حوار مع صديقي الشيعي

المؤلف:

الهاشمي بن علي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-428-0
الصفحات: ١٦٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قلت : لماذا لم تخبرني بمسألة التقية إذن ؟ ها ، قل لابدّ أنك تخشى من الخوض فيها ؟!

أجاب صديقي : أوّلا : أنا لم تتوفر لي الفرصة لأُطلعك على المسألة ، وثانياً : أنت لم تسألني.

أقول لك أكثر من هذا ، ذات يوم جاءني الوالد مغضبا ، مقطّبا جبينه ، وقال لي : صرت شيوعيّاً ؟! فأجبته : إذا صرت شيوعيّا فلماذا أصلّي ؟! فبهت والدي ، ثم علمتُ فيما بعد أن أحد الّذين أعيتهم الحيلة في النقاش معي عمد إلى إخبار والدي بأنني شيعيّ ، ليوقع بيني وبين أبي فتنة ، لكن والدي تصوّر أنني أصبحت شيوعيّا واختلط عليه الأمر فهو لا يعرف الشيعة ككثيرين غيره.

ثم لماذا أخشى أن أتكلم معك بصراحة ؟! ولماذا أخشاك أنت بالذات ؟! هل لديك سيفاً مسلّطا على رقبتي ، أم هل نعيش في الدولة الفلانيّة التي يسود فيها الاعتقاد أن الشيعة فرقة يهودية أو مجوسيّة وأن للشيعة ذيولا وو ...

ثم صدقني لم أخفِ عنك أيّ شيء ، لأنني إن خدعتك اليوم فسيأتي اليوم الذي تكتشف فيه الحقيقة من غيري ، إن كانت هناك حقيقة أخرى.

قال صديقي ذلك بلهجة الواثق.

فقلت له : إذن أسألك لماذا تستعملون التقية ، وما هي التقيّة بالمعنى الدقيق ؟

أجاب صديقي : أحسنت ، الآن جئت إلى الصّواب ، ثم واصل

٨١

كلامه : أوّلا ، عموما الإعتقاد بشيء وإظهار شيء آخر له وجهان متناقضان تماما. فإظهار الإيمان والإسلام وإبطان الكفر يُسمّى نفاقا ، كما ورد عن الله ورسوله وجميع فرق المسلمين ، وهذا بالطبع شيء مستهجن عقلا وشرعا لأنه مخاتلة وخداع.

قلت مستدركاً : وكذلك العكس.

قال : هنا مربط الفرس ! وقبل أن أجيبك دعني أسألك : متى أظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسّابقون من الصّحابة إسلامهم والدعوة إلى الإسلام ؟

أجبت بكلّ بداهة : بعد ثلاث سنوات من الدعوة السرّية وبعد نزول قوله تعالى ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) » (١).

قال : ولماذا لم يعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعوة من اليوم الأول عند نزول الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

أجبت : إنّ العقل يأبى ذلك ، فإنّ الإسلام في بدايته كغرسة طيّبة رقيقة لا تتحمّل ضربة قويّة.

قال : أحسنت ، وهكذا فالعقل يحكم بعدم المجازفة والسير باتجاه معاكس للتيّار ، ولو تأمّلت في هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكوينه للدولة الإسلامية الأولى ومن ثم إعلانه الحرب على قريش في السنة الثانية للهجرة وغيرها لرأيت أنّ لكلّ مقام مقالا ، فما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجازف بقتال المشركين في مكة لقلّة العدد والعدّة والناصر.

وأنا أسألك مرّة أخرى لأقترب بك أكثر من الموضوع : ماذا تعرف عن عمّار بن ياسر كصحابي سابق إلى الإسلام ؟

_____________________

١) سورة الحجر : ٩٤.

٨٢

قلت : إنّه صحابي جليل وقد بشّره الرسول وأمه وأباه بالجنة لشدة ما لاقوا من العذاب والتنكيل ، حتّى قتل أبوه وأمه أمام ناظريه ، وأنه تحت وطأة التعذيب : « هُبل ، هُبل » وذكر آلهة قريش بخير.

قال صديقي مقاطعاً : لقد ارتد عمّار إذن ؟!

قلت : يا أخي إنّ الضرورات تبيح المحظورات ، ورفع عن الأمة ما لا يطيقون.

