بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٠١
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

١٢٨

( باب )

* ( ما ورد عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه في أصناف ) *

* ( آيات القرآن وأنواعها ، وتفسير بعض آياتها ) *

* ( برواية النعمانى وهى رسالة مفردة مدونة كثيرة الفوائد ) *

* ( نذكرها من فاتحتها إلى خاتمتها ) *

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله العدل ذي العظمة والجبروت ، والعز والملكوت ، الحي الذي لايموت : ومبدئ الخلق ومعيده ومنشئ كل شئ ومبيده ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد واحد لا كالا حاد ، الخالي من الانداد ، لا إله إلا هو راحم العباد ، وصلى الله على نوره الساطع وضيائه اللامع ، محمد نبيه وصفيه وعروته الوثقى ومثله الاعلى المفضل على جميع الور ، وعلى أخيه ووصيه ووارث علمه وآيته العظمى ، وعلى آله الائمة المصطفين ، وعترته المنتجبين المفضلين على جميع العالمين ، مصابيح الدجى ، وأعلام الهدى ، وسفن النجاة الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه ، حيث يقول جل ثناؤه : « أطيعوالله وأطيعوا الرسول

١

واولي الامر منكم » (١) فدل سبحانه وأرشد إليهم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : الثقلين كتاب الله وعترتي فان ربي اللطيف الخبير أنبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة له : ألا إن العلم الذي هبط به آدم من السماء إلا الارض ، وجميع ما فضلت بن النبيون في عترة خاتم النبيين.

واعلم يا أخي وفقك الله بما يرضيه بفضله وجنبك مايسخطه برحمته أن القرآن جليل خطره عظيم قدره ولما أخبرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن القرآن مع أهلبيته ، وهم التراجمة عنه المفسرون له وجب أخذ ذلك عنهم ومنهم ، قال الله تعالى « فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » (٢) ففرض جلت عظمته على الناس العلم والعمل بما في القرآن فلا يسعهم مع ذلك جهله ، ولا يعذرون في تركه وجميع ما أنزله في كتابه عند أهل بيت نبيه الذين ألزم العباد طاعتهم ، وفرض سؤالهم ، والاخذ عنهم ، حيث يقول : « فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » فالذكر ههنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله تعالى : « قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلوا عليهم آياته » (٣) الآية ، وأهل الذكر هم أهل بيته ، ولما اختلف الناس في ذلك أنزل الله تعالى « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا » (٤) فلم يفرض على عباده طاعة غير من اصطفاه وطهره دون من وقع منه الشك أو الظلم ويتوقع فالويل لمن خالف الله تعالى ورسوله وأسند أمره إلى غير المصطفين قال الله تعالى « ويوم يعض العالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا » (٥) فالسبيل ههنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه « يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جائني » والذكر ههنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه « وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا » (٦) فالقرآن ههنا إشارة إلى أمير المؤمنين صلوات الله ثم وصف

__________________

(١) النساء ٥٩.

(٢) النحل : ٤٣ الانبياء : ٧.

(٣) الطلاق : ١٠.

(٤) فاطر : ٣٢.

(٥ و ٦) الفرقان : ٢٧ ٣٠.

٢

الائمة عليهم السلام فقال تعالى : « التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله » (١) ألا ترى أنه لا يصلح أن يأمر بالمعروف إلا من قد عرف المعروف كله حتى لا يخطأ فيه ، ولا يزل لا ينسى ، ولا يشك ، ولا ينهى عن المنكر إلا من عرف المنكر كله وأهله ، ولا يجوز لاحد أن يقتدي ويأتم إلا بمن هذه صفته ، وهم الراسخون في العلم ، الذين قرنهم الله بالقرآن ، وقرن القرآن بهم.

قال أبوعبدالله محمد بن إبراهيم بن جعفر النعماني رضي الله عنه في كتابه في تفسير القرآن : حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال : حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي عن إسماعيل بن مهران ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه عن إسماعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبدالله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام يقول : إن الله تبارك وتعالى بعث محمدا فختم به الانبياء فلا نبي بعده ، وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب ، فلا كتاب بعده ، أحل فيه حلالا ، وحرم حراما ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فيه شرعكم ، وخبر من قبلكم ، وبعدكم.

وجعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علما باقيا في أوصيائه ، فتركهم الناس ، وهم الشهداء على أهل كل زمان ، وعدلوا عنهم ، ثم قتلوهم واتبعوا غيرهم ، وأخصلوا لهم الطاعة ، حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الامر ، وطلب علومهم ، قال الله سبحانه : « فنسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم » (٢) وذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض ، واحتجوا بالمنسوخ ، وهم يظنون أنه الناسخ واحتجوا بالمتشابه وهم يرون أنه المحكم ، واحتجوا بالخاص وهم يقدرون أنه العام ، واحتجوا بأول الآية ، وتركوا السبب في تأويلها ، ولم ينظروا إلى ما يفتح الكلام وإلى ما يختمه ، ولم يعرفوا موارده ومصادر ، إذ لم يأخذوه

__________________

(١) براءة : ١١٢.

