدار ، ووقت دون أوقات وكذلك جميع الفرائض التي أوجبها الله سبحانه على عباده بملبغ الطاقات ، وكنه الاستطاعات.

فلولا ماورد النص به من تنزيل كتاب الله تعالى وما أبان رسوله وفسره لنا وأبانه الاثر وصحيح الخبر لقوم آخرين ، لم يكن لاحد من الناس المأمورين بأداء الفرائض أن يوجب ذلك بعقله ، وإقامة معاني فروضه وبيان مراد الله تعالى في جميع ماقد منا ذكره على حقيقة شروطه ، ولا تصح إقامة فروضه بالقياس والرأي ولا أن يهتدي العقول على انفرادها ولو انفرد لا يوجب فرض صلاة الظهر أربعادون خمس أو ثلاث ، ولا يفصل أيضا بين قبل الزوال وبعده ولا تقدم السجود على الركوع والركوع على السجود ، أو حد زنا المحصن والبكر ، ولا بين العقارات والمال النقد في وجوب الزكاة ، ولو خلينا بين عقولنا وبين هذه الفرائض لم يصح فعل ذلك كله بالعقل على مجرده ، ولم يفصل بين القياس وما فصلت الشريعة والنصوص إذ كانت الشريعة موجودة عن السمع والنطق الذي ليس لنا أن نتجاوز حدودها ، ولو جاز ذلك وصح ، لا ستغنينا عن إرسال الرسل إلينا بالامر والنهي منه تعالى ، ولما كانت الاصول لاتجب على ماهي من بيان فرضها إلا بالسمع والنطق ، فكذلك الفروع والحوادث التي تنوب وتطرق منه تعالى لم يوجب الحكم فيها بالقياس دون

٩٣

النص بالسمع والنطق.

وأما احتجاجهم واعتلالهم بأن القياس هو التشبيه والتمثيل وأن الحكم جائزبه ، ورد الحوادث أيضا إليه ، فذلك محال بين ومقال شنيع لانا نجد شيئا قد وفق الله تعالى بين أحكامها وإن كانت متفرقة ونجد أشياء وقد فرق الله بين أحكامها ، وإن كانت مجتمعة ، فدلنا ذلك من فعل الله تعالى على أن اشتباه الشيئين غير موجب لاشتباه الحكمين ، كما ادعاه مستحلوا القياس والرأي.

وذلك أنهم لما عجزوا عن إقامة الاحكام على ما انزل في كتاب الله تعالى وعدلوا من أخذها من أهلها ممن فرض الله سبحانه طاعتهم على عباده ، ممن لا يزل ولا يخطئ ولا ينسى الذين أنزل الله كتابه عليهم ، وأمر الامة برد ما اشتبه عليهم من الاحكام إليهم وطلبوا الرياسة رغبة في حطام الدنيا ، وركبوا طرائق أسلافهم ، ممن ادعى منزلة أولياء الله لزمهم العجز ، فادعوا أن الرأي والقياس واجب فبان لذوي العقول عجزهم ، وإلحادهم في دين الله تعالى ، وذلك أن العقل على مجرده وانفراده لا يوجب ولا يفصل بين أخذ شئ بغصب ونهب وبين أخذه بسرقة وإن كانا مشتبهين ، والواحد منهما يوجب القطع والآخر لا يوجبه.

ويدل أيضا على فساد ما احتجوا به من رد الشئ في الحكم إلى اعتبار نظائره أنا نجد الزنا من المحصن والبكر سواء وأحدهما يوجب الرجم والآخر يوجب الجلد ، فعلمنا أن الاحكام مأخذها من السمع والنطق على حسب مايرد به التوقيف دون اعتبار النظائر والاعيان ، وهذه دلالة واضحة على فساد قولهم ، ولو كان الحكم في الدين بالقياس ، لكان باطن القدمين أولى بالمسح من ظاهر هما.

قال الله تعالى حكاية عن إبليس في قوله بالقياس : « أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين » (١) فذمه الله لما لم يدر ما بينهما ، وقد ذم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والائمة عليهم السلام القياس ، يرث ذلك بعضهم عن بعض ، ويرويه عنهم أولياؤهم.

__________________

(١) سورة الاعراف : ١٢ ، سورة ص : ٧٦.