قال : هذه هي التقية بعينها ورأسها.

قلت : كيف ذلك ؟!

قال : عمّار كان يُبطن الإيمان ولكن أظهر الكفر بلسانه خوفا من الموت ، ولو كان الظاهر خلاف الباطن عموما يُفسّر بأنه نفاق لكان عمّار منافقا حاشاه ، وقس على هذا كثير من القضايا ، ولهذا نزل قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١).

وهناك في القرآن نظائر أخرى لهذه الآية تصبّ في معنى واحد ، مثل قوله تعالى : ( لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ... ) (٢) ، وقوله تعالى : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ... ) (١) ، فهل كان

_____________________

١) سورة النحل : ١٠٦ ، وأنظر تفسير ابن كثير ٢ / ٦٠٩ ، تفسير الدر المنثور للسيوطي ٥ / ١٧٠ ـ حيث يقول : وأمّا عمّار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ـ تفسير الكشاف للزمخشري ٢ / ٤٣٠ ، تفسير الطبري ١٤ / ١٢٢ ، تفسير القرطبي ١٠ / ١٨٠.

٢) سورة آل عمران : ٢٨.

٣) سورة غافر : ٢٨.

٨٣

مؤمن آل فرعون يجرأ على إظهار إيمانه في ذلك الجمع المتفرعن ؟!

وهكذا ترى أن كتمان الإيمان وإظهار الكفر ضرورةً ، شيء ممدوح ومرخّص فيه شرعا ، بعكس إظهار الإيمان وإبطان الكفر فهو نفاق وختل.

قلت بعد أن اطمئن قلبي لما سمعت : لكن لماذا يتميّز الشيعة بالتقية دون بقية المذاهب الإسلاميّة ؟!

ابتسم صديقي وأجاب : سؤال وجيه يُظهر أنك مسكت برأس الخيط كما يقال.

ثم تابع : إنّ التقية في الواقع مسألة عُقلائية ، يستعملها الناس دائما عبر العصور حفظا للنفس والمال والعرض ، سمّها ما شئت تقيّه ، ضرورة ، ... أمّا لماذا اختصّ الشيعة بالتقيّة : فلكون الاضطهاد والتنكيل والقتل الذي تعرّضوا له لم تتعرض له طائفة أخرى على الإطلاق.

وأنا أزيدك وأقول : لو يُترك الشيعة أحرارا في عقائدهم لما كان هناك أي شيعي يستعمل التقية ، وها هم اليوم منتشرون في دول الغرب فلا تقية عندهم ولا غيرها ، بل حرّية مطلقة في عقائدهم ومجالسهم. أمّا أن يتوعّدك قوم بالقتل والتكفير بمجرّد أن تقول : إنّ معاوية أو أحد الصحابة فعل كذا أو قال كذا ـ ممّا هو موجود في كتب المسلمين جميعا ـ ثم يشنع عليك باستعمالك للتقية فهذا هو الحمق بعينه.

قلت وقد بقي في النفس من مسألة التقية شيء : جيّد ، لكن لماذا تقولون وتروون أنّ التقية دينكم ؟!

قال : لم ينتبه من شنّع علينا لهذا الوصف ، ألست تقول مثلا : « الدين النصيحة » ، أو « من تزوّج فقد ملك نصف دينه » ، هذه الألفاظ تبيّن

٨٤

أهمية الموصوف فقط ، وليس معناها الدين الذي إن تخلّيت عنه صرت مرتدّاً.

ما إن نطق صديقي بهذه الكلمات حتّى شعرت براحة نفسانية كبرى ، نعم لقد انزاحت من أمام ناظريّ غمامة فعادت الرؤية لديّ واضحة تماما ، ولقد كنت أحزر أنّ لصديقي جواباً شافيا وضافيا وهكذا كان.

والواقع أنّ المهرّجين كثير ولا تعدم تأثير أحدهم بلَغَطِهِ وضَجيجه عليك ، لكن عندما تدخلُ بعقلية نقديّة بعيدة عن الأحكام المسبقة تستطيع أن تهضم المسألة وينجلي عنك الغموض ، وسرعان ما تكتشف أن الأمر لا يعدو كونه « زوبعة في فنجان ». اللّهم قنا شرّ الزوابع في الفناجين وخارج الفناجين. آمين !