(٢) المائدة : ١٣.

٣

عن أهله ، فضلوا وأضلوا.

واعلموا رحمكم الله أنه من لم يعرف من كتاب الله عزوجل الناسخ من المنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي والمدني ، وأسباب التنزيل ، والمبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة والمؤلفة ، وما فيه من علم القضاء والقدر ، والتقديم والتأخير ، والمبين والعميق ، والظاهر والباطن والابتداء والانتهاء ، والسؤال والجواب ، والقطع والوصل ، والمستثنى منه والجاري فيه ، والصفة لما قبل مما يدل على مابعد ، والمؤكد منه ، والمفصل وعزائمه ورخصه ، ومواضع فرائضه وأحكامه ، ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون ، والمصول من الالفاظ والمحمول على ماقبله ، وعلى مابعده ، فليس بعالم بالقرآن ، ولا هو من أهله ، ومتى ما ادعى معرفة هذه الاقسام مدع بغير دليل ، فهو كاذب مرتاب ، مفتر على الله الكذب ورسوله ، ومأويه جهنم وبئس المصير.

ولقد سأل أمير المؤمنين صلوات الله عليه شيعته عن مثل هذا ، فقال : إن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام كل منها شاف كاف ، وهي أمر ، وزجر وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص. وفي القرآن ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه ، وخاص وعام ، ومقدم ومؤخر ، وعزائم ورخص ، وحلال وحرام ، وفرائض وأحكام ، ومنقطع ومعطوف ومنقطع غير معطوف وحرف مكان حرف.

ومنه ما لفظه خاص ، ومنه مالفظه عام محتمل العموم ، ومنه مالفظه واحد ومعناه جمع ، ومنه مالفظه جمع ومعناه واحد ، ومنه مالفظه ماض ومعناه مستقبل ، ومنه مالفظه على الخبر ومعناه حكاية عن قوم آخر ، ومنه ماهو باق محرف عن جهته ، ومنه ماهو على خلاف تنزيله ، ومنه ما تأويله في تنزيله ، ومنه ماتأويله قبل تنزيله ، ومنه ماتأويله بعد تنزيله.

ومنه آيات بعضها في سورة وتمامها في سورة اخرى ، ومنه آيات نصفها منسوخ

٤

ونصفها متروك على حاله ، ومنه آيات مختلفة اللفظ متفقة المعنى ، ومنه آيات متفقه اللفظ مختلفة المعنى ، ومنه آيات فيها رخصة وإطلاق بعد العزيمة ، لان الله عزوجل يحب أن يؤخذ برخصه كما يؤخذ بعزائمه.

ومنه رخصة صاحبها فيها بالخيار ، إن شاء أخذ ، وإن شاء تركها ، ومنه رخصة ظاهرها خلاف باطنها يعمل بظاهرها عند التقية ولا يعمل بباطنها مع التقية ومنه مخاطبة لقوم والمعنى لآخرين ، ومنه مخاطبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعناه واقع على امته ومنه لا يعرف تحريمه إلا بتحليله ومنه ماتأليفه وتنزيله على غير معنى ما انزل فيه.

ومنه رد من الله تعالى واحتجاج على جميع الملحدين والزنادقة والدهرية والثنوية والقدرية والمجبرة وعبدة الاوثان وعبدة النيران ، ومنه احتجاج على النصارى في المسيح عليه السلام ، ومنه الرد على اليهود ، ومنه الرد على من زعم أن الايمان لا يزيد ولا ينقص ، وأن الكفر كذلك ، ومنه رد على من زعم أن ليس بعد الموت وقبل القيامة ثواب وعقاب.

ومنه رد على من أنكر فضل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على جميع الخلق ، ومنه رد على من أنكر الاسراء به ليلة المعراج ، ومنه رد على من أثبت الرؤية ، ومنه صفات الحق وأبواب معاني الايمان ووجوبه ووجوهه ، ومنه رد على من أنكر الايمان والكفر والشرك والظلم والضلال ، ومنه رد على من وصف الله تعالى وحده ، ومنه رد على من أنكر الرجعة ولم يعرف تأويلها ، ومنه رد على من زعم أن الله عز وجل لا يعلم الشئ حتى يكون ، ومنه رد على من لم يعلم الفرق بين المشية والارادة والقدرة في مواضع ، ومنه معرفة ماخاطب الله عزوجل به الائمة والمؤمنين.