٩٤

وأما الرد على من قال بالاجتهاد : فانهم يزعمون أن كل مجتهد مصيب على أنهم لا يقولون مع اجتهادهم أصابوا معنى حقيقة الحق عند الله عزوجل لانهم في حال اجتهادهم ينتقلون من اجتهاد إلى اجتهاد ، واحتجاجهم أن الحكم به قاطع ، قول باطل منقطع منتقض ، فأي دليل أدل من هذا على ضعف اعتقاد من قال بالاجتهاد والرأي إذكان حالهم تؤول إلى ماوصفناه.

وزعموا أيضا أنه محال أن يجتهدوا فيذهب الحق من جماعتهم وقولهم بذلك فاسد ، لانهم إن اجتهدوا فاختلفوا فالتقصير واقع بهم ، وأعجب من هذا أنهم يقولون مع قولهم بالاجتهاد والرأي : إن الله تعالى بهذا المذهب لم يكلفهم إلا بما يطيقونه وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

واحتجوا بقول الله تعالى : « وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره » (١) وهو بزعمهم وجه الاجتهاد ، وغلطوا في هذا التأويل غلطا بينا.

قالوا : ومن قول الرسول : ماقاله لمعاذ بن جبل ، وادعوا أنه أجاز ذلك والصحيح أن الله سبحانه لم يكلف العباد اجتهادا لانه قد نصب لهم أدلة ، وأقام لهم أعلاما ، وأثبت عليهم الحجة ، فمحال أن يضطرهم إلى مالا يطيقون بعد إرساله إليهم الرسل بتفصيل الحلال والحرام ، ولم يتركهم سدى ، ومهما عجزوا عنه ردوه إلى الرسل والائمة صلوات الله عليهم وهو يقول : « ما فرطنا في الكتاب من شئ » (٢) ويقول : « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي » (٣) ويقول سبحانه « فيه تبيان كل شئ » (٤).

ومن الدليل على فساد قولهم في الاجتهاد والرأي والقياس أنه لن يخلو الشئ أن يكون تمثيلا على أصل أو يستخرج البحث عنه ، فإن كان بحث عنه فانه لا يجوز في عدل الله تعالى تكليف العباد ذلك ، وإن كان تمثيلا على أصل ، فلن يخلو

__________________

(١) البقرة : ١٤٤.

(٢) الانعام : ٣٨.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) النحل : ٨٩ ، ونصها : « ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ ».

٩٥

الاصل أن يكون حرم لمصلحة الخلق ، أو لمعنى في نفسه خاص ، فان كان حرم لمعنى في نفسه خاص فقد كان قبل ذلك حلالا ثم حرم بعذ ذلك لمعنى فيه ، بل لو كان العلة المعنى لم يكن التحريم له أولى من التحليل ، ولما فسد هذا الوجه من دعواهم ، علمنا أنه لمعنى أن الله تعالى إنما حرم الاشياء لمصلحة الخلق ، لا للعلة التي فيها ، ونحن إنما ننفي القول بالاجتهاد ، لان الحق عندنا مما قد مناه ذكره من الاصول التي نصبها الله تعالى ، والدلائل التي أقامها لنا ، كالكتاب والسنة والامام الحجة ، ولن يخلو الخلق عندنا من أحد هذه الاربعة وجوه التي ذكرناها وما خالفها فباطل.

وأما اعتلالهم بما اعتلوا به من شطر المسجد الحرام والبيت فمستحيل بين الخطأ ، لان معنى « شطره » نحوه ، فبطل الاجتهاد فيه ، وزعموا أن على الذي لم يهتد إلى الادلة والاعلام المنصوصة للقبلة أن يستعمل رأيه حتى يصيب بغاية اجتهاده ، ولم يقولوا حتى يصيب نحو توجهه إليه.

وقد قال الله عزوجل : « وحيث ماكنتم فولوا وجوهكم شطره » يعني تعالى على نصب من العلامات والادلة ، وهي التي نص على حكمها بذكر العلامات والنجوم في ظاهر الآية ، ثم قال تعالى : « وإن الذين اوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربك » ولم يقل وإن الذين اضطروا إلى الاجتهاد.