٨٥
٨٦



نظرية وتطبيق .. أم أمر واقع ثم نظريّة :

كان الأستاذ يلقي درسه علينا حول مسألة الشورى في الإسلام ، وسرعان ما عرّج ـ وكثيرا ما كان يعرّج ـ على مصداق من مصاديق الشورى في الإسلام ، ألا وهي قصّة استخلاف ، أو بالأصحّ ترشيح عمر بن الخطّاب لستّة من أعاظم الصحابة.

كنت مشدوداً وكذلك كان البعض من زملائي التّلاميذ لكلام الأستاذ في تلك الحصّة الصباحية من مادة التربية الإسلامية. أنهى الأستاذ كلامه بأن هذه الحركة من عمر هي إحدى وجوه الديمقراطية بمصطلح اليوم ، وهي تردّ ما يتّهمه بنا الغربيّون من أنّنا ـ نحن المسلمون ـ ذوو نظام ثيوقراطي لا يعرف لحق الناس في الاختيار معنى.

بعد ذلك كنت كلّما سنحت لي الفرصة والموضوع ، أقول بكل فخر واعتزاز إنّ الديمقراطية لها جذور في الإسلام والقرآن ، بل ربّما استنبطها الغرب منّا وليس من اليونان وطوّرها ! وكان هذا الإستدلال في الواقع كثيرا ما يؤكّده أغلب أنصار النظريات والإيديولوجيات المختلفة ، فهذا الاشتراكي يقول : إنّ الإسلام أوّل من جاء بالاشتراكية ! ولا تعدم شيوعيّا يدّعي أن محمّدا وأبا ذرّ وعليّاً كانوا من أوائل الشيوعيين في العالم ! في مقابل أبي سفيان ومعاوية وعثمان الّذين كانوا يمثّلون البرجوازية في أجلى مظاهرها ، أو بالمعنى الأدق كانوا إقطاعيين حتى النخاع ، بل إنّ

٨٧

الكثير منهم يَستشهد بكتاب الله في قوله تعالى : ( مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) (١) ليثبتوا أنّ أول من قال بنظرية النشوء والإرتقاء لداروين هو القرآن !!

وهكذا كنت أدافع بحماس عن القول بأنّ أوّل من جاء بنظرية الديمقراطية بالمعنى الواسع ـ على عكس ما كان يفهم منها زمن اليونانيين ـ هو الإسلام ، وأنّ أوّل من طبقها هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة من بعده.

ومع الأسف فإن هذه الظاهرة ـ تطويع كلام الله تعالى حسب الأهواء والاعتقادات ـ يمثّل ظاهرة خطيرة جدّا في كل عصر.

فمن يريد أن يقول إنّ الله جسم جالس على كرسيّه في السّماء يطوّع آيات القرآن لما يظن ، ومن يريد أن يثبت أنّ الأرض مسطّحة أو مدوّرة يستشهد بالقرآن ، ومن يريد أن يعرف عمر وجود الإنسان على الأرض يطوّع آيات الذكر الحكيم لغرضه ، بل أنّ « كلينتون » و « رابين » المقبور استشهدا بالقرآن في قوله تعالى : ( وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) (٢) لفرض اتفاقيات الهزيمة مع « ياسر عرفات » ، هذا مع أنّ القرآن بتصرفهم هذا يأخذ شكل الإناء الذي وُضع فيه دون أن يكون لهم جميعا مرجعا محدَّدا يرجعون إليه ليفصل بينهم فيما اختلفوا فيه.

وهكذا صار حالنا نحن المسلمون اليوم كحال بني اسرائيل في قال تعالى فيهم : ( وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ

_____________________

١) سورة نوح : ١٣ ، ١٤.

٢) سورة الجاثية : ١٧.

٨٨

الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (١) ، هذا والله يدعونا لعدم الإختلاف بقوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ) (٢) ، فإن كان قصده تعالى بالحبل هو ذاته المقدسة ، فوالله لقد اختلف المسلمون فيها ، غير أنهم يشتركون في قولهم إنّه واحد فهذا ينكر الرؤية وذاك يثبتها ، وهذا يرى أن صفاته قديمة زائدة على ذاته وآخر يقول إنّها هو وهو هي.