ومنه أخبار خروج القائم منا عجل الله فرجه ، ومنه ما بين الله تعالى فيه شرائع الاسلام ، وفرائض الاحكام ، والسبب في معني بقاء الخلق ومعايشهم ووجوه ذلك ومنه أخبار الانبياء وشرائعهم وهلاك أممهم ، ومنه مابين الله تعالى في مغازي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحروبه ، وفضائل أوصيائي ، وما يتعلق بذلك

٥

ويتصل به.

فكانت الشيعة إذا تفرغت من تكاليفها تسأله عن قسم قسم فيخبرها ، فمما سألوه عن الناسخ والمنسوخ ، فقال صلوات الله عليه : إن الله تبارك وتعالى بعث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرأفة والرحمة ، فكان من رأفته ورحمته أنه لم ينقل قومه في أول نبوته عن عادتهم ، حتى استحكم الاسلام في قلوبهم ، وحلت الشريعة في صدورهم ، فكانت من شريعتهم في الجاهلية أن المرأة إذا زنت حبست في بيت واقيم بأودها حتى يأتي الموت ، وإذا زنى الرجل نفوه عن مجالسهم وشتموه وآذوه وعيروه ولم يكونوا يعرفون غير هذا.

قال الله تعالى في أول الاسلام : « واللاتي يأتين الفاحشة من نساءكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفيهن الموت أويجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما فان الله كان توابا رحيما » (١).

فلما كثر المسلمون وقوي الاسلام ، واستوحشوا امور الجاهلية ، أنزل الله تعالى : « الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة » (٢) إلى آخر الآية فنسخت هذه الآية آية الحبس والاذى.

ومن ذلك أن العدة كانت في الجاهلية على المرأة سنة كاملة وكان إذا مات الرجل ألقت المرأة خلف ظهرها شيئا بعرة وما جرى مجريها ثم قالت : البعل أهون علي من هذه ، فلا أكتحل ولا أمتشط ولا أتطيب ولا أتزوج سنة ، وفكانوا لا يخرجونها من بيتها بل يجرون عليها من تركة زوجها سنة فأنزل الله تعالى في أول الاسلام « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج » (٣) فلما قوي الاسلام ، أنزل الله تعالى « والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فاذا بلغن أجلهن فلا

__________________

(١) النساء : ١٥ ١٦.

(٢) النور : ٢.

(٣) البقرة : ٢٤٠.

٦

جناح عليهن » (١) إلى آخر الآية.

قال عليه السلام : ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى لما بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أمره في بدو أمره أن يدعو بالدعوة فقط ، وأنزل عليه « يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذيهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا » (٢) فبعثه الله تعالى بالدعوة فقط ، وأمره أن لا يؤذيهم.

فلما أرادوه بما هموا به من تبييته أمره الله تعالى بالهجرة وفرض عليه القتال فقال سبحانه : « اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير » (٣) فلما امر الناس بالحرب ، جزعوا وخافوا فأنزل الله تعالى « ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب إلى قوله سبحانه أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة » (٤) فنسخت آية القتال آية الكف ، فلما كان يوم بدر وعرف الله تعالى حرج المسلمين ، أنزل على نبيه « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله » (٥) فلما قوي الاسلام ، وكثر المسلمون أنزل الله تعالى و « لا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم » (٦) فنسخت هذه الآية التي أذن لهم فيها أن يجنحوا ، ثم أنزل سبحانه في آخر السورة (٧) « واقتلوا المشركين حيث وجد تموهم وخذرهم واحصروهم » (٨) إلى آخر الآية.

ومن ذلك أن الله تعالى فرض القتال على الامة فجعل على الرجل الواحد

__________________

(١) البقرة : ٢٣٤.

(٢) الاحزاب : ٤٥ ٤٨.

(٣) الحج : ٣٩.

(٤) النساء : ٧٧.

(٥) الانفال : ٦١.

(٦) القتال : ٣٥.

(٧) سورة اخرى ظ.

(٨) براءة : ٥.

٧

أن يقاتل عشرة من المشركين ، فقال : « إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين » (١) إلى آخر الآية ، ثم نسخها سبحانه فقال : « الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فان يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين » إلى آخر الآية فنسخ بهذه الآية ما قبلها ، فصار من فر من المؤمنين في الحرب إن كانت عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارا من الزحف ، وإن كان العدة رجلين لرجل فارا من الزحف.

وقال عليه السلام : ومن ذلك نوع آخر ، وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما هاجر إلى المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين والانصار وجعل المواريث على الاخوة في الدين لا في ميراث الارحام ، وذلك قوله تعالى : « إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا اولئك بعضهم أولياء بعض إلى قوله سبحانه والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا » (٣) فأخرج الاقارب من الميراث ، وأثبته لاهل الهجرة ، وأهل الدين خاصة ، ثم عطف بالقول فقال تعالى : « والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الارض وفساد كبير » (٤) فكان من مات من المسلمين يصير ميراثه وتركته لاخيه في الدين دون القرابة والرحم الوشيجة ، فلما قوي الاسلام أنزل الله « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امهاتهم واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا » (٥) فهذا المعنى نسخ آية الميراث.