فدل على أن الله تعالى أوجب عليهم استعمال الدليل في التوجه ، وعند الاشتباه عليهم ، لاصابة الحق ، فمعنى شطره نحوه يعني تعالى نحو علاماته المنصوصة عليه ، ومعنى شطره نحوه إن كان مرئيا ، وبالدلائل ولاعلام ، إن كان محجوبا فلو علمت القبلة الواجب استقبالها والتولي والتوجه إليها ولم يكن الدليل عليها موجودا حتى استوى الجهات كلها ، له حينئذ أن يصلي بحال اجتهاد ، وحيث أحب واختار ، حتى يكون على يقين من بيان الادلة المنصوبة والعلامات المبثوثة ، فان مال عن هذا الموضع ماذكرناه حتى يجعل الشرق غربا والغرب شرقا زال معنى اجتهاده ، وفسد اعتقاده.

٩٦

وقد جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خبر منصوص مجمع عليه أن الادلة المنصوبة على بيت الله الحرام لايذهب بكليتها بحادثة من الحوادث منا من الله عزوجل على عباده في إقامة ما افترضه عليهم.

وزعمت طائفة ممن يقول بالاجتهاد أنه إذا أشكل عليه من جهة حتى يستوي عنده الجهات كلها ، تحرى واتبع اجتهاده حيث بلغ به ، فان ذلك جائز بزعمهم وإن كان لم يصب وجه حقيقة القبلة ، وزعموا أيضا أنه إذا كان على هذا السبيل مائة رجل لم يجز لاحد منهم أن يتبع اجتهاد الآخر ، فهم بهذه الاقوال ينقضون أصل اعتقادهم.

وزعموا أن الضرير والمكفوف له أن يقتدي بأحد هؤلاء المجتهدى ، فله أن ينتقل عن قول الاول منهم إلا قول الآخر ، فجعلوا مع اجتهادهم كمن لم يجتهد ، فلم يؤل بهم الاجتهاد ، إلا إلى حال الضلال ، والانتقال من حال إلى حال فأي دين أبدع وأي قول أشنع من هذه المقالة أو أبين عجزا ممن يظن أنه من أهل الاسلام ، وهو على مثل هذا الحال ، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى واتباع الهوى ، وإياه نستعين على مايقرب منه ، إنه سميع مجيب (١).

أقول : وجدت رسالة قديمة مفتتحها هكذا : حدثنا جعفر بن محمد بن قولويه القمي رحمه الله قال : حدثنى سعد الاشعري القمي أبوالقاسم رحمه الله وهو مصنفه الحمد لله ذي النعماء والآلاء ، والمجد والعز والكبرياء ، وصلى الله على محمد سيد الانبياء ، وعلى آله البررة الاتقياء ، روى مشايخنا عن أصحابنا ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف : أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ، ومثل. وساق الحديث إلى آخره لكنه ، غير الترتيب ، وفرقه على الابواب ، وزاد فيما بين ذلك بعض الاخبار (٢).

__________________

(١) طبعت هذا الرسالة بعنوان المحكم والمتشابه منسوبا إلى السيد المرتضى ره.

(٢) قد مر في ج ٩٢ ص ٦٠ ٧٧ شطر منه ، وهكذا فرقه المؤلف في سائر الابواب حيث أراد.

٩٧

١٢٩

* ( باب ) *

* « ( احتجاجات أمير المؤمنين صلوات الله عليه ) » *

* « ( على الزنديق المدعى للتناقض في القرآن وأمثاله ) » *

١ ـ ج : جاء بعض الزنادقة إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال : لو لا مافي القرآن من الاختلاف والتناقض ، لدخلت في دينكم ، فقال له علي عليه السلام : وما هو؟ قال : قوله تعالى : « نسوا الله فنسيهم » (١) وقوله : « فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » (٢) وقوله : « وماكان ربك نسيا » (٣) وقوله : « يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمونه » (٤) وقوله : « والله ربنا ما كنا مشركين » (٥) وقوله تعالى : « يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا » (٦) وقوله : « إن ذلك لحق تخاصم أهل النار » (٧) وقوله : « لا تختصموا لدي » (٨) وقوله : « اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون » (٩) وقوله : « وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة » (١٠) وقوله : « لا تدركه الابصار وهويدرك الابصار » (١١) وقوله : « ولقد رآه نزلة اخرى » (١٢) وقوله : « لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن » الآيتين (١٣) وقوله : « ماكان لبشر أن يكلمه الله إلا

__________________

(١) براءة : ٦٧.

(٢) الاعراف : ٥١.

(٣) مريم : ٦٤.

(٤) النبأ : ٣٨.

(٥) الانعام : ٢٣.