وإن كان قصده تعالى بالحبل هو سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحكام الإسلام ، فلا تسأل عمّا صار إليه حالنا نحن المسلمون من الإختلاف ، فالمالكي يقول بالسدل ، والشافعي يصرّ على التكتّف ، وهذا الشيعي يؤكّد على الجهر بالبسملة ، والمالكي لا يعتبر ذلك.

وهذا الوهّابي يقول إنّ أغلب المسلمين مشركون لم يعرفوا كنه التوحيد وحقيقته ، وبقيّة المذاهب يعتبرون الوهابيّين مارقة مرقت من الدين وخالفت إجماع المسلمين.

وكلّ يدّعي وصلاً بليلى ، ولله درّ الشاعر أبي العلاء حيث يقول :

ليت شعري ما الصحيح ؟

على كلّ حال كنت أعتقد اعتقادا جازماً بأنّ شورى عمر بن الخطاب كانت قمّة في التعاطي الديمقراطي مع الحكم ، لكن تدور دورة الزمن دورتها فأجدني مرّة أخرى في لقاء مفتوح مع صديقي الشيعي الّذي صار كأنّه المحكّ الذي يفصل موادّي الخام وركام أفكاري المجموع لَيميز

_____________________

١) سورة الأنفال : ٦١.

٢) سورة آل عمران : ١٠٣.

٨٩

منها ما يشاء ويرمي بما يشاء مستعملا دائما غربال العقل ومرجعيّة القرآن الشفافة ...

وبالفعل ما إن مرّت أيام قلائل حتّى جمعتني نزهة في واحات وغابات الرمّان الكثيفة التي تمتاز بها مدينتي ، مدينة « قابس » وكان يرافقني زيادة على الصديق الشيعي اثنين من جيراني.

في أثناء الطريق الذي تتدلّى على جانبيه أغصان الرمّان المحمّلة بثمراتها والّتي تنوء بحملها ، والتي كثيراً ما كنّا ونحن أطفال نقتطف منها ثم نسرع هاربين ونفاجأ بصاحب البستان ينادينا بابتسامة عريضة ، فيملأ لنا أيدينا بالرمان الذي كان يربطه لنا بخيط يعقده على رؤوس مجموعة من الرمانات ، فنعود فرحين وخجلين من كرم أولئك المزارعين الظرفاء.

في أثناء الطريق فاجأني صديقي بسؤال قائلاً : إذا كنت بين أناس غير مسلمين وسألوك ما هي نظريّة الإسلام في الحكم ماذا كنت تجيب ؟

أجبت صديقي ببداهة : الشورى ، نعم الشورى التي طالما سمعت خطباءنا ومدرّسينا يذكرونها كلّما مرّوا بهذا الموضوع.

استدرك عليّ صاحبي : بأيّ دليل تقول هذا الكلام.

قلت بكل عفويّة : بالقرآن والسنّة.

فقال محاججاً : هات من القرآن ؟

قلت : على ما أذكر هناك آيتان نزلتا في مسألة الشورى ولا ثالث لهما ، وهاتان الآيتان هما قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ) (١) ، و ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى

_____________________

١) سورة الشورى : ٣٨.

٩٠

اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) (١) ».

قال صديقي بعد ذلك : هذا من القرآن ، هات حديثا من السنّة ؟

تلعثمت قليلا ثم قلت : هل بعد كتاب الله تعالى دليل ؟!

عارضني صديقي قائلاً : أنت قلت عندي دليل من القرآن والسنّة ! ، ثم ما أدراك بمعنى هاتين الآيتين ؟! والسنّة قد فصّلت كثيرا من المجمل الذي ورد في القرآن ، ففصّلت مثلا عدد الركعات ومستحبّات الصلاة ومكروهاتها ونواقضها وغير ذلك كثير. وأنا الآن أريد منك ولو حديثا واحداً يوصي فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن خلافته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكون بالشورى ، لأنّ مراد الآيتين المذكورتين ليس خلافته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا مسألة الحكم في الإسلام ؟

قلت معلّقاً : رويدك إنني أقصد بالشورى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص لأحد من بعده ، وإنّما ترك لهم موضوع الشورى حلاًّ لهذه المسألة ، وقد قام بها الصحابة ممن بعده على أحسن وجه ، هذا كان قصدي من وجود الشورى في السنّة.