ومنه وجه آخر وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما بعث كانت الصلاة إلى قبلة بيت المقدس سنة بني إسرائيل ، وقد أخبرنا الله بما قصه في ذكر موسى عليه السلام أن يجعل بيته قبلة وهو قوله : « وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوء آلقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة » (٦) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في أول مبعثه يصلي

__________________

(١ ـ ٢) الانفال : ٦٥ ٦٦.

(٣ ـ ٤) الانفال : ٧٢ ٧٣.

(٥) الاحزاب : ٦.

(٦) يونس : ٨٧.

٨

إلى بيت المقدس جميع أيام مقامه بمكة ، وبعد هجرته إلى المدينة بأشهر فعيرته اليهود وقالوا : أنت تابع لقبلتنا ، فأحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك منه فأنزل الله تعالى عليه وهو يقلب وجهه في السماء وينتظر الامر « قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضيها فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة » (١) يعني اليهود في هذا الموضع.

ثم أخبرنا الله عزوجل ما العلة التي من أجلها لم يحول قبلته من أول مبعثه ، فقال تبارك وتعالى : « وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤف رحيم » (٢) فسمى سبحانه الصلاة ههنا إيمانا ، وهذا دليل واضح على أن كلام الباري سبحانه لا يشبه كلام الخلق كما لايشبه أفعاله أفعالهم ، ولهذه العلة وأشباهها لا يبلغ أحد كنه معنى حقيقة تفسير كتاب الله تعالى وتأويله إلا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصياؤه.

ومن ذلك (*) ماكان مثبتا في التوراة من الفرائض في القصاص ، وهو قوله : « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين » (٣) إلى آخر الآية فكان الذكر والانثى والحر والعبد شرعا سواء فنسخ الله تعالى ما في التوراة بقوله : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى » (٤) فنسخت هذه الآية « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ».

ومن ذلك (*) أيضا آصار غليظة كانت على بني إسرائيل في الفرائض ، فوضع الله تعالى تلك الآصار عنهم ، وعن هذه الامة ، فقال سبحانه « ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم » (٥).

__________________

(١) البقرة : ١٤٤

(٢) البقرة : ١٤٣.

(٣) المائدة : ٤٥.

(٤) البقرة : ١٧٨.

(٥) الاعراف : ١٥٧.

(*) في الاصل بياض ليكتب بالحمرة ولم يكتب بعد وفى الكمبانى « ومن الناسخ » وما اخترناه هو الظاهر.

٩

ومنه أنه تعالى لما فرض الصيام فرض أن لا ينكح الرجل أهله في شهر رمضان بالليل ولا بالنهار على معنى صوم بني إسرائيل في التوراة ، فكان ذلك محرما على هذه الامة ، وكان الرجل إذا نام في أول الليل قبل أن يفطر فقد حرم عليه الاكل بعد النوم أفطر أو لم يفطر.

وكان رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف بمطعم بين جبير شيخا ، فكان في الوقت الذي حضر فيه الخندق حفر في جملة المسلمين ، وكان ذلك في شهر رمضان ، فلما فرغ من الحفر وراح إلى أهله ، صلى المغرب وأبطأت عليه زوجته بالطعام ، فغلب عليه النوم فلما أحضرت إلى الطعام أنبهته فقال لها : استعمليه أنت فاني قد نمت وحرم علي ، وطوى إليه وأصبح صائما ، فغدا إلى الخندق وجعل يحفر مع الناس فغشي عليه فسأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حاله فأخبره.

وكان من المسلمين شبان ينكحون نساءهم بالليل سرا لقلة صبرهم ، فسأل النبي الله سبحانه في ذلك فأنزل الله عليه « أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ماكتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل » (١) فنسخت هذه الآية ما تقدمها.

ونسخ قوله تعالى : « وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون » (٢) قوله عزوجل : « ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم » (٣) أي للرحمة خلقهم.

ونسخ قوله تعالى : « وإذا حضر القسمة اولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا » (٤) قوله سبحانه « يوصيكم

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) الذاريات : ٥٦.

(٣) هود : ١١٨.

(٤) النساء : ٨.



١٠

الله في أولادكم للذكر مثل خط الانثيين » (١) إلى آخر الآية.

ونسخ (*) قوله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون » (٢) نسخها قوله تعالى : « فاتقوا الله ما استطعتم » (٣).

ونسخ قوله تعالى « ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا » (٤) آية التحريم وهو قوله جل ثناؤه : « قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق » (٥) والاثم ههنا هو الخمر.

ونسخ قوله تعالى : « وإن لم منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا » (٦).

قوله : « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى اولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فيها اشتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم الفزع الاكبر » (٧).