(٦) العنكبوت : ٢٥.

(٧) ص : ٦٤.

(٨) ق : ٢٨.

(٩) يس : ٦٥.

(١٠) القيامة : ٢٢ ٢٣.

(١١) الانعام : ١٠٣.

(١٢) النجم : ١٣.

(١٣) طه : ١٠٩ ، سبأ : ٢٣.

٩٨

وحيا » (١) وقوله : « كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون » (٢) وقوله : « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك » (٣) وقوله : « بلهم بلقاء ربهم كافرون » (٤) وقوله : « فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه » (٥) وقوله : « فمن كان يرجوا لقاء ربه » (٦) وقوله : « ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها » (٧) وقوله : « ونضع الموازين القسط ليوم القيمة » (٨) وقوله : « فمن ثقلت موازينه * ومن خفت موازينه » (٩).

قال أمير المؤمنين عليه السلام : فأما قوله تعالى : « نسوا الله فنسيهم » يعني إنما نسوا الله في دار الدنيا يعملوا بطاعته ، فنسيهم في الآخرة أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئا ، فصاروا منسيين من الخير وكذلك تفسير قوله عزوجل : « فاليوم ننسيهم كما نسوا لقاء يومهم هذا » يعني بالنسيان أنه لم يثبهم كما يثيب اولياءه الذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين ، حين آمنوا به وبرسوله ، وخافوه بالغيب.

وأما قوله : « وماكان ربك نسيا » فان ربنا تبارك وتعالى علوا كبيرا ليس بالذي ينسى ، ولا يغفل ، بل هو الحفيظ العليم ، وقد يقول العرب : قد نسينا فلان فلا يذكرنا ، أي أنه لا يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به.

قال عليه السلام : وأما قوله عزوجل : « يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا » وقوله عزوجل « والله ربنا ما كنا مشركين » وقوله عزوجل : « يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا » وقوله عليه السلام : « إن ذلك لحق تخاصم أهل النار » وقوله : « لا تختصموا

__________________

(١) الشورى : ٥١.

(٢) المطففين : ١٥.

(٣) الانعام : ١٥٨.

(٤) السجدة : ١٠.

(٥) براءة : ٧٧.

(٦) الكهف : ١١٠ ، ويظهر من جوابه عليه السلام أنه عنون هناك قوله تعالى « الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم » البقرة : ٤٦.

(٧) الكهف : ٥٣.

(٨) الانبياء : ٤٧.

(٩) الاعراف : ٨ و ٩ ، المؤمنون ١٠٢ و ١٠٣.

٩٩

لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد » وقوله : « اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون » فان ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة.

والمراد يكفر أهل المعاصي بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، والكفر في هذه الآية البراءة ، يقول : يتبرأ بعضهم من بعض ، ونظيرها في سورة إبراهيم عليه السلام قول الشيطان : « إني كفرت بما أشركتمون من قبل » (١) وقول إبراهيم خليل الرحمن : « كفرنابكم » (٢) يعني تبر أنا منكم.

ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيها فلو أن تلك الاصوات بدت لاهل الدنيا لزالت جميع الخلق عن معايشهم وانصدعت قلوبهم إلا ماشاء الله ، ولا يزالون يبكون حتى يستنفدوا الدموع ويفضوا إلى الدماء.

ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون : « والله ربنا ما كنا مشركين » وهؤلاء خاصة هم المقرون في دار الدنيا بالتوحيد ، فلم ينفعهم إيمانهم بالله مع مخالفتهم رسله ، وشكهم فيما أتوا به عن ربهم ، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فكذبهم الله بما انتحلوه من الايمان بقوله : « انظر كيف كذبوا على أنفسهم » (٣) فيختم الله على أفواههم وتستنطق الايدي والارجل والجلود ، فيشهد بكل معصية كانت منهم ، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم : « لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ » (٤).

ثم يجتمعون في موطن آخر فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه من صعوبة الامر ، وعظم البلاء ، فذلك قول الله عزوجل : « يوم يفر المرء من أخيه [ وامه وأبيه وصاحبته وبينه ] » (٥) الآية.

__________________

(١) ابراهيم : ٢٢.

(٢) الممتحنة : ٤.

(٣) الانعام : ٢٤.

(٤) فصلت : ٢١.

(٥) عبس : ٣٦ ٣٨.

١٠٠