قال صديقي وابتسامة عريضة تطبع ملامح وجهه : لنفترض أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يوص لأحد ، هل قال لنا حديثا يقول فيه : « إنّي لا أعيّن أحداً من بعدي لكن الأمر بينكم شورى » ؟

ثمّ لو قال كذلك ـ والواقع لم يرد لنا شيء بهذا ـ هل بيّن حدود الشورى ؟! يعني هل تشمل جميع شعب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تركه ، أم تختصّ بالمهاجرين فقط ، أو بالمهاجرين والأنصار ، أم هي خاصّة

_____________________

١) سورة آل عمران : ١٥٩.

٩١

لأصحاب بدر ؟!

ثم من الذي له صلاحيّة ترشيح الفرد الّذي سيتشاور حوله المسلمون ، هل كلّ الأصناف التي ذكرناها ؟ وما هي الشروط التي لابدّ أن تتوفّر في المرَشَّح ، هل أنه أعلم الصحابة ، أم أشجعهم ، أم أحلمهم أم ... ؟!

والأخطر من هذا ، إذا اختلف الصحابة حول الشخص المرشَّح ، فجماعة ترتضيه وأخرى لا ترتضيه فما العمل ؟ فهل يحكم كلاهما ، أم يُختار ثالث ؟!

ثم قبل هذا وذاك ، هل اختيار الحاكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي من صلاحية الله ورسوله ، أم من صلاحيّة الأمّة ؟!

شعرت بحرج شديد وسرى الدم في أطراف أذنيّ وشعرت بجفاف في حلقي لِمَا فاجأني به صديقي من مطر الأسئلة هذه ، لكنّي ملأت نفسي حزماً وقلت له : يا أخي ، إنّ الصحابة عملوا بما أوصى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم أقرب إليه وأكثر فهما لخصوصيّات ذلك الزمان.

قال صديقي بسرعة وبدون أيّ تفكير : إذا كان الأمر كما تقول وأنّ الصحابة عملوا بالشورى ، فلماذا حدث نزاع في سقيفة بني ساعدة ؟! ولماذا لم تتم البيعة جهاراً في مسجد الرسول ؟! بل لماذا لم يحضر من المهاجرين إلى السقيفة غير ثلاثة على المشهور ؟! وهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجرّاح ، ولماذا حدث نزاع ولغط وسبٌّ وشتم ، حتّى قال عمر معترضا على سعد بن عبادة الأنصاري سيّد الخزرج : « أقتلوا سعداً قتله

٩٢

الله » (١) هل تكون الشورى بهكذا كيفية ؟! ولماذا تخلّف عليّ بن أبي طالب عن بيعة أبي بكر ولم يحضرها ولم يرتضيها ، كما لم يحضرها كلّ بني هاشم والزّبير وسعد بن عبادة وغيرهم كثير (٢) ؟! والأعجب من هذا كلّه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجّى في بيته ولم يدفن بعد !!

ولو كانت بيعة أبي بكر صحيحة ، فلماذا يصفها عمر بأنّها « كانت فلتة ولكن وقى الله شرّها » (٣) ؟!

وأمّا بيعة عمر فحدّث ولا حرج فلم يُشاوَر فيها أحد من المسلمين أصلا ، حيث أوصى أبو بكر لعمر بالخلافة من بعده ، تماما كما كان أوّل من بايع أبا بكر هو عمر يوم السقيفة. وإنّنا على العكس نجد المسلمين ومنهم أكابر الصحابة تشاءموا من بيعة عمر ، حتّى أنهم لاموا أبابكر وقالوا له : ماذا تقول لربّك غدا حيث كرهوا من عمر خشونته وغلظته وأنّ الخلافة لا تصلح له (٤).

ونأتي الآن إلى قمّة التعاطي الديمقراطي الذي تقول به ، وأقصد شورى عمر لنرى هل كانت فِعلاً شورى كما يلتزم بها أهل السنّة كنظرية في الحكم أم لا ؟!

واصل صديقي كلامه : من المعلوم أنّ عمر بن الخطّاب كان قد

_____________________

١) أنظر : صحيح البخاري ٥ / ٨ ، مسند أحمد : مسند عمر بن الخطاب حديث ٣٩٣.

٢) أنظر : العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ٤ / ٢٥٩ ، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ٢٧ ـ ٢٨.