ونسخ قوله سبحانه : « وقولوا للناس حسنا » (٨) يعني اليهود حين هادنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما رجع من غزاة تبوك أنزل الله تعالى « قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون » (٩) فنسخت هذه الآية تلك الهدنة.

وسئل صلوات الله عليه عن أول ما أنزل الله عزوجل من القرآن ، فقال عليه السلام : أول ما أنزل الله عزوجل من القرآن بمكة سورة « اقرأ باسم ربك الذي خلق » وأول ما أنزل بالمدينة سورة البقرة.

ثم سألوه صلوات الله عليه عن تفسير المحكم من كتاب الله عزوجل فقال : أما المحكم الذي لم ينسخه شي ء من القرآن فهو قول الله عزوجل : « هو الذي

__________________

(١) النساء : ١١.

(*) في الاصل بياض وفى الكمبانى « ومن المنسوخ ».

(٢) آل عمران : ١٠٢.

(٣) التغابن : ١٦.

(٤) النحل : ٦٧.

(٥) الاعراف : ٣٣.

(٦) مريم : ٧١.

(٧) الانبياء : ١٠١ ١٠٣.

(٨) البقرة : ٨٣.

(٩) براءة : ٢٩.

١١

أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات » (١) وإنما هلك الناس في المتشابه لانهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلات من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء ونبذوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وراء ظهورهم ، والمحكم مما ذكرته في الاقسام مما تأويله في تنزيله من تحليل ما أحل الله سبحانه في كتابه ، وتحريم ما حرم الله من المآكل والمشارب والمناكح.

ومنه ما فرض الله عزوجل من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد ومما دلهم به مما لا غنابهم عنه في جميع تصرفاتهم مثل قول تعالى : « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين » (٢) الآية وهذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله لا يحتاج في تأويله إلى أكثر من التنزيل ومنه قوله عزوجل : « حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به » (٣) فتأويله في تنزيله.

ومنه قوله تعالى : « حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخوانكم وعماتكم وخالاتكم » (٤) إلى آخر الآية فهذا كله محكم لم ينسخه شئ قد استغني بتنزيله من تأويله ، وكل ما يجري هذا المجرى.

ثم سألوه عليه السلام عن المتشابه من القرآن فقال : وأما المتشابه من القرآن فهو الذي انحرف منه منتفق اللفظ مختلف المعنى ، مثل قوله عزوجل : « يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء » (٥) فنسب الضلالة إلى نفسه في هذا الموضع ، وهذا ضلالهم عن طريق الجنة بفعلهم ، ونسبه إلى الكفار في موضع آخر ونسبه إلى الاصنام في آية اخرى.

__________________

(١) آل عمران : ٧ ، وانما وجب أن تكون هذه الاية محكمة ، لانها تتضمن بحث المحكم والمتشابه ، فلوكان نفسها من المتشابهات لم يثبت تقسيم القرآن إلى المحكم ومتشابه.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) النساء : ٢٣.

(٥) المدثر : ٣١.

١٢

فمعنى الضلالة على وجوه فمنه ما هو محمود ، ومنه ما هو مذموم ، ومنه ماليس بمحمود ولا مذموم ، ومنه ضلال النسيان ، فالضلال المحمود هو المنسوب إلى الله تعالى وقد بيناه ، والمذموم هو قوله تعالى : « وأضلهم السامري » (١) وقوله : « وأضل فرعون قومه وما هدى » (٢) ومثل ذلك في القرآن كثير ، وأما الضلال المنسوب إلى الاصنام فقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام : « واجنبني وبني أن نعبد الاصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس » (٣) الآية ، والاصنام لم تضلن أحدا عن الحقيقة وإنما ضل الناس بها وكفروا حين عبدوها من دون الله عزوجل.

وأما الضلال الذي هو النسيان ، فهو قوله تعالى : « واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الاخرى » (٤).

وقد ذكر الله تعالى الضلال في مواضع من كتابه فمنه ما نسبه إلى نبيه على ظاهر اللفظ كقوله سبحانه « ووجدك ضالا فهدى » (٥) معناه وجدناك في قوم لا يعرفون نبوتك فهديناهم بك.

وأما الضلال المنسوب إلى الله تعالى الذي هو ضد الهدى ، والهدى هو البيان ، وهو معنى قوله سبحانه « أولهم يهد لهم » (٦) معناه أي ألم ابين لهم مثل قوله سبحانه « فهد يناهم فاستحبوا العمى على الهدى » (٧) أي بينا لهم.

وجه آخر وهو قوله تعالى : « وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون » (٨) وأما معنى الهدى فقوله عزوجل : « إنما أنت منذر ولكل قوم هاد » (٩) ومعنى الهادي ههنا المبين لما جاء به المنذر من عند الله

__________________

(١) طه : ٨٥.

(٢) طه : ٧٩.

(٣) ابراهيم : ٣٦.

(٤) البقرة : ٢٨٢.

(٥) الضحى : ٧.

(٦) السجدة : ٢٦.

(٧) فصلت : ١٧.

(٨) براءة : ١١٥.

(٩) الرعد : ٧.

١٣

وقد احتج قوم من المنافقين على الله تعالى أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها؟ وذلك أن الله تعالى لما أنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله « ولكل قوم هاد » فقال طائفة من المنافقين : ماذا أرادالله بهذا مثلا يضل به كثيرا؟ فأجابهم الله تعالى بقوله : « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ما ذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين إلى قوله : اولئك هم الخاسرون » (١).

فهذا معنى الضلال المنسوب إليه تعالى ، لانه أقام لهم الامام الهادي لماجاء به المنذر ، فخالفوه وصرفوا عنه ، بعد أن أقروا بفرض طاعته ، ولما بين لهم ما يأخذون ما يذرون ، فخالفوه ، ضلوا ، هذا مع علمهم بما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو قوله : لا تصلوا علي صلاة مبتورة إذا صليتم علي بل صلوا على أهل بيتي ولا تقطعوهم مني ، فان كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ، ولما خالفوا الله تعالى ضلوا وأضلوا ، فحذر الله تعالى الامة من اتباعهم.

وقال سبحانه : « ولا تتبعوا أهواء قوم قدضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل » (٢) والسبيل ههنا الوصي وقال سبحانه : « ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصيكم به » (٣) الآية فخالفوا ما وصاهم به الله تعالى واتبعوا أهواءهم فحرفوا دين الله جلت عظمته وشرايعه ، وبدلوا فرائضه وأحكامه وجميع ما أمروا به ، كما عدلوا عمن امروا بطاعته ، وأخذ عليهم العهد بموالاتهم واضطرهم ذلك إلى استعمال الرأي والقياس فزادهم ذلك حيرة والتباسا.

وأما قوله سبحانه : « وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء » (٤) فكان تركهم اتباع الدليل الذي أقام

__________________

(١) البقرة : ٢٦ ٢٧.

(٢) المائدة : ٧٧.

(٣) الانعام : ١٥٣.

(٤) المدثر : ٣١.

١٤

الله لهم ضلالة لهم ، فصار ذلك كأنه منسوب إليه تعالى ، لما خالفوا أمره في اتباع الامام ، ثم افترقوا واختلفوا ، ولعن بعضهم بعضا ، واستحل بعضهم دماء بعض ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ، فأنى يؤفكون.

ولما أردت قتل الخوارج بعد أن أرسلت إليهم ابن عباس لاقامة الحجة عليهم قلت : يا معشر الخوارج أنشد كم الله ألستم تعلمون أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ومحكما ومتشابها ، وخاصا وعاما؟ قالوا : اللهم نعم فقلت : اللهم اشهد عليهم ثم قلت : أنشدكم الله هل تعلمون ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه وخاصه وعامه؟ قالوا : اللهم لا ، قلت : أنشدكم الله هل تعلمون أني أعلم ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، وخاصه وعامه؟ قالوا : اللهم نعم ، فقلت : من أضل منكم إذ قد أقررتم بذلك ، ثم قلت : اللهم إنك تعلم أني حكمت فيهم بما أعلمه.

ثم قال صلوات الله عليه : وأوصاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا علي إن وجدت فئة تقاتل بهم فاطلب حقك ، وإلا فالزم بيتك ، فاني قد أخذت لك العهد يوم غديرخم بأنك خليفتي ووصيي ، وأولى الناس بالناس من بعدي ، فمثلك كمثل بيت الله الحرام ، يأتونك الناس ولا تأتيهم.

يا أبا الحسن حقيق على الله أن يدخل أهل الضلال الجنة ، وإنما أعني بهذا المؤمنين الذين قاموا في زمن الفتنة على الايتمام بالامام الخفي المكان ، المستور عن الاعيان فهم بامامته مقرون ، وبعروته مستمسكون ، ولخروجه منتظرون موقنون غير شاكين صابرون مسلمون وإنما ضلوا عن مكان إمامهم وعن معرفة شخصه.

يدل على ذلك أن الله تعالى إذا حجب عن عباده عين الشمس التي جعلها دليلا على أوقات الصلاة ، فموسع عليهم تأخير الوقت ، ليتبين لهم الوقت بظهورها ويستيقنوا أنه قد زالت ، فكذلك المنتظر لخروج الامام عليه السلام المتمسك بامامته موسع عليه ، جميع فرائض الله الواجبة عليه مقبولة منه بحدودها غير خارج عن

١٥

معنى ما فرض عليه ، فهو صابر محتسب لا تضره غيبة إمامه.