٣) أنظر : صحيح البخاري ٤ / ١١١ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٣٢٧ ، مسند أحمد : حديث السقيفة ١ / ١٩٣.

٤) أنظر : الصواعق المحرقة : ٧٨ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٤٢٥.

٩٣

عيّن ستّة من الصحابة ورشّحهم لتولّي مركز قيادة الأمة من بعده ، وهؤلاء الستّة هم : عليّ بن أبي طالب ، عبدالرحمن بن عوف ، سعد بن أبي وقّاص ، عثمان بن عفّان ، طلحة بن عبيد الله ، الزبير بن العوّام.

وهنا نسأل : من الذي أعطى الصلاحية في ترشيح هؤلاء ؟ هل شاور بقية الصحابة ، أو على الأقل أفاضل الصحابة فأشاروا عليه بهم ؟ وهذا طبعا لم يثبت ولم يحدث.

ثم لماذا لم يفعل عمر وكذا أبو بكر من قبله فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب نظرية الشورى ـ فيترك الأمر للمسلمين بعد وفاته ؟! فإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء بهذه النظرية وأنّ الخلافة تُحدَّد بالشورى بعد موته فهلاّ التزم صاحباه بذلك ؟! لماذا أعرضا عن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعيّنا قبل موتهما ، مع أنه ـ حسب الافتراض ـ ليس لهم هكذا حق !!

قلت معترضا على حملة صديقي الكلاميّة : يا أخي ، عمر ومن قبله أبو بكر كان خليفة وهذا من حقّ الخليفة ، لأنه من أدرى الناس بالصالح والطالح.

أجابني صديقي بنبرة غاضبة : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يدري من الأصلح فيرشّحه !!

قلت : إنّ عصر وظروف زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلفت عن زمن أبي بكر وعمر.

قال : والآن الظروف اختلفت ، وقبلنا كذلك ، وعليه يكون لكلّ عصر نظرية !!

يا أخي ، رُبَّ عذر أقبح من ذنب ، إنّ الإسلام والقرآن الذي يقول :

٩٤

( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) ، جاء بنظرية كاملة في الحكم وفي غير الحكم ، فإذا كانت هذه النظرية هي الشورى كما تدّعي ، فلا بدّ وأن تكون قائمة ثابتة مهما اختلفت الأزمان والأمكنة ، فهل يمكن أن نأتي الآن ونقول ـ كما يقول البعض ـ إنّ الإفطار في شهر رمضان للمسافر حرام لأنّ وسائل السفر الآن مريحة ومكيّفة ولم يعد السفر شاقّا كما كان من قبل ، وبذلك نضرب بقوله تعالى : ( وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (٢) ، والآية فضلا عن هذا ليست منسوخة.

ولنعد الآن إلى مسألة شورى عمر ، فإنّ عمر بن الخطّاب قال عند مرضه : « لو أدركت أبا عبيدة بن الجرّاح باقيا استخلفته وولّيته ... ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته ... ولو أدركت خالد بن الوليد لولّيته ... » (٣) ، وفي قول آخر : « لو أدركت سالم مولى أبي حذيفة لولّيته » (٤). فلو كان واحد هؤلاء حيّا لما فكّر في الشّورى أصلاً ولضرب بها عرض الحائط.

وقول عمر حول هؤلاء الستّة : « ولكنّي سأستخلف النفر الذين توفّي رسول الله وهو عنهم راض » (٥). فهل يعني هذا أنّ البقية من

_____________________

١) سورة الأنعام : ٣٨.

٢) سورة البقرة : ١٨٥.

٣) أنظر : تاريخ الطبري ٤ / ٢٢٧ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٦٥ مع اختلاف يسير في الألفاظ ، الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري ١ / ٤٢.

٤) مسند أحمد بن حنبل : مسند عمر حديث رقم ١٣٠ ، تاريخ الطبري ٤ / ٢٢٧ ، والكامل في التاريخ ٣ / ٦٥.

٥) أنظر : طبقات ابن سعد ٣ / ٢٤٨ ترجمة عمر ، تاريخ الطبري ٤ / ٢٢٨ ، الكامل في التاريخ ٣ / ٦٥.