ثم سألوه صلوات الله عليه عن لفظ الوحي في كتاب الله تعالى فقال : منه وحي النبوة ، ومنه وحي الالهام ، ومنه وحي الاشارة ، ومنه وحي أمر ، ومنه وحي كذب ، ومنه وحي تقدير ، [ ومنه وحي خبر ] ومنه وحي الرسالة.

فأما تفسير وحي النبوة والرسالة فهو قوله تعالى : « إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسمعيل ويعقوب » (١) إلى آخر الآية.

وأما وحي الالهام فقوله عزوجل « وأوحى ربك إلى النحل اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون » (٢) ومثله « وأوحينا إلى ام موسى أن أرضعيه فاذا خفت عليه فألقيه في اليم » (٣).

وأما وحي الاشارة فقوله عزوجل : « فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا » (٤) أي أشار إليهم لقوله تعالى : « ألا تكلم الناس ثلثة أيام إلا رمزا » (٥).

وأما وحي التقدير فقوله تعالى : « وأوحي في كل سماء أمرها وقدر فيها أقواتها » (٦).

وأما وحي الامر فقوله سبحانه : « وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي » (٧).

وأما وحي الكذب فقوله عزوجل : « شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض » (٨) إلى آخر الآية.

وأما وحي الخبر فقوله سبحانه « وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا

__________________

(١) النساء : ١٦٣.

(٢) النحل : ٦٨.

(٣) القصص : ٧.

(٤) مريم : ١١.

(٥) آل عمران : ٤٩.

(٦) فصلت : ١٢.

(٧) المائدة : ١١١.

(٨) الانعام : ١١٢.

١٦

إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة وإيتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين » (١).

وسألوه صلوات الله عليه من متشابه الخلق فقال : هو على ثلاثة أوجه ورابع فمنه خلق الاختراق فقوله سبحانه ، « خلق السموات والارض في ستة أيام » (٢).

وأما خلق الاستحالة فقوله تعالى : « يخلقكم في بطون امهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث » (٣) وقوله تعالى : « هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم عن علقة ثم من مضغة مخلفة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء » (٤) وأما خلق التقدير فقوله لعيسى عليه السلام « وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير » (٥) إلى آخر الآية. وأما خلق التغيير فقوله تعالى : « ولآمر نهم فليغيرن خلق الله » (٦).

وسألوه عليه السلام من المتشابه في تفسير الفتنة فقال : « ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون » (٧) وقوله لموسى عليه السلام : « وفتناك فتونا » (٨) ومنه فتنة الكفر وهو قوله تعالى : « لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور حتى جاء الحق وظهر أمر الله » (٩).

[ وقوله تعالى : « والفتنة أكبر من القتل » (١٠) يعني ههنا الكفر ] وقوله سبحانه في الذين استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك أن يتخلفوا عنه من المنافقين فقال الله تعالى فيهم : « ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا » (١١) يعني ائذن لي ولا تكفرني فقال عزوجل : « ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ».

__________________

(١) الانبياء : ٧٣.

(٢) الاعراف : ٥٤.

(٣) الزمر : ٦.

(٤) غافر : ٦٧.

(٥) المائدة : ١١٠.

(٦) النساء ١١٩.

(٧) العنكبوت : ٢.

(٨) طه : ٤٠.

(٩) براءة : ٤٨.

(١٠) البقرة : ٢١٧ ، ومابين العلامتين لا يوجد في الاصل.

(١١) براءة : ٤٩.

١٧

ومنه فتنة العذاب وهو قوله تعالى : « يوم هم على النار يفتنون » (١) أي يعذبون « ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون » (٢) أي ذوقوا عذابكم ، ومنه قوله تعالى « إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا » (٣) أي عذبوا المؤمنين ومنه فتنة المحبة للمال والولد كقوله تعالى « إنما أموالكم وأولادكم فتنة » (٤).

أي إنما حبكم لها فتنة لكم.

ومنه فتنة المرض وهو قوله سبحانه « أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكورن » (٥) أي يمرضون ويعتلون وسألوه صلوات الله عليه عن المتشابه في القضاء ، فقال : هو عشرة أوجه مختلفة المعنى فمنه قضاء فراغ ، وقضاء عهد ، ومنه قضاء إعلام ، ومنه قضاء فعل ، ومنه قضاء إيجاب ، ومنه قضاء كتاب ، ومنه قضاء إتمام ، ومنه قضاء حكم وفصل ، ومنه قضاء خلق ، ومنه قضاء نزول الموت.

أما تفسير قضاء الفراغ من الشئ فهو قوله تعالى « وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم » (٦) معنى « فلما قضي » أي فلما فرغ وكقوله « فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله » (٧).

أما قضاء العهد فقوله تعالى : « وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه » (٨) أي عهد ، ومثله في سورة القصص « وماكنت بجانب الطور إذا قضينا إلى موسى الامر » (٩) أي عهدنا إليه.

أما قضاء الاعلام فهو قوله تعالى : « وقضينا إليه ذلك الامر أن دابر هؤلاء

__________________

(١ ـ ٢) الذاريات : ١٣ و ١٤.

(٣) البروج : ١٠.

(٤) التغابن : ١٥ ، الانفال : ٢٨.

(٥) براءة : ١٢٦.

(٦) الاحقاف : ٢٩.

(٧) البقرة : ٢٠٠.

(٨) الاسراء : ٢٣.

(٩) القصص : ٤٤.

١٨

مقطوع مصبحين » (١) وقوله سبحانه « وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين » (٢) أي أعملناهم في التوراة ما هم عاملون.

أما قضاء فقوله تعالى في سورة طه « فاقض ما أنت قاض » (٣) أي افعل ما أنت فاعل ، ومنه في سورة الانفال : « ليقضي الله أمرا كان مفعولا » (٤) أي يفعل ما كان في علمه السابق ، ومثل هذا في القرآن كثير.

أما قضاء الايجاب للعذاب كقوله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام « وقال الشيطان لما قضي الامر » (٥) أي لما وجب العذاب ، ومثله في سورة يوسف عليه السلام « قضي الامر الذي فيه تستفتيان » (٦) معناه أي وجب الامر الذي عنه تسائلان.

أما قضاء الكتاب والحتم فقوله تعالى في قصة مريم « وكان أمرا مقضيا » (٧) أي معلوما.

وأما قضاء الاتمام فقوله تعالى في سورة القصص « فلما قضى موسى الاجل » (٨) أي فلما أتم شرطه الذي شارطه عليه ، وكقول موسى عليه السلام « أيما الاجلين قضيت فلا عدوان علي » (٩) معناه إذا أتممت.

وأما قضاء الحكم فقوله تعالى : « قضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين » (١٠) أي حكم بينهم ، وقوله تعالى : « والله يقضي بينهم بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع العليم » (١١) وقوله سبحانه « والله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » (١٢) وقوله تعالى في سورة يونس « وقضى بينهم

__________________

(١) الحجر : ٦٦.

(٢) الاسراء ٤.

(٣) طه : ٧٢.

(٤) الانفال : ٤٢.

(٥) ابراهيم : ٢٢.

(٦) يوسف : ٤١.

(٧) مريم : ٢١.

(٨) القصص : ٢٩.

(٩) القصص : ٢٨.

(١٠) الزمر : ٧٥.

(١١) غافر : ٢٠.

(١٢) الانعام : ٥٧. والاية في المصحف الكريم هكذا : « ان الحكم الالله يقص الحق

١٩

بالقسط » (١).

وأما قضاء الخلق فقوله سبحانه « فقضيهن سبع سموات في يومين » (٢) أي خلقهن.

وأما قضاء إنزال الموت فكقول أهل النار في سورة الزخرف « وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ما كثون » (٣) أي لينزل علينا الموت ، ومثله « لايقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها » (٤) أي لاينزل عليهم الموت فيستريحوا ، ومثله في قصة سليمان بن داود « فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الارض تأكل منسأته » (٥) يعني تعالى لما أنزلنا عليه الموت.

وسألوه صلوات الله عليه عن أقسام النور في القرآن قال : النور القرآن والنور اسم من أسماء الله تعالى ، والنور التورية ، والنور القمر ، والنور ضوء المؤمن وهو الموالات التي بلبس بها نورا يوم القيامة ، والنور في مواضع من التوراة والانجيل والقرآن حجة الله عزوجل على عباده ، وهو المعصوم ، ولما كلم الله تعالى ابن عمران عليه السلام أخبربني إسرائيل فلم يصدقوه ، فقال لهم : ما الذي يصحح ذلك عندكم؟ قالوا : سماعه ، قال : فاختاروا سبعين رجلا من خياركم.

فلما خرجوا معه ، أوقفهم وتقدم فجعل يناجي ربه ، ويعظمه ، فلما كلمه قال لهم : أسمعتم؟ قالوا : بلى ولكنا لا ندري أهو كلام الله أم لا؟ فليظهر لنا حتى

__________________

وهو خير الفاصلين » لكنه أيضا من القراءات المشهورة : قال الطبرسى في المجمع ، قرأ أهل الحجاز وعاصم « يقص الحق » والباقون « يقضى الحق » حجة من قرأ « يقضى الحق » قوله « والله يقضى بالحق » وحكى عن أبي عمرو انه استدل بقوله « وهو خير الفاصلين » في أن الفصل في الحكم ليس في القصص ، وحجة من قرأ « يقص » قوله : « والله يقول الحق » وقالوا : قدجاء الفصل في القول أيضا في نحو قوله : « انه لقول فصل ».

(١) يونس : ٥٤.

(٢) فصلت : ١٢.

(٣) الزخرف : ٧٧.

(٤) فاطر : ٣٦.

(٥) سبأ : ١٤.

٢٠