٩٥

الصحابة قد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنهم غضبان ؟! وإذا لم يكن الأمر كذلك فأين أبوذرّ الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ » (١) ؟! وأين عمار بن ياسر الذي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمّيه بالطيّب ابن الطيّب ، أو بالطيّب المطَيّب (٢).

وبعد مدح أُولئك الستّة يقول : « إن استقام أمر خمسة منكم وخالف واحد فاضربوا عنقه ، وإن استقام أربعة واختلف اثنان فاضربوا أعناقهما » (٣) ! مرحى لهذه الشورى ، ومرحى لهذه الديمقراطية ، عجيب أمر عمر ! كيف يقتل رجلاً أو رجلين لا ذنب لهما ، بل أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات راض عن الجميع حسب قول عمر !!

وهل جُعلت الشورى إلاّ للتشاور ؟! والإختلاف أمر بديهي بل لازم ، وإلاّ فلماذا الشّورى لو كان كلّ النّاس متفقين على رجل واحد أو مفروض عليهم شخص معيّن ؟!

بل أنّ عمر أوصى بأكثر من ذلك ، حيث جعل خمسين رجلاً ليضربوا أعناق الجميع إن مضت ثلاثة أيام ولم يختاروا أحدا !

ونعجب أكثر عندما يقول عمر : « وإن استقرّ ثلاثة واختلف ثلاثة » ـ وذاك مستحيل لأنّ طلحة كان في سفر خارج المدينة ـ « فكونوا مع

_____________________

١) طبقات ابن سعد : ترجمة أبي ذرّ الغفاري.

٢) أنظر : سنن ابن ماجة ١ / ٥٢ فضائل عمار بن ياسر.

٣) أنظر : تاريخ الطبري ٤ / ٢٢٩ ، طبقات ابن سعد ٣ / ٢٤٧.

٩٦

الذين فيهم عبدالرحمن بن عوف » !! فهل نفهم من هذا أنّ عمر يريد صراحة أن يقول إنّ الخليفة هو من يرتضيه عبدالرحمن ؟! وإذا كان كذلك فلماذا هذا اللّف والدوران !

وتعال معي واقرأ ما يقوله عمر في هؤلاء الستّة الذين قال فيهم بنفسه إنهم ممّن مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عنهم راضٍ ، لترى التناقض.

قال عمر : « والله ما يمنعني أن أستخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك ، مع أنك رجل حرب. وما يمنعني منك يا عبدالرحمن إلاّ أنّك فرعون هذه الأمّة !!! وما يمنعني منك يا زبير إلاّ أنّك مؤمن الرضا ، كافر الغضب. وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره ، ولو وَلِيَها وضع خاتمه في إصبع امرأته. وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيّتك وحبّك قومك وأهلك » (١) ـ وهذا ما حدث فيما بعد وجرّ إلى قتل عثمان ـ « وما يمنعني منك يا عليّ إلاّ حرصك عليها وإنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم » (٢).

ونقول لعمر : إذا كان هؤلاء كما وصفت فعلا ، فلماذا رشّحتهم للخلافة ؟!

ولكي تعلم أنّ المسألة كلّها لا تعدو أن تكون لعبة سياسيّة لكنّها ليست ماهرة بقدر ما هي غادرة ، أنظر ما صار إليه الأمر في الشورى بعد وفاة عمر ، فقد بقي فقط مرشّحان اثنان بعد أن تنحّى منها عبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقّاص وزكّى الزبير عليّا ، وعليه بقي عثمان وعليّ.

_____________________

١) الإمامة والسياسة ١ / ٤٣.

٢) المصدر السابق.

٩٧

فاشترط عبد الرحمن في المسجد والمسلمون حضور شرطا طرحه على المرشَّحَيْن ، وهو أن يعملا بكتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.

وإنّي لأعجب من هذا الشرط الأخير ! فإن كانت سيرة الشيخين مطابقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما معنى اشتراطها كشرط زائد ؟! وإن كانت مخالفة لكتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو شرط مردود مرفوض.

ثم إنّ عبدالرحمن اشترط أن لا يولّي عثمان ولا عليّ أحدا من قومهما إذا وصلا إلى الحكم ، فرفض عليّ وقبل عثمان الشرط. ولكن هل وفى عثمان بذلك الشرط فعلا ؟!

وبعد تعيين عثمان وتنصيبه التفت عبدالرحمن إلى عليّ وقال له : « فلا تجعل يا علي سبيلا إلى نفسك فإنه السيف لا غير » (١) دائما القمع والإجبار والتخويف ، ثم يأتي من يقول بعد هذا : إنّ شورى عمر كانت أبرز مظاهر الديمقراطية !!

وهكذا ترى يا صديقي أنّ المسألة كلّها تدور حول إبعاد عليّ عن السلطة مهما كلّف الأمر ولو بالتعمية بمسألة الشورى ، وإلاّ فمن له سابقة كسابقة عليّ ؟ ومن له جهاد كجهاده ؟ ومن له علم كعلمه ؟ فكيف يُقدَّم من هو دونه عليه ؟!

ولهذا يقول أميرالمؤمنين عليّ عليه‌السلام في « نهج البلاغة » حول هذه المسألة :

_____________________

١) الإمامة والسياسة ١ / ٤٥.

٩٨

« أما والله لقد تقمَّصها ابن أبي قحافة وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحا ، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلْتُ دونها ثوباً وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى أرى تراثي نهْباً ، حتّى مضى الأوّل لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده ... فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته ـ لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ـ فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كَلْمُهَا ويخشن مسّها ويكثر العثار فيها والإعتذار منها ، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحّم ، فمُني النّاس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس وتلوّن واعتراض فصبرت على طول المدة وشدّة المحنة ، حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم. فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أُقرنُ إلى هذه النظائر لكنّي أسففت إذا أسفّوا وطرت إذ طاروا ، فصغا رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصهره مع هنٍ وهنٍ إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه [ يقصد بني أمية ] يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله وكَبتْ به بطنته » (١).

ولتعرف أنّ الإسلام ونظرية الحكم فيه ليست شورى ، أنظر إلى حكّام بني أميّة وبني العباس وبني عثمان وإلى يومنا هذا ، تجد المسألة

_____________________

١) نهج البلاغة : الخطبة ٣ المعروفة بالشقشقيّة.

٩٩

كلّها بالتعيين والتنصيص ولا شورى ولا أثر للشورى ، بل وصل الأمر بعلماء السنّة إلى أن يقولوا : نحن مع من غلب (١) ! قالها ابن عمر عندما أقرّ ببيعة يزيد الفاجر الفاسق وبيعة عبد الملك بن مروان ، وحتّى أجمع أغلب علماء أهل السنّة أنّ الخروج على السلطان حرام لأنه فتنة ولا بدّ من السمع والطاعة ، ولو وُلّي على المسلمين عبدٌ حبشي رأسه كالزبيبة ولو ألهب الحكّام ظهور الناس بالسياط ... (٢) هذا مع أنّ القرآن يقول : ( وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) (٣).

وهكذا ترى أنّ مسألة الشورى كنظام حكم لا أصل نظريّ لها ولا عمليّ ، والعجيب أنّه عندما تقول الشيعة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى لعليّ عليه‌السلام ، تجد القوم يعترضون ويكثر لغطهم ويرفعون في وجه القائل مسألة الشورى ، مع أنّ الواقع يؤكّد أنّ الحكم الإسلامي قام ولا يزال على التنصيص والتعيين.

قلت وقد وجدت نفسي محاصرا من جميع الجهات : إذن وبناء على ما قلت فالإسلام قائم على التنصيب والتعيين ؟!

أردف صديقي قائلاً : من دون أي شك : بل لقد ثبت عند جميع المسلمين ورؤساء الدين أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ الخلفاء من بعدي اثنا عشر » (٤) ، ولقد تحيّر علماء السنّة في دلالة هذا الحديث تحيّرا عجيبا فلم

_____________________

١) هو عبدالله بن عمر حيث كان يقول : لا أقاتل في الفتنة وأصلي وراء من غلب [ طبقات ابن سعد في ترجمة ابن عمر ].

٢) أنظر : صحيح البخاري ٩ / ١١٣ ، مسند احمد ٢ / ١١١.

٣) سورة هود : ١١٣.

٤) أنظر : صحيح البخاري ٤ / ١٦٥ كتاب الأحكام ، صحيح مسلم ٣ / ١٤٥٣ كتاب الإمارة ، مسند أحمد ٥ / ١٠٠ ، سنن أبي داود ٤ / ٨٦.

١٠